حلمى شعراوى
يقدم سمير أمين نفسه كمفكر اقتصادي وسياسي (مصري من مواليد 1931) في كتاب بالعربية صدر عام 1993 يحمل عنوان "سيرة ذاتية فكرية" (السيرة الذاتية: 1993-8) يقول معبراً تماما عن مجمل هويته كمثقف ملتزم: "كنت دائما- ولا أزال- عالمىّ التوجه" أى أمميا مقتنعا بأن الرأسمالية قد خلقت واقعاً موضوعياً، يستوجب تقديم إجابات متسقة ومترابطة عالميا. ففى مواجهة "أممية الرأسمال" لا يمكن أن تجيب الشعوب بفعالية إلا إذا بنت أمميتها، التى تحمل فى طياتها تجاوزا كونيا للآفاق الثقافية الوطنية وغيرها (الدينية مثلا) على أنى ألقى على هذا الخيار الكونى نظرة تنطلق من جهة العالم الرأسمالى الطرفى، وتحديدا العالم الأفرو آسيوى ذى الثقافة "غير الأوربية". وذلك ليس بسبب انتمائى إلى هذا العالم وحسب، وإنما بسبب أن هذا العالم هو- موضوعيا- الضحية الأساسية للرأسمالية القائمة بالفعل، والاستقطابية بطبيعتها، وبالتالى لأن المآسى الاجتماعية المختلفة التى يجرها هذا الاستقطاب تشكل التحدى الحقيقى الأكبر الذى تواجهه الإنسانية. إلا أنى لم أكن مرة "عالمثالثيا"، وهذا النعت لا يصح برأيى إلا على بعض اليسار الغربى الذى ظن فى مرحلة باندونج (1955- 1975) بإمكانية إحلال مفهوم "شعوب العالم الثالث" محل مفهوم البروليتاريا، تعبيرا عن انتظارهم الرسالى إن حدود هذه القوى التى كنت أعيها رغم تعاطفى الحقيقى معها، تنبع برأيى من تحليل ناقص لطبيعة التحدى الحقيقية".
فمن أين صدرت عالمية وأممية سمير أمين؟ وكيف تطورت معه حتى وصلت به إلى أن يصير أحد مقاومى "العولمة" الإمبريالية، وفى مقدمتها "العولمة" المعسكرة أمريكيا؟.
يستدعى ذلك أن يتضمن هذا التعريف المختصر بسمير أمين النقاط التالية من واقع نصوصه بالأساس:-
1-الكتابة والممارسة عند سمير أمين.
2-قضاياه الرئيسية.
3-النقد الذاتى.
أولا: الكتابة والممارسة:
ما دام "أمين" من مواليد مصر 1931، فقد جذبته الحركة الطلابية والعمالية فى الشارع المصرى عقب الحرب العالمية الثانية، بتأثير كبير ومحترم للحركة الشيوعية المصرية، كما جذبته أنباء نضالات حركة شعوب كوريا والصين وفتنام الثورية بين 1945و1950، وتابع حركة البرجوازية فى مصر عقب الحرب الثانية بقيادة حزب الوفد "الليبرالى" وحتى انقلاب الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر 1952 بآفاقها الاجتماعية والتى رآهما معا يقطعان الطريق على القوى التقدمية "حاملة مشروع المستقبل فى البلاد" والمؤهلة لقيادة جبهة موحدة على الطريقة الصينية أو الفتنامية" على حد تعبيره. لذلك انتسب سمير أمين للحركة الشيوعية المصرية عام 1950-1951 وخاض من داخلها معارك فكرية بارزة حول إمكانيات البرجوازية المصرية فى التطور الديمقراطى، ودور البرجوازية الصغيرة فى حركة يوليو 1952 وتطوراتها الاجتماعية، ثم الموقف الرافض للحركة الصهيونية تجاه المنطقة العربية وخطأ الاعتراف بتقسيم فلسطين وإقامة دولة إسرائيل، اتساقا من الحركة الشيوعية مع الموقف السوفيتى فى ذلك الوقت. وانتقل "أمين" من المعارك الفكرية إلى الفعل البحثى حين أوفده والده الطبيب لدرس الاقتصاد السياسى فى باريس 1954 حيث والدته فرنسية. وعاد إلى مصر حاملا الدكتوراه عام 1957 فى الاقتصاد السياسى من السربون ليعمل باحثا فى المؤسسة الاقتصادية "الحكومية التى كانت جزءا من إدارة عملية التمصير والتأميم الاقتصادى فى مصر. ثم يغادر مصر عام 1960 إلى باريس مرة أخرى بسبب أزمة "الحركة الشيوعية" مع عبد الناصر، حيث بدأت رحلته العالمية من فرنسا إلى مالى ثم السنغال ثم جولاته فى أفريقيا والعالم فى رحلة فكرية ونضالية مازالت غنية بالخبرات.
