قصة النهضة التى انتشلت ‑وفى لمح البصر تقريبا‑ تشيلى من التحول لدولة إشتراكية فقيرة على الطريقة الكوبية وجعلت منها بدلا من ذلك أقوى اقتصاد فى أميركا الجنوبية . وحكاية دعاوى حقوق الإنسان اللزجة التى لا تكفل فى الواقع سوى حق واحد هو حق الفقر .
لماذا لا يتحرك هؤلاء عندما يقود طاغية ديماجوچى شعبه لحروب يموت فيها الملايين باسم الوطنية أو غيرها ، بينما يملأون الدنيا صراخا عندما يضطر مصلح اقتصادى للتخلص من القوى التى تعرقل ازدهار شعبه ؟ وهل صحيح أن كل المصلحين صناع نهضات العالم الثالث تنكرت لهم شعوبهم وحاكمتهم بدلا من أن تكرمهم بالعرفان ؟
ما فعله پينوتشيت أن استقدم اثنى عشر خريجا من مدرسة شيكاجو التى تؤمن بالحرية الاقتصادية الكاملة أى الليبرالية بمعناها الدارونى المطلق ، وعينهم وزراء مطلقى الصلاحيات فى تطبيق ما يقول الكتاب . بعد ذلك يبدأ دوره هو فى حماية هذه الليبرالية بمنهج الكلمة استئصالى extirpationist لا يعرف الهوادة : مذبحة واحدة فى ستاد سانتياجو راح ضحيتها ثلاثون ألف شيوعى ، علمتنا أن مذبحة واحدة تكفى إذا كانت فى التوقيت الصحيح وضد الهدف الصحيح ، وطبعا بالحجم الصحيح . ( للدقة نحن لا نفعل هنا سوى أن نكرر ما تقوله الپروپاجاندا اليسارية لا أكثر . فالحقيقة ، إذ طبقا لما تم توثيقه لاحقا ، فإن كل من قتلوا أو اختفوا فى عهد پينوتشيت ، هم 3200 شخصا فقط . والاستاد لم يكن سوى سجن كبير ، ربما اتسع لأولئك الثلاثين ألفا ، لكن لم يقتل منهم إلا فرادى ممن حاولوا الهرب . إنها پروپاجاندا قطاع الطرق ذات الطريقة الموحدة فى كل زمان ومكان.
الآن ( أو بالأحرى فى خلال ثلاث سنوات فقط من قتل سلفه أليندى فى انقلاب 11 سپتمبر 1973 ) ما هى النتيجة : قفز أضعف اقتصاد فى أميركا الجنوبية ليصبح أقوى اقتصاد فيها إطلاقا ، بما فى ذلك تقزيمه لاقتصاد البلدين الكبيرين البرازيل والأرچنتين .
هل تعلمون ماذا كانت هدية كندا لپينوتشيت المعتزل فى عيد ميلاده الثمانين يوم 25 نوڤمبر 1995 ؟ إنها ترشيح تشيلى لعضوية اتفاقية التداول الحر لأميركا الشمالية ( نافتا ) التى لا تضم سوى الولايات المتحدة وكندا والمكسيك .
هل تعرفون ماذا كانت تفعل الولايات المتحدة نفسها فى تلك الأثناء ؟ كانت ترسل الخبراء لسانتياجو لاستطلاع كيف نجح بحق الجحيم أول نظام للضمان الاجتماعى من تنفيذ وتمويل القطاع الخصوصى فى التاريخ الإنسانى .
هل تعرفون ماذا قال قبلها الرئيس الأميركى چورچ بوش حين زار تشيلى فى يوم 6 ديسيمبر 1990 ؟ قال You deserve your reputation as an economic model for other countries in the region and in the world. Your commitment to market-based solutions inspires the hemisphere. !
