مابعد الحداثة:
فوكو، لاكان، النسائية الفرنسية
هانس بارتنس
ترجمة: خميسي بوغرارة (باحث واكاديمي من الجزائر)
--------------------------------------------------------------------------------
هناك التقاءات بين النسائية والفكر ما بعد البنيوي. وليس من باب المفاجأة، بالنظر إلى الاصول الفرنسية للفكر ما بعد البنيوي، أن تكون النسائية الفرنسية أول من يتفطن إلى الامكانيات التي تتيحها المفاهيم والافكار ما بعد البنيوية لبناء تحليل نقدي نسائي للنظام الاجتماعي الأبوي.
ملخص
مابعد البنيوية سليلة البنيوية ولكنها تزعزع إنجازات هذه الأخيرة عن طريق التشكيك في ثقتها في اللغة وإمكانية التحليل الموضوعي؛ وفي مسحتها التفكيكية، المرتبطة بجاك ديريدا، تركز مابعد البنيوية على اللغة وترى أنها، حتى في غياب البديل، واسطة تواصل غير مستقرة ولا يمكن الوثوق بها. ولأننا نعتمد على اللغة في التعبير عن إدراكنا للواقع وفي تكوين معرفتنا لذلك الواقع، فإن الإدراك والمعرفة البشريين مشوبان بالنقص أصلا. كما ترى مابعدالبنيوية اننا لا نعرف ذاتنا معرفة حقة وأن هويتنا عرضة لعدم استقرارية اللغة. ويبين النقد التفكيكي الذي يؤسس نظرته على هذه الأفكار وغيرها أن عدم استقرارية اللغة دوما تزعزع التماسك الظاهري للنصوص الأدبية. ويبدو أن القصص والروايات التي بدأت تظهر في الستينيات وتواصلت في السبعينيات والثمانينيات تخلت عن مثل ذلك التماسك؛ فهي أيضا، من خلال التقنيات والاستراتيجيات التي تتبناها، تثير قضايا اللغة والهوية وما شابهها، والنقد ما بعد الحداثي الذي يهتم بنمط الكتابة هذا يقبل بفرضياته ويربطها بالنظرية مابعدالبنيوية.
لقد بدأت الدراسات الأدبية خلال السبعينيات والثمانينيات في استعمال واستيعاب أفكار شخصيتين ما بعد بنيويتين: المؤرخ ميشال فوكو والمحلل النفساني جاك لاكان. فأعمال فوكو تلفت انتباهنا إلى دور اللغة في ممارسة السلطة والاحتفاظ بها، إذ يرى أن العالم الغربي الحديث فريسة لمجموعة من »الخطابات« تقنن سلوك الفرد فيه لأن هذا الأخير استبطنها حتى أصبح في الواقع يمارس رقابة ذاتية على نفسه؛ والنقد الذي يستلهم فوكو يركز على دور النصوص الأدبية وغير الأدبية في انتشار السلطة الاجتماعية والإبقاء عليها. أما دور نظريات لاكان في التحليل النفسي فيتمثل في شرح أسباب استبطان الفرد لخطابات تسجنه، والنقد المستلهم للاكان يفيد على الخصوص في فحص العلاقة التي ينشئها القارئ مع النصوص التي يقرأها.
السلطة عند فوكو
إن ما بعد البنيوية حركة فكرية مشوشة للغاية، فهي تفكك كل تلك التقابلات الثنائية التي تعتمد عليها الثقافة الغربية (وكل الثقافات، حسب ليفي-ستروس Lévi-Strauss،) والتي تمنحها إحساسها بالتفوق والتفرد؛ وبتفكيك تلك التقابلات تكشف عن ترتيباتها السلّمية المزيفة وحدودها الاصطناعية وادعاءاتها غير المؤسسة بالمعرفة، واستيلاءاتها اللاشرعية على السلطة. وتركز مابعدالبنيوية على التشتت والاختلاف والغياب عوض الوحدة والتشابه والحضور المتغلغلين في طريقة تفكيرنا وموضوعاته وفي الثقافة التي ننتمي إليها، غير أن النقد التفكيكي، عندما يقوض التقابلات ويكشف عن الترتيبات السلّمية المتخفية وعلاقات السلطة، عادة ما يتوقف عند حدود النص المعالج. ورغم أن تفكيك ديريدا للامركزية logocentrism فكرة أن اللغة توصلنا إلى الحقيقة ـ يتضمن مساءلة السلطة على نطاق واسع إلا أن الاهتمام بالسلطة وعملياتها وإجراءاتها الذي يهيمن على النقد مابعدالبنيوي في الثمانينيات والتسعينيات ينحدر خصوصا من أعمال ميشال فوكو. Michel Foucault (1926-1984) فقد كتب فوكو، طوال مسيرته كمؤرخ، كتبا عديدة حول نشأة طب الأمراض العقلية، أصول وتطور الطب العيادي، تطور البيولوجيا وعلوم الاقتصاد، ظهور نظام السجن الحديث، وغيرها من التطورات الاجتماعية الهامة التي تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر ـ أو ما يعرف بعصر الأنوار أو التنوير، وركز فيها على ما اعتبره رغبة التنوير في تأسيس الإجراءات التي تقنن بواسطتها مجتمعاتنا نفسها على نحو عقلاني ومنظم. ففي هذه »الجينيالوجيات« ـ إذ لم يكن يسمي كتبه »تواريخ« ـ كان فوكو يهدف إلى كشف تغلغل السلطة ونشاطها في اللغة والتعابير ومصطلحات التشخيص، »الموضوعية« في ظاهرها، التي طورتها فروع العلوم الإنسانية المختلفة وهي تنمو وتتشعب في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وتتسم في نظره هذه العلوم الجديدة ـ التي تضم طب الأمراض العقلية، علم الإجرام، الطب، بيولوجيا الإنسان ـ بالقمع والكبت، لأنها خلقت معايير عامة ومُثُلا لا تدرك ولا تنصف الاختلاف بين طبيعة وتجربة الأفراد والجماعات وبين الأوساط التي تعيش فيها؛ فهي تفرض تعريفات علينا قد نفضل رفضها، فغدت هذه العلوم الإنسانية الجديدة قوالب ضيقة ـ مثل سترة المجانين ـ والغريب أننا نتقبلها ونتقمصها مقتنعين وحتى مسرورين.