يقول سمير أمين: "أنا أعتبر أن الكتابة جزء من النضال، وبالتالى هى الأداة فى تغذية الحوار المستمر… وفى التطور… وليست مجرد نظرة أكاديمية". فى هذا الإطار عمل مستشارا اقتصاديا فى مالى والكونغو برازافيل ومدغشقر وغيرها من الدول الأفريقية الناهضة، وخاصة فى الستينيات. كما عمل مديرا لمعهد الأمم المتحدة للتخطيط الاقتصادى IDEP بداكار لعشر سنوات طوال السبعينات، حيث تصدى لمقولات عديدة سائدة عن التنمية والتحديث وخطط المؤسسات المالية الدولية، وشارك أثناء عمله هذا فى تأسيس منظمات بحثية وعلمية أفريقية مثل المجلس الأفريقى لتنمية البحوث الاجتماعية والاقتصادية (كوديسريا) ومنتدى العالم الثالث، وهى المنظمات التى مازالت تقود حركة البحث والحوار الثقافى التقدمى فى أفريقيا حتى الآن. وبعودته إلى مصر والعالم العربى مع نصوصه المترجمة من اللغات الأخرى للعربية أو بأصولها العربية منذ أواخر الثمانينات، واصل حواره ومشاركته فى تعميق الحوار العلمى والثقافى فى مصر والعالم العربى وخاصة منذ توليه رئاسة مركز البحوث العربية والأفريقية بالقاهرة رغم بقائه رئيسا لمنتدى العالم الثالث بقسمه الأفريقى فى داكار.
لقد أنتجت رحلة الفكر والنضال الفكرى هذه عشرات الكتب ومئات الدراسات والمقالات، نسجل منها (عن سيرته الذاتية) الأعمال الرئيسية التى بلغت بالفرنسية والإنجليزية حوالى ثلاثين عملا فكريا وبحثيا بجانب أكثر من عشرين كتاباً آخر باللغة العربية، أما الدراسات والمقالات ومجموعاتها فقد زادت عن الثمانين عملا (نرفق بعض كل ذلك آخر المقال).
ثانيا: قضاياه الرئيسية:
يعتبر سمير أمين بحق أحد مفكرى الاقتصاد السياسى العالمى منذ أواخر الخمسينيات، وأحد كبار المساهمين فى تطوير المادية التاريخية والديالكتيك الماركسى، كما أن له مساهماته البارزة التى وضعت فى إطار مدرسة التبعية مع خصوصية مساهمته فيها بين أقرانه من منظريها. وهو أخيرا أحد الذين يتصدون بفكر لامع لعملية الاستقطاب الرأسمالى العالمى والمحذرين من عسكرتها على يد الهيمنة الأمريكية، طارحا بدائل جديدة للتحول الاجتماعى خاصة فى بلدان الجنوب بآفاقها الاشتراكية البعيدة. فكيف يتأتى لى عرض ملامح ذلك فى أسطر قليلة؟ لا يسعنا هنا إلا أن نستعرض باختصار عددا من المقولات الرئيسية التى ترتبط باسم سمير أمين ويتكرر بعضها بإلحاح فى كتاباته، مع إشارات دائمة إلى أنه مفكر مفتوح على المستقبل ويقبل تطوير فكرته لهذا الغرض حتى لو قدم نقدا ذاتيا لأفكاره لظروف صياغتها. وما نقدمه هنا ليس رصدا تطوريا لتاريخه الفكرى ولكنه وضع لما اهتم هو بإبرازه والتأكيد عليه.