بل هل تعرفون بماذا كان يحاج أصلا مؤسس مدرسة شيكاجو ( أو ما تسمى أحيانا بحكم تمحورها حول السياسات النقدية مدرسة النقوديين Chicago School of Monetarists ، أى التى تحصر وظيفة الدولة ، أو بالأحرى البنك المركزى المستقل عن الدولة ، فى رسم السياسة النقدية ، أى تحديد سعر الفائدة ومحاولة كبح التضخم ، وما إلى هذا ) بماذا كان يحاج ميلتون فرييدمان علمها الأشهر ومتوج نوبل 1976 ؟ لقد طالب فى كتابه الأشهر ( بالاشتراك مع زوجته روز ) ’ الرأسمالية والانعتاق Capitalism and Freedomبضرائب سالبة على الدخل ( نعم سالبة ، ومن خلالها اقترح حلوله الشهيرة لمعضلة الضمان الاجتماعى ! )هذا ناهيك عن فكرة أنه حين تتداعى إحدى الصناعات لا يجب أن تقف الدولة مكتوفة اليدين ، بل تتدخل و… ( نعم ! ) تقضى عليها ، وأن ذلك هو دور الدولة الوحيد المنشود فى دنيا الاقتصاد ، ما سواه هو أن تتلاشى من الوجود ! هكذا وصلت الجرأة والخيال بهذه المدرسة . ولا شك أن نجاحات تشيلى المذهلة لم تجعل كل هذه حسابات نظرية ، بل واقعا ملموسا باهر الروعة ، وستظل بلا شك مصدر فخر للأبد للمدرسة التى أسس جامعتها روكيفيللر العظيم ( وأسست بدورها ‑أى الجامعة‑ من بين ما أسست أول قسم لعلم الاجتماع فى العالم ) ، ومصدر فخر لمنظريها العظام ولكل أصحاب اللقب المرموق Chicago Boys ، والأهم مصدر إلهام للمحتمعات البشرية جمعاء التواقة لاقتصاد عفى تنافسى ومستدام الازدهار .
أما عن صبية شيكاجو التشيليين فيظل أشهرهم إطلاقا عالميا هو José Piñera ، مهندس بل قل المخترع من الخدش لشىء دخل التاريخ الإنسانى لأول مرة ، شىء اسمه ضمان اجتماعى قطاع خصوصى ! كما لعلك تعلم هذا الرجل استدعته لاحقا عشرات ( نعم عشرات بلا مبالغة ) الدول بعد ذلك للاشتغال كمستشار لها ، ولا تزال الولايات المتحدة نفسها ‑أم الرأسمالية التنافسية فى كوكبنا‑ ترسل الموفدين لسنتياجو أملا فى تطبيق هذا النظام عندها ، لكنها ‑ويا للمفارقة‑ لم تفلح حتى اللحظة ( طبعا بسبب عنت اليسار ممثلا فى الحزب الديموقراطى ومن لف لفه من نقابات وتنظيمات … إلخ ، أو حتى بسبب عدم تقبل الشعب ككل للفكرة حتى فى ظل فترات حكم الحزب الجمهورى ! ) .
إننا نفتتح هذا المدخل تحية لهذا الليبرالى العظيم والبناء الخالد الچنرال أوجيستو أوجارتى پينوتشيت ، الأنموذج الأمثل الذى لا نعتقد فى وجود طريق أفضل من تجربته لأى دولة فى العالم الثالث تريد انتشال نفسها من الفقر والتخلف . ونأمل أن يكون التعريف الموجز التالى للنهضة وتجاربها المختلفة فى القرنين الماضيين ، والأنساق التى اتبعتها ، هو أبسط تحية لآخر البنائين العظماء ، على الأقل فى قرن الأحداث الذاخرة ، القرن العشرين .
تعريف النهضة : هى طفرة 1- سريعة 2- مستدامة ، للارتقاء بشعوب بدائية تقنيا لمستوى مقارب لجبهة التقنية الأكثر تقدما فى العالم .
هذا يستبعد التجارب التى نضجت فيها التقنية والشعوب معا وعلى نحو تدريجى وبلا طفرات درامية ، أو بمعنى آخر الحالات التى خلقت هى نفسها جبهة التقنية ، ولم تحاول الوصول بشعوب متخلفة لمستوى يناهز جبهة موجودة أصلا . بمعنى آخر نحن نميز هنا بين النهضة وبين الحضارة . حيث هذه الأخيرة تتم بناء على آليات تختلف كثيرا عما سنحلله هنا . والمثالان الرئيسان لها بالطبع هما مسيرة بريطانيا التى قادت للثورة الصناعية ، ومسيرة أميركا التى قادت لعصر ما بعد الصناعة . فى هذه الحالات تكاد تكون الشعوب ككل مشاركة فى صنعها بقيادة صفوة مخترعيها وسياسييها بالطبع ، إلا أنها لم تفرض قسرا أو فجأة على شعوب شديدة التخلف ، بواسطة أقلية ديكتاتورية كما سنرى .
