عام علي رحيله:
مزامير نجيب محفوظ
نيويورك فرانسوا باسيلي
وبذلك تعلم نجيب محفوظ من استاذيه مصطفي عبدالرازق وسلامة موسي التدين في اعتدال، والإيمان مع الانفتاح علي عقائد الآخرين بدون تعصب، وتعلم أسس الفكر العلمي الموضوعي، والثقافة الإجتماعية العلمانية .
عندما قام شاب موتور في مساء الجمعة 14 اكتوبر 1994 بطعن نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911م 30 أغسطس 2006م) في رقبته بالسكين محاولا اغتياله، كتب المعلقون وقتها أن هذا الشاب لم يكن يعرف ماذا يفعل! وعندما سمعوه يتحدث في مقابلة تليفزيونية بعد الحادث، تأكدوا من ذلك إذ أنه لم يقرأ حرفا واحدا للروائي العربي والعالمي الكبير، ومع ذلك قام بمحاولة قتله بناء علي ما كان يسمعه من تحريض ضد الكاتب من بعض المتطرفين المتشنٌجين الذين سمح لهم مجتمع فقد بوصلته الحضارية بأن يسطوا علي منابر الجوامع ليبثوا من عليها خطب الكراهية والعدوانية التي هي بضاعتهم الأساسية. وكان البعض من هؤلاء المقيمين في عصور بائدة وفي كهوف الماضي، من خطباء الجوامع بل ايضا من اساتذة الجامعات الذين نشروا كتبا ودراسات عن نجيب محفوظ، كانوا قد دأبوا لعدة سنوات يخطبون ويكتبون مهاجمين الأديب العربي الوحيد الذي حصل علي جائزة نوبل في الأدب، متهمينه بأنه ليس مسلما صحيح الإسلام، وبأنه يكتب ضد الإسلام ، وقاموا بإلقاء التهمة الجاهزة لديهم التي يطلقونها بخفة وكراهية علي الكثيرين وهي نفس التهمة التي اطلقها أسامة بن لادن علي اليهود والنصاري.. أنهم كفٌار! فقالوا ان نجيب محفوظ كافر..!
وكان من هؤلاء المحرضين علي نجيب محفوظ الشيخ كشك، الذي اشتهر وذاع صيته في ذلك الوقت في مجتمع استسلم لدغدغة أصابع التطرف والكراهية، وهو في سبات الكسل الفكري والاسترخاء الحضاري.. يتمرغ في نوم ثقيل لفرط تعبه الجسدي والروحي، ولا يسمع سوي الصراخ الذي يصرخه الإرهابيون والمتطرفون من الجماعات الإسلامية فيجد فيه لذة الإثارة الوحيدة المتاحة له، بعد ان فقد كمجتمع لذة خلق الحضارة وابتكار المعارف الجديدة، ولذة الحياة نفسها.. فاختار لغة الحقد والعدوان والموت والقتل.
وكان الشيخ محمد الغزالي نفسه، صاحب الكتب الكثيرة في الإسلام ومبادئه، قد قدم تفسيرا مجحفا باطلا لرواية 'اولاد حارتنا' بأنها تدل علي الكفر والإلحاد.. بينما أصدر الشيخ عمر عبدالرحمن المحرض علي أعمال التدمير لمبني التجارة العالمي عام 93 والمعتقل في نيويورك حاليا 'اصدر 'فتوي' بتكفير نجيب محفوظ وإباحة دمه!! ولكن الذين قالوا إن هؤلاء الإرهابيين بمحاولتهم قتل نجيب محفوظ لم يكونوا يعرفون ماذا يفعلون قد جانبهم الصواب.. فرغم أن الشاب الموتور الذي طعن بالسكين لم يقرأ لنجيب محفوظ ولم يعرفه، فإن الذين حرضوا ضد نجيب محفوظ كانوا يعلمون تماما ماذا يفعلون.. فرغم أن اتهاماتهم بالكفر وبعدم التدين هي اتهامات مشينة وباطلة.. لأن كل من عرف نجيب محفوظ عرفوا فيه الرجل المحبٌ الجميل بالغ الحساسية والحكمة والفضيلة.. رغم ذلك فقد كان هؤلاء المتطرفون يدركون جيدا أن نجيب محفوظ في كل كتاباته وأعماله الروائية الباهرة المضيئة يمثل النقيض تماما لكل ما يمثلونه هم من فكر عدواني دموي كاره للآخر وللحياة.
