هل كان محمد يعرف الغيب
هل كان محمد يعرف الغيب , وما سر مقتل الإمام علي , لماذا وكيف ؟ وكيف استلم عثمان الخلافة ومن كان وراء ذلك , وما هي أسرار الخلافات حول ذلك ؟
قلنا أن محمداً لا يعلم الغيب بشهادة القرآن , وذكرنا أن الأمور التي جاء الخبر بها من السماء هي كلها مما ذكرناه فيما تقدم , وما لم نذكره أمور وقعت وحوادث حدثت وأنها ليست من الغيوب المحضة بل هي مما يمكن الاطلاع عليه بالاستخبار
بقي هناك أمر آخر , وهو أن الرواة ذكروا في رواياتهم أن محمداً أخبر بأمور تقع وتحدث في مستقبل الزمان, وأنها وقعت وحدثت كما قال وأخبر به فنريد هنا أن نتكلم عن هذا النوع من الغيب الذي هو حقيق بأن يسمى غيباً , إذ لا يمكن الاطلاع عليه بالاستخبار , وإن جاز الاطلاع عليه بوسائط غير الاستخبار , كالوسائط الفنية والحسابات الفلكية والعلمية التي يتوصل بها أهلها إلى معرفة الخسوف والكسوف وظهور بعض النجوم من ذوات الأذناب في جهة معينة من الفضاء , وهبوب الرياح وحصول الأمطار وغير ذلك , فيخبر بها أهلها من العلماء قبل وقوعها , فهي أيضاً ليست من الغيوب المحضة التي لا يجوز أن يعلمها ويطلع عليها إلا الله
والذي نريد أن نقوله هو أن هذه الأمور التي أخبر محمد بوقوعها في المستقبل لا أصل لها , أي أن محمداً لم يخبر بها , وإنما هي روايات ملفقة وموضوعة أوجدتها واختلقتها التحزبات السياسية والاختلافات المذهبية التي حدثت بين المسلمين بسبب الخلافة وغيرها , بعد وفاة محمد بزمان طويل , وها نحن نورد لك أمثلة منها لتعليم صحة ما نقول
(1) قصة عمار بن ياسر : لقد تقدم ذكر هذه القصة عند الكلام على المسجد الذي بناه محمد في المدينة لما هاجر إليها , ولكنا نريد أن نذكر هنا ما فاتنا أن نذكر هناك , مما يجعل القارئ على بينة من قصة عمار فنقول : إن الروايات الواردة في كون عمار تقتله الفئة الباغية مختلفة في نص عبارة الحديث كما أنها مختلفة بالزيادة فيه والنقص منه وها نحن نذكر لك من تلك الروايات أقربها للمعقول وأكثرها موافقة للمألوف وأحسنها انطباقاً على الواقع ومن ذلك تعلم كيف وقع التلاعب في نص الحديث , وكيف أخرجته التحزبات السياسية والاختلافات المذهبية عن حد المعقول , وزادت عليه أو نقصت منه
في السيرة الحلبية أن عثمان بن مظعون لما تهدد عماراً بالضرب (1) ( انظر تفصيل ذلك فيما تقدم ) غضب رسول الله عندما سمعه , فقال الناس لعمار : لقد غضب رسول الله ونخاف أن ينزل فينا قرآناً , فقال عمار : أنا أرضيه , فأتى النبي وقال : يا رسول الله , ما لي ولأصحابك ؟ قال : ما لك ولهم ؟ قال : يريدون قتلي , هم يحملون لبنة لبنة , ويحملون علي ّ لبنتين لبنتين , فأخذ رسول الله بيده وطاف به المسجد وجعل يمسح ذفرته من التراب ويقول : يا ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك تقتلك الفئة الباغية (2) إن هذه الرواية أقرب الروايات إلى المعقول وأحسنها انطباقاً على الواقع المألوف , وليس فيها ما يستغرب ولا إخبار بالغيب ولا ريب أن عماراً هو الذي سبب أن يقول له النبي : تقتلك الفئة الباغية , لأنه قال له :إن أصحابك يريدون قتلي بحملهم عليّ لبنتين لبنتين , وهو يقصد بتهويل الأمر وإكباره أن يضحك رسول الله ويزيل غضبه , لأن القتل لا يكون بحمل لبنتين و ولذلك أخذ بيده وطاف به المسجد وقال له ذلك القول تلطفاً به , وأراد أن يفهمه أن هؤلاء لا يقتلونك لأنهم ليسوا باغين , وقتلك إنما هو من شأن الباغين , لأن قتلك بغي وهؤلاء ليسوا بغاة , وهو يقصد بهذا القول إظهار العطف عليه وحثه على المداومة على العمل , ولم يقصد إعلامه بأنه ستقوم في مستقبل الزمان فئتان فئة باغية وفئة على الحق , وإن الفئة الباغية ستقتلك , ولو أن عماراً لم يقل له : يريدون قتلي , لما قال النبي هذا القول