البانوبتيكية
في مقطع عنوانه »الانوتيكية« Panopticism ـ من الأصل الإغريقي »انوتيكون« panopticon أي »الذي يرى كل شيء« أو »ذو الرؤية الشاملة« ـ في كتابه »أضبط وعاقب: مولد السجن« (1957 وترجم سنة 1977)Discipline and Punish: The Birth of the Prison ، يقدم فوكو عرضا وجيزا يبيّن فيه كيفية تعامل المجتمع الحديث مع الهامة والطاعون ـ وكلاهما مرض معد خطير جدا. فقد أقصي المصابون بالهامة من المجتمع للحيلولة دون انتشار المرض، أما الطاعون، الذي كان يصيب أعدادا كبيرة، فقد أجبر المجتمع على اتخاذ إجراءات أخرى؛ فبذل مجتمع القرن التاسع عشر قصارى جهده لاحتوائه عن طريق حبس الناس في بيوتهم كلما ظهرت أعراض المرض. ولكن مثل هذا الإجراء القاسي يتطلب مراقبة مستمرة: »المعاينة تجري بشكل مستمر، ونظرة (المراقب) في حالة استنفار دائم في كل مكان«.(1) ويجسد هذا الحبس، الاحتياطي والوقائي، في نظر فوكو خضوعَ الفرد في العالم الحديث للمراقبة والمعاينة الدائمتين:
هذا الفضاء المغلق المجزأ، المراقَب عند كل نقطة، حيث يوضع الأفراد في أماكن محددة ثابتة، حيث تُرصَد أدنى الحركات، حيث تسجَّل كل الأحداث، حيث يربط سيل من الكتابة بين المركز والمحيط، حيث تمارَس السلطة بدون اقتسام على نموذج سلّمي مستديم، حيث يتم تحديد موقع الفرد وتفحصه وتوزيعه بين المخلوقات الحية، المريضة والميتة ـ كل هذا يشكل النموذج المحكم لآلية الانضباط.(2)
وتتمثل الأمنية السياسية للطاعون في:
تغلغل المراقبة والتحكم في أدق تفاصيل الحياة اليومية من خلال وساطة الترتيب السلّمي الكامل الذي يؤمّن عمل السلطة عبر أدق قنواتها، ليس الأقنعة التي توضع وتخلع ولكن إعطاء كل فرد اسمه »الحقيقي«، مكانه »الحقيقي«، جسده »الحقيقي«، مرضه »الحقيقي«.(3)
يجب ألاّ نعتقد أن هناك في مثل هذه المحاولة لاحتواء الطاعون مجموعةً قوية من المواطنين تهيمن على مجموعة أخرى مستضعفة، ففيما يخص السلطة ليس هناك »انقسام ثنائي كبير بين مجموعتين من الناس« بل توزيع للسلطة عبر قنوات عديدة وعلى عدد كبير من الأفراد.
إن التقنين المفصل والمراقبة الدائمة اللذين تمت تعبئتهما ضد الطاعون في القرن التاسع عشر هما نفسهما اللذان يُشرَع في العمل بهما إزاء المتسولين والمتسكعين والمجانين والمخلّين بالنظام ـ باختصار، »الفرد الشاذ«. وتتمثل الأداة التي تستعملها السلطات المتكفلة بكل هذا في »التقسيم الثنائي« ـ أي التقابلات الثنائية المألوفة: مجنون/عاقل؛ خطير/غير مؤذ؛ عادي/شاذ.(4) ويستعمل فوكو صورة مجازية للتعبير عن هذا الضرب الجديد من التقنين الاجتماعي هي صورة »الانوتيكون«، وهو نوع من السجون صممه الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بانثم Jeremy Bentham في أواخر القرن الثامن عشر، ويتكون هذا السجن المثالي من دائرة من الزنزانات مبنية حول نقطة ملاحظة مركزية تسمح لحارس واحد بمراقبة كل الزنزانات ـ المفتوحة ـ الموجودة على طابق معين. يقول فوكو:
باستعمال الإضاءة الخلفية، يمكن للمرء أن يرى الظلال الحبيسة التي يرسمها الضوء في الزنزانات المحيطة بنقطة المراقبة؛ الزنزانات التي تشبه أقفاصا صغيرة، أو مسارح صغيرة، حيث يقف كل ممثل وحيدا، فردا مكشوفا للعيان دوما.(5)
غير أن السجين لا يرى المراقب، ولا يعرف أبدا ما إذا كان مراقَبا أم لا، وهذا بالضبط أهم أثر للانوتيكون في نظر فوكو، أي أنه يخلق لدى السجين إحساسا واعيا ودائما بأنه مكشوف للعيان مما يسهل عمل السلطة. أن تنظم الأمور بشكل يجعل المراقبة مستمرة من حيث آثارها، وإن كانت متقطعة من حيث فعلها، بشكل يغنينا فيه اكتمال السلطة عن ممارستها الفعلية؛ بشكل يجعل من هذا الجهاز المعماري آلة تخلق وتغذي علاقة سلطة مستقلة عن الشخص الذي يمارسها، أي أن المساجين يخضعون لوضعية سلطة هي في واقع الأمر من صنعهم.(6)
يقول فوكو أن »حالة خضوع حقيقي تتولد ميكانيكيا من علاقة خيالية، وهمية«،(7) وهي صيغة تشبه كثيرا تعريف ألتوسير للإيديولوجيا كـ»تمثيل لعلاقة الفرد الخيالية، الوهمية، بظروف وجوده الحقيقية«. فبالنسبة لفوكو يمثل الانوتيكون العالم الحديث حيث نخلق نحن، سكانه، ظروف سجننا العقلي المجازي. وكما هي الحال مع ألتوسير، نحن متواطئون مع سجننا.
قد يبدو كل هذا بعيد الاحتمال. أليس من المفروض أن تكون الديمقراطيات الغربية المتعددة حرة ومتسامحة؟ دعني إذًا أقدم عرضا وجيزا لفكرة فوكو عن طب الأمراض العقلية وجرائم العنف. فقبل أن يدخل طب الأمراض العقلية في الحسبان كانت الجريمة بكل بساطة جريمة، أي فعلا لا يحتاج إلى شرح أو تأويل أكثر من العادة ـ الاستفادة أو الثأر وغيرهما ـ وبالإمكان تسليط العقوبة اللازمة على فاعلها بغير إبطاء؛ وإذا أفلح مجرم في تفادي العقاب وارتكب جريمة أخرى أصبح شغل السلطات الشاغل هو القبض عليه وتقديمه للمقصلة في أقصر الآجال. ولكن مع ظهور طب الأمراض العقلية بدأ الاهتمام يتحول من تطبيق القانون وتسليط العقاب إلى الأسباب التي أدت إلى ارتكاب الجريمة؛ أي أن الاهتمام تحول من القانون إلى طبيعة المجرم. وبعد مدّة توصّل طب الأمراض العقلية إلى تشخيص ملمح إجرامي معين واحد أو أكثر؛ وبحلول فكرة الشخصيات الإجرامية أصبح الوضع مختلفا تماما عما كان عليه: من الممكن أن يكون لشخص ما شخصية إجرامية بدون أن يرتكب أي جريمة في الواقع. (وبالطبع يجب أن نفترض أن الشخص الذي يرتكب جريمة لأن له شخصية إجرامية تكون لديه تلك الشخصية الإجرامية قبل أن يرتكب الجريمة.) إلاّ أن هذا يؤدي إلى التفكير بأن بعض الأشخاص في مدارنا قد يكونون مجرمين محتملين: أي أن أحدهم قد يكون صاحب شخصية إجرامية؛ وهكذا يؤول ما بدأ كتشخيص لمرض عقلي إلى شك ومراقبة معممين، فنحن نرتاب في أمر الآخرين كما يرتابون في أمرنا، ونصبح كلنا خاضعين لـ»نظرة« المراقبة. أضف إلى ذلك أن مثل هذه التشخيصات يؤدي غالبا إلى المراقبة الذاتية: أي أننا نصبح صانعي سجننا. وهناك »شخصية« أخرى اكتُشِفت في القرن التاسع عشر هي شخصية »الشاذ جنسيا«؛ وفي هذه الحالة أيضا يُرجَع ما كان يعتبر نشاطا خفيا سريا إلى طبيعة شاذة، متأصلة ودائمة. ونظرا للمعاني السلبية البالغة المحيطة بهذه »الشخصية« الجديدة يكون الشباب الذكور قد شرعوا في مراقبة أنفسهم، وإذا اقتضت الضرورة، في كبت بعض الأحاسيس غير المرغوب فيها. يرى فوكو أنه خلال قرنين من الزمن ظهر إلى الوجود جيش من أطباء الأمراض العقلية والأطباء وعلماء الاجتماع والأطباء النفسانيين وعمال الخدمات الاجتماعية وغيرهم نصبوا أنفسهم حراسا على »العادي« وخلقوا جهاز مراقبة اجتماعية خانقا حيث، كما سنرى بعد حين، تلعب اللغة دورا هاما، ولكن دعني أتعرض لرواية قد تجعل ما أعنيه في المتناول.