1-الاستقطاب الرأسمالى على المستوى العالمى:
مع نقد سمير أمين للنظريات الاقتصادية البرجوازية مثلما عند ريكاردو (القيمة وكمية العمل الاجتماعى الضرورية)، أو الكينزية (عن العرض والطلب..الخ) (أطروحته للدكتوراه نشرت سنه 1957 ص 298-300) فقد توصل إلى فكرته الشهيرة عن التراكم الرأسمالى على صعيد عالمى؛ انطلاقا من مبدأ أن هذا التراكم ليس تراكما فى نمط الإنتاج الرأسمالى مطبقا على صعيد عالمى وإنما لأن الرأسمالية هى التى تشكل نظاما عالميا يخلق عملية الاستقطاب على الصعيد العالمى، وتتشكل من خلال هذه العملية فكرة المراكز والأطراف دون أن تعنى تجنيس الكوكب وفق نمط الإنتاج الرأسمالى، وإنما وفق آلية التوسع وإدماج الأطراف داخل النظام الرأسمالى العالمى (انتقلت أمريكا خلال هذه العملية من طرف إلى جزء من المركز الرأسمالى العالمى بعد المرحلة المركنتليه (1500-1800) التى فجرتها الثورة الصناعية)، ومن هنا بدأ بروز التبادل غير المتكافئ بين المراكز والأطراف منذ 1880 (التطور اللامتكافئ 1972) خاصة مع التمايز فى الأجور تبع تقدم الإنتاج، فى حين تميزت المرحلة السابقة بجمود الأجور الحقيقية. ومن هنا أيضا تغيرت التحالفات ومواقف البرجوازية (من العمال والأطراف على السواء) (الرأسمالية والنظام- العالم 1992). وقد كانت المنافسة بين المراكز الرأسمالية هى الأساس لعقود طويلة بينما كانت الهيمنة المركزية هى الاستثناء حتى تغير الموقف إلى العكس بعد الحرب الثانية بنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية (أزمة الإمبريالية 1974- الإمبريالية والتطور اللامتكافئ 1976) وخلال ذلك لم يتحقق التمركز ثانية - فى البلدان التابعة المندمجة - لافتقاد القوى القادرة على السيطرة على عملية التراكم وإنما باتت القوى الخارجية هى التى تتحكم فى مدى التراكم واتجاهه إزاء افتقاد قدرة الدولة أيضا فى الأطراف على القيام بذلك (السيرة الذاتية 164-199).
2-التخلف والتنمية فى الأطراف:
قدم سمير أمين تحليله المتميز عن "نشوء التخلف وانتشاره، منذ منتصف الخمسينيات، وذلك بوصفه التخلف كنتاج للتوسع الرأسمالى العالمى، "لا تأخراً" فى التطور الرأسمالى بالأطراف. وفى رأيه "أن التطور والتخلف يشكلان وجهين لعمله واحدة: التوسع الرأسمالى"؛ فالاقتصاد "المتخلف"- فى رأيه- لا وجود له بذاته وإنما يشكل عنصرا من الاقتصاد الرأسمالى العالمى، وتخضع مجتمعات الأطراف دائما لعملية تكييف بنيوى مع مقتضيات تراكم الرأسمال على صعيد عالمى، ولا حل لمسألة الاستقطاب الحتمى فى إطار الرأسمالية (الأطروحة 1957). ولا بد هنا أن نشير إلى أن هذه النظرة لمصدر التخلف إنما هى نتاج نظرة اشمل لوحدة تحليله فى الاقتصاد السياسى "حيث شكلت المجتمعات التى دخلت تباعا مرحلة الحداثة منذ 1492 النظام العالمى، وهى ليست التشكيلات الاجتماعية المحلية والوطنية التى تؤلف هذا النظام؛ ذلك أن النظام العالمى يقوم على منطق الاستلاب الاقتصادى أى هيمنة القيمة- لا على الحياة الاقتصادية وحسب- بل على كل جوانب الحياة الاجتماعية (الخاضعة للاقتصاد). ومن هنا يعتبر سمير أمين أن علم الاقتصاد البرجوازى ليس له أساس علمى فعليا لأنه يستبعد تماما خصوصية الرأسمالية ليصبح مجرد إيديولوجية تبرير للنظام تتجاهل المشكلات الحقيقية له ولا تستطيع الاقتراب "بسياسات التنمية"- التى تعلنها عند إدارة التوسع الرأسمالى - من الهدف المزعوم عن ردم الفجوة بين الشمال والجنوب.