أيضا التعريف يستبعد عمليات إعادة البناء ، كما حدث فى الياپان وألمانبا بعد الحرب العالمية الثانية ، فالشعوب ليست بدائية فى هذه الحالة بل تمتلك المعرفة التقنية بالفعل ، وكل المطلوب إعادة بناء الاقتصاد .
أيضا هو يستبعد تجارب النهضة الفاشلة والمنتكسة فى نهاية المطاف ، كالاتحاد السوڤييتى ومصر الناصرية ، إلى آخر تجارب الاشتراكية . والأسباب لن تكون خافية بعد قليل .
النهضات على سبيل الحصر : ألمانيا پسمارك ، ياپان الميجى ، دول الساحل الجنوبى لأوروپا تركيا أتاتورك وإيطاليا الدوتشى وإسپانيا فرانكو وبرتجال سالازار ويونان چنرالات فيلم ’ زد ‘ ، النمور الآسيوية وبالأخص تايوان وكوريا وسنجافورة التى يقبع حاليا أغلب الچنرالات التى صنعوهها كى يتعفنوا فى صمت فى السجون بتهمة انتهاك حقوق الإنسان ( دع جانبا مغدور كوريا العظيم پارك تشونج هيى ) ، وأخيرا ‑بالطبع وفوق الكل‑ تشيلى الچنرال پينوتشيت .
السمات المشتركة لتجارب النهضة :
1- ديكتاتوريات .
2- عسكرية .
3- يمينية .
4- علمانية .
5- دموية . واجهت ثورات العمال والطلبة على الإصلاح اليمينى ، بمذابح واسعة النطاق يقوم بها الجيش ، وبفرق الموت تلاحق وتقتل آلاف الشيوعيين أو القوميين أو المتدينين أو كلهم مجتمعين .
6- استئصالية . لا تأبه لما يسمى بالهوية القومية أو بالخصوصية المحلية ثقافة أو حتى اقتصادا ، بل تعمد تحديدا لتحطيمها بكل الطرق الممكنة ، وتحل محلها نسقا اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا مأخوذ بالكامل من الكتاب ، الكتاب النظرى للحضارة ، أى خبرة وهوية ذلك أو تلك الشعوب الأكثر اختراقا لجبهة التقنية فى تلك اللحظة المعطاة . بمعنى آخر إن المستوى التى تلعب فيه هو تغيير [ ذلك الشىء الذى أسماه كيسينچر الطبقة الچيولوچية للشعوب .
7- دارونية . بمعنى أن يمينيتها مبنية على أسس علمية ، وليس من مجرد العداء لهذا الميل الجنسى أو ذلك العرق مختلف اللون أو أشياء كهذه . بمعنى آخر أنه بينما يرى زعماء تلك التجارب [ على العكس من كيسينچر ، إمكانة تحطيم البنية الچيولوچية للشعوب ] ، وعمرها عدة آلاف أو بالأكثر عشرات الآلاف من السنين ، فإنهم يبدون بالغى الحرص فى ذات الوقت على أن لا يخرق مشروعهم النهضوى قوانين الطبيعة ، التى هى أكثر قاعدية ورسوخا وتمتد لبلايين أربع من السنوات هى تاريخ الحياة على وجه الأرض.تلك التى فى جوهرها يمينية للغاية تؤمن بالصراع والانتخاب الطبيعى وحفز التكيف وتنحية الضعيف طوال الوقت ، إلى آخر كل ما يمكن استنتاجه من داروين . كذلك من الملفت حقا أن هذه الدارونية صبغت يمينيتها برقى رفيع ، ولم نجدها أبدا وقد تدنت لمستوى العرقية والتمييز لدين أو عرق أو لون بأكمله ، إلا بالطبع ما يفرضه تميز أو فشل الأفراد واحدا واحدا . باختصار هم أرقى شكل ممكن للسيطرة على الطبيعة ( تعريف فرويد الشهير للحضارة ) : أن تدفع بقاربك فى اتجاهها كى تسبقها ، أما أن تكون يساريا تسبح ضد قوانينها فلن ينالك سوى تحطم قاربك !
