إيمان نكاحي / إيمان انتفاعي / إيمان منامي / إيمان قهري / إيمان جنائي
لا مرية في أن الدعوة الإسلامية إنما نجحت بالسيف لا بمعجزة القرآن فلو سألناهم كم مؤمناً كانت هذه المعجزة هي السبب الوحيد لإيمانه , لما استطاعوا أن يجيبوا جواباً صحيحاً إن محمداً قام بالدعوة ثلاثاً وعشرين سنة على أصح الأقوال , قضى اثنتي عشرة سنة منها بمكة وإحدى عشرة بالمدينة , ولما كان بمكة كان هو وأصحابه مستضعفين يلقون من كفار قريش أذى كثيراً, حتى استخفى هو وأصحابه مدة في دار الأرقم , وحتى هاجر فريق منهم إلى الحبشة فراراً من أذى قريش , وحتى صار محمد بعد وفاة عمه أبي طالب الذي كان يحميه من كفار قريش يطلب من يحميه ليقوم بالدعوة , فذهب إلى الطائف وجعل يعرض نفسه على القبائل في المواسم لأجل ذلك
وكان الذين آمنوا به في مكة فريقين , أحدهما من وجوه قريش وأشرافهم وهؤلاء هم الأقل , والثاني هم الأكثر من الفقراء والموالي الذين كانوا يعيشون أمرّ العيش عبيداً تحت رق مالكيهم من أشراف قريش وأغنيائهم أما الفريق الأول فأولهم إيماناً بمحمد أبو بكر , وكان إيمانه عن معرفة سابقة وعن خبرة بأحواله قبل البعثة لأنه صحب محمداً عشرين سنة قبل النبوة , وكان محمد إذ ذاك ابن عشرين سنة , وكان هو ابن ثماني عشرة سنة , فليس في الذين آمنوا بمحمد أولاً وآخراً من يعرفه حق المعرفة كأبي بكر وإذا جاز أن أستثنى أحداً قلت إلا العباس , ولكن العباس أيضاً وإن كان موضع أسرار محمد قبل البعثة وبعدها إلا أنه لم يعرف معرفة أبي بكر , ولم يصحبه صحبته , فكان أبو بكر أعلم من العباس بمحمد وبصفاته الخاصة وبمنازعه الفكرية ومطامحه القومية , حتى أني لا أشك في أن أبا بكر آمن بمحمد قبل النبوة وقد قال بذلك بعضهم كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي (1) , فلذا صار بعد إظهار الإيمان به داعية له حتى أن أكثر الفريق الأول , ومنهم العشرة المبشرون بالجنة , آمنوا بدعاية أبي بكر , إلا حمزة فإنه آمن بابن أخيه محمد حمية له لما رأى صناديد قريش يؤذونه ويهينونه كما هو مذكور في كتب السير (2) وأما الفريق الثاني وهم الفقراء والموالي فأكبر داع إلى مسارعتهم في الإيمان بمحمد هو التخلص مما هم فيه من شقاء وهوان , وكيف لا يؤمنون به وقد رأوه يدعوهم إلى دين يجعلهم أحراراً , ويكف عنهم سلطان متكبر جبار , ويساويهم في حقوقهم بأعلى الناس قدراً وأرفعهم منزلة في الدنيا ولم تكن الإسلام قوة قاهرة في مكة , لم يكن للمسلمين من يقال لهم منافقون من الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر , وذلك لأن المسلمين ليس لهم سطوة تلجئ الكفار إلى اتقائها بالنفاق وإنما نشأ النفاق في المدينة حيث دجا الإسلام وصار له بالمهاجرين والأنصار قوة يتقى بأسها نعم , كان في كفار مكة منافق واحد , وهو العباس لأنه كان يظهر الكفر ويبطن الإسلام , فهو منافق في الكافرين لا في المسلمين , كما تقدم بيانه مفصلاً