رغم أن رواية كان كيسيKen Kesey ، »تحليق فوق عش الكوكو«One Flew Over the Cuckoos Nest (1962) ، سبقت أعمال فوكو، إلاّ أنها تصور عالما فوكولديا؛ فأحداثها تقع في مستشفى للأمراض العقلية تسهر علية امرأة »الممرضة الكبيرة« يتمثل سلاحها في المراقبة والمعاينة. ويشارك المرضى بانتظام في حصص جماعية حيث يكشفون عن مشاكلهم، ظاهريا لأهداف علاجية، ولكن في الحقيقة لأن إهانة الاعتراف أمام الآخرين تبقيهم في حالة خضوع وانضباط. وتتمثل إحدى أكبر مفاجآت الرواية في أن عددا من المرضى لم يجبروا على الدخول إلى المؤسسة بل أتوا بمحض إرادتهم. لقد طلبوا الالتحاق بالمؤسسة لأن إصرار العالم الخارجي على »السلوك العادي« وتعريفه له أقنعهم بأنهم شاذون وبالتالي أنهم في حاجة إلى العلاج؛ بمعنى آخر، أنهم أخضعوا أنفسهم لسلطة العلوم الإنسانية. فهم، أولا، تقبلوا واستبطنوا »خطابا« حول »السلوك العادي« ـ وهو تعبير سأشرحه لاحقا ـ اختلقته العلوم الإنسانية؛ ثانيا، أنهم بالفعل سلموا عقولهم وأجسادهم إلى مؤسسة من مؤسسات العلوم الإنسانية. أما »المريض« الوحيد المتأكد من سلامة عقله ـ والذي تثبت وقائع الرواية سلامة عقله ولو أنه أيضا »شاذ« في نظر المجتمع ـ فقد تمكن من الإفلات من قبضة ذلك »الخطاب« لأنه لم يذهب قط إلى المدرسة ولا إلى الكنيسة ـ وهما جهازان من أجهزة الدولة في نظر ألتوسير Althusser. ولكن هذا »المريض« السليم يبقى، على عكس المرضى الآخرين، سجين المؤسسة.
الخطابات
لماذا نقبل بهذه الوضعية »الانوتيكية« ـ عالم تسود فيه المراقبة الدائمة، أو أدهى من ذلك، عالم تسود فيه المعاينة الذاتية المستمرة بحثا عن بوادر الشذوذ أو حتى الغرابة. إن فوكو يرجع هذا إلى »السلطة« power، وهو مصطلح أثار الكثير من النقاش لأن فوكو استعمله دون أن يحدد معناه بدقة، فهو بكل وضوح يشبه مصطلح »الإيديولوجيا« عند ألتوسير ومصطلح »الهيمنة« عند رامشي Gramsci من حيث أن السلطة تحكم بواسطة الاتفاق والتقبل. ففي مثال رواية »التحليق فوق عش الكوكو« يعتقد المرضى، الذين طلبوا الالتحاق بمؤسسة الأمراض العقلية، أنهم حقا »شاذون« ويحتاجون إلى العلاج. كذلك تستمد السلطة عند فوكو، تماما كـ»الإيديولوجيا« و»الهيمنة«، قوّتها من كوننا نصدق ما تقوله لنا، وهي في الواقع، كالإيديولوجيا عند ألتوسير، تعطينا إحساسا بالانتماء وتساهم في سعادتنا ورضانا عن أنفسنا:
لو كانت السلطة قمعية فقط، لو لم تفعل شيئا غير قول »لا«، هل تعتقد أن هناك ما يجعلنا نطيعها؟ إن ما يجعل السلطة تتكرس وتُقبل يكمن بكل بساطة في كونها لا تضغط علينا كقوة تقول لا فحسب بل أنها أيضا تتخلل الأشياء وتنتجها وتثير المتعة والأشكال المعرفية وتنتج الخطابات. يجب أن يُنظر إليها على أنها شبكة إنتاجية تتخلل كامل الجسد الاجتماعي.(8)
إننا نخضع للسلطة ونكنّ لها الولاء، لدرجة أننا »نُبوْلِس« ونكبت أنفسنا، لأنها تجعلنا نحس بأنفسنا وندرك وجودنا، غير أن ما يبقى يشوبه الغموض هو مدى مقاومتنا للسلطة. ورغم أن فوكو يعتقد أن السلطة دائما تولّد المقاومة إلاّ أننا لا نعرف كيف يجب أن نأوّل هذا الكلام؛ كما نجده أيضا يقول أن المقاومة هي الوسيلة التي تعزز بها السلطة نفسها. أحيانا يبدو وكأن فوكو يتبنّى موقفا ألتوسيريا، وهو موقف يقصي المقاومة لأسباب عملية وأحيانا أخرى يبدو وكأنه يميل أكثر نحو نظرة رامشي التي تعتبر المقاومة ـ المواقف والأفعال المضادة للهيمنة ـ إمكانية حقيقية.
وفي كل الأحوال، تعمل السلطة عبر »الخطابات« و»التشكيلات الخطابية«. ففي بولستها لـ»السلوك الشاذ« أو »غير العادي« تستمد العلوم الإنسانية سلطتها من ذلك الذي تدعي أنه »معرفة«، من ادعائها بالخبرة والمهارة المعرفية. إن مثل هذه المجموعة من ادعاءات المعرفة هو ما يسميه فوكو بـ»الخطاب«؛ أو بمعنى أدق، الخطاب عبارة عن هيكل فضفاض من الافتراضات المتداخلة تجعل المعرفة ممكنة. يقول فوكو في كتابه »أركيولوجيا المعرفة« Archeology of Knowledge (1972) إن الخطاب »سلسلة من الجمل والافتراضات« وأنه »يمكن تعريفه كمجموعة كبيرة من الأحكام تنتمي إلى نظام تشكيلة واحد« ـ ما يسمى بـ»التشكيلة الخطابية«. ثم يواصل فوكو ويقول: »سيكون بمقدوري أن أتكلم عن خطاب عيادي، خطاب اقتصادي، خطاب التاريخ الطبيعي، خطاب طب الأمراض العقلية«.(9) يؤسس خطاب ما، خطاب علم الجنسانية في القرن التاسع عشر مثلا، حقلا أو ميدانا ـ في هذه الحالة حقل العلاقات والميول الجنسية ـ يمكن أن »تصاغ« في حدوده »افتراضات« حول الجنسانية لم يكن ممكنا لولاه صياغتها: إن تأسيس الحقل يتيح إمكانية الربط بين ظواهر كانت تبدو غامضة أو لا علاقة بينها. فمثل هذا الخطاب إذًا ينتج ادعاءات بالمعرفة، وتلك الادعاءات ـ التي نتقبلها ـ تعطيه القوة والسلطة. هناك إذًا علاقة حميمة بين المعرفة والسلطة«. فالمعرفة وسيلة لتعريف الآخرين وتصنيفهم، وعوض أن تحررنا من الجهل نجدها تؤدي إلى المراقبة والانضباط. أحيانا يبدو وكأن السلطة تؤدي إلى نتائج إيجابية أكثر، ففي حقل الجنسانية أدى اكتشاف أن هناك رجالا لهم »شخصية جنسية شاذة« إلى العقاب والوصم بالعار ولكنه ربما أدى أيضا إلى التضامن معهم على المستوى الشخصي وحتى إلى عمل جماعي على المستوى السياسي. إن فوكو يدرك هذا ولكن من الصعب أن نعرف بدقة ما إذا كان هذا »الخطاب المعاكس« نوعا من المقاومة الناجحة.
