{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
سلطة المجاز
سيناتور غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,957
الانضمام: Mar 2007
مشاركة: #1
سلطة المجاز
أحمد الشارفي
مدخـــل :
اهتم البلاغيون وفلاسفة اللغة على حد سواء بالمجاز من حيث إنه ظاهرة لغوية معقدة. فالبلاغيون يهدفون أساسا إلى تحديد شروط الفصاحة وتفسير اختلاف الكلام البليغ عن غيره، وربما قصدوا كذلك تلقين الناس سبل البراعة في هذا الفن. لذلك، تجدهم يجتهدون ويدققون في تصنيف الأوجه البلاغية مدعين أن بعضها أبلغ من البعض الآخر. أما فلاسفة اللغة فإنهم يهتمون بالمجاز في إطار دراستهم لإشكالية المعنى. فقد تساءلوا عن الطبيعة الأنطولوجية للمعنى بصفة عامة والمعنى اللغوي بصفة خاصة. ومن بين الأسئلة التي طرحوها ولا زالوا يطرحونها: ما هو المعنى ؟ هل هناك معنى حرفيا وآخر مجازيا ؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما طبيعة الاختلاف بين المعنيين ؟ كيف يتم التوصل إلى المعنى المجازي انطلاقا من المعنى الحرفي للجملة ؟ إلى غيرها من الأسئلة[1] .
إننا لا نهدف في هذه المقالة الخوض في الوظيفة البلاغية للمجاز، ولا في الإشكاليات الفلسفية المتعلقة به، ولكن نتوخى أن نوجه الانتباه إلى التشابه الكامن بين المجاز من جهة وبين التعبير الرمزي غير اللغوي من جهة ثانية وكذلك إلى التأثير والتأثر الذين يمكن أن يحدث بين التعبيرين، وذلك من خلال دراسة ثلاث حالات: الهدايا، الصراع بين الجنسين و مسح الأحذية كما تتجلى في سياق الثقافة والعربية المغربيتين.
1 - الهدايا / المفاهيم:
في سياق حديثنا عن المجاز لا بد أن نتساءل عما إذا كانت هذه الظاهرة تخص الاستعمال اللغوي فقط، أم تتعداه إلى الأساليب التعبيرية غير اللغوية. فإذا انطلقنا من أن المجاز هو خروج الكلام عن مقتضى الظاهر، هل سيكون بإمكاننا الحديث عن سلوك مجازي ؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما هي السمات المشتركة بين المجاز اللغوي والمجاز غير اللغوي ؟ هذه بعض الاعتبارات الأساسية التي ستوجه نظرتنا في طبيعة ومغزى الهدايا التي تتبادلها الأسر المغربية والتي نتناولها بالتحليل في هذه الفقرة.
من الناحية المبدئية، يمكن اعتبار أي شيء فيه منفعة حسية أو جمالية أو غيرها صالحا لأن يكون هدية يعبر الواهب من خلالها عن عواطفه تجاه المتلقي. وقد تكون الهدية ذات قيمة مادية كبيرة وقد لا تكون. غير أنه في سياق الثقافة المغربية،[2] هناك هدايا متعارف عليها تتبادلها الأسر. وقد يعتبر تقديم غيرها شذوذا. لن يكون بإمكاننا هنا سرد جميع أنواع الهدايا لضيق المجال، لذلك سنقتصر على بعض الأمثلة التوضيحية. من ذلك مثلا أن المغاربة اعتادوا أن يتبادلوا السكر فيما بينهم في جل المناسبات. وقد شاعت هذه العادة لدرجة أن الزائر يستحيي أن يدخل منزلا دون أن يأخذ معه بضع قطع كبيرة من السكر. أمام هذه الظاهرة، علينا أن نتساءل لماذا هذه المادة بالذات دون غيرها من شاي أو زيت أو توابل وما إلى ذلك؟ قد يعتقد البعض أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد صدفة، غير أننا نعتقد أن الأمر ليس كذلك. فإذا تأملنا خاصيات السكر وسبرناها بحثا عن واحدة يمكن أن تعبر عن الود لوجدنا أن صفتي البياض والحلاوة لهما دلالة كبيرة في هذا المجال. فالبياض هو لون الصفاء والجمال والخير على عكس السواد الذي يمثل القبح وما يتعلق به. وليست الثقافة المغربية وحدها التي تربط بين هاتين الدلالتين المتناقضتين وبين البياض والسواد، بل جل الثقافات الإنسانية تفعل ذلك. كما أن صفة الحلاوة تمثل كل ما هو محبب لدى الإنسان، بخلاف المرارة، التي تدل على الكراهية والعذاب وما شابه ذلك مما لا يمكن استساغته. ويبدو أن صفتي / مفهومي البياض والحلاوة هما مدار كل ما يقدمه المضيف إلى ضيفه. فإلى جانب السكر، نجد أن تقديم الحلوى بجميع أنواعها ممارسة شائعة. فهي التي يقدمها الأب إلى أطفاله حين رجوعه من السوق أو من السفر، كما أنها تقدم صحبة الشاي إلى الضيوف. من الواضح أن ما يجمع بين الحلوى والشاي هي صفة الحلاوة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المغاربة عموما، وخاصة في البوادي يكثرون السكر في الشاي. ويعتقد أن الضيافة عندهم لا تحسن إلا إذا تناول الضيوف شايا لذيذا. ولا يفوتنا في هذا السياق أن نشير كذلك إلى القيمة الرمزية للتمر والحليب، وهما مادتان تقدمان ليس في الحفلات المغربية فقط، بل حتى للضيوف الرسميين الأجانب. فالعروسان يناولان بعضهما البعض تمرا وحليبا أمام تصفيقات وزغاريد الحضور. في هذه الحالات، يبدو أن المستضيف يقصد أن يعـبر لضيفه عن صدق نواياه ورغبتـه في دوام الـود بينهما.
ويظهر من الأمثلة التي أوردناها أن الهدايا لا تكمن قيمتها في محتوياتها الغذائية بقدرما تكمن في مدلولها الرمزي.
بعد أن سردنا أمثلة من السلوك الرمزي، نود أن نتأمل طبيعة رمزية هذا السلوك وعلاقته بالمجاز اللغوي. في البداية، لا بد أن نجري مقارنة بين السلوك الرمزي وبين غيره لإبراز مظاهر التباين بينهما. وحسبنا هنا أن نأخذ مثالين بسيطين، يتعلق الأول برجل يقدم شايا وعسلا لضيوفه، بينما يتعلق الثاني برجل يقدم المواد الغذائية نفسها لعابر سبيل جائع . ففي المثال الأول، وإذا صح ما زعمناه سالفا، يقصد المستضيف أن يعبر عن خالص وده اتجاه ضيوفه وذلك بتقديمه مواد حلوة، بينما في المثال الثاني، لا يعدو الأمر أن يكون مجرد تقديم طعام يسد رمق الطارق. وما يبرر هذا التحليل هو أن تقديم الشاي وغيره من المواد الحلوة قد غدا أمرا ضروريا في كل ضيافة حسنة فهو يشكل إحدى طقوس الضيافة، وغياب مثل هذه المواد قد يعتبر تقصيرا من جانب المضيف تجاه ضيوفه. أما فيما يتعلق بما يقدم للمساكين وعابري السبيل وغيرهم، فالأمر ليس كذلك، بل يكفي أي نوع آخر من الغذاء لإرضائهم.
من خلال هذين المثالين، يمكن أن نخلص إلى أن السلوك البشري يمكن أن يؤدي نوعين من الدلالة أو إحداهما : الدلالة الأولية والدلالة الرمزية. ففي المثال الأول، نجد أن للشاي والعسل دلالة أولية ترتبط بقيمتهما الغذائية ودلالة رمزية ترتبط بالود والمحبة . أما في المثال الثاني، فهذه المواد لا تؤدي إلا الدلالة الأولية فقط. وإذا كانت الدلالة الأولية يمكن ربطها سلفا بقيمة السلع والخدمات، فالدلالة الرمزية لا يمكن تحديدها إلا في سياق ثقافة معينة. فالمأكولات، مثلا، لها وظيفة غذائية بالنسبة إلى كل المجتمعات، بينما لا يمكن تحديد وظيفتها الرمزية الخاصة، إن كانت لها مثل هذه الوظيفة، إلا بعد دراسة كل ثقافة على حدة.