وقد قاده تعميقه لهذه الفكرة وتحليلها على المستوى العالمى الذى يتخذه وحدة للتحليل إلى توصيف المجتمعات الخراجية التاريخية فى مراكزها الثلاث (العربى الاسلامى - والصينى والهندى) كنظم مركزية سابقة بينما كانت المجتمعات الأوربية والأفريقية واليابانية والجنوب شرق آسيوية الأخرى تشكل أطرافا بالنسبة لها.
3-التبعية والعوالم الأربع:
قادت انتقادات سمير أمين لسياسات الرأسمالية العالمية فى الاستقطاب والاندماج وما لحق بها من الفلسفات التنموية إلى أن يضعه البعض كأحد أعلام مدرسة التبعية وهو لا يرى نفسه رافضا تماما لهذا التوصيف (السيرة الذاتية 137) ولكنه يعتبر أن مساهماته عن التراكم على صعيد عالمى، ونظام الاستقطاب والتوسع الرأسمالى العالمى كانت مساهمة مبكرة حول فكرة "الإلحاق" الذى وقع للعوالم الثلاثة الأخرى فى النظام/ العالم، وسابقة بدرجة أو أخرى عن حديث التبعية، ومن هنا لا يجوز فصل ما سمى بالعملية التنموية فيما بين 1955-1990 عن هذا النظام على نحو ما يفعل بعض العالمثالثيين. كما لا يجوز ربط "محاولات الانتقال" التى لم يكتب لها النجاح بأنها إطار للتبعية بقدر تعرضها لعملية الاستقطاب الرأسمالى المركزى. وكان من المهم هنا أن يقوم سمير أمين بتصنيف دائم لهذه العوالم الأخرى خارج "المركزية الأوربية" وتوصيفاتها.
من هنا إعادته النظر فى فكرة نمط الإنتاج الرأسمالى الذى تلحق به عادة بعض مجموعات دول الجنوب. ذلك أن هذه الدول فى إطار النظام الرأسمالى العالمى انقسمت إلى عدة مجموعات. تبدأ بالمجموعة "أ" التى تسمى الليبرالية (كوريا الجنوبية أو البرازيل وتركيا.. الخ. ثم المجموعة "ب" التى تضم التجارب الشعبوية التى لعبت فيها الدولة دورا قويا وخاصة فى مجال التصنيع مثل مصر- العراق- غاناوتضم المجموعة "ج" تجارب عاشت على أنها ماركسية مثل الصين وكوريا الشمالية وكوبا وهذا فضلا عن المجموعة "د" وتضم التجارب التى لم تخرج عن النمط النيوكولونيالى المعروفة مثل ساحل العاج وكينيا وغيرها. لكن لا بد من الانتباه أن "سمير أمين" قد أعاد ترتيب هذه "العوالم" الأربعة بعد التطورات الكبرى فى التسعينيات سواء بهيمنة آليات العولمة وتمركزها الأمريكى أو بسقوط نمط الإنتاج السوفيتى وتحولات الماوية فى الصين. ولذا أصبح يرى أن "مجمل هذه التحولات الهائلة يورثنا وضعيات مختلفة كليا عن تلك التى سيطرت على المسرح العالمى سنه 1945 مع استمرار معيار الرأسمالية المعولمة ذاته أى وجود قطاعات "منافسة" عالميا فى النظام الإنتاجي المحلى أو غيابها أو إعادة بنائها. ومن هذه الزاوية نجد أنفسنا- فى الأطراف- إزاء عالمين متميزين "ثالث ورابع". فبينما تحتل الولايات المتحدة "المركز" الأول فان أوربا واليابان بدرجات مختلفة من التنافس تحتل "المركز" الثانى. ومعنى ذلك أن سمير أمين لا يتجمد عند نظرة ثابتة للتطور الرأسمالى كما فعلت الماركسية- اللينينية، ولكنه يتخذ موقفا ديناميا فى نظراته لتصنيف العوالم" فى إطار النظام/العالم أى الرأسمالية العالمية.