هذا حال الإسلام في مكة , وأما في المدينة بعدما هاجر إليها محمد فليس كذلك , بل أصبحت له قوة لا يستهان بها مؤلفة من حزبين قويين متآخيين هم المهاجرون والأنصار 0 ولما كان محمد في مكة لم يكن للإسلام أعداء ولا خصوم سوى قريش , أما غير قريش من العرب الذين لم يسلموا فكانوا منه على حياد فلا هم له ولا هم عليه
ولما انتقل الإسلام إلى المدينة رفع عماده ومد أطنابه فيها , لم يكن له فيها أعداء وخصوم سوى اليهود ومن والاهم من المنافقين وكانت لليهود مع الأنصار صلات وروابط تربطهم بهم من حلف وغيره , فمنهم حلفاء الأوس , ومنهم حلفاء الخزرج , فلهذا ولضعفهم كانوا لا يجاهرون الإسلام بالعداوة إلا أنهم كانوا يكيدون في الخفاء , وكانوا على اتصال بكفار قريش وقد أسلم أفراد منهم إلا أن إسلامهم كان كيداً للمسلمين وقد أخذ محمد يداريهم في أول الأمر فبذل جهداً كبيراً في مداراتهم واستمالتهم إليه , ثم تبين له أنهم لن يصافوه وأنهم سيبقون عثاراً له في طريقه , فقرّ الرأي عنده على استئصالهم فاستأصلهم بالجلاء والقتل وكان في ذلك معذوراً بالنظر إلى الغاية التي يرمي إليها , لأنه قبل كل شيء يريد أن يوحد كلمة العرب بجعل الحجاز وما والاه من بلادهم على دين واحد , فليس من المصلحة بقاء يهود أو نصارى في بلاد العرب , كما باح بذلك في آخر أنفاسه عند مرض الموت فقال لا يترك بجزيرة العرب دينان (1)
ولا يخفى أن الحالة التي كان عليها محمد في مكة قد تبدلت وتغيرت في المدينة فبينما كان في مكة مستضعفاً يطلب من يحميه ليقوم بالدعوة , أصبح قوياً في المدينة بفريقين من أصحابه المهاجرين والأنصار وكان محمد إذ ذاك لا هم له إلا إسلام قريش , يريد إسلامهم لا محالة , فكان ى مناص عنده من أحد أمرين , إما إبادتهم وإما إسلامهم
ومعلوم أن قريشاً كان لها اتجار مع الشام , وأن قوافلها وعيراتها مستمرة في الذهاب والإياب من مكة إلى الشام , وأن المدينة واقعة في طريق هذه التجارة , فحياة قريش بالتجارة أصبحت في قبضة محمد إن شاء تركها لهم , وإن شاء قطع عليهم طريقها وهكذا فعل فإنه بعد هجرته إلى المدينة لم يمض ِ عليه من الزمن أكثر من سبعة أشهر حتى أخذ يرسل السرايا ويبعث المبعوث كلما مرت عير لقريش إلا أنه كان إ ذ ذاك لم يرسل في سراياه , ولم تخرج معه في غزواته إلا المهاجرين من أصحابه , ولم يكلف الأنصار شيئاً حتى غزوة بدر الكبرى التي كانت في السنة الثانية للهجرة
ثم اتسع الأمر وأنزلت آية القتال وأشرك في المهاجرين والأنصار , وكانت وقعة بدر التي قوي بها الإسلام وصارت له هيبة وسطوة , فحصل بذلك شيء لم يكن في الحسبان وهو الغنائم الحربية , حتى أصبحت الغنيمة من أكبر الدواعي إلى الإسلام , وحتى صار من الناس من يسلم رغبة في الغنيمة لا لشيء آخر , كما وقع ذلك لحبيب بن يساف فإنه خرج في غزوة بدر مع المسلمين من قومه في الخزرج طالباً للغنيمة ولم يكن مسلماً , قال له رسول الله : لا يصحبنا إلا من كان على ديننا , وفي رواية قال له : ارجع فإنا لا نستعين بمشرك , فامتنع من الرجوع , وتكررت منه المراجعة لرسول الله , وفي الثالثة قال له : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : نعم , فأسلم وقاتل الكفار مع المسلمين(1) ولا شك أن إيمانهم لم يكن عن إيمان وتصديق وإنما كان عن رغبة في الغنائم