يبدو مما سلف أن السلوك غير اللغوي مشابه إلى حد كبير للسلوك اللغوي. فالجملة اللغوية سواء كانت مجازية أو غير مجازية، لها معنى حرفيا يعقله السامع انطلاقا من معاني الكلمات التي تكون تلك الجملة. غير أن الجملة المجازية، وعلى خلاف سواها، تحمل معنى ثانيا يتوصل إليه السامع انطلاقا من المعنى الحرفي وسياق الكلام. فإذا قلنا " زيد أسد " عقل السامع حالا أن الجملة تفيد أن زيدا يصنف ضمن المجموعة الطبيعية التي تدل عليها كلمة " أسد " ، غير أنه يدرك انطلاقا من عدم مطابقة هذا المعنى للواقع أننا نقصد أن زيدا شجاع . الكلام نفسه ينطبق على السلوك غير اللغوي. فإذا أعطينا لأحد شيئا أو أسدينا له خدمة، أدرك فورا قيمة ذلك الشيء أو تلك الخدمة. غير أننا لو أهديناه شيئا أو خدمة ذات دلالة رمزية، فإنه يدرك تلك الدلالة بالإضافة إلى القيمة المادية لذلك الشيء أو تلك الخدمة . فعلى سبيل المثال، لو أهدينا صديقا كيسا من قطع السكر فإنه يدرك أولا القيمة المادية أو الغذائية للهدية، ثم انطلاقا من علمه أننا نعلم أنه ليس في أمس الحاجة لتلك الهدية، يتوصل إلى أننا نعبر له عن ودنا ومحبتنا اتجاهه. وما يبرر هذا الزعم هو أننا لو استعضنا عن السكر بقيمته النقدية لفقدت الهدية جزءا كبيرا من رمزيتها. بطبيعة الحال، يمكن أن نتساءل: لماذا أصبحت صفة الحلاوة دالة على الود والمحبة مثلما يمكن أن نتساءل لماذا صار الأسد رمزا للشجاعة؟ هذه التساؤلات لا تدخل ضمن اهتماماتنا الحالية، ولذلك سنتجاهلها هاهنا.
لو تأملنا مرة أخرى طبيعة الهدايا المغربية التي ناقشناها أعلاه لوجدنا أن هناك علاقة كبيرة بينها وبين التعابير المجازية المرتبطة بالود في العربية المغربية. لقد سبق أن خلصنا إلى أن هذه الهدايا تدور حول مفهومي البياض والحلاوة، ولذلك أسميناها هدايا/ مفاهيم . فقيمتها لا تكمن في طاقتها الغذائية، بل في دلالتها الرمزية. وإذا تأملنا من جهة أخرى طبيعة المجاز المستعمل في نفس الحقل الدلالي، أي مجال العلاقات الفردية والأسرية، وجدنا أن مفهومي البياض والحلاوة طاغيان كذلك. فنسمع مثلا " قلبو بيض "، " قلبو صافي حليب " في مقابل " قلبو كحل " و " قلبو قطران ". تبين هذه الأمثلة أن القلب الذي يمثل جوهر الشخص ومواقفه يوصف بالبياض أو السواد، ويشبه بالحليب أو القطران، دلالة على طيبته أو كراهيته. كما نسمع كذلك " كاين الصفا بينا"، "صفي إلى بغيتي تربح". والصفاء هنا هو رمز الشفافية والوضوح والإخلاص. ومن بين الأمثلة كذلك التي توضح بجلاء مجاز البياض والحلاوة تلك التي تحيل إلى السمن والعسل كما في " كي السمن مع العسل " إشارة إلى شخصين أو عدة أشخاص متحابين. وليس من الصعب إدراك أن البياض والحلاوة صفتان ملازمتان للسمن والعسل على التوالي. كما نسمع كذلك عبارتي " اللسان لحلو " و" الكلام لحلو ". ولا يخفى على أحد دور الكلام في توطيد وتثبيت العلاقات الإنسانية أو إفسادها. لذلك نجد أن صفة " باسل "(بلا طعم ) و " مر" يدلان على كل كلام أو شخص غير مستساغ. وغير هذه الأمثلة كثير.