نلاحظ هنا أن التحولات السوفيتية لم تفاجئ سمير أمين قدر مفاجأته بالتحولات الصينية، ومع ذلك فإن جذر التفسير لتطور التجربتين لم يكن بعيدا عن فكر سمير أمين الأساسى حول دول الأطراف إزاء المركز الرأسمالى العالمى، لقد كان سمير أمين ناقدا دائما لنمط الإنتاج السوفيتى رافعا عنه صفة الاشتراكية بل أعطاه نقده هذا أداة قوية لشرح مفهوم "الدولتية" فى الإطار الرأسمالى، وهامش الاستقلال الممكن عن المركز عبر الدولتيه ومثالها السوفيتى. أما "المأوية" فقد كان سمير أمين أكثر ثقة فى تحولاتها لصالح تحقيق القدر الأكبر من "فك الارتباط" مع النظام الرأسمالى العالمى إزاء ميل الفكر الماوى نحو سياسة المشاركة الجماهيرية فى عملية الإنتاج والتوزيع والاعتماد على الذات بدرجة أو أخرى فضلا عن طبيعة التحالفات مع بلدان الجنوب الأخرى للخروج على النسق الرأسمالى العالمى. بينما كان خيار "اللحاق" ملازما للتجربة السوفيتية منذ لينين، حتى أثرت أفكار اللحاق على مجمل تكوين العوالم الثالثة والرابعة.
4-قراءته للمادية التاريخية وأنماط الإنتاج:
قادت دراسة سمير أمين لظروف نشأه وتطور النظام الرأسمالى العالمى فى أوربا إلى التساؤل عن سبب عدم تشكله فى أى منطقة أخرى خاصة فى بلدان الشرق الأكثر تقدما والتى تقود حضاراتها إلى مئات بل وآلاف السنين حتى لقد صارت أوربا بنظامها الاقطاعى مجرد أطراف لها (الدولة العربية الإسلامية-الصين…).
وكان تساؤل "أمين" مصدر إعادة نظر فى القواعد الكلاسيكية للماركسية، وبوجه خاص لتفسيراتها السوفيتية المبتذلة، مع تطويره لمفهوم نمط الإنتاج الرأسمالى إلى النظام الرأسمالى العالمى. وفى هذا الصدد يشير "أمين" إلى خصوصية النظام الرأسمالى فى أوربا بشأن "القيمة المعممة" التى يميل معها كل الإنتاج الاجتماعى وكذلك العمل والحصول على الموارد؛ إلى أن يصبح بضائعياً ومن هنا تتحكم هذه القيمة فى كل القيم الاجتماعية والسياسية الأخرى، ويفرض فائض القيمة نظام الأجور والتشكيل الطبقى.. الخ. هذا بينما قدمت المجتمعات "الشرقية" الأخرى علاقات معكوسة قياسا على العلاقات المميزة للرأسمالية، فالقيمة لا تسيطر على المجتمع، والقوانين الاقتصادية واستغلال العمل تعتبر شفافة، وتنظيم السلطة هو إطار الهيمنة على المجتمع ويخضع له النظام الاقتصادى مع سيادة إيديولوجية إعادة إنتاج النظام بل والإيديولوجيا عموما (دينية- ميتافيزيقية) وهى التى تحقق الاستلاب. وقد نتج عن هذا التصور أكثر من مبادرة لسمير أمين فى فهم المادية التاريخية: فقد رفض فيها الاقتصادوية التى أشاعتها عنها التفسيرات السوفيتية، ورفض قواعد "الديامات" (الديالكتيكية المادية) التى صكها ستالين مما فرض قواعد العلوم الطبيعية وحتميتها على العلوم الاجتماعية بشكل ميكانيكى، كما فرض الصيغة الثابتة للمراحل الخمس بل وحتى صياغات المراحل بأعداد متنوعة وفق تمارين عقلية غير مقبولة. فى مقابل ذلك قال "أمين" بأطروحة النمط الخراجى Tributary كشكل عام للمجتمع قبل