لقد كان إرهابيو الفكر والفعل يعرفون تماما ماذا يفعلون عندما ارتعبوا مما يكتبه هذا الإنسان المرهف من كتابات تجمٌعت فيها عصارة الألم والأمل والخوف والحب واليقين والبحث والضمير والخطأ الإنساني كله.. كما تتجمع في كل إنسان حيٌ جدير بهذه الصفة، لكنه سبق الآخرين في أنه استطاع أن يسبر غور هذه المشاعر المتلاطمة كلها ويعبٌر عنها علي لسان شخصياته في رواياته وقصصه، فإذا هو يهدي إلينا، ويهدي الإنسانية جمعاء، أجمل هدية، هي هدية الكشف وإضاءة جوانب الذات المظلمة، هدية معرفة النفس، ومعرفة الآخر، ومعرفة الوجود، والسعي الدائم لمعرفة خالق هذا الوجود. وقد فعل ذلك ليس بأسلوب الوعظ المباشر المعنٌف الذي لا يلمس قلب الإنسان وبالتالي لا يؤثر ولا يجدي.. وإنما فعله بأسلوب الطبيب الجراح الذي يبحث عن اصل الداء، ويضع يده علي الجزء المريض المتعب من الجسد.. لكي يمكننا بعد هذا ان نقدم العلاج او الراحة المسكنة. كما فعله بأسلوب المحبٌ لكل الناس، فعندما نقرأ شخصيات رواياته، حتي الشخصيات الإجرامية مثل 'سعيد مهران' في رواية 'اللص والكلاب' لا تملك إلا ان تشعر بالعطف والحزن والمشاركة الإنسانية لشقاء هذه الشخصيات الإجرامية، وتلمس فيما يكتبه نجيب محفوظ أن طاقته علي محبة الجميع تشمل حتي المجرمين الذين يصورهم ببراعة وإنسانية بالغة في رواياته.. نعم إن الإرهابيين قد رأوا في فكر نجيب محفوظ تهديدا لهم.. لأن جمال وبهاء الإنسانية التي في إبداعاته تفضح قبح ودمامة مشاعر الكراهية والعدوانية التي يمثلونها هم بفكر عدواني كاره للحياة
جائزة نوبل
لقد عرف العالم كله قدر هذا المبدع العظيم فمنحه العالم جائزة نوبل في الأدب عام 1988م. وذلك عن أربعة روايات بشكل خاص، ثلاثيته الشهيرة التي تضم 'بين القصرين' و 'قصر الشوق' و'السكرية' وكلها أسماء حارات في حي الجمالية الذي وجلد فيه محفوظ، ثم رواية 'اولاد حارتنا' التي قام إرهابيو الفكر والفعل بتكفيره بسببها! وأذكر انني قرأت 'أولاد حارتنا' عندما كنت طالبا ، وكانت جريدة الأهرام تنشرها مسلسلة في 'اهرام الجمعة'. كما قرأت بالأهرام ايضا 'الطريق' و 'اللص والكلاب 'و ''لسمان والخريف' و 'ميرامار'.. وكان كل جزء ينشر كل جمعة هو زادنا الحضاري والروحي للأسبوع كله، انا ومجموعة صغيرة من الأصدقاء كنا نتابع معا هذه الكتابات الباهرة التي يتحفنا بها محفوظ كل أسبوع، ونظل نتناقش ونحتدٌ حولها حتي الجمعة التالية.
بالطبع لا تستطيع روايات عادية او حتي جيدة ان تفعل هذا الفعل في عقول ونفوس عدة أجيال من شباب مصر والعالم العربي. فقد كان هناك كجتاب آخرون كبار وقتها مثل إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وعبدالحليم عبدالله وغيرهم، يكتبون الرواية ايضا، ولكن لم يقترب أي منهم من مكانة محفوظ، ولم يحصل أي منهم علي نوبل. فما الذي في كتابات محفوظ لكي يكون لها فعل السحر هذا؟ في اعتقادي ان السر في كتاباته لا يكمن في صفة واحدة منها، ولا يرجع إلي سبب واحد، ولكن إن كان لنا أن نوجزها كلها في صفة أساسية شاملة واحدة، فهي أن كتاباته كانت مملوءة حتي الثمالة بعصارة الحياة نفسها وكلها.. عصارة هي مزيج من الشهد والمرٌ، والخمر والعلقم، والفاكهة وماء الورد وأمطار الجبال وأنهار السفوح، وينابيع الشباب السحرية التي تحدثنا عنها الأساطير دون ان نجدها في مكان.. كل هذا في أسلوب يجمع بين الفلسفة والشعر.. ففي حواراته ووصفه حكمة عالية هي حكمة الفلاسفة.. وشاعرية مرهفة نافذة مثل وحي أبلغ الشعراء..