بعد أن أثرنا الانتباه إلى بعض الظواهر اللغوية وغير اللغوية المتعلقة بالود، وكذا إلى علاقة التشابه بينها، علينا أن نفسر هذه العلاقة بشكل يرجع كل هذه الظواهر إلى أصول. فمن الجلي أنه لا يكفي فقط سرد الظواهر وتصنيفها لفهم آلياتها. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى قصر الدرس البلاغي القديم عن بلوغ هذا الهدف. فالبلاغيون يموضعون خاصية المجاز في الجملة الواحدة، أو حتى في العبارة الواحدة، كما في " جناح الذل ". غير أن هذه المسلمة تعجز حتى عن تفسير التشابه الكبير بين كثير من الجمل، ناهيك عن تفسير التشابه بين التعابير اللغوية والسلوك غير اللغوي. لقد سبق أن بينا أن العربية المغربية تربط بين الود من جهة وبين الأشياء الحلوة والأشياء البيضاء من جهة أخرى. لذلك نجد أن كثيرا من الجمل في هذه اللغة تشتمل على أوجه بلاغية مختلفة من تشبيه واستعارة وكناية، تدور كافة حول مفهومي البياض والحلاوة. اعتبارا لهذه الحقيقة، يبدو من الأجدر أن نلصق صفة المجاز بهذين المفهومين، أو، توخيا للدقة، بمفهومي" الود كأشياء بيضاء " و " الود كأشياء حلوة ". بهذه الطريقة نجعل من هذين المفهومين الأصل في الثقافة والعربية المغربيتين، وتكون الجمل المجازية والهدايا المتعلقة بهما مجرد تجليات لهما. هذه الخطوة تؤمن لنا مبدأ الاقتصاد الذي يجب أن يراعى في تأسيس كل نظرية. فتحديد المفاهيم المجازية في أي لغة أو ثقافة أسهل بكثير من سرد كل الجمل والممارسات التي تخرج عن مقتضى الظاهر. إضافة إلى ذلك، فهذه الخطوة تمكننا من تفسير الطابع التوليدي للمجاز، إذ إن هناك دائما تشبيهات واستعارات وكنايات تبدو في ظاهرها جديدة إلا أنها غالبا ما تكون مرتبطة بإحدى المفاهيم المتجذرة في اللغة والثقافة. لقد كان الحنظل والعلقم، مثلا، رمزين للمرارة عند العرب القدامى. ورغم أن المغاربة استعاضوا عنهما بالقطران، إلا أن مفهوم المرارة لا زالت له الدلالة نفسها عند المغاربة كما عند العرب القدامى. وتجدر الإشارة إلى أن نظرية المفاهيم المجازية تعود إلى لايكوف و جونسون ( 1980 ) LAKOFF & JHONSON [3]. لقد أثار هذان الباحثان الانتباه إلى وجود أنساق مجازية في الإنجليزية، حيث يكثر الكلام، مثلا، عن " دحض " و " تدمير " و " مهاجمة " و " إسقاط " حجة معينة وكذلك " الدفاع عنها " و " تدعيمها " بالإضافة إلى " المواقع" و " الاستراتيجيات" التي يتبناها المتخاصمون، و" الهزائم "و " الانتصارات "، وما إلى ذلك. ويعزي Lakoff & Jhonson ( 1980 ) مفهوم المجاز لا إلى هذه التعابير في حد ذاتها، ولكن إلى مفهوم " الحجاج كحرب ".انطلاقا من هذا الزعم، يمكن أن نضع السلوك الرمزي والمجاز اللغوي في كفة واحدة وذلك بإرجاعهما إلى أصول موحدة كما سنبين ذلك في الفقرتين المواليتين.
رغم أننا خلصنا فيما سبق إلى أن السلوك الرمزي والمجاز اللغوي ليسا سوى تجليات لمفاهيم مجازية كامنة في اللغة والثقافة، إلا أننا يمكن أن نتساءل عن علاقات التأثير والتأثر بين التعبيرين. هل التعابير المجازية سابقة عن الممارسات الرمزية؟ أم أن هذه سابقة على الأولى ؟ هل يؤثر أحد النمطين التعبيريين في النمط الآخر؟ سنحاول فيما يلي الإجابة عن هذه الأسئلة وذلك من خلال النظر في مجالين مختلفين : الصراع بين الجنسين ومسح الأحذية.
2- الصراع بين الجنسين.
إذا نظرنا إلى المجاز اللغوي والممارسات الرمزية غير اللغوية في حد ذاتها، لا يبدو، من الناحية المبدئية، أن أحد هذين النمطين سابق عن الآخر أو أن التأثير فيما بينهما سيكون في اتجاه معين دون الآخر. غير أن الأمثلة التي سنعالج أسفله توضح أن المجاز اللغوي سابق عن الأنماط التعبيرية الأخرى، بل إنه هو الذي يؤثر فيها ويوجهها . في هذا الصدد تجدر الإحالة إلى ما خلصت إليه نادية محمد أبو زهرة من خلال مقارنتها بين تضرعات زائرات السيدة زينب بالقاهرة من جهة، وبين مختلف النذور التي تقدمنها للضريح. حيث تذهب الباحثة إلى أن الشموع والعطور والأقمشة البيضاء الشفافة، والتي تكون مجمل نذور الضريح، ما هي إلا تعبير مادي حسي لبلاغة النور والضوء التي تؤسس أدعية الزائرات وكذا القصائد الشعرية التي نظمت في مدح السيدة زينب. وهكذا يتضح أن الصور البلاغية هي التي تحدد طبيعة النذور المهداة. في نفس المنوال، سنذهب إلى أن المعتقدات السائدة في المغرب حول الصراع بين الرجل والمرأة هي نتيجة للتعابير المجازية المستعملة في وصف بعض تجليات هذه العلاقة.