الرأسمالى ودولته وطبقاته، وذلك ليدحض النظريتين السائدتين المتمركزة أوروبياً أى نظرية "الطريقين" ونظرية "المراحل الخمس". وتشترك الأنماط الخراجية عنده فى خصائص جوهرية مثل الاستخراج الشفاف للفائض الاقتصادى بوسائل غير اقتصادية، مرتبطة بممارسة السلطة (الخراجية) وهيمنة المستوى السياسى- الإيديولوجى والميتافيزيقى، ولها طابعها المركزى أيضا تبعا لدرجة نضوج السلطة، وبهذا المعنى كانت الإقطاعية الأوربية (واليابانية) شكلا طرفيا يتميز بتفتيت الفائض بموازاة تفتت السلطة وتُحل التناقضات الداخلية للنمط المشاعى فى هذه الصيغة- بالانتقال للنمط الخراجى وليس اللجوء إلى العبودية (وفق لائحة ستالين) ويصبح النمط العبودى هو الاستثناء. وقد كان يُفترض أن تبشر التناقضات فى المجتمعات الخراجية (الشرقية) بالتطور الرأسمالى وتحررها من منطق السلطة الخراجية لتتحول البنية السياسية إلى خدمة الرأسمال، لكن "المعجزة الأوربية" هى التى قامت بذلك على قاعدة توازن الإقطاعية الآفله والبرجوازية الصاعدة، فى حين بقيت السلطة الخراجية محصورة فى الطبقة الخراجية المستغلة. ومن هنا قال "أمين" بعدم توفر قوانين "لمراحل الانتقال" وإنما ديناميات ملموسة لتجاوز النظام القديم واستبداله بالجديد. وفى هذا الإطار عالج مفهوم "الأمة" الذى لا يقتصر على توفر السوق الرأسمالى لأنه كان متحققا فى النمط الخراجى وقد برزت عند "أمين" مقولات دور "السياسى" والايديولوجى" "والثقافى" تباعا؛ حتى عالج مشكلة "الدين"، والمركزية المعكوسة عند الحركات الأصولية خاصة فى المجتمعات الريعية والكمبرادورية، مع استمرار نقده للمركزية الأوربية وتمركزها على الذات (نقد التمركز على الذات الأوربي..).
5-البدائل والمستقبل:
تأكد سمير أمين أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من صدق معظم أفكاره عن أزمة الاشتراكية (بعض قضايا المستقبل 1991) بل وأزمة الرأسمالية (فى مواجهة أزمة العصر 1997). الأولى أكدها انهيار الاتحاد السوفيتى وتراجع الماوية فى الصين، والثانية تؤكدها أزمات الاستقطاب ومأزق أوروبا مع الولايات المتحدة وتوحش الليبرالية الجديدة ومؤسسات بريتون وودز إزاء محاولات "التنمية" فى بلدان باندونج، فى ظل كينزية جديدة وفرض أسطورة "السوق" المتحررة تماماً من أى تضبيط. بذلك أصبح العالم أمام سمير أمين وكأنه فى حالة تشكل جديد، ليس من ذلك النوع الذى بدأ به تشكل الرأسمالية العالمية منذ خمسة قرون، ولكنه تشكل فى جو من الاضطراب مع نهاية الاستقطاب الثنائى الذى انتظم العالم لبضعة عقود. وبدلا من أن تؤدى العولمة الرأسمالية الجديدة إلى قدر من الانتظام أدت إلى أكبر قدر من الفوضى بسبب "إيديولوجية السوق" الرأسمالية نفسها (نزاعات إقليمية- تحديات أمام الديمقراطية- تفتت المجتمعات غير الأوربية…). ومن هنا سادت عند "أمين" لفترة مصطلحات بعضها عناوين لكتبه عن "الاضطراب الكبير" وإمبراطورية الفوضى وإنهاء عصر باندونج، ونهاية التحرر الوطنى..الخ.