السلطة/المعرفة
إن نظرة فوكو للعلاقة بين السلطة والمعرفة لا تفتقر إلى معارضين؛ فبصفة عامة نحن ندرك أن السلطة والمعرفة مرتبطتين، وفي عدد من اللغات الغربية نجد عدة تعابير وأمثلة تسوّي بين الاثنين »المعرفة هي السلطة« بالفرنسية: savoir, cest pouvoir والألمانية: Wissen ist Macht والإنجليزية:knowledge is power . كما يدرك الكثير أن الادعاءات الزائفة بالمعرفة في الماضي استعملت كأدوات للسلطة والقمع الاجتماعي. خذ مثلا دونية النساء أو السود المفترضة التي تقبلتها أجيال من البيض على أنها حقيقة واقعة، كجزء من معرفتهم للعالم، فلو تأملنا فيها مليّا لوجدنا أننا نتعامل مع تقابلات ثنائية حوّلتها السلطة (أي سلطة الذكور البيض) إلى حقائق معرفية. من السهل جدا أن نبيّن أن ما يسمى »معرفة«، في كثير من الحالات، يعكس علاقة سلطة بين الذات (العارف) والموضوع (أي ذلك الذي يعرفه العارف أو يدرسه) وليس ما يمكن أن نسميه حقيقة.
عندما استعمل مصطلح »الادعاءات الزائفة«، كما فعلت قبل قليل، فإن ذلك يتضمن أن هناك أيضا »ادعاءات صحيحة«، ولكن هذا التمييز في نظر فوكو لا يجدي، وعند هذه النقطة تصبح ما بعد بنيوية فوكو واضحة للعيان: المعرفة في نظره منتوج لخطاب معين جعل صياغة تلك المعرفة ممكنة وليس لتلك المعرفة أي صلاحية أو شرعية خارج ذلك الخطاب. إن »حقائق« العلوم الإنسانية ليست إلاّ أثرا من آثار الخطابات، أو اللغة؛ أي أن »معارف« العلوم الإنسانية ليس مردها الاتصال بالواقع الحقيقي أو الحقيقة الأصيلة بل مردها قواعد خطاباتها. لقد أثارت هذه النظرة الكثير من النقاش، إذ أنها تعني أن معرفة العلوم الإنسانية التي يناقشها فوكو تُدرَك على أنها معرفة فقط لأننا اقتنعنا بشكل ما بأنها معرفة: أي أنها تُدرَك كمعرفة لأن الخطاب الذي يحملها على قدر من القوة جعلتنا نعتقد أنها معرفة. في البداية تنتج المعرفة عن طريق قواعد خطاب معين تحدد أهلية المعرفة، ولكن في نهاية المطاف يرى فوكو أن السلطة تنتج المعرفة بواسطة الوسائل الموجودة في متناول الخطاب لتأسيس مصداقيتها. وهنا أيضا قد تفيدنا نظرة أخرى إلى رواية »التحليق فوق عش الكوكو«. فنحن نرى أن السلطة والمعرفة تستفيدان من بعضهما البعض في تداخل مستمر، فـ»الممرضة الكبيرة« تستمد سلطتها من خطاب »العادي/الشاذ« السيكولوجي، وهو خطاب تحسنه وتتحكم فيه أحسن من مرضاها الذين استبطنوه؛ وفي الوقت نفسه تجعل تلك السلطةُ الخطابَ أكثر مناعة. ولكن عندما ـ وفقط عندما ـ يظهر على المسرح شخص أجنبي، غريب، لم يتأثر بذلك الخطاب، ينكشف للعيان أن سلطة الممرضة و»معرفتها« ـ أحيانا يشير إليها فوكو بـ»السلطة/المعرفة« ـ لا ترتكز على أسس متينة.
إن فوكو إذًا لا يهتم بفصل الخطابات، أو أجزاء الخطابات، الصحيحة عن المزيفة لأن »حقائق« تلك الخطابات، كما أسلفت القول، تنتج عن السلطة في نهاية المطاف. إنه يركز اهتمامه على مجموعة القواعد، أو »التشكيلة الخطابية«، التي تحكم الخطاب وتحافظ على تماسكه. ونلاحظ هنا أن فوكو يعمل على طول الحد الفاصل بين البنيوية ومابعدالبنيوية. فعلى غرار جيرار جينات Gerard Genette فيما يخص السرد الروائي، يهتم فوكو بالمبادئ الأساسية الكامنة: القواعد والشروط التي تمكّن »الأحكام« أو »الافتراضات« من اعتلاء مكانة المعرفة؛ هذه القواعد تحدد ما يمكن اعتباره معرفة بالنسبة إلى الحقل الذي تعمل فيه وبالتالي ـ كما هي الحال في الطب العيادي أو طب الأمراض العقلية ـ تؤسس »أجساما« معرفية تنطبق علينا كلنا. ونظرا لادعائها بالخبرة والمهارة تواصل مثل هذه الخطابات عملها وتحدد كيف نتكلم وكيف نفكر في حقل ما (الجنسانية، المرض العقلي، الخ...) وتقنعنا بمراقبة أنفسنا وغيرنا مراقبة دائمة. وعلى غرار اللغة عموما تعمل الخطابات بعيدا عن أي نية فردية وتستمر من خلال مستعمليها، وبما أننا كلنا امتدادات للخطابات التي استبطناها فنحن باستمرار نعيد إنتاج سلطتها، حتى في علاقاتنا الشخصية الحميمة.
وكما سنرى في الفصول الموالية فإن فكرة الخطاب كحامل للسلطة استخدمت كثيرا في الدراسات الأدبية، ففوكو يضع السلطة بإحكام داخل اللغة واللغة ميدان الدراسات الأدبية. ربما كان أجدر بي أن أؤكد أن فوكو، عندما يحلل دور الخطابات، لا يقصد استغلال بعض الأفراد لخطابات معينة لترسيخ سلطة خاصة (ولو أن هذا يحدث كثيرا) كما لا يقصد أيضا مصدرا مركزيا للسلطة ـ الدولة، مثلا ـ يستعمل الخطاب بطريقة ملتوية ليسيرنا ويبقينا تحت السيطرة. إن خدّام الدولة يعتقدون في مثل هذه الخطابات تماما كما نفعل نحن. فالخطابات تعمل تماما كمفهوم الهيمنة عند رامشي أو الإيديولوجيا عند ألتوسير: أي أننا نستبطنها إلى درجة أنها »تعطينا نوعا من المتعة«؛ تقوم الخطابات بتنظيم رؤيتنا للعالم، فنحن نعيش الخطابات ونتنفس الخطابات ونعمل دون وعي كحلقات في العديد من سلاسل السلطة.
إن التفكيكية تدرك تماما أن اللغة متلاحمة مع السلطة ـ وتفكيكها للتقابلات الثنائية دليل على ذلك؛ ولكن فوكو يضع اللغة في بؤرة السلطة »الاجتماعية« ـ وليس السلطة النصية ـ والممارسات الاجتماعية. ويشكل دور اللغة الاجتماعي ـ بما في ذلك الأدب ـ وسلطته المهيمنة نقطة انطلاق للاقترابات التي سأتعرض لها في الفصول الموالية.