8- مدللة . لم يحدث أبدا أن عادى الغرب الديموقراطى ، أو أيا من كان أكثر تقدما فى اللحظة المعطاة ، تجارب النهضات هذه ، بل الواقع أنه دعمها ماديا ومعنويا وأحيانا عسكريا لأبعد الحدود .وهذا ينفي أكذوبة أن الغرب لا يريد لنا التقدم . فالعكس هو الصحيح بزاوية 180 درجة . حيث تقدمنا سيوسع من سوق منتجاته ، ويكفل له التمويل اللازم لتنمية تقنيات أحدث ، لا يخاف معها أبدا من منافسة من تخلفوا عنه ولو بشهور ناهيك عمن تخلفوا بمسافات أطول مثلنا . وحتى لو حدث واجتهدنا بقوة بحيث شكلنا منافسا حقيقيا ، فهو يرتضى سلفا قانون المنافسة ’ النظيف ‘ أى المنافسة التقنية والعلمية دونما إرهاب أو تحريض أو قومية أو أيديولوچية ، إلى آخر أشكال الضرب تحت الحزام . فذلك هو القانون الذى ارتضاه المتحضرون فيما بين بعضهم البعض ، ولا يبدو فى الأفق المرئى أنهم بصدد التخلى عنه !
9- مغدورة . بعد أن ينجز العسكر مهمتهم ويضعون شعوبهم على طريق التقدم ومنافسة بقية العالم ، تكتشف هذه الشعوب مصطلحا لم يكن قد استخدمته قط فى كل تاريخها ، اسمه حقوق الإنسان . ويكون أسهل شىء لديها التمتع بتطبيقه أول ما تطبقه ، على هؤلاء أولياء نعمتها أنفسهم ، فتحاكمهم وتضعهم فى السجون !
10- يصعب تطبيقها فى بلاد العرب والمسلمين . هذا بالطبع لأسباب چيينية ترفض فكرة الاقتصاد الحر والكدح والابتكار ، وتفضل التعيش على القرصنة وقطع الطريق والاسترقاق والاستحلال ومص دماء وعرق الغير ، التى كلها مميزة لسائر العرق السامى وأبناء عمومته وجيرانه.
ملحوظات:
1- لم نذكر من ضمن الخصائص أن هذه القيادات وريچيمات الحكم هى ريچيمات نظيفة اليد لأبعد الحدود ، يحدوها الإخلاص المطلق لمصلحة شعوبها ولا تسنح بأدنى قدر أو شكل من الفساد . تعمدنا ذلك لسببين ، الأول أن هذا من نافلة القول ، وثانيا حتى لا نجارى الرأى الشائع السائد بأن المشكلة تقع برمتها فى انعدام الضمير أو فى الفساد ، فهذه كلها فى رأينا مجرد نتائج للنظام . لو النظام قائم على المال العمومى والسلطات الحكومية الواسعة على الاقتصاد سيتولد الفساد توليدا ، ولو النظام قائم على الاقتصاد الحر ، حيث الكل رقيب على الكل فيه بسبب المنافسة المفتوحة ، فسيتولد ما يسمى بالضمير توليدا .
2- بالاعتراف بأن كل مشروع يمينى هو رؤية بعيدة المجرى تتطلب إصلاحات قاسية لا بد وأن يقاومها الشعب بالضرورة ، فالأمر يحتاج فى أغلب الحالات لغطاء من الحلوى لتمرير مرارة الإصلاحات للشعب . القومية هى عادة الغطاء الذى لجأت له أغلب هذه النهضات . هذا يستثير همم الشعب للبناء ، ويوجه غضبهم لأشياء أو أعداء آخرين غير الإصلاح نفسه . لكن ما لا يحتمل اللبس قط أن كل هذا لا يزيد عن كونه نوعا من الخداع البصر للشعب ، ولم يحدث أبدا أن دخل أى مشروع نهضوى فى صراعات إقليمية أو أن تحدى ما يسمى بالهيمنة الإمپريالية ، إلى آخر ما يمكن توقعه عادة من الأيديولوچيات القومية الحقة . بالعكس ، التعهدات الحقيقية تكون دوما هى الاقتصاد الحر ، والانخراط فى عجلة الرأسمالية العالمية ، والتحديث ليس تقنيا واقتصاديا فقط ، بل بما فيه طمس الهوية القومية وإحلال الهوية الغربية الجلوبية محلها . أليس هذا هو جوهر الإصلاح الأتاتوركى مثلا ، رغم كل خطابه القومى الصارخ ضد مفهوم الأمة الإسلامية أو ضد القوميات الصغرى الأخرى كالأكراد مثلا ؟ كل نهضة ‑لا سيما نهضات الساحل الجنوبى لأوروپا‑ لها قصة مشابهة وإن لم تكن بمثل هذه الصورة الكلاسية الدرامية المثيرة . أو لعل بعض النهضات ‑والحق يقال‑ كانت فى وضع أفضل وأشجع لمواجهة شعوبها مواجهة عقلية وصريحة بمرارة الإصلاح ، كما فعل العظيم پينوتشيت مثلا . هذه هى الحالة المثالية التى نأمل فى مثلها لشعوبنا ، وليس مثلا الخروج علينا بفكرة هشة أو موهومة كالقومية المصرية أو القومية اللبنانية مثلا .