يعتقد في الثقافة المغربية أن المرأة تستطيع أن تتغلب على سلطة الرجل وتسيطر عليه من خـلال جملة من الطقوس والممارسات السحرية. بالطبع، لا نتوخى ها هنا دراسة جميع أشكال هذه الطقوس والممارسات واستخراج البنيات الثقافية الكامنة وراءها، بل سنكتفي بمناقشة نوعين فقط وذلك على سبيل إيضاح ما نحن بصدده في هذه المقالة: يتعلق النوع الأول بالملابس الداخلية أما النوع الثاني فيتعلق بالأحذية وغيرها مما يوضع على القدم. بالنسبة إلى النوع الأول، يعتقد المغاربة عموما أن المرأة قد تخضع الرجل لسلطتها إن هي قدمت له طعاما فيه قطعا من الملابس الداخلية. لا ندعي أننا عاينا أو سجلنا حالات تضع هذا الاعتقاد قيد التطبيق، لكننا نعتقد أن شيوع معتقد ما كاف لدفع الناس لممارسته. بالإضافة إلى ذلك، فمثل هذه الشعوذة تمارس في سرية تامة، الشيء الذي يجعل ضبط حالات منها أمرا عسيرا. كما يعتقد أن من سمات الرجل الخنوع أن يغسل ملابس النساء الداخلية، وخاصة النساء اللواتي يخضع لهن. ويمكن الاستشهاد على ذلك بما أورده الكاتب المغربي محمد شكري في سيرته الذاتية '' الخبز الحافي'' حيث يروي أنه عندما كان خادما عند إحدى الأسر الفرنسية بوهران رفض قطعا أن يغسل تبابين سيدته وزوجها، الشيء الذي لم يفهمه هذان الأخيران. ويمكن أن نتساءل، كما تساءل سيدا شكري الخادم، لماذا يرفض الرجل المغربي أن يغسل الملابس الداخلية، ولماذا تعتقد النساء المغربيات أن في هذه الملابس قوة سحرية يمكن استغلالها لصالحهن. كما يمكن أن نتساءل لماذا هذه الملابس بالذات دون غيرها. نفس الشيء يمكن أن يقال عن الأحذية والجوارب. فالمغاربة يعتقدون أنها أيضا ذات فائدة للنساء اللواتي يعانين من اضطهاد أزواجهن لهن أو اللواتي يرغبن في الحصول على مزيد من الحرية والسلطة. أما طريقة استعمالها فإنها لا تختلف عن طريقة استعمال الملابس الداخلية، حيث ينصح بحشو قطع منها في الأطباق. كل هذه المعتقدات، وكذا الممارسات التي تنجم عنها، هي لا عقلانية برمتها، ويجب انتقادها، وذلك بالكشف عن أصولها وتحليلها حتى يتمكن الأفراد من التحرر من سلطتها.
كما أوضحنا في الفقرة الأولى، تجد كثير من المعتقدات أصولها في المجاز اللغوي. فموازاة مع المعتقدات والممارسات السحرية التي تتعلق بالصراع بين الرجل والمرأة، نجد في العربية المغربية مجموعة من التعابير تصب كلها في المنحى نفسه. إذ يقال مثلا " واكل السليبات"، "واكل الـگراسن" كيغسل السليبات / كيغسل الگراسن"، وما إلى ذلك، وكل هذه التعابير تدل مجازيا على أن شخصا معينا يخضع بذل لأوامر زوجته أو أوامر امرأة أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن بلاغة الملابس الداخلية، مثلها مثل بلاغة الحلاوة والبياض التي ناقشناها آنفاً، هي بلاغة ميتة من حيث إنها أصبحت متجذرة في الكلام الدارج ولم تعد تؤدي تلك الوظيفة الشعرية التي غالبا ما ترتبط بالصور البلاغية الجديدة. فهي بهذا شبيهة بعلاقة الشجاعة بالأسد والخسة بالضبع والمكر بالثعلب وغيرها من الأمثلة في اللغة العربية وفي لغات أخرى. ونحن إذ نشير إلى هذه الخاصية نريد أن نفصح عن اعتقادنا أن أية بلاغة، لكي تصبح فاعلة في الثقافة، لا بد أن تكون متجذرة في الكلام. إذ من الصعب أن نتصور مجازا من إبداع شاعر يرتقي في فترة وجيزة إلى درجة التأثير في الثقافة والسلوك الجماعي اللذان يعتبر جزء كبير منهما لا شعورياً. بل أكثر من ذلك، سنذهب إلى حد القول إن الكلام المجازي لن يكون ذا تأثير في الثقافة والسلوك الجماعيين إلا إذا أصبح لا مجازيا.