التحليل النفسي ما بعد البنيوي
لقد تعرضت بإيجاز ـ إبان مناقشتي لشرح ألتوسير للسلطة الكبيرة التي تتوفر عليها »الإيديولوجيا« للمحلل النفساني الفرنسي جاك لاكان Jacques Lacan (1901-1981)؛ وكان بإمكاني أيضا أن أدرجه فيما يتعلق بالسلطة التي يضفيها فوكو على الخطابات، والتي تتحكم فينا تماما، في بعض النقاط من كتاباته. فالنظرية الأدبية والنقد المعاصران كثيرا ما يستحضران أعمال لاكان لشرح عمل السلطة، أو بالأحرى تلك القابلية العجيبة التي يبديها الفرد ـ الذات ـ للتأثر بالسلطة. من الضروري إذًا أن نلقي نظرة على لاكان؛ ولكن أي مناقشة لأعماله في التحليل النفسي لا يمكن أن تجري في فراغ تاريخي: فلكي ندرك موقع أفكار لاكان في دراسة أوسع لما بعد البنيوية، يجب أن نعالجها في علاقتها مع أعمال الأب المؤسس للتحليل النفسي، سيموند فرويد Sigmund Freud (1856-1939)، لأن أعمال لاكان تمثل في آن واحد امتدادا ومراجعة لأعمال فرويد. سأبدأ إذًا بالنظر في بعض الافتراضات الأساسية عند فرويد لأسباب ليس أقلها أنها أدت إلى ظهور نمط معين من النقد الأدبي يستحق قدره من العناية في مثل هذا الكتاب. لقد تعرضت في الفصل الرابع لاقترابات من الأدب لا تقرأ النصوص أساسا لمعناها الإنسانوي أو لشكلها ، بل لمحتواها »السياسي«. فمن هذا المنظور ليس النص الأدبي في المقام الأول إنتاجا لكاتب واحد بل إنتاجا لثقافة أكبر بكثير تتكلم عبر الكاتب وتحمل مضامين سياسية قد لا يدركها ذلك الكاتب تماما (وقد استعملتُ عبارة »اللاشعور السياسي« في هذا المضمار). ولكن هناك نمط آخر من النقد يكون الكاتب فيه غير واع جزئيا أو كليا بالمعاني العميقة لنصوصه. إن هذا النقد يستلهم من التحليل النفسي، في البداية من التحليل النفسي الفرويدي ثم من أنواع أخرى من التحليل النفسي، بما فيها النمط اللاكاني؛ والنمطان الفرويدي واللاكاني هما الأهم بالنسبة لأهداف هذا الكتاب.
إن صورة الذات التي يقدمها التحليل النفسي الفرويدي مغايرة للصورة التي تقدمها النـزعة الإنسانوية الليبيرالية للذات كفاعل أخلاقي مستقل، منسجم، وحر. ففي نظر فرويد يعيش المواليد الجدد في عالم غرائزي، تهيمن عليه رغبات وأحاسيس »غامضة شاسعة«، لا فرق فيها بين الرضيع وأمه والعالم الخارجي. كل شيء يشع من المركز ، أي من الرضيع نفسه، ويوجَّه نحو إشباع رغباته اللامحدودة (الرضاعة، مثلا). ولكن بالتدريج يبرز هناك وعيٌ بأن الاستمرارية الجسدية والعاطفية بين الرضيع والأم والعالم الخارجي وهْمٌ. ونتيجة لذلك ينتاب الرضيعَ إحساسٌ شديد بالضياع، ينتِج بدوره »رغبة« ـ بالمعنى الواسع في هذه الحالة. وفي مرحلة ثانية، عندما يصبح الرضيع طفلا، يبتعد أكثر عن الأم التي كانت بالنسبة له مركز »رغبته«. فإبان ما يسمى بالمرحلة الأوديية، التي يدخلها الأطفال عندما يبدؤون المشي، تبدأ البنت تلاحظ أنها تفتقر إلى عضو الذكر، وينتج عن ذلك إحساس بالقلق أو عدم الملاءمة؛ أما الطفل فيدرك أن أمّه تفتقر إلى عضو الذكر ويبدأ يشك في إمكانية أن يفقد هو عضوه (يسمي فرويد هذا الإحساس بالخوف من الخصي). إن هذا الخوف هو الذي يقنع الطفل بالعدول عما يسميه فرويد باهتمامه الشهواني بأمه (في الأسطورة اليونانية التي يعتمد عليها فرويد يتزوج أودي أمّه عن غير علم ـ ولهذا يستعمل فرويد صفة »أوديي«). فالطفل يدرك أنه في منافسة مباشرة مع أبيه وأنه في طريقه إلى اصطدام معه وهو الخاسر حتما، بما يتضمنه ذلك من تهديد بالخصي. إذا لم تستطع هزمهم، عزّز صفّهم؛ وهكذا يختار الطفل أن يكون مثل أبيه ـ متقبلا في الوقت نفسه السلطة الاجتماعية ـ ثم يوجِّه، بعد مرور وقت معتبر، اهتماماته الشهوانية إلى نساء أخر. أما البنت فتستاء من افتقارها وافتقار أمها إلى عضو الذكر وتتوجه إلى أبيها ـ الذي يملك عضوا ـ ثم بالتدريج تتخلى عن رغبتها في امتلاك »عضو الذكر« وتفضل رضيعا محله. وهكذا تجعل المرحلة الأوديية من الطفل والبنت عند بلوغ الرشد شخصان هيتيروجنسيان.
لقد أثار عرض فرويد لتطور جنسانية البنت غضب العديد من النقاد النسائيين (أنظر مثلا، كتاب كايت ميللـت( Kate Millet (»السياسة الجنسية« Sexual Politics)؛ لكن ما يهمني الآن هو تأثير هذه التطورات الأولى التي نكون قد مررنا بها كلنا. في السنوات الأولى من أعمارنا يتوجب علينا مرارا أن نتخلى عن بعض الرغبات أو الشهوات إما لأننا ندرك أنها مستحيلة أو أن تحقيقها سيجرجرنا إلى منطقة محرمة. ولكن تلك الرغبات والشهوات لا تتلاشى بل تلجأ إلى جانب من عقلنا يقع خارج حدود الوعي: »اللاشعور«، وحتى في بقية حياتنا قد نضطر إلى كبت بعض الرغبات لأنها غير مقبولة. ورغم أن وعينا يراقب المنطقة المتاخمة اللاشعور ـ الذي يعتبر، بالإضافة إلى أمور أخرى، مصدرَ الشهوات الفاشلة والألم ـ إلاّ أن اللاشعور له وسائله التي تسمح له بالإفلات من تلك الرقابة. فهو يعبر عن نفسه في لحظات السهو، في زلات اللسان، مثلا، أو في بعض العبارات غير المقصودة، أو في الأحلام. ولكنه أيضا في نظر فرويد يتجلى في اللغة، تحت غطاء المجاز ـ الرموز، الصور التشبيهية، التلميحات، الخ.. مثلا، قد يخفي اللاشعور رغبة مكبوتة تحت صورة تبدو عادية ـ وهي حيلة يسميها فرويد بـ»الإزاحة« displacement ـ أو قد يُسقِط عنقودا كاملا من الرغبات على صورة ـ في مناورة يسميها فرويد بـ»التركيز condensation: يمكن أن يجمع شخص في الحلم مثلا بين ملامح عدة أشخاص حقيقيين نعرفهم. كما أن في اللغة التي نستعملها دائما معاني خفية حتى عن وعينا نحن أنفسنا؛ فإذا كنّا نكره شخصا يلبس اللون الأحمر عادة قد نحلم أن شاحنة تصطدم بسيارة حمراء وتجعلها صفيحة.