(2) حديث عبد اله بن الزبير : جاء في رواية أن عبد الله بن الزبير لما ولد نظر إليه رسول الله فقال هوهو فلما سمعت بذلك أمه أمسكت عن إرضاعه , فقال لها النبي أرضعيه ولو بماء عينيك , كبش بين ذئاب وذئاب عليها ثياب ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه (1)
قالوا: إن هذا الحديث يتضمن الإشارة إلى ما وقع لعبدالله بن الزبير من قتله بمكة لما أرسل إليه عبد الملك بن مروان جيشاً يقوده الحجاج بن يوسف الثقفي فحاصروه مدة ثم قتلوه , فالكبش هو عبد الله بن الزبير والذئاب هم الحجاج وجيشه وأنت ترى أن هذا الكلام أشبه بما يرويه الرواة من سجع الكهان , فبعيد أن يكون من كلام محمد , والرواة قد ذكروا من أخبار الكهان ما هو أعجب من هذا والذي نراه أنه وضع بعد حادثة ابن الزبير , وضعه أعداء بني أمية , وليس الغرض من وضعه إعلاء مقام ابن الزبير بل تبكيت بني أمية , فهو من الأحاديث التي أوجدتها التحزبات السياسية , وما أدري لماذا أمسكت أمه عن إرضاعه لما سمعت قول النبي هو هو , إ ذ ليس في هذا القول ما يدعو إلى الإمساك عن إرضاعه , ولعا الذين يضعون الأحاديث ويلفقونها لا يفتكرون بعيداً عند وضعها بل يرمون الكلام على عواهنه رمياً
(3) إخباره بقصة علي مع معاوية في صفين : وذلك أن محمداً خرج بأصحابه في السنة السادسة من الهجرة يريد مكة زائراً معتمراً لا غازياً من أجل رؤيا رآها كما يقول الرواة , والصحيح أنه خرج لأمر أعظم كما سنبينه في موضعه , حتى نزل بأصحابه في الحديبية ( وقيل قرية قريبة من مكة ) , فمنعته قريش من دخول مكة , وأرسل هو من كلم قريشاً فيما يريد , وأرسلت قريش أيضاً من كلمه في عدم الدخول , وكادت الحرب تقع بين الفريقين حتى اضطر محمد أن يبايع أصحابه على حربهم , فكانت مبايعة الحديبية تحت الشجرة المذكورة في القرآن وبعد مفاوضات جرت بين الطرفين اصطلحوا على أن يترك محمد زيارة مكة في تلك السنة على أن يأتي لزيارتها في العام القابل
ولما أخذوا يكتبون كتاب الصلح كان سفير قريش سهيل بن عمرو , فأمر النبي أوس بن خولة أن يكتب , فقال له سهيل : لا يكتب إلا ابن عمك علي أو عثمان بن عفان , فأمر علياً وقال له : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم , فقال سهيل : لا أعرف هذا , ولكن أكتب باسمك اللهم , فكتبها , لأن قريش كانت تبدأ بذلك , ثم قال لعلي : اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو , قال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أصدك عن البيت , ولكن اكتب باسمك واسم أبيك , فقال النبي لعلي : امحه ( أي امح رسول الله ) فقال علي : ما أنا بالذي أمحوه , وفي لفظ : لا أمحوك , فقال : أرنيه فأراه إياه فمحاه رسول الله بيده الشريفة وجاء في رواية أخرى : أن علياً جعل يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا محمد رسول الله , فقال له النبي : اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد ( أي مقهور ) , قالوا : وذلك إشارة منه إلى ما سيقع بين علي ومعاوية في صفين , وقد وقع كما قال , فإن المصالحة لما وقعت في حرب صفين كتب الكاتب في الصلح هذا ما صالح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان , فقال عمرو بن العاص , وهو أحد الحكمين : اكتب اسمه واسم أبيه , قالوا : وأرسل معاوية يقول لعمرو : لا تكتب أن علياً أمير المؤمنين , لو كنت أعلم أنه أمير المؤمنين ما قاتلته ولكن أكتب علي بن أبي طالب وامح أمير المؤمنين (1) إلى آخر ما هنالك من أقوال ملفقة
أقول إن هذا الخبر الذي جاء في الرواية الثانية من قول النبي لعلي " اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد " , لا يمكن أن يكون صحيحاً :
أن هذا الخبر لو كان صحيحاً من وجهة وقوعه في صفين لما بقي بعد ظهوره مع معاوية أحد من المسلمين الذين كانوا يحاربون علياً , بل كانوا يتركون معاوية وينضمون إلى علي بعدما تبين لهم الحق بهذا الحديث وقد كان مع معاوية في صفين مائة وعشرون ألفاً من المسلمين , وفيهم جمع من الصحابة غير قليل , ولكنهم لم يتركوا معاوية ويلتحقوا بعلي , فهل كان كل هؤلاء كافرين مرتدين حتى استمروا على ضلالتهم مع معاوية ؟ فإن قلت َ : نعم , قلت ُ : إن الذي يستحي من الحقيقة ولو بعض الحياء لا يجرأ أن يقول نعم
فإن قلت َ : إن هؤلاء الذين كانوا مع معاوية إن لم يكونوا كافرين مرتدين فقد كانوا طلاب دنيا , فلذلك استمروا على ضلالتهم مع معاوية , قلت ُ : إن الذين كانوا مع علي كانوا طلاب دنيا أيضاً لأنهم لم يتألبوا على عثمان ولم يقتلوه إلا لأنه كان يوسد الأمور إلى بطانته من بني أمية ويتركهم محرومين منها , فلذلك قتلوه وبايعوا علياً فهم طلاب دنيا أيضاً
لا ريب أن هذا الخبر ليس إلا أحدوثة مصطنعة أوجدتها التحزبات السياسية , فوضعها من وضعها بعد وقعة صفين , وربما كان وضعها بعد وفاة علي بن أبي طالب , ولله درهم ما أقدرهم على التلفيق , فانظر كيف رتبوا الزيادة الأولى في صلح الحديبية من قول النبي لعلي : " اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد " , وكيف لفقوا الثانية في صلح صفين بما ذكروه من قول عمرو بن العاص وقول معاوية , فجعلوها طباقاً للأولى ولفاقاً لها , إذ أنزلوا عمرو بن العاص أو معاوية منزلة سهيل بن عمرو فأنطقوهما بما نطق به سهيل , وأقاموا علياً مقام محمد فأنطقوه بما نطق به محمد , إذ قال علي للكاتب : امحها , فتذكروا قول النبي له ذلك يوم الحديبية على زعمهم وهكذا يكون التلفيق
(4) إخباره علياً بقاتله : ذكروا في كتب السير أن محمداً غزا في السنة الثانية من الهجرة غزوة العشيرة ( بتصغير لفظ عشرة بضم ففتح وهي الشجرة الواحدة من شجر العشر والعشيرة موضع بينبع سمى باسم عشرة نابتة فيه ويقال ذو العشيرة أيضاً ) وقالوا : في هذه الغزوة كنى رسول الله علياً بأبي تراب حين وجده نائماً وقد علق به التراب , فأيقظه برجله وقال له : قم يا أبا تراب , فلما قام قال له : ألا أخبرك بأشقى الناس أجمعين : عاقر الناقة , والذي يضربك على هذا ( ووضع يده على قرن رأسه ) فيخضب هذه ( ووضع يده على لحيته )
وفي رواية : أن النبي قال يوماً لعلي : من أشقى الأولين ؟ فقال : الذي عقر الناقة يا رسول الله , قال : فمن أشقى الأخرين ؟ فقال علي : لا علم لي يا رسول الله , فقال : هو الذي يضربك على هذه , وأشار إلى هامته , كما في السيرة الحلبية (1) ولا منافاة بين الروايتين فإن الخبر واحد في كليتهما وقالوا وكان كما أخبر فإن ابن ملجم المرادي من طائفة الخوارج ضربه تلك الضربة في الكوفة عند خروجه إلى المسجد سحراً
وأنت ترى أن عبارة الحديث ليست نصاً في الأخبار بأن علياً سيقتل فإن صحت الرواية جاز أن يكون محمد قال له هذا القول إظهاراً لمحبته له وشفقته عليه منزلته , خصوصاً وقد أخذته عليه الرقة والعطف لما رآه نائماً على الأرض وقد علق به التراب , فإن ذلك دال على ابتذال نفسه واحتماله الأذى في سبيل الدعوة إلى الإسلام , فأراد محمد أن يظهر ذلك له تطييباً لخاطره , فقال له : إن أشقى الناس , أو أشقى الآخرين على الرواية الثانية , هو من يضربك على رأسك فيخضب لحيتك بدمك فالحديث نص أن من يفعل بعلي هذا الفعل يكون أشقى الناس , وليس هو نصاً في أن هذا الفعل سيقع على كل حال ويجوز لكل واحد من الناس أن يقول لمن أحبه وأعظم قدره : إن الذي يقتلك هو أشقى الناس عندي , ولا يكون هذا القول إخباراً له بأنه سيقتل لا محالة , بل يجوز أن يقتل ويجوز أن لا يقتل , لأنه إنما قال له ذلك إظهاراً لمحبته وتعظيمه إياه
نعم ! إن محمداً لو قال لعلي إنك ستقتل , وإن الذي يقتلك هو أشقى الناس أو أشقى الآخرين , لكان قوله هذا إخباراً بالغيب لا محالة
والذي نراه هو أن الحديث أوجدته جناية ابن ملجم بقتله علياً في الكوفة , فلا ريب أن وضعه كان بعد هذه الجناية , والمراد من وضعه جعل ابن الملجم أشقى الآخرين , كما أن عاقر ناقة صالح أشقى الأولين , ولكن قد فهمنا أن ابن ملجم أشقى الآخرين لأنه قتل رجلاً عظيماً من عظماء المسلمين , فما بال هذا الذي صار أشقى الأولين بعقر ناقة صالح ؟ وإن مائة من النوق تعطى في دم أقل واحد من المسلمين وإذا كان هذا صار أشقى الأولين بعقره ناقة صالح , فماذا كان يكون لو قتل صالحاً ؟
قلنا : إن هذا الحديث أوجدته جناية ابن ملجم , ونظيره الحديث الذي أوجدته جناية قتل عثمان في المدينة من أن النبي أخب بأنه يقتل ويسيل دمه على القرآن على آية ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) (1) , وقد تقدم ذكر هذا الحديث في قصة عمار التي أوردناها عند الكلام على بناء المسجد
إن الأحاديث التي أوجدتها الوقائع واختلقتها التحزبات السياسية والاختلافات المذهبية كثيرة لا تحصى , ولا حاجة إلى التطويل , وفيما ذكرناه لك منها كفاية
يتبع 0
(1) سيرة دحلان , 3/ 13 0
(2) سيرة دحلان , 3/ 13 – 114 , السيرة الحلبية , 3/ 219 ؛ سيرة ابن هشام , 4/ 568 – 569 0
(3) سيرة ابن هشام , 4/ 569 – 573 0
(4) السيرة الحلبية , 3/ 220 0
(1) أنظر صفحة 316 – 319 ؛ السيرة الحلبية , 2/ 71 – 72 0
( 2) السيرة الحلبية , 2/ 72 0
(1) السيرة الحلبية , 2/ 71 – 72 0
(2) السيرة الحلبية , 2/ 72 0
(1) السيرة الحلبية , 2/ 73 0
(2) المصدر نفسه0
(3) المصدر نفسه 0
(4) السيرة الحلبية , 2/ 73 – 74 0
(5) السيرة الحلبية , 2/ 71 – 73 0
(1)السيرة الحلبية , 2/ 72 0
(2) السيرة الحلبية , 2/ 73 0
(3) تاريخ الطبري , 4/ 406 , 432 0
(1) السيرة الحلبية , 1/ 179 0
(1) السيرة الحلبية , 3/ 19 – 20 0
(1) السيرة الحلبية , 2/ 126 – 127 0
(1) سورة البقرة ’ الآية : 137 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب العراقي – معروف الرصافي 0
|