بعد أن أبرزنا التوازي بين المعتقدات السحرية المتعلقة بالصراع بين المرأة والرجل وبين بلاغة الملابس الداخلية، لا بد أن نتساءل هل أحد هذين الطرفين يؤثر في الطرف الآخر. في هذا الصدد، من السهل جدا أن ندرك أن الملابس الداخلية لها إيحاءات جنسية وذلك لأنها تغطي المناطق الأكثر شهوانية في جسم الإنسان. وما دامت المرأة في المجتمعات التقليدية لا تملك من قوة إلا قوة جسدها، فقد غدا الرجال يحتاطون من هذه القوة وما تمثله من تهديد لرجولتهم وصلابتهم وخشونتهم. في ظل هذه الثقافة الرجولية، يبدو أن بلاغة الملابس الداخلية لم تكن سوى كناية عن خضوع الرجل لقوة المرأة الجنسية، ولم تكن قط وصفا لواقع. فقولنا '' فلان كلا السليبات'' لا يعني قطعا أننا نعتقد أن فلانا تناول بالفعل تبابينا، بل فقط أنه يطيع امرأة بما تعنيه هذه الطاعة من انتقاص لرجولته. وكذلك إذا قلنا '' فلان تيغسل السليبات'' فكلامنا ليس إخبارا بل تعليقا عن شخصية هذا الفلان. ورغم أننا لا نستطيع أن نحدد على وجه التدقيق الفترة التي بدأ فيها الاعتقاد أن تناول الملابس الداخلية يضعف شخصية الرجل تجاه المرأة، ولا الكيفية التي بدأ بها، إلا أنه يمكن أن نستخلص أن ذلك ارتبط بالفهم الحرفي للتعابير المتضمنة لبلاغة الملابس الداخلية. فأصحاب هذا الاعتقاد يفهمون تلك التعابير لا على أنها مجازية بل على مقتضى ظاهرها. وهكذا انتقل الاهتمام من العبارة إلى الشيء / الفعل في حد ذاته، وذلك عبر عملية تطبيع naturalisation [4] بين دلالة الشيء الأولية ودلالته الرمزية. ويمكن توضيح عملية التطبيع هاته بالشكلين التاليين:
الشكل 1: تبان دلالة أولية (ستر الأعضاء الجنسية )
دلالة رمزية ( سلطة المرأة )
الشكل 2: تبان دلالة أولية 1 - ستر الأعضاء الجنسية
2 - سلطة المرأة
ففي الشكل الأول، يؤدي التبان وظيفة رمزية بينما في الشكل الثاني أدمجت هذه الوظيفة ضمن دلالته الأولية، أي أصبح بحكم طبيعته يؤدي وظيفتين. وهكذا، فعملية التطبيع توهم أن التبان انتقل من عالم الثقافة إلى عالم الطبيعة وبذلك يمكن تشبيهه باللحم مثلا كما في الشكل 3:
الشكل 3: لحم دلالة أولية 1 - درء الجوع
2 - بناء العضلات
فأكل اللحم يسد الرمق ويقوي الجسم لا بحكم الثقافة ولكن بحكم محتوياته الغذائية. ويتضح مما سلف أن إدماج الدلالة الرمزية ضمن الدلالة الأولية ليست عملية فجائية ولكنها تتطلب استعمالا شائعا لبلاغة معينة وتجذرها لدرجة خفوت مجازيتها أو انتفائها.