لكن سمير أمين يثق أن اليسار الأوربى يمكنه أن يستعيد صحته، وتقف به أوربا على أقدامها فى مواجهة القطب الواحد الأمريكى فى إطار فكرة يكرر شرحها عن عالم متعدد الأقطاب الكبرى والصغرى على السواء (بعض قضايا المستقبل 1991)، أما بالنسبة لبلدان الجنوب فإنه مع تأكيده فشل تجارب مرحلة باندونج (55/1975) سواء فى تجارب التنمية التحديثية المفروضة كولونياليا أو الدولتيه الوطنية (الشعبوية) أو ما سمى بطريق "التطور اللارأسمالى" التى كانت مطروحة سوفيتيا؛ بفشل هذه التجارب راجع سمير أمين أيضاً مفاهيمه ذات الطابع "الماوى" خاصة عن بلدان الجنوب، فانتقد بعض تأكيداته عنها من جهة كما استفاد فى تطويرها بنظرة شاملة وليس إطارها الضيق الذى لاحظه مبكرا من جهة أخرى. ومن هنا طرح "البديل الوطنى الشعبى" منهجا جديدا لمواجهة الأزمة فى الجنوب مقابل أزمة الشمال الرأسمالى.
والبديل الوطنى الشعبى عنده "تحالف شعبى للعمال والفلاحين، يستهدف التخلص من التطريف الرأسمالى (التهميش) والتنمية اللامتكافئة من خلال فك الارتباط، وهى عملية يمكنها أن تفتح مجالا نحو "الانتقال الاشتراكى" أو تخلق الشروط الأفضل لذلك" (مقالات التحالف فى مجلة المستقبل العربى) من نقد الدولة السوفيتية إلى نقد الدولة الوطنية 1993- وقد قدم سمير أمين عديدا من الدراسات فى هذا الإطار تضمنت إعادة شرحه لإمكانيات فك الارتباط مع توقعه طول فترة الانتقال؛ وحول طبيعة تنوع القوى "الناهضة" فى الأطراف (من كوريا الجنوبية إلى جنوب أفريقيا ونيجيريا…) ثم حول تعدد عناصر التحالف الوطنى الشعبى وضمها للقوى الفعالة كالانتلجنسيا وعناصر تحرير الأيديولوجيات الأصولية والديانات الكبرى.
ولأن سمير أمين هو ذلك "الثورى" القديم، والماركسى المتمسك بتطوير الجدل والمادية التاريخية ليستمر طرح الاشتراكية هدفا للمجتمع الإنسانى، فإنه يصيغ بحيوية وإخلاص فى الفترة الأخيرة أفكارا مثيرة للنقاش حول الاشتراكية الثالثة كأفق للمستقبل البعيد، وذلك بعد أن قطعت الاشتراكية اللينينية مع الاشتراكية الأولى، (الأممية الثالثة) وبهذا القطع مع الاشتراكية السوفيتية يتطلع العالم إلى صياغة مرحلته الاشتراكية الثالثة، ولهذا فإنه دائم الحديث مؤخرا عن "بناء مجتمع آخر" على مدى طويل لا يقوم على فلسفة "اللحاق" وإنما على فهم "الإصلاحات" التى لا تتضاد مع الثورة وتسهم فى خلق مجتمع ذو برنامج تحررى إنسانى تسوده "أممية" شعبية فى مواجهة أممية راس المال (السيرة الذاتية 189-190).