3-- ذلك التمييز بين الرواسخ صعبة التغيير كطبائع الشعوب ، وبين ’ الثوابت ‘ مستحيلة التغيير فى قوانين العالم الطبيعى ، هو سر نجاح هذه النهضات . ومن ثم من الواضح طبعا لماذا لم تكتب الاستدامة النهضوية لديكتاتوريات عسكرية أو پوليسية أخرى مثل ستالين وعبد الناصر . السبب ببساطة أنها يسارية وتلعب عكس قوانين الطبيعة ، فإذا بها بعد قليل تكتشف أن وصولها للقمر وترسانتها النووية باتت عبئا عليها يستنزف مواردها ، وليس مصدرا للربح المادى كما كل تقنيات عصرنا التى ولدت جميعا فى حضن المؤسسة العسكرية الأميركية ، ثم وجدت بعد ذلك آلة الشركات الرأسمالية تروجها للحياة اليومية لكل الناس فى صور مختلفة ، ناهيك بالطبع عن كونها مجتمعات لا تنافسية ينتصر فيها فى خاتمة المطاف الكسالى والفاسدون . هنا تكمن عبقرية اليسار وطموح المناطحة عنده . أما ديكتاتوريو اليمين ، والمعجبون بهم من البسطاء أمثالى ، فهم أناس متواضعون يعرفون قدر أنفسهم ، ولا يفكرون أبدا فى تغيير قوانين الطبيعة ، بل يأملون فقط أن تلعب هذه القوانين فى صفهم وتحقق لهم النجاح .
4-بالمصطلحات الماركسية المحض هؤلاء الديكتاتوريون اليمينيون المتطرفون ينطقون بلسان البنية التحتية المادية جدا للطبيعة والمجتمع ، ولا يجلبون الفكر من الخارج لهذه البنية التحتية ممثلة فى طبقتهم الإنتاجية المختارة ، كما رأى وفعل ماركس وكل الماركسيين واللينينيين من بعده على نحو بالغ المثالية دون أن يدروا أنهم ’ بسياستهم ‘ الماركسية يناقضون أصلا كل المنطلقات الفلسفية للمادية الديالكتيكية لماركس الشاب ، والمنيعة تقريبا على أى نقد ( وهذا رأيى حتى اليوم ) ، ومناقضة حتى للاقتصاد الماركسى الصحيح فى مجمله كتحليل تاريخى على الأقل .
5-أيضا وللأسف الشديد نضطر لإضافة نهضة يمينية عظمى ولطالما أنبهرت بها شخصيا وتآمر عليها العالم بأسره حتى أسقطها . إنها بالطبع نهضة جنوب أفريقيا . ذلك دون أن نحسم إذا ما كانت عرقيتها غير ’ الطبيعية ‘ جدا ربما ، هى السبب فى انهيارها ، أم مجرد تآمر شعارات العالم الخارجى البلهاء ضدها . إذ لعلها لو بزغت فى توقيت لم يكن يكتسح العالم فيه جنون اليسار لكانت قد نجحت للنهاية .
6-- بالطبع هناك حالات شبه هجين ما بين النهضة والحضارة ، مثل ألمانيا وفرنسا والأعظم منهما هولاندا ، وهى دول لم تصنع الثورة الصناعية ، لكنها كانت جاهزة من حيث النضج التقنى الكافى لاستيعابها خطوة بخطوة تقريبا مع روادها الإنجليز ( الواقع هولندا ببنوكها اليهودية كانت ممولا جوهريا لكل المساعى الحضارية فى كل أوروپا على امتداد مجمل الألفية الثانية ، كالأموال الهائلة التى تطلبها تمويل الكشوف الجغرافية والبنية التحتية للثورة الصناعية من مصانع ومناجم وقنوات وموانئ …إلخ ) . هذا الكلام يسرى بشكل عام على كل الشمال الأوروپى بدرجات متفاوتة . كذلك نحن لم نخطئ فى تصنيف نهضة موسولينى فى إيطاليا كإحدى النهضات الناجحة المستدامة ، فالحقيقة أن هزيمة الحرب الثانية كانت أقرب لنوع من التحول السلمى ، تم فيه عزل الدوتشى ومواصلة المسيرة على نحو أنضح وبلا حماقات عرقية أو شعارات قومية مبالغ فيها .
7-- أيضا لا يمكن تجاهل حالة الهند والتى قد تكتسب ملمحا خصوصيا بعض الشىء . فهى بلد سلك دروبا وعرة للغاية تخبط فيه على كافة ملل الطيف اليسارى كل نصف القرن التالى على الاستقلال ، ولم تبدأ فى الازدهار إلا مع تولى اليمين للسلطة فيها مؤخرا ، وطبعا ببطء شديد لا يرقى لمستوى النهضة . لو استمر تسيد اليمين الكاسح فى هذا البلد الديموقراطى لفترة طويلة ، فإنه سيساوى تقريبا من حيث الأثر الديكتاتورية اليمينية ويمكن من ثم تحقيق نمو سريع . أما لو باتت الهند ديموقراطية ’ حقيقية ‘ وقفز اليسار من جديد للسلطة ، فالأمال لن تكون كبيرة بالمرة فى تقديرنا المتواضع . أى أن الهند لا تزال فى منطقة أشبه بما يسمى فى الكاثوليكية المطهر ، ويصعب معرفة مصيرها النهائى بعد ، مع ملاحظة جديرة بالاهتمام ، أن ما لم تكن التنمية فى صورة طفرة وبسرعة ، فإنها غالبا ما تنتكس !
8-- على العكس طبعا تتبقى الحالة الفريدة والطريفة جدا : الصين ، أول نهضة فى القرن الحادى والعشرين . هذه حسمت أمرها كنهضة رأسمالية يمينية ليبرالية ، يرعاها وينفذها حزب رهيب الديكتاتورية وإن لوحظ فيه أنه لا يهتم بالمسميات كثيرا ، ولا يزال مبقيا على اسمه الأصلى الحزب الشيوعى الصينى ! باستثناء طرافة المسمى هى حالة كلاسية جدا للنهضة ، بل ومتطرفة فى صفوويتها ، حيث تختار مدنا بعينها لتطبق عليها نظام الاقتصاد الحر ، تحميها مؤقتا من غزو بقية الدولة البدائية ، ثم تدريجيا تضم لها مدنا أخرى وهكذا ! والمدهش أكثر وأكثر أنه رغم المسميات ورغم ما يسمى بانتهاك صارخ لحقوق الإنسان ، فإن أميركا وكونجرسييها ’ الديموقراطيين ‘ للغاية ، لم يفكروا قط حتى فى أيام الطاغوت اليسارى الكلينتونى ، فى استبعادها من الوضع المميز جدا من التعاون الاقتصادى تحت اسم الدولة الأولى بالرعاية ! فالفكرة ببساطة أن الناهضين من الصفر طالما هم جادون فى الإصلاح الاقتصادى ، وبغض النظر عن ’ اللا إصلاح ‘ الديموقراطى ، وحتى بغض النظر عن امتلاك السلاح النووى ، بل إن لم يكن لكل هذه الأسباب مجتمعة ، هم مؤهلون من الناحية الواقعية لأن يكونوا أصدقاء وأعضاء فى نادى الصفوة الكوكبية المحترمة ذات السلوك الناضج ، أكثر من أن يكونوا مؤهلين لدور العدو أو قاطع الطريق المارق . وعلى أية حال ، ولأسباب چيينية عميقة ، ليس لدينا حتى اللحظة ثقة كبيرة ، فى أن النهضة فى بلد كالصين ، أو النهضة التى صنعها العرق الصينى فى ماليزيا ( العرق المالى نفسه عرق كسول بطبعه اعتنق الإسلام ولم ولن يصنع نهضة ) ، هى نهضات راسخة عميقة الجذور وستكون مستدامة .