إن نقد التحليل النفسي يركز على مثل هذه التصدعات في واجهة النص ويحاول أن يكشف عن الرغبات اللاشعورية عند الكاتب أو في الشخصيات التي يقدمها النص. فهو لا يتجاهل ما يعنيه النص ولكنه يصب اهتمامه على روزنامة اللغة الخفية التي يستعملها النص. إن فكرة أن لغة النص الأدبي لها بعد شعوري وآخر لاشعوري، وأن العناصر اللاشعورية لا بد أن تنفذ من حواجز الرقابة التي يمارسها البعد الشعوري، وجدت صدى واسعا في أوساط النقاد الماركسيين، مثلا؛ وسأعود إلى هذه الفكرة بعد نظرة موجزة إلى لاكان.
جاك لاكان
لقد تعرض التحليل النفسي الفرويدي خلال العشرين سنة الأخيرة لنقد مكثف يتعلق بجانبه الضدنسائي، وأكثر من ذلك بادعائه الصلاحية الشاملة. وقد أثارت فكرة فرويد المتمثلة في أن النموذج الأوديي صالح لكل مكان وزمان نزاعا ما فتئ يزداد حدة. وكنتيجة لذلك توجه العديد من النقاد المهتمين بالتحليل النفسي إلى جاك لاكان الذي تتجنب أعماله المخطط التطوري الثابت الذي يقترحه فرويد بل ويقدم عوضه بنية »علاقاتية« تتيح مجالا للاختلاف.
إن لاكان أيضا يرى أن المرور من الرضاعة إلى الطفولة يشكل حدثا حاسما، حيث يرى أن الرضيع ماقبل الأوديي يعيش في ما يسميه »الخيالي« the Imaginary؛ وفي هذه الحالة يكون الرضيع، الذي لم يتعلم الكلام بعد، موضعا للانطباعات والخيال وكل أنواع الغرائز، وليس لديه أية فكرة عن الحدود والممنوعات: أي، كما هي الحال عند فرويد، لا يعرف الرضيع أن جسده ليس هو العالم. وعبر »المرحلة المرآتية« (التي سأعود إليها بعد قليل) يدخل الطفل في »الرمزي«the Symbolic : أي يدخل عالم اللغة حيث يكون »الحقيقي« the Real ـ العالم الحقيقي الذي لا يمكن أن نعرفه أبدا ـ ممثلا رمزيا بواسطة اللغة والأنظمة التمثيلية الأخرى التي تعمل على طريقة اللغة (لا يمكننا أبدا أن نعرف »الحقيقي« لأن اللغة غير قادرة على تمثيله كلية ـ فهو ليس في متناول اللغة). إن هذا الدخول في »الرمزي« يقتضي قبول اللغة والأنظمة الاجتماعية والثقافية التي تهيمن على محيط الطفل. ويسمي لاكان هذه المنظومة السلطوية الكبيرة التي تعمل من خلال اللغة »اسم الأب« (the name of the father بالإنجليزية أو le nom du père بالفرنسية) إقرارا بالطبيعة الأبوية التي تتسم بها تنظيماتنا الاجتماعية. كما يؤدي به نفس الإقرار إلى الكلام عن »القضيب» the phallus كالدال الذي يدل على تلك الطبيعة الأبوية (لاحظ أن لاكان لا يستعمل كلمة »ذكر« penis لأن الهيمنة الذكورية في تصوره للأشياء بناء ثقافي وليست معطًى بيولوجيا؛ ولذلك فالقضيب دائما رمزي). ومن هنا تشتق كلمة »قضيبمركزي« phallocentric الذي يعود في أصله إلى النسائية ويعني الافتراض (المخطئ) القائل بأن الذكورية هي المصدر الطبيعي، والوحيد، للسلطة والقوة.
دعني الآن أعود لحظة إلى »المرحلة المرآتية«. فكما قلت سابقا لا مكان هنا لمرآة حقيقية، ولو أن ذلك ممكن. ففي »المرحلة المرآتية« نصطدم بالصورة »المرآتية« التي يعكسها العالم باتجاهنا؛ ولكن تلك الصورة، تماما كتلك التي تعكسها مرآة حقيقية، مشوهة وتؤدي إلى »تعرف مخطئ«، ولكن هذا »التعرف المخطئ« يظل يشكل أساس ما نعتقد أنه هويتنا. ففي نظر لاكان نحن بحاجة إلى تجاوب واعتراف الآخرين و»الآخر« لنتوصل إلى ما نعيشه كهويتنا. أي أن »ذاتيتنا« تُدرَك في تفاعلها مع »الآخرين«، أي مع الأفراد الذين يشبهوننا بشكل أو بآخر ولكن أيضا يختلفون عنا بشكل واضح؛ فنحن نصبح أنفسَنا عن طريق نظرات أخرى ـ منظورات أخرى ـ عن أنفسنا. ونصبح أنفسَنا أيضا تحت »نظر« »الآخر« أو »الآخر الأكبر« (grand autre)؛ هذا »الآخر« ـ »الموضع الذي منه تطرح مسألة وجود الذات أمام الذات نفسها« ـ ليس فردا حقيقيا ملموسا (ولو أنه قد يتجسد في شخص حقيقي كالأب أو الأم، مثلا)، بل يمثل النظام الاجتماعي العام. وبما أن هويتنا تتشكل بالتفاعل مع ما يوجد خارجنا ويعكسنا، فهي »علاقاتية« ـ مفهوم يُدخِل فكرة الاختلاف في عملية تشكُّل الهوية. إن الطبيعة العلاقاتية للهوية توحي بأن البنية التي نجد أنفسنا فيها تعين بشكل أو بآخر وضعيتنا كأفراد. ولكن بما أن التنظيم الشخصي والاجتماعي الذي نجد أنفسنا فيه عند نقطة ما سيتغير حتما فالهوية ليست شيئا مستقرا أو ثابتا: إنها »عملية« لن تعرف الاكتمال أبدا. وليست الهوية فريسة للتغير المستمر فحسب بل غير متماسكة أيضا. أولا، لقد أجبرنا على إخفاء جموحاتنا ماقبل الكلامية وغرائزنا وغيرها في اللاشعور؛ ثانيا، بما أن هويتنا تدرَك في التفاعل ولا تنبع من داخلنا فهي دائما تتوقف على »الآخرين«. وأخيرا، بما أننا تركنا كل ما هو قبل أوديي خلفنا ودخلنا عالم اللغة وأخضعنا أنفسنا له، يمكن أن نقول أن الهوية بناء لغوي: نحن مبنيون في اللغة، أو من اللغة، لكن تلك اللغة ليست لغتنا ولا تستطيع التعبير عما نريد قوله حتى ولو استطعنا، مثلا، أن نعرف محتويات لاشعورنا.
خلال مرحلة المرور من »الخيالي« إلى »الرمزي« التي نخضع فيها للغة والعقل، نضيّع الإحساس بالكمال أو الكلية، إحساس الكائن المكتمل، الذي يبقى، كما هو الحال عند فرويد، يراودنا دائما. ولأننا لسنا على اتصال مع هذه الذات السابقة للكلام فنحن نعيش حالة افتقار أو نقص مستديم؛ وفي نظر لاكان أيضا يؤدي ضياع وضعيتنا الأصلية إلى »الرغبة«، إلى حالة تحرّق عميقة وغير محددة مستحيل إشباعها بل يمكن فقط أن ترضي نفسها (بصفة مؤقتة) ببدائل رمزية. إن نظرة لاكان للشعور واللاشعور أكثر ملاءمة للنسائيين والماركسيين من نظرة فرويد. فبينما ينظر هذا الأخير إلى الكبت الذي يؤدي إلى تشكل اللاشعور في إطار العائلة النووية ـ حتى وإن كان يدرك أن تلك العائلة موجودة في نظام اجتماعي أكبر بكثير، يرى لاكان أن الكبت هو النتيجة المباشرة للدخول في النظام الاجتماعي. هناك بالنسبة للاكان علاقة مباشرة بين الطبيعة الكبتية للغة والثقافة ونشأة اللاشعور. وقد نتوقع أن يجد كل ما هو غير مرغوب فيه إيديولوجيا في ثقافة ما منأى في لاشعور أصحاب تلك الثقافة. وإذا نظرنا إلى »الإيديولوجيا« بلغة التحليل النفسي، أي كالبعد الواعي لمجتمع ما، لأصبح بمقدورنا أن نتصور لاشعورا ينتظر فيه كل ما تكبته الإيديولوجيا ـ اللامساواة الاجتماعية، تفاوت الفرص، عدم حرية الذات ـ الفرصة للطفو إلى السطح؛ ولأمكننا آنذاك أن نتفحص اللغة التي تستعملها الإيديولوجيا للكشف عن التصدعات المنبّهة في الواجهة. إن اللاوعي الاجتماعي، تماما كاللاوعي الفردي، يتمكن من التملص من الرقابة؛ وهذه هي الفرضية التي ترتكز عليها الممارسة الأدبية-النقدية ليار ماشوري Pierre Macherey والنقاد البريطانيين والأمريكان الذين حذوا حذوه.
لقد استُحضِر نموذج التحليل النفسي عند لاكان ـ كما أشرت أيضا عندما تعرضت لألتوسير ـ لشرح هيمنة الإيديولوجيا على الذات. فالإيديولوجيا تعطي الذات الإحساس بأنها كل متكامل؛ أي يبدو وكأنها تبطل مفعول الرغبة التي تنتج عن دخول الذات في »الرمزي«. ويرى النقد اللاكاني أن هذه الوضعية تعيد نفسها بشكل مصغر عندما نقرأ النصوص الأدبية، ففي عملية القراءة ندخل في علاقة معقدة مع نص نسمح فيها له بالتحكم فينا وملء نقصنا. ويهتم النقاد اللاكانيون بكيفية استغلال البنيات السردية والعمليات البلاغية لهذه العلاقة أحادية الاتجاه بين النص والقارئ. ورغم أن التحليل النفسي اللاكاني أدى تأويلات مشهورة كقراءة شوشانا فالمن (1982) Shoshana Felman لقصة هنري جايمس Henry James القصيرة »دورة الزنبور« The Turn of the Screw إلاّ أنه ربما كان أبعد أثرا على مستوى النظرية. وقد رأينا كيف يمكن استحضاره لتنظير سلطة الإيديولوجيا؛ ويمكن تعريف الإيديولوجيا بلغة لاكان على أنه ذلك »الآخر« الذي يصبح »تعرّفه المخطئ« علينا جزءا من هويتنا. فالتمثيل المخطئ الذي يعكسه يؤدي بنا إلى تمثيل أنفسنا خطأ لأنفسنا ـ وهي صيغة تشبه تعريف ألتوسير للإيديولوجيا ـ ويصبح هذا التمثيل المخطئ حجر الزاوية في هويتنا. كما رأينا أيضا كيف يمكن استعمال التحليل النفسي، والتحليل النفسي اللاكاني بالخصوص، لافتراض نوع من اللاشعور السياسي أو الاجتماعي الذي يتجلى في النصوص الأدبية كلما أخذ الشعور على حين غرة، عادة في المقاطع التي تبدو من زاوية الشعور (أي الإيديولوجيا) عادية أو تافهة. وفي الأخير، سنرى في أحد الفصول الموالية، الذي يتعلق بالدراسات مابعدالاستعمارية، كيف يمكن استعمال أطروحة لاكان ـ أي أننا نطور هويتنا عن طريق »الآخرين« ـ لتحليل العلاقات الأساسية الخفية بين المستعمِر والمستعمَر.
النسائية الفرنسية
لقد قلت في الفصل السابق، المتعلق بالسياسة الأدبية، أن هناك، ابتداء من منتصف السبعينيات، التقاءات بين النسائية والفكر مابعدالبنيوي. وليس من باب المفاجأة، بالنظر إلى الأصول الفرنسية للفكر مابعدالبنيوي، أن تكون النسائية الفرنسية أول من يتفطن إلى الإمكانيات التي تتيحها المفاهيم والأفكار مابعدالبنيوية لبناء تحليل نقدي نسائي للنظام الاجتماعي الأبوي.
ويشكل مقال »خرجات« Sorties (1975) للكاتبة والناقدة الأدبية الفرنسية إلان سيكسو Hélène Cixous (1938- مثالا مبكرا وبعيد الأثر على أهمية التقابلات الثنائية بالنسبة للنسائية؛ ويبدأ المقال بسؤال مثير (ببنط أكبر بكثير من بقية النص) »أين هي؟« ثم يقدم القائمة الموالية:
النشاط/الخمول
الشمس/القمر
الثقافة/الطبيعة
النهار/الليل
الأب/الأم
الرأس/القلب
فكري/حسي
الكلمة/الشفقة(10)
وتواصل سيكسو فتقول أن الفكر عمل ويعمل دائما من خلال تقابلات ثنائية »مرتبة سلّميا«. علوي/سفلي. الأساطير. الخرافات. الكتب. الأنظمة الفلسفية. عندما يتعلق الأمر بالترتيب، ينظم قانونٌ ما يمكن التفكير فيه عن طريق تقابلات (ثنائية، يستحيل التوفيق بينها؛ أو جدلية، يمكن تلطيفها). وكل التقابلات هي في الحقيقة أزواج (كما في رجل/امرأة). ماذا يعني هذا؟ هل أن كون الكلممركزية تخضع الفكر ـ كل المفاهيم، الشيفرات، القيم ـ لنظام ذي طرفين، هل له علاقة بالتقابل رجل/امرأة؟
طبيعة/تاريخ
طبيعة/فن
طبيعة/عقل
عاطفة/فعل(11)
إن الجواب في رأي سيكسو هو أن كل شيء له علاقة بالتقابل رجل/امرأة:
في الفلسفة نجد المرأة دائما على جانب الخمول، وكلما طرحنا السؤال؛ عندما نتفحص بنيات القرابة، كلما أشرنا إلى نموذج عائلي، في الحقيقة حالما...نتساءل عن معنى السؤال »ما هذا«؛ حالما هناك إرادة تقول شيئا ما. إرادة: رغبة، سلطة، أمعن النظر تجد نفسك تعود مباشرة ـ إلى الأب. ... ولو أمعنت النظر في تاريخ الأدب لوجدت نفس الشيء. كل شيء يرجع إلى الرجل، إلى عذابه، إلى رغبته في أن يكون المصدر، أو عند المصدر. العودة إلى الأب. هناك علاقة جوهرية بين الفلسفي والأدبي والقضيبمركزية.(12)
نلاحظ في هذا المقطع أثر البنيوية (التقابلات الثنائية بصفة عامة وعلاقات القرابة بصفة خاصة) والتفكيكية (الإشارة إلى الكلممركزية) والتحليل النفسي اللاكاني (الإشارة إلى القضيبمركزية). وتجمع سيكسو بين هذه المصادر في تأسيس فكرة هامة مفادها أن التقابل ذكر/أنثى تقابل أساسي في الثقافة الغربية (إن لم نقل في كل الثقافات) وهو حاضر بشكل واسع في أنواع مختلفة من التقابلات تبدو لأول وهلة وكأن لا علاقة لها أصلا لا مع الذكور ولا مع الإناث. فالطرف السفلي يرتبط دائما بالأنثوي بينما الطرف الذي يحتل المكانة المبجلة يرتبط بالذكورة. وكما سنرى بعد قليل فإن هذا التقابل، عندما يؤوَّل من منظور التحليل النفسي، يلعب دورا بارزا في واحد من أشكال النقد البيئي، مثلا. فبالنسبة لسيكسو هذا التبجيل الأبدي للذكري، الذي يترتب عما تسميه »تضامن الكلممركزية مع القضيبمركزية« يضر بنا جميعا، ذكورا وإناثا، لأنه يقلص الخيال والإبداع، وهو بالتالي بصفة عامة قمعي كبتي. تقول سيكسو: »ليس هناك مجال لـ»لابتكار«، فلسفيا كان أم شعريا، إن لم يكن في الذات المبتكرة ثراء من الآخر، من المتعدد، المختلف«.(13)
ترى سيكسو في مقال بعنوان »ضحكة المديوزا« The Laugh of the Medusa (1974) أن هناك في الضحك والجنس (إذا لم يخضع للهيتيروجنسانية الأبوية) والكتابة إمكانية للتحرر؛ ولأنها تدرك أن الكتابة عادة ما تعزز السلطة الأبوية، تقترح ما تسميه بـ»الكتابة الأنثوية« écriture féminine، أي كتابة أنثوية أو مؤنثة تفلت من القيود التي يفرضها »النظام القضيبقراطي«:
من المستحيل أن نحدد ممارسة كتابية أنثوية (écriture féminine) وهي استحالة ستدوم لأن هذه الممارسة لا يمكن تنظيرها أو عزلها أو اكتشاف شيفرتها ـ وهذا لا يعني أنها غير موجودة. لكنها ستظل تتجاوز الخطاب الذي يسيّر النظام القضيبقراطي؛ ستحدث وتحدث في المساحات غير تلك التي تخضع للهيمنة الفلسفية-النظرية؛ سيمكن تصورها فقط من طرف الأفراد الذين يكسرون السلوكات الآلية، من طرف أشخاص خارج الدائرة المركزية الذين لا تستطيع أي سلطة إخضاعهم أبدا.(14)
رغم أن سيكسو لا تستحضر لاكان إلاّ أنها تغرينا بتصور »الكتابة الأنثوية« في إطار مفهوم »الخيالي« عنده، دون أن نطابق موقفها بموقفه. ففي عالم لاكان تعتبر النيّة الواعية التي توحي بها عبارة »أشخاص.. لا تستطيع أي سلطة إخضاعهم«، بلغة لاكان نفسه، »سرابا«. كما يجب ألاّ نعتقد أن »الكتابة الأنثوية« مقصورة على النساء فقط؛ بل هي نوع من الممارسة الكتابية »يتجاوز« ما يسميه لاكان بـ»الرمزي«، ويمكن ربطه ـ وليس مطابقته ـ بمفهوم »الخيالي« عنده. ولكن الكبت لا يأبه للجنس ويؤثر على الإناث والذكور على حد سواء؛ والذكور أيضا بإمكانهم الإفلات من الهيمنة الفلسفية-النظرية. فسيكسو اختارت أن تسمي الكتابة المشوشة التي تعنيها بالأنثوية أو المؤنثة لأنه من الواضح جدا أن قوى الكبت ذكرية.
أما الناقدة والمحللة النفسانية جوليا كريستيفا Julia Kristeva (1941)- فتبقى قريبة من لاكان بمفهوميها »الرمزي« و»السيميائي« ـ وهو يشبه »الخيالي« عند لاكان. وفي نظرها يتسرب كل ما زُجَّ به في »السيميائي« إلى لغة الأطفال التي لا تخضع بعد للتقنين الكامل، إلى الشعر، وإلى لغة المرض العقلي ـ إلى كل استعمالات اللغة التي ـ بغض النظر عن السبب ـ لا يتحكم فيها المتكلم أو الكاتب بشكل تام. إن كلا »الرمزي« و»السيميائي« لا يوجدان بشكل معزول، »صاف«، كل على حدة: بل إن اللغة كلها مزيج من الاثنين:
إن هاتين الصيغتين ممزوجتان داخل »العملية الدلالية« التي تشكّل اللغة« كما أن العلاقة الجدلية بينهما تحدد نوع الخطاب المستعمل (سرد، ميتالغة، نظرية، شعر، الخ...)؛ أو بمعنى آخر، أن ما نسميه اللغة »الطبيعية« تتيح التعبير عن السيميائي والرمزي بأنماط مختلفة.(15)
إن الصفاء السيميائي ممكن فقط في »الأنظمة الدلالية غير اللفظية« كالموسيقى، مثلا؛ فاستعمالنا للغة يتأثر بحضور كل من الشعور أو الوعي (من خلال »الرمزي«) واللاشعور »(السيميائي« عند كريستيفا)؛ أي أن الذات، كما هو الحال في التحليل النفسي اللاكاني، منقسمة بشكل نهائي، مفروغ منه.
إن نوع الكتابة الذي تعنيه كل من سيكسو وكريستيفا نادر في تاريخ الأدب، ربما تبادر إلى الذهن جايمس جويس James Joyce برواية »سهرة مأتم فينين« Finnegans Wake (1939) أو فرجينيا وولف Virginia Woolf برواية »الأمواج« The Waves (1931). أما الموقف الفكري الذي تفترضه فهو أقل ندرة في الوقت الحاضر، فنجد في رواية الكاتبة الكندية مارجريت آتوُود Margret Atwood الطفو إلى السطح«Surfacing (1972) امرأة شابة سجينة عالمٍ تسوده العقلانية والأبوية وحتى الاستغلال، ممثلا في أبيها وعشيقها والشخصيات المذكرة الأخرى في الرواية؛ وخلال رحلة في الغابة، بحثا عن أبيها في الظاهر، تتخلص هذه المرأة من منظور العالم العقلاني العصري وأجهزته. ويشكل الغطس في بحيرة من الماء العذب الصافي ـ في أعماق ما يوجد تحت السطح ـ لا عن غير قصد، نقطة التحول الحاسمة في الرواية. وعندما تطفو، مجازيا، من فترة قصيرة استسلمت فيها بشكل يكاد يكون كليا لغرائزها ونزواتها، فإن تلك التجربة والمعرفة اللتين ترتبتا عنها ستبقيان دائما بحوزتها.
كلمة أخيرة عن الاستعمالات مابعدالبنيوية للتحليل النفسي: في السنوات الأخيرة شكلت التكييفات مابعدالبنيوية للتحليل النفسي أداة ناجعة مثلا في النقد المهتم بالقضايا البيئية. وفي هذا المضمار يتفحص رود جيليت Rod Giblett في كتابه »المستنقعات مابعدالحديثة: الثقافة، التاريخ، البيئة« Postmodern Wetlands: Culture, History, Ecology (1996) العروض والأفكار الغربية بشأن المستنقعات والسبخات وغيرها من الأماكن التي لا هي ماء ولا هي يابسة، ويرى أن »المستنقع أو السبخة مكان للإغراق smothering (قطع التنفس بواسطة وسادة، أو كيس بلاستيكي، أو بالماء في حالة الإغراق)، أو ربم