ثالثا: النقد الذاتى:
لن نورد هنا كل موضوعات المراجعة والنقد الذاتى التى قدمها سمير أمين بنفسه خاصة فى سيرته الذاتية الفكرية، وإنما نقصد الإشارة إلى أن سمير أمين من المفكرين الذين يلتزمون بتطوير أفكارهم باضطراد ليبادر بمحاولات إبداعية جديدة تواجه قضايا التطور الذى يعيشه مع استمرار منطلقاته الأساسية بالطبع. فهو لم يتردد فى مراجعة قراءته الأولى لماركس، وتحليله المركزى عن "الوجهة الاقتصادية للواقع" فى أطروحته الأولى (1957) حيث تطور هو إلى الاهتمام بقضايا الثقافة والأيديولوجيا (المعلوماتية-الدين)، كما راجع فكره عن "الاشتراكية البدائية" ونمط "الإنتاج السوفيتى"، ليقوم بتحليل آخر عن "الدولتية" "والدولنة" فى النمط الرأسمالى نفسه؛ سواء كانت مركزاً (دور الدولة فى المركز) أو طرفا (الدولة الوطنية الشعبوية)، وأخيرا وليس آخرا كان نقده عن "البيريسترويكا" بل وعن "تطورات الماوية" حيث لم يكن يتوقع أن يصلا إلى حد الانهيار بهذه التجارب الكبرى. ومهما كانت مراجعات "أمين" لنفسه فقد ظلت فى إطار مفاهيمه التأسيسية عن "النظام /العالم" وتصاعد الاستقطاب والتوسع الرأسمالى العالمى الذى يهدد العالم بالفوضى والاضطراب الكبير فى ظل العسكرة الجارية للعولمة.
بـاللغـة العـربيـة
1-دراسة فى التيارات النقدية والمالية فى مصر عام 1957
(معهد البحوث والدراسات العربية -الجامعة العربية-القاهرة 1959)
2-التراكم على الصعيد العالمى
(ترجمة/دار ابن خلدون-بيروت 1973)
3-التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة
(ترجمة عادل عبد المهدى-دار الحقيقة-بيروت 1974)
4- التطور اللامتكافىء
(ترجمة برهان غليون-دار الطليعة-بيروت 1974)
5-الأمة العربية "القومية وصراع الطبقات"
(ترجمة كميل قيصر داغر-دار ابن رشد-بيروت 1978) مدبولى 1988.
6- الطبقة والأمة فى التاريخ وفى المرحلة الامبريالية
(ترجمة هنريت عبودى-دار الطليعة-بيروت 1980)
7-قانون القيمة والمادية التاريخية
(ترجمة صلاح داغر-دار الحداثة-بيروت 1981)
8-المغرب العربى المعاصر
(ترجمة كميل قيصر داغر-دار الحداثة -بيروت 1981)
9-الاقتصاد العربى المعاصر
(ترجمة ناديا الحاج- دار الرواد- بيروت 1982)- دار الحقائق 1984
10-أزمة الامبريالية أزمة بنيوية
(دار الحداثة -بيروت 1982)
11-الماوية والتحريفية
(دار الحداثة- بيروت 1984)
12-أزمة المجتمع العربى
(دار المستقبل العربى- القاهرة 1985)
13-ما بعد الرأسمالية- مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت 1988
14-البحر المتوسط فى العالم المعاصر (بالاشتراك مع فيصل ياشير)
مركز دراسات الوحدة العربية -بيروت 1988
15- نحو نظرية للثقافة- معهد الإنماء العربى (بيروت) 1989؛ سلسلة صاد (الجزائر) 1992
16-بعض قضايا للمستقبل- الفارابى، بيروت 1990؛ مدبولى القاهرة، 1991
17-من نقد الدولة السوفيتية إلى نقد الدولة الوطنية؛ مركز البحوث العربية، القاهرة 1993
18-سيرة ذاتية فكرية- دار الآداب، بيروت 1993
19-حوار الدولة والدين (بالاشتراك مع برهان غليون) المركز الثقافى العربى، 1996
20-فى مواجهة أزمة عصرنا، دار سينا، القاهرة 1996
21-نقد روح العصر، الفارابى، بيروت 1998
22-مناخ العصر، رؤية نقدية، دار سينا، القاهرة 1999
http://thirdworldforum.net/arabic/Samir_Am...hinker_(HS).htm
بحث
قائمة الأعضاء
التقويم
وثائق المساعدة
/
سبعون عاماً … وبعد - سميــر أميــن مفكراً عالميا