ولكن من أين لمحفوظ كل هذه الفلسفة وكل هذا الفكر والشعر؟!
سلامة موسي
أما الفلسفة فقد درسها في كلية الآداب قسم الفلسفة، والتي تخرج فيها عام 1934م. ولكن اللافت ان نبوغه كان قد ظهر عدة سنوات قبل هذا، إذ بدأ ينشر المقالات النقدية عام 1928م أي وهو طالب في سن السابعة عشرة، (ولد في 11 ديسمبر 1911م).
ويقول الناقد الكبير رجاء النقاش في كتابه 'في حب نجيب محفوظ': (الحقيقة ان نجيب محفوظ هو خلاصة الامتزاج والتفاعل في شخصيته بين أستاذين كبيرين هما الشيخ مصطفي عبدالرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب، وسلامة موسي، الصحفي والمفكر الكبير.. وكان سلامة موسي ثائرا مجددا، ومؤمنا متطرفا بالحضارة الغربية الحديثة.. وكان في نفس الوقت من المتحمسين للحضارة الفرعونية والداعين إلي إحيائها، وقد تأثر به نجيب محفوظ تأثرا واضحا، فتحمس للحضارة الفرعونية وترجم عنها وهو طالب في الجامعة كتاب 'مصر القديمة'، وهو اول كتاب يكتبه محفوظ، وقد نشره له سلامة موسي ، وتحت تأثير سلامة موسي ايضا أصدر نجيب محفوظ رواياته الثلاث الأولي، وكلها عن مصر الفرعونية، وهي روايات 'عبث الأقدار' و 'رادوبيس' و 'كفاح طيبة'.
أما الشيخ مصطفي عبدالرازق، وشقيقه علي عبدالرازق، فقد كانا منارتين للفكر الإسلامي المتفتح المستنير في مطلع القرن العشرين، وهو الفكر الذي تراجع في مصر منذ السبعينات أمام زحف الفكر المتطرف للجماعات الإسلامية، وبذلك تعلم نجيب محفوظ من استاذيه مصطفي عبدالرازق وسلامة موسي التدين في اعتدال، والإيمان مع الانفتاح علي عقائد الآخرين بدون تعصب، وتعلم أسس الفكر العلمي الموضوعي، والثقافة الإجتماعية العلمانية، وهكذا نجد في كل كتاباته بعد ذلك فكرا متحررا موضوعيا سابقا لمجتمعه.
إبداعاته الفلسفية
من الضروري اولا التنبيه ان المقاطع التي سأوردها هنا مأخوذة معظمها من روايات وقصص نجيب محفوظ عن لسان شخصياته الروائية، وبالتالي لا نستطيع ان نقول ان هذه هي بالضرورة أفكاره هو، فعندما يضع المؤلف كلمات عن لسان مجرم شرير، مثلا، فستكون أفكاره وأقواله شريرة، ولا نستطيع ان نقول ان هذه هي أفكار المؤلف ايضا ووجهة نظره، ومع هذا فيمكننا من طريقة صياغة المؤلف للكلمات والأفكار ان نعرف شيئا عن فكر المؤلف حتي ولو جاء متخفيا علي لسان شخصياته الروائية.
ولنبدأ بعرض فكرة قالها نجيب محفوظ مباشرة في مقابلة مع محمد بركات، وهي بهذا فكره الشخصي.. ويتضح منها المنحي الفلسفي لهذا الكاتب الكبير:
'أعتقد ان كل إنسان يبحث عن السعادة وعن الحقيقة.. ورغبة بعض الناس الشديدة في السعادة ربما سقطت بهم إلي تحقيقها علي حساب الحقيقة.. كما أن رغبة البعض الآخر في نشدان الحقيقة والبحث عنها ربما كانت علي حساب ما يحققونه من سعادة.. ويبلغ الإنسان مرتبة الكمال عندما يتضح له في لحظة ان الحقيقة كل الحقيقة هي السعادة كل السعادة'.
ويقول في قصة 'الحب والقناع': (الإنسان يفوق الحيوان في شهوة القتل فيقتل نفسه ايضا).
ونقرأ له في روايته 'الحرافيش' إفرح عند كل شروق شمس، ولا تحزن عند غروبها.. و.. يا لتعاسة القلوب الغافلة..!
وفي 'حضرة المحترم' نقرأ هذه الكلمات الرائعة التي هي مزيج من الفلسفة والشعر والصلوات:
'علي الأرض تطرح أسرار إلهية لا حصر لها لمن له عين وبصيرة..
إن الله لم يخلقنا للراحة ولا للطريق القصيرة..
بالحزن يتقدس الإنسان ويعد نفسه للفرح الإلهي..
لم يعد يبالي بما كان ولا بما هو كائن ولا بما سوف يكون'..
ونلاحظ في هذه المقاطع تعبيرات متأثرة بالعهد القديم.. كما نلاحظ في الكثير من كتابات وشخصيات محفوظ تأثيرات إسلامية واضحة، وهكذا فالرجل مسلم في اعتدال وانفتاح.. ولذلك اتهمه الإرهابيون بأنه ليس مسلما صحيح الإسلام! أي ليس مسلما علي طريقتهم العدوانية.
ولكني لا اريد ان اعطي انطباعا بأن نجيب محفوظ رجل شديد التدين بالمعني الفقهي للكلمة.. فكتاباته تنضح بقدر عظيم من عنفوان الحياة وشهواتها وتقلباتها.. فهو من ناحية له جانب صوفي روحي ينشد الحقيقة ويبحث عن المطلق، ومن ناحية اخري لا يمنعه هذا من اجتراع عصارة الحياة حتي الثمالة. دون ان يعني هذا انغماسه في اي نوع من الابتذال في حياته الشخصية بل بالعكس فحياته الشخصية كتاب مفتوح للجميع فهو زوج وأب محبٌ محافظ ليس له نزوات ولا عادات اجتماعية سيئة، و تتجلي محبته للناس وللحياة في حفاوته بالناس وحبٌه للضحك الصافي وللسخرية والنكتة والقافية علي طريقة المصريين جميعا.. فهو مصري في كل قطرة من دمائه وبكل مشاربه.. لكنه يمثل أجمل ما في الأخلاق والطبائع المصرية.
مزامير نجيب محفوظ
في مقطع جميل من كتاب 'في حب نجيب محفوظ' يصف رجاء النقاش النفحات الشعرية الخلابة في كلمات محفوظ هكذا: 'نحس ان الكلمات مليئة بندي الشعر الجميل، كما نتذكر ونحن نقرأ هذه المقاطع 'مزامير داود' التي جاءت بالعهد القديم والتي تعتبر بعيدا عن قيمتها الدينية مجموعة من أجمل الأغاني التي عرفتها الإنسانية في تعبيرها عن همومها وجروحها وآلامها ومناجاتها الصوفية للكون والحياة.. ويمكننا ان نسمي هذه المقاطع 'مزامير نجيب محفوظ' ولعل نجيب محفوظ قد تأثر بهذه المزامير وليس عندي من دليل إلا تشابه الروح التي تتأمل وتغني وتفكر وتصوغ خواطرها صياغة شعرية جميلة.
وليس أجمل من هذه 'المزامير' أختم بها هذا المقال، اخترتها من عدد من أعمال نجيب محفوظ:
في ظل العدالة الحنون تطوي آلام كثيرة في زوايا النسيان.. ولكن هل يتواري الضياء والسماء صافية؟
عاد إلي دنيا النجوم والأناشيد والليل والسور العتيق. قبض علي أهداف الرؤية، وانتفض ناهضا ثملا بالإلهام والقدرة، فقال له قلبه لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.
إنه فقير ولكنه غنٌي بحمل هموم البشر.
ما أكثر العفة المتولدة عن العجز.
إننا نأبي التسليم بالمثل العليا من طول انغماسنا في الماء الآسن.
مأساة الآدمية انها تبدأ من الطين، وأن عليها بعد ذلك أن تحتل مكانتها بين النجوم.
الدنيا بلا أخلاق ككون بلا جاذبية.
لماذا لا يسود النقاء؟ ما الذي حال دون ذلك طوال القرون؟
وهل يوجد في مكان ما من الأرض إنسان يعيش بلا خوف ولا رذائل.
تساءل ألا يمكن أن يؤكد انتسابه إلي الإنسان ويتناسي إنتسابه الجبري إلي هذا الوطن؟
ثمة آلام أعنف من ترف الضمير!
الإنسان إما أن يكون الإنسانية جمعاء وإما أن يكون لا شئ.
وقد استطاع هذا الإنسان الجميل نجيب محفوظ ان يكون أقرب ما يكون إلي الإنسانية جمعاء.
--------------------------------------------------------------------------------
http://www.akhbarelyom.org.eg/adab/issues/740/0300.html