مرة أخرى نحن لا نطرح حلا لتخلفنا به أدنى قدر من العبقرية أو الابتكار ، بل بالعكس تماما حاولنا قدر الإمكان تحاشى أى اختراع أو اجتهاد . وكل ما فعلناه هو بتواضع شديد :
1- أن حصرنا حالات القفز السريع للتخلص من التخلف ، أو ما يسمى النهضة .
2- أن اكتشفنا ( وليكن من قبيل الصدفة المحضة لو شئت ) أنها تخضع لآلية واحدة صارمة لا تتغير حتى فى أدق تفاصيلها .
3- وأن أدنى تغيير على هذه الآلية ، أو محاولة تجربة شىء أكثر بطئا أو سلمية ، يؤدى بالضرورة لتداعى التجربة برمتها .
4- رغم علمنا أن شعوب العرق العرق السامى لم يحدث أبدا أن أنتجت ديكتاتورية عسكرية يمينية ، ورغم تخيلنا أنه حتى لو طبق هذا فيها فلن ينجح على الأغلب ، ورغم ثقتنا أن الهاجس التاريخى لمثل هذا النوع من الشعوب هو ما يسمى بالعدل ، وأن من ثم سقف أحلامها أن يأتيها حاكم من شاكلة عمر بن الخطاب ( ديكتاتور يسارى يعنى ! ) ، ورغم بالطيع أن آفاق حدوث أى تغيير چيينى فى أى مستقبل منظور هو بداهة ضرب الأحلام ، إلا أننا وبمنتهى منتهى منتهى التواضع ، ومنتهى منتهى منتهى الحب والاحترام ، ندعو كل حكامنا العرب ( المخلصين المهمومين منهم بإشكالية التنمية بالطبع ، وليس الأسد وصدام ومن على شاكلتهما من اليسار مناطح الغرب وإسرائيل ) ، لاتباع هذه الآلية ، رغم كل قسوتها ومرارتها والدماء التى ستسفك فيها ، ورغم أنها ليست قصيرة المجرى بالمرة فى الاتيان بالنتائج ، لكن فى النهاية ليس لدينا بديل عن المحاولة . هذا فقط تشبثا بأمل واهن فى مستقبل مختلف لأبنائنا ، وثانيا لأننا ‑بمنتهى منتهى منتهى البساطة‑ لم نجد فى كل القرون الماضية أى بديل من أى نوع يمكن أن يسهم ‑ببطء وتدريج حثيثين‑ فى تغيير اللعنة الچيينية التى تسرى فى عروقنا ( كما حدث لأبناء عمومتنا اليهود حين ذهبوا لبلاد الصقيع واستعروا بمحارقها ، فعادوا أشكيناز هصاينة ليس بهم أى من الخصائص المعروفة للعرق السامى ، أو عرق البرابرة حسم تسمية أرسطو .
باختصار شديد : يفترض أن الحكومة مجرد جسم body صغير لكن كفء ويقظ ، وظيفته السهر على حراسة القوانين التنافسية لأمنا الطبيعة وعلى ألا يصادر أحد حرية اقتصاد السوق أو ديناميات الحراك الاجتماعى أو حريات الأفراد الشخصية ، أيها باسم الاشتراكية أو الإنسانية أو الدين أو أية أيديولوچية أخرى كانت ، أى وظيفته وسيط تنشيط catalyst للتفاعلات الاقتصادية دون أن ينغمس هو نفسه فيها . تلك الوظيفة لا تحتاج لانتخابات وجلبة وتعقيدات . ديكتاتورية عسكرية بسيطة يمكنها القيام بها على أعلى قدر ممكن من الكفاءة ، ذلك إلى أن يحين يوم قريب تتولى فيه الآلات الحية فائقة الذكاء إدارة شئون حيواتنا بالكفاءة المثالية التى طالما حلم بها الفلاسفة !
تحية اجلال وتقدير واحترام للثائر الكبير اوغستو بيوشيه الذي نقل شعب واقتصاد تشيلي نقلة نوعية وسريعة وعملاقة نحو المستقبل المشرق والحرية والرفاة.