وإذا تأملنا شعوذة الأحذية والجوارب فسنتوصل إلى الخلاصة نفسها وهي 1 - أن هذه الاعتقادات مرتبطة بالمجاز اللغوي، و 2 - أنها نتيجة عملية تطبيع لدلالة الأشياء الرمزية. فموازاة مع الاعتقاد أن أكل قطع من الأحذية والجوارب يضعف شخصية الرجل اتجاه المرأة، هناك تعابير في العربية المغربية تشير إلى هذه الأشياء وكلها تفيد الخضوع لسلطة النساء. إذ يقال مثلا '' واكل الصبابط / الصنادل / السبرديلات /التقاشر ...الخ) و لا يفهم من ذلك أن شخصا معينا تناول بالفعل هذه الأشياء، ولكن فقط أنه يطيع امرأة ما طاعة عمياء. غير أن هذه التعابير ونتيجة لتجذرها في الاستعمال اليومي، أصبحت توهم أن الأحذية والجوارب بإمكانها أن تؤدي بالفعل الوظيفة التي لم تكن تؤديها إلا مجازيا على مستوى التعبير اللغوي. نستخلص من هذا الوضع أن الأحذية والجوارب كانت لها وظيفة رمزية في البداية وأن هذه الوظيفة أدمجت بعد ذلك ضمن قائمة الوظائف الطبيعية نتيجة لعملية التطبيع التي ذكرناها سابقا.
قد يتساءل القارئ لماذا فصلنا بين الملابس الداخلية وبين الأحذية والجوارب رغم أنها جميعا تعبر عن نفس المعتقد ولها طريقة استعمال واحدة؛ ذلك لأن الأحذية والجوارب، وخلافا للملابس الداخلية، لا ترتبط بالصراع بين الجنسين فقط، بل بمواقف وسلوكات اجتماعية أخرى من جملتها مكانة ماسح الأحذية في الثقافة والمجتمع المغربيين. إننا نعتقد أن احتقار واستصغار مسح الأحذية كمهنة ليس سوى نتيجة للمجاز الذي يشكل جزءا هاما من الثقافة، وهذا ما سنوضحه في الفقرة الموالية.
3 - بلاغة القََََََدَم : دفاعا عن ماسح الأحذية
في الثقافة المغربية كما في كثير من الثقافات الأخرى، تعتبر مهنة مسح الأحذية من أحقر المهن على المستوى الاجتماعي.غير أننا لو تساءلنا عن مبررات هذا الموقف، فلن نجد أجوبة شافية على مستوى الوعي الجمعي، بل إن جميع الأفراد يتبنون هذا الموقف فقط لأن المجتمع ككل يفعل ذلك. لهذا، فإن البحث في هذا المعتقد سينقلنا من مستوى الوعي إلى مستوى اللاوعي الجمعي.
في البداية لا بد أن نشير إلى أن هناك تعابيراً في الدارجة المغربية تشير إلى الحذاء وتفيد الذل والاحتقار والتملق. منها مثلا '' مسح السباط '' ، '' تحت السباط ''...الخ وكلها متجذرة في الاستعمال اليومي حيث إن استنباط معناها المجازي من معناها الظاهر لا يتطلب مجهودا من السامع كما هو الشأن في الصور الشعرية الجديدة. إلى جانب هذه التعابير، هناك تعابير أخرى تدور حول القدم وتفيد بدورها الذل والتملق والخضوع مثل '' غسل الرجلين '' ، '' بوس الرجلين ''، '' ركع تحت الرجلين '' ، '' طيح على الرجلين '' ...الخ. ولا يخفى أن هذه التعابير مرتبطة ببعضها البعض، بل يبدو أن بلاغة الحذاء ليست سوى تجليا وامتدادا لبلاغة القدَم. فالسجود والانحناء كانا يدلان على الطاعة والاستسلام منذ القدم حتى قبل أن يمتهن الناس مسح الأحذية، وكذلك كان تقبيل القدمين. وإذا تأملنا السياقات التي تعكسها هذه التعابير سنجد ثمة علاقة سلطة بين الساجد والمسجود له، بين المنحني والمنحنى له، بين الذي يقبل القدمين وصاحبها. بل إن عنصر السلطة من السمات المميزة للانحناء والسجود وتقبيل القدمين من حيث كونها رموز تعبيرية. فإذا اعتبرنا أن الانحناء والسجود ليسا سوى صيغتين ضعيفتين من تقبيل القدم، خلصنا إلى أن هذه التعابير والرموز تعكس مفهوم '' القدَم كرمز للخضوع''.