على أن المسلمين أنفسهم كان أكثرهم لا يخرج إلى الحرب إلا رغبة في الغنيمة كما وقع في غزوة خيبر , فقد خرج فيها المتخلفون عن غزوة الحديبية رجاء الغنيمة فقال لهم النبي : لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد فأما الغنيمة فلا , ثم أمر منادياً ينادي بذلك (2) ومن المعلوم أن محمداً لما كان في مكة كان لا يرغب الناس في الإسلام إلا بالجنة ونعيمها المقيم , ولا ينفرهم من الكفر إلا بجهنم وعذابها الأليم ولكنه لما كان في المدينة صار يرغبهم بالغنائم أيضاً حتى أنه في غزوة تبوك رغبهم في الجهاد ببنات الروم (3)
ونحن لو أردنا أن تستعرض إيمان المسلمين في عهد محمد ونستشف ما فيه من ألوان مختلفة لجاز أن نقول مستندين في قولنا إلى ما ألهمنا إياه الفكر الرقيق والنظر الصحيح من أقوال الرواة المسطورة في كتب السير : إن الإيمان بمحمد وما جاء به كان يقع على وجوه شتى , بألوان مختلفة , فمنه : ما هو إيمان عقلي علمي يستند في وقوعه إلى العقل والعلم بما وراءه من غاية مطلوبة كإيمان أبي بكر الصديق , وربما كتبنا فيما يأتي فصلاً خاصاً عن أبي بكر الصديق , ولا نظن أم لأبي بكر ثانياً في إيمانه هذا
ومنه : إيمان تبعي كإيمان خديجة زوج محمد وبناته وكأيمان علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة الذي وهبته خديجة لمحمد فأعتقه وتبناه في صغره فهؤلاء كلهم يعيشون في بيت واحد تحت زعامة محمد ورئاسته , فهو رئيسهم وهو زعيمهم القائم بأمرهم , فكلهم بحكم العادة تبع لمحمد يسمعون قوله ويأتمرون بأمره فمن المستبعد أن يخالفوه , وكذلك علي بن أبي طالب فإنه أخذه محمد من أبيه يعوله عنده لأن أبا طالب كان كثير العيال مع قلة ذات يده , فأخذ محمد علياً وأخذ العباس جعفراً يعولانهما عندهما تخفيفاً عن أبي طالب (1) ولما تنبأ محمد كان علي عنده في بيته مع عياله وكان في الثامنة من العمر فغلام مثل هذا في الثامنة من عمره خالي الذهن , غير بالغ الرشد لا يكون عادة إلا تابعاً للرئيس الذي هو في بيته يعيش بعيالته , ولا يكون إلا تبعاً له في جميع الأمور فإيمان علي بمحمد إيمان تبعي , ويجوز أن علياً تطور بعد ذلك فارتقى في إيمانه إلى ما هو أعلى من ذلك ولكنه عند وقوعه لم يكن إلا تبعاً
ومنه إيمان إقناعي كإيمان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبدالله التيمي ممن أسلموا بداية أبي بكر , لأنه كما قلنا آنفاً بعد إيمانه كان أكبر داعية يدعو الناس إلى الإسلام فأسلم بدعايته هؤلاء / وغيرهم وإنما سميناه إيماناً إقناعياً لأنه حصل بداية أبي بكر فإنه هو الذي أقنعهم إليه (2) ويجوز أيضاً أن يكون هؤلاء قد تطوروا بعد ذلك في إيمانهم فارتقوا فيه إلى ما هو أعلى ولكنه عند وقوعه كان إقناعياً
ومنه إيمان حميوي , نسبة إلى الحمية بمعنى الأنفة والنخوة , كإيمان حمزة عم النبي , وذلك أن حمزة رجع يوماً من قنصه متنكباً قوسه , فأخبرته مولاة عبدالله بن جدعان وقالت له : يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم تعنى أبا جهل , فإنه قبل هنيهة شتم محمداً وآذاه ونال منه ما يكره 9 وفي رواية : انه صب التراب على رأسه وألقى عليه فرثاً ووطئ برجله على عاتقه , فقال لها حمزة : أنت رأيت هذا الذي تقولين ؟ قالت : نعم , فاحتمل حمزة الغضب ودخل المسجد فرأى أبا جهل جالساً في القوم , فأقبل نحوه حتى قام على رأسه , ورفع القوس وضربه بها فشجه شجة منكرة, ثم قال : أتشتمه ؟ فأنا على دينه أقول ما يقول , فرد ذلك علي ّ أن استطعت , فقام رجال بني مخزوم ليضربوا أبا جهل , فقالوا: ما نراك إلا صبأت , فقال حمزة : وما يمنعني وقد استبان لي منه أنه رسول الله وأن الذي يقوله حق , والله لا أنزع , فامنعوني إن كنتم صادقين 0 فقال لهم أبا جهل دعوا أبا عمارة فإني والله لقد أسمعت أبن أخيه شيئاً قبيحاً (3)
ثم إن حمزة بعدما فارقهم ندم على ما قال , وصار يقول في نفسه لما رجع إلى بيته : أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك , الموت خير لك مما صنعت فبات ليلة لم يبت بمثلها , ولما أصبح إذا إلى رسول الله فقال: يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وذكر له ما جرى له مع أبي جهل وما قاله للقوم فأقبل عليه رسول الله يذكره ويعظه حتى قال له حمزة : إنك لصادق فأظهر يا ابن أخي دينك فسبب إسلام حمزة أنه أخذته الحمية في أول الأمر لابن أخيه ثم استمر على الإسلام بعد ذلك (1)
ومنه إيمان فطري كإيمان أبي ذر الغفاري فإنه كان من المتألهين قبل أن تبلغه نبوة محمد , وكان يتعبد ويصلي لله متجهاً في صلاته إلى أي جهة أتفق اتجاهه إليها 0 ولما بلغ على أن يقول الحق ولو كان مراً 0 فهو من المتألهين فطرة , ولذا قلنا بأن إيمانه فطري (2)
ومنه إيمان انتفاعي كإيمان حبيب بن يساف الذي خرج مع المسلمين في غزوة بدر وهو غير مسلم ثم أسلم رغبة في الغنيمة وقد تقدم خبره آنفاً
ومنه إيمان منامي كإيمان خالد بن سعيد بن العاص فقد ذكروا أنه رأى في منامه رؤيا هالته وأفزعته فقام من نومه مرعوباً فذهب إلى أبي بكر لأنه كان عندهم يحسن تعبير الرؤيا , فذكر له ما رأى , فقال له أبو بكر أريد بك خير , ويحك هذا رسول الله فاتبعه فأتى رسول الله فأسلم (3) , فإيمانه منامي
ومنه إيمان نكاحي كما ورد في قصة أم سليم مع أبي سليم , وذلك أنه خطبها وهو كافر وهي مسلمة , فقالت والله ما مثلك يرد ولكنك كافر وأنا مسلمة ولا يحل أن أتزوجك و فإن تسلم فهذا مهرك ولا أسألك غيره (4) , فأسلم فكان إسلامه مهرها , كما أخرجه النسائي وصححه عن أبي عباس , فإسلام أبي سليم نكاحي
ومنه إيمان قهري , كإيمان الوليد بن عقبة بن أبي معيط فأنه كان موتوراً بالإسلام لأن محمداً قتل أباه عقبة في طريقه إلى المدينة عند مرجعه من بدر , وكان عقبة في الأسرى , ولم يسلم ابنه إلا بعد ما كانت للإسلام سطوة قاهرة لا ملجأ له منها إلا إليها 0 والوليد هذا هو الذي ولاه عثمان الكوفة فصلى بالناس صلاة الصبح أربعاً وهو سكران , ولما سلم التفت إليهم وقال أتريدون أن أزيدكم , فبلغ ذلك عثمان فعزله (5) 0 فإيمانه قهري ومن هذا القبيل إيمان الذين دخلوا في دين الله أفواجاً بعد فتح مكة إذ لم يبق لهم ملجأ من الإسلام إلا إليه
ومنه إيمان جنائي , كإيمان المغيرة بن شعبة ؟ فقد ذكروا انه قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك من ثقيف , وكان قد رافقهم وهم وافدون على المقوقس صاحب مصر بهدايا 0 فأنزلهم وأكرم مثواهم ولما دخلوا عليه ومعهم المغيرة سألهم عنه المقوقس فقالوا : ليس منا هو من الأحلاف , فكان المغيرة أهون القوم على المقوقس , ثم أكرمهم وانصرفوا راجعين فلما نزلوا منزلاً في طريقهم , أخذوا يشربون الخمر , وصار المغيرة يخدمهم ويسقيهم , ولم يشرب هو متعذراً بأن في رأسه صداعاً , وصار يكثر لهم بغير مزج حتى همدوا , فقتلهم جميعاً وأخذ ما معهم من الأموال وأتى النبي محمداً في المدينة وأسلم , وقدم الأموال التي معه كغنيمة حربية ليخمسها النبي (1) 0 ولكن النبي قبل إسلامه ولم يقبل منه الأموال وقالا لا آخذ من أموالهم شيئاً فإنه غدر والغدر لا خير فيه 0 ولاشك أن المغيرة بعد ارتكابه هذه الجناية المنكرة لا يستطيع الرجوع إلى قومه فلا نجاة له منها إلا بالإسلام , فإيمانه جنائي كما قلنا
ومنه إيمان بلاهي نسبة إلى البلاهة , كإيمان سودة بنت زمعة , إحدى أزواج النبي , فقد ذكروا أن النبي دفع إليها أسيراً يكون عندها في بيتها إلى أن ينظر في أمره , فأخذ الأسير يئن بالليل فقالت له سودة : ما لك تئن ؟ فشكا إليها ألم القيد , فقامت وأرخت من كتافه , فلما نامت , أخرج الأسير يده وهرب فلما أصبح النبي دعا بالأسير فأعلم بشأنه , فغضب على سودة وقال: اللهم أقطع يديها فأخبرت سودة بما قال النبي فرفعت يديها ومدتهما إلى السماء تتوقع الإجابة وتنتظر أن يقطع الله يديها , وبقيت على هذه الحالة رافعة يديها فبلغ ذلك النبي فقال: إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر , قولوا لسودة فلترد يديها (2) وعند ذلك ردت سودة يديها وأنزل محمد آية تتضمن شيئاً من لوم نفسه على استعماله بالدعاء على سودة : ( ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) (3) ولا شك أن رفعها يديها إلى السماء تنتظر من الله أن يقطعهما يدل على أن إيمانها راسخ في بلاهة , فلذا قلنا إن إيمانها بلاهي
ولا تنسى الإيمان الكيدي , كإيمان عبدالله بن سلام وإخوانه من اليهود الذين أسلموا , فإنهم إنما أسلموا ليكيدوا لأهل الإسلام المكايد , ومكايدهم لأهل الإسلام مذكورة في كتب التاريخ فلا حاجة إلى ذكر شيء منها هنا
لقد ذكرنا ألواناً مختلفة للإيمان كان يقع في عهد محمد ولم نستقص الألوان كلها منا إنا نذكر من كل لون إلا ما يخص شخصاً واحداً , لأن أكثر من ذلك يستلزم التطويل ونحن نحاول الاختصار 0
ولا ريب أن لكل واحد ممن ذكرناه نظراء في إيمانه إلا أبا بكر فإنه في إيمانه منقطع النظير ولو أردت أن استثني هنا لقلت : خلا العباس فإنه وإن كان إيمانه يقصر عن إيمان أبي بكر من بعض الوجوه إلا أنه من نوعه ومن لونه , لأن العباس كأبي بكر كان موضع أسرار محمد قبل النبوة وبعدها
بقي هنا لون واحد من ألوان الإيمان نجعله خاتمة في هذا الموضوع وهو الإيمان التقليدي الذي يمثله من القرآن قوله : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) (1) والإيمان التقليدي لم يقع في عهد محمد وإنما وقع في الجبل الثاني أي في التابعين الذي نشأوا بعد انقضاء الجيل الأول , واستمر راسخاً في القلوب مستحكماً في النفوس إلى يومنا هذا ومما لا مرية فيه أن الإيمان التقليدي يكون أقوى وأرسخ من الإيمان المنبعث عن أسباب غير التقليد فإن الأرتداد عنه في هذا أسها وأسرع منه في ذاك , ولولا قوة الإيمان التقليدي لما لقي محمد من قومه كل تلك المقاومة والعداوة وهو يدعوهم إلى عبادة الله خالق الكائنات الأعظم , ونبذ الأصنام التي هي حجارة ينحتونها بأيديهم ثم يعبدونها كفعلهم مع الملوك فإن بين الملوك والأصنام مشابهة قوية ولذا قلت :
إن الملوك كالأصنام ماثلة الناس تنحتها والناس تعبدها
وأهل المذاهب والأديان سواسية في الإيمان التقليدي , فالمسلم مسلم لأنه نشأ من أبوين مسلمين , وكذا المسيحي واليهودي والصابئ والمجوسي وغيرهم من أهل الملل والنحل , كما قال المعري : ما دان الفتى بحجى ولكن يعلمه التدين أقربوه
وينشأ ناشئ الفتيان منـــــا على ما كان عوده أبوه
فالحقيقة الناصعة التي لا غبار عليها والتي لا يمتري فيها إنسان ولا ينتطح فيها عنزان هي أن الدعوة الإسلامية قامت بالسيوف المرهفات لا بمعجزة القرآن ولا بغيرها من المعجزات وأكبر ذليل على ذلك ارتداد العرب عن الإسلام بعد وفاة محمد ولولا عزم أبي بكر وهمة خالد بن الوليد في قتال أهل الردة وإرجاعهم قهراً إلى الإسلام لكنا اليوم نقرأ خبر الدعوة الإسلامية في كتب التاريخ كخبر من أخبار الماضين ولله در أبي العلاء إذ قال :
جلوا صارماً وتلوا باطلاً وقالوا صدقنا فقلنا نعم
وسنتكلم في فصولنا الآتية عن أمور تتعلق بالقرآن من جهة معانيه ومبانيه ومنها تعلم كيف يكون الإعجاز في القرآن
يتبع
(1) تاريخ الخلفاء , ص 31 – (2) السيرة الحلبية , 1/ 316 ؛ سيرة ابن هشام , 1/ 291 – 292 –(1) السيرة الحلبية , 3/ 265 – 266 (1) السيرة الحلبية , 2/ 148 – (2) السيرة الحلبية , 3/ 31 – (3) السيرة الحلبية , 3/ 131- (1) سيرة ابن هشام , 1/ 246 ؛ السيرة الحلبية , 1/ 268 – (2) سيرة دحلان , 1/ 181 – 182 ؛ السيرة الحلبية , 1/ 276 – (3) السيرة الحلبية , 1/ 296 – 597 ؛ سيرة ابن هشام 1/ 291 – 292 (1) السيرة الحلبية , 1/ 296 – 297 ؛ سيرة ابن هشام , 1/ 291 – 292 – (2) السيرة الحلبية , 1/ 280 – 281 – (3) سنن النسائي , كتاب النكاح , الحديث رقم : 3289 – (4) السيرة الحلبية , 2/ 282 – (5) السيرة الحلبية , 2/ 283 – (1) السيرة الحلبية , 2/ 65 – (2) سيرة ابن هشام , 2/ 145 – (3) سورة الإسراء , الآية : 11 (1) الزخرف , الآية : 23 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب والشاعر معروف الرصافي 0
|