وبالنظر الدقيق إلى مواقف المغاربة من مسح الأحذية، يتبين أنها بدورها ليست سوى تجليا لمفهوم '' القدم كرمز للخضوع ''. وهناك مجموعة من الحجج التي تدعم هذا الاعتقاد. من ذلك مثلا أن الذين يطلبون خدمة ماسح الأحذية ينتابهم شعور بالزهو والاستعلاء حين ينظرون إليه وهو يلمع أحذيتهم، وفي أحسن الأحوال فإنهم يجتهدون لقمع هذا الشعور فيهم، في حين لا شيء من هذا القبيل يحدث حين يطلبون خدمة الإسكافي مثلا. وهذا مثير للانتباه خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن ماسح الأحذية والإسكافي على حد سواء يعملان على نفس الأشياء وهي الأحذية. وما يثير الانتباه أيضا هو أن بعض الناس يخلعون أحذيتهم أولا قبل أن يقدموها لماسح الأحذية ليلمعها وذلك استحياء وتواضعا. وهذه الظاهرة بالذات لا تدع مجالا للشك أن مواقف الاحتقار والاستصغار في حق ماسحي الأحذية لا يمكن فهمها إلا بالرجوع إلى ما يمثله الانحناء على القدم من ذل وخضوع.
ونحن إذ نعزو هذه المواقف إلى المجاز اللغوي عوض التعابير الجسدية فذلك لسببين رئيسيين: أولا لأن الانحناء في اتجاه القدم كتعبير رمزي ناذر في الحياة اليومية للمغاربة مما يحد من مدى تأثيره، وثانيا لأن العبارات اللغوية المتضمنة لبلاغة القدم أوسع انتشارا واستعمالا، بل هي التي تضمن انتقال القيم من مجموعة بشرية إلي أخرى ومن جيل لآخر. بالإضافة إلى ما سبق، فموقف المغاربة من مسح الأحذية يحمل في طياته مغالطة يتبين من خلال الكشف عنها أن المجاز اللغوي ( وليس الانحناء أو السجود ) هو المسؤول الرئيسي عن مثل هذه المواقف. فإذا كان السجود أو تقبيل القدمين يفترضان وجود علاقة سلطوية بين المسجود له والساجد وبين صاحب القدمين والذي يقبلهما، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، فإنه لا وجود لمثل هذه العلاقة بين ماسح الأحذية وبين الذين يطلبون خدمته. وإذا كان السجود والانحناء يدلان على الخضوع لسلطة ما، فإن مسح الأحذية ليس كذلك، فالسجود والانحناء وسيلتين تعبيريتين أما مسح الأحذية فمهنة.
يتضح مما سلف أن مفهوم '' القدم كرمز للخضوع '' له تجليات عديدة إن على مستوى المجاز اللغوي أو على مستوى التعبير الجسدي وثقافة المجتمع المغربي. فهو الذي يكمن وراء السجود والانحناء وتقبيل القدمين كتعابير رمزية، كما يتجلى في العديد من العبارات المجازية في العربية المغربية. وأوضحنا كذلك أن موقف المغاربة المستصغر لماسحي الأحذية وكذلك بعض معتقداتهم حول الصراع بين الجنسين (وخاصة تلك التي تتعلق بقوة الأحذية والجوارب في إخضاع الرجل لسلطة المرأة) ليست سوى تجليات لهذا المفهوم الذي يعمل بشكل لا شعوري في سلوك المغاربة.
خلاصة:
في هذا المقال، تطرقنا لعلاقة المجاز اللغوي بالسلوك البشري وأوضحنا أن هذه العلاقة وطيدة إلى حد كبير وذلك من خلال دراسة ثلاث حالات كما تتجلى في الثقافة والعربية المغربيتين: 1- الهدايا، 2 - الصراع بين الجنسين و 3 - مسح الأحذية. كما بينا أن المجاز اللغوي قد يكون ذا تأثير على سلوك وقيم المجتمعات. بقي أن نضيف أن علاقة المجاز بالسلوك لا زال يكتنفها الغموض وأنه يتعين بذل المزيد من الجهد لفهمها.




[1] - انظر: Cooper ( 1986 ) Metaphor. Basil Blackwell
[2] - على الأقل قبل أن تهب عليها رياح العصرنة الآتية من الغرب.
[3] Lakoff & Jhonson ( 1980 ) Metaphors We live by . University of Chicago Press
[4]- انظر نقد بارت للمجاز في Mythologies
10-08-2007, 12:31 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  سلطة القلم سامي بيك العلي 0 699 11-20-2010, 07:52 PM
آخر رد: سامي بيك العلي
  الشعر العربي بين سلطة المعيار ولذة الانزياح التجاني بولعوالي 4 1,152 12-26-2006, 07:12 PM
آخر رد: محارب النور

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS