الرسالة الوجودية
في معنى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم
"مَن عَرَفَ نفسَه فقد عَرَفَ ربَّه"
للسيد الإمام العالم المحقِّق صاحب الشريعة والحقيقة
محيي الدين أبي عبد الله محمد بن العربي
الطائي الحاتمي الأندلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
في معنى قول النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم –: "مَن عَرَفَ نفسَه فقد عَرَفَ ربَّه"
الحمد لله الذي لم يكن قبل وحدانيته قبلُ إلا والقبل هو، ولم يكن بعد فردانيَّته بَعْدُ إلا والبَعْد هو. كان ولا بَعْد معه ولا قبل، ولا فوق ولا تحت، ولا قُرْب ولا بُعْد، ولا كيف، ولا أين ولا حين، ولا أوان ولا وقت ولا زمان، ولا كون ولا مكان، وهو الآن كما كان.
هو الواحد بلا وحدانية، وهو الفرد بلا فردانية. ليس مركَّبًا من الاسم والمسمَّى: هو الأول بلا أولية وهو الآخِر بلا آخِرية، وهو الظاهر بلا ظاهرية وهو الباطن بلا باطنية؛ أعني أنه هو وجود حروف "الأول" وهو وجود حروف "الآخِر"، وهو وجود حروف "الباطن" وهو وجود حروف "الظاهر". فلا أول ولا آخِر ولا ظاهر ولا باطن إلا وهو بلا صيران. هذه الحروف وجوده، وصيران وجوده هذه الحروف. – فافهم هذا لئلا تقع في غلط الحلولية.
لا هو في شيء، ولا شيء فيه، لا داخلاً ولا خارجًا. ينبغي أن نعرفه بهذه الصفة، لا بالعلم ولا بالعقل، ولا بالفهم ولا بالوهم ولا بالعين، ولا بالحسِّ الظاهر ولا بالعين الباطن ولا بالإدراك. لا يراه إلا هو، ولا يدركه إلا هو، ولا يعلمه إلا هو بنفسه، وبنفسه يعرف نفسه؛ يرى نفسه، لا يراه أحدٌ غيره.
حجابه وحدانيته، فلا يحجبه شيءٌ غير حجابه. وجوده وحدانيته، تستَّر بوحدانيته بلا كيفية. لا يراه أحدٌ غيره: لا نبي مرسل، ولا ولي كامل، ولا مَلَك مقرَّب يعرفه. نبيُّه هو، ورسوله هو، ورسالته هو، وكلامه هو: أرسلَ نفسَه بنفسه من نفسه إلى نفسه، لا واسطة ولا سبب غيره، ولا تفاوُت بين المرسِل والمرسَل به والمرسَل إليه. وجود حروف الثناء وجوده لا غير، لا ثناؤه ولا اسمه ولا مُسمَّاه.
ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم –: "عرفت ربِّي بربِّي، مَن عرف نفسَه فقد عرف ربَّه."[22] وقال – صلى الله عليه وسلم –: "عرفت ربِّي بربِّي." أشار – صلى الله عليه وسلم – بذلك أنك لست أنت، <بل> أنت هو بلا أنت: لا هو داخل فيك ولا هو خارج منك، ولا أنت خارج منه ولا أنت داخل فيه؛ ولا بذلك أنك موجود وصفتك هكذا أبدًا: غني به. إنك ما كنت قط ولا تكون، لا بنفسك ولا فيه ولا معه، ولا أنت فانٍ ولا موجود. أنت هو، وهو أنت، بلا علَّة من هذه العلل. فإن عرفتَ وجودك بهذه الصفة فقد عرفتَ الله. – وإلا فلا.
وأكثر العُرَّاف أضافوا معرفة الله – تعالى – إلى فناء الوجود وفناء الفناء[23] – وذلك غلط وسهو واضح: فإن معرفة الله – تعالى – لا تحتاج إلى فناء الوجود ولا إلى فناء فنائه، لأن الشيء لا وجود له، وما لا وجود له لا فناء له؛ فإن الفناء بعد إثبات الوجود. فإذا عرفت نفسك بلا وجود ولا فناء فقد عرفتَ الله. – وإلا فلا.
وفي إضافة معرفة الله – تعالى – إلى فناء الوجود وإلى فناء فنائه إثباتُ الشرك، لأنك إذا أضفت معرفة الله إلى فناء الوجود وفناء الفناء، كان الوجود لغير الله ونقيضه – وهناك شرك واضح، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "مَن عرف نفسَه فقد عرف ربَّه"، ولم يقل: "مَن فني عن نفسه عرف ربَّه." فإن إثبات الغير يناقض فناءه، وما لا يجوز ثبوتُه لا يجوز فناؤه. وجودك لا شيء، واللاشيء لا يُضاف إلى شيء، لا فانٍ ولا غير فانٍ، ولا موجود ولا معدوم. <أنت> الآن كما كنتَ معدَمًا قبل التكوين. فالآن الأزل، والآن الأبد، والآن القِدَم. فالله هو وجود الأزل ووجود الأبد ووجود القِدَم؛ فإنه بلا وجود الأزل والأبد والقِدَم لم يكن كذلك ما كان وحده لا شريك له. وواجب أن يكون وحده لا شريك له: فإن "شريكه" هو الذي يكون وجودُه بذاته، لا بوجود الله؛ ومَن يكن كذلك لم يكن محتاجًا إليه، فيكون إذًا ربًّا ثانيًا – وذلك محال: فليس لله شريك ولا ندٌّ ولا كفؤ. ومَن رأى شيئًا مع الله أو من الله أو في الله – وذلك الشيء يحتاج إلى الله بالربوبية – فقد جعل ذلك الشيء أيضًا شريكًا يحتاج إلى الله بالربوبية. ومن جوَّزَ أن يكون مع الله شيءٌ يقوم بنفسه، أو يقوم به، أو هو فانٍ عن وجوده أو عن فنائه، فهو بعدُ ما شمَّ رائحة معرفة النفس، لأن مَن جوَّزَ أن يكون موجودًا سواه، قائمًا به، فيه يصير فانيًا في فنائه، فتسلسل الفناء بالفناء، – وذلك شِرْك بعد شِرْك، وليس بمعرفة النفس، – هو مُشْرِك، لا عارف بالله ولا بنفسه.
فإنْ قال قائل: "كيف السبيل إلى معرفة النفس وإلى معرفة الله؟"، فالجواب: سبيل معرفتها أن تعلم وتتحقق أن الله – عزَّ وجل – كان ولم يكن معه شيء، وهو الآن كما كان. فإنْ قال قائل: "أنا أرى نفسي غير الله، ولا أرى الله نفسي"، فالجواب: أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – بـ"النفس" وجودَك وحقيقتك، لا النفس المسمَّاة بـ"الأمَّارة" و"اللوَّامة" و"المطمئنة" [يوسف 53، القيامة 2، الفجر 27]؛ بل أشار بـ"النفس" إلى ما سوى[24] الله جميعًا، كما قال – صلى الله عليه وسلم –: "اللهم أرِني الأشياء كما هي": عبَّر بالأشياء عما سوى الله – سبحانه وتعالى –، أي عرِّفْني ما سواك لأعلم وأعرف الأشياء أيَّ شيء هي: أهي أنت أم غيرك، أهي قديم باقٍ أم حادث فانٍ؟ فأراه الله – تعالى – ما سواه نفسَه بلا وجود ما سواه، فرأى الأشياء "كما هي"؛ أعني الأشياء ذات الله – تعالى – بلا كيف ولا أين.
واسم الأشياء يقع على النفس وغيرها من الأشياء. فإن وجود النفس ووجود الأشياء سيَّان في الشيئية: فمتى عرف الأشياءَ عرف النفس، ومتى عرف النفسَ فقد عرف الربَّ، لأن الذي يظن أنَّـ<ـه> سوى الله ليس هو سوى الله. ولكنك لا تعرف وأنت تراه، ولا تعلم أنك تراه. ومتى يكشف لك هذا السر، علمتَ أنك لست ما سوى الله، وعلمت أنك كنت مقصودًا، وأنك لا تحتاج إلى الفناء، وأنك لم تزل ولا تزال، بلا حين ولا أوان، كما ذكرنا قبل. جميع صفاته صفاتك، وترى ظاهرَك ظاهرَه وباطنَك باطنَه، وأولك أولَه وآخِرَك آخِرَه، بلا شك ولا ريب؛ وترى صفاتِك صفاتِه وذاتَك ذاتَه، بلا صيرورتك إيَّاه وصيرورته إيَّاك، ولا بقليل ولا بكثير.
"كلُّ شيء هالكٌ إلا وجَهه" [القصص 88]، بالظاهر والباطن، يعني: لا موجود إلا هو؛ ولا وجود لغيره فيحتاج إلى الهلاك. و"يبقى وجهُه" [الرحمن 27] يعني: لا شيء إلا وجهه. فكما أن مَن لم يعرف شيئًا، ثم عَرَفَه، ما فني وجودُه بوجود آخر، ولا تركَّب وجودُ المُنكِر بوجود العارف، ولا تداخَل بالأثر. <هنا> يقع الجهل: فلا تظن أنك تحتاج إلى الفناء؛ فإن احتجت إلى الفناء فأنت إذًا حجابه – والحجاب غير الله؛ فليزم غلبةُ غيره عليه بالدفع عن رؤيته له. – وهذا غلط وسهو.
قد ذكرنا قبل أن حجابه وحدانيته وفردانيَّته لا غير. ولهذا أجاز للواصل إلى الحقيقة أن يقول: "أنا الحق" وأن يقول: "سبحاني". وما وصل واصلٌ إليه إلا ورأى صفاتِه صفاتِ الله، وذاتَه ذاتَ الله، بلا كون صفاتُه ولا ذاتُه داخلاً في الله أو خارجًا منه قط، ولا أنه فانٍ من الله أو باقٍ في الله، <أو> يرى نفسه أنْ لم يكن له <وجود> قط لأنه كان ثم فني؛ فإنه لا نفس إلا نفسه، ولا وجود إلا وجوده. وإلى هذا أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: "لا تسبُّوا الدهر، فإن الله هو الدهر"، ونزَّه الله – تبارك وتعالى – عن الشريك والند والكفؤ.
ورُوِيَ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "إن الله – تعالى – قال: يا ابن آدم، مرضتُ ولم تَعُدْني، وسألتكَ ولم تُعطِني": أشار إلى أن وجودَ السائل وجودُه، ووجودَ المريض وجودُه. فمتى جاز أن يكون وجودُ السائل وجودَه ووجودُ جميع الأشياء من المكوَّنات من الأعراض والجواهر وجودَه، ومتى ظهر سرُّ ذرة من الذرات، ظهر سرُّ جميع المكوَّنات الظاهرة والباطنة؛ ولا نرى الذرين سوى الله، بلا وجود الذرين، اسمهما ومسمَّاهما، بل اسمهما ومسمَّاهما ووجودهما كلهما هو، بلا شك ولا ريب.
ولا ترى أنه – تعالى – خلق شيئًا قط، بل ترى "كلَّ يوم هو <في> شأنٍ" [الرحمن 29] من إظهار وجوده وإخفائه بلا كيفية، لأنه "هو الأول والآخِر والظاهر والباطن وهو بكلِّ شيء عليم" [الحديد 3]: ظهر بوحدانيته وبَطُنَ بفردانيَّته، وهو الأول بذاته وقيوميَّته وهو الآخِر بديموميَّته. وجود حروف "الأول" هو ووجود حروف "الآخِر" هو، ووجود حروف "الظاهر" هو ووجود حروف "الباطن" هو؛ هو اسمه وهو مسمَّاه.
وكما يجب وجودُه يجب عدمُ ما سوى: فإن الذي تظن أنه سواه ليس سواه، – تَنَزَّه أن يكون غيره، – بل غيرُه هو، بلا غيرية الغير، مع وجوده وفي وجوده، ظاهرًا وباطنًا.
ولِمَنِ اتصف بهذه الصفة أوصافٌ كثيرة لا حدَّ ولا نهاية لها. فكما أن مَن مات بصورته انقطع جميعُ أوصافه عنه، المحمودة والمذمومة، كذلك مَن مات بالموت المعنوي[25] ينقطع عنه جميعُ أوصافه، المذمومة والمحمودة، ويقوم الله – تعالى – مقامَه في جميع الحالات، فيقوم مقامَ ذاته ذاتُ الله – تعالى – ومقامَ صفاته صفاتُ الله – تعالى –. ولذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم –: "موتوا قبل أن تموتوا"، أي اعرفوا أنفسكم قبل أن تموتوا؛ وقال – صلى الله عليه وسلم –: "قال الله تعالى: لا يزال العبد يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبُّه، فإذا أحببتُه كنت له سمعًا وبصرًا ويدًا"، إلى آخره، فأشار إلى أن مَن عرف نفسه يرى جميع وجوده، ولا تغيرًا في ذاته ولا صفاته. ولا يحتاج إلى تغيُّر صفاته، إذ لم يكن هو وجود ذاته، بل كان جاهلاً بمعرفة نفسه. فمتى عرفتَ نفسَك ارتفعتْ أنانيتُك، وعرفت أنك لم تكن غير الله[26]. فإنْ كان لك وجود مستقل، لا يحتاج إلى الفناء ولا إلى معرفة النفس، فتكون ربًّا سواه. فتبارك الله – تعالى – أن يوجَد ربٌّ سواه.
ففائدة معرفة النفس أن تعلم وتحقِّق أن وجودك ليس موجودًا ولا معدومًا، ولست كائنًا ولا كنت ولا تكون قط. ويظهر لك بذلك معنى "لا إله إلا الله" [الصافات 35]: إذ لا إله غيره، ولا وجود لغيره؛ فلا غير سواه، ولا إله إلا إيَّاه. فإن قال قائل: "عطَّلتَ ربوبيتَه"، فالجواب: لم أعطِّل ربوبيته لأنه لم يزل ربًّا – ولا مربوب – ولم يزل خالقًا – ولا مخلوق –، وهو الآن كما كان. أترى خلاقته وربوبيته لا تحتاج إلى مخلوق ولا إلى مربوب: فهو بتكوين المكوَّنات كان موصوفًا بجميع أوصافه، وهو الآن كما كان. فلا تفاوُت بين الجهة والقِدَم: فوحدانية الجهة مقتضى ظاهريته، ووحدانية القِدَم مقتضى باطنيَّته. ظاهرُه باطنُه وباطنُه ظاهرُه، أولُه آخِرُه وآخِرُه أولُه، والجميع واحد والواحد جميع. كان صفته "كلَّ يوم هو في شأنٍ"، وما كان شيء سواه، وهو الآن كما كان. ولا موجود لما سواه بالحقيقة، كما كان في الأزل والقِدَم. "كل يوم هو في شأن"، ولا شيء موجود: فهو الآن كما كان. فوجودُ الموجودات وعدمُها سيَّان – وإلا لَلَزِمَ طيران طار لم يكن في وحدانيَّته، وذلك نقص. – وجلَّت وحدانيته عن ذلك.
ومتى عرفت نفسَك بهذه الصفة، من غير إضافة ضدٍّ أو ندٍّ أو كفؤ أو شريك إلى الله – تعالى – فقد عرفتَها بالحقيقة. ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم –: "مَن عرف نفسَه فقد عرف ربَّه"، ولم يقل: "مَن أفنى نفسَه فقد عرف ربَّه." فإنه – صلى الله عليه وسلم – علم ورأى أن لا شيء سواه، ثم أشار إلى أن معرفة النفس هي معرفة الله – تعالى –، أي اعرف نفسك، أي وجودك أنك لست أنت، ولكنك لا تعرف؛ أي اعرف أن وجودك ليس بوجودك ولا غير وجودك: فلست بموجود ولا بمعدوم، ولا غير موجود ولا غير معدوم. وجودُك وعدمُك وجودُه بلا وجود ولا عدم، لأن عينَ وجودك وعدمك وجودُه، ولأن عينَ وجوده وجودُك وعدمُك.
فإنْ رأيتَ الأشياء بلا رؤية شيء آخر مع الله – تعالى – وفي الله أنها هو، فقد عرفتَ نفسَك. فإن معرفة النفس بهذه الصفة هي معرفة الله – بلا شك ولا ريب ولا تركيب شيء من الحدث مع القديم وفيه وبه. فإن سألك سائل: "كيف السبيل إلى وصاله؟ – فقد أثبتَّ أن لا غير سواه، والشيء الواحد لا يصل إلى نفسه"، فالجواب: لا شكَّ أنه في الحقيقة لا وَصْل ولا فَصْل، ولا بُعْد ولا قُرْب، لأنه لا يمكن الوصال إلا بين اثنين: فإن لم يكن إلا واحد، فلا وَصْل ولا فَصْل. فإن الوصال يحتاج إلى اثنين متساويين: فهما شبهان، وإن كانا غير متساويين فهما ضدَّان؛ وهو – تعالى – منزَّه أن يكون له ضد أو ند. فالوصال في غير الوصال، والقُرْب في غير القُرْب، والبُعد في غير البُعد، فيكون وَصْلٌ بلا وَصْل، وقُرْب بلا قُرْب، وبُعْد بلا بُعْد.
فإن قيل: "فهمنا الوَصْلَ بلا وَصْل. فما معنى القُرْب بلا قُرْب والبُعْد بلا بُعْد؟"، فالجواب: أعني أنك، في أوان القُرْب والبُعْد، لم تكن شيئًا سواه، ولكنك لم تكن عارفًا بنفسك ولم تعلم أنك هو بلا أنت. فمتى وصلتَ إلى الله – تعالى –، أي عرفتَ نفسَك بلا وجود حروف العرفان، علمتَ أنك كنت إيَّاه، وما كنت تعرف قبل أنك هو أو غيره. فإذا حصل العرفان، علمتَ أنك عرفت الله بالله، لا بنفسك.
مثال ذلك: هَبْ بمعنى أنك لا تعرف بأن اسمك محمود أو مسمَّاك محمود – فإن الاسم والمسمَّى في الحقيقة واحد –، وتظن أن اسمك محمد، وبعد أحيان عرفت أنك محمود، فوجودك باقٍ، واسم محمد ومسمَّى المحمود ارتفع عنك بمعرفتك نفسك أنك محمود. (ولم تكن محمدًا إلا بالفناء عن نفسك، لأن الفناء يكون بعد إثبات وجود ما سواه؛ ومَن أثبت وجودَ ما سواه فقد أشرَكَ به – تبارك وتعالى.) فما نقص من المحمود شيء، ولا محمد فني في المحمود، ولا دخل فيه ولا خرج منه، ولا حلَّ محمود في محمد. فبعدما عرف المحمودُ نفسَه أنه محمود، لا محمد، عرف نفسَه بنفسه، لا بمحمد، لأن محمدًا ما كان، فكيف يعرف به شيئًا كائنًا؟ فإذن العارف والمعروف واحد، والواصل والموصول واحد، والرائي والمرئي واحد. فالعارف صفتُه والمعروف ذاتُه، والواصل صفتُه والموصول ذاتُه، والصفة والموصوف واحد.
هذا بيان "مَن عرف نفسه فقد عرف ربَّه": فمَن فهم هذا المثال علم أنه لا وَصْل ولا فَصْل، وعلم أن العارف هو والمعروفَ هو، والرائي هو والمرئي هو، والواصل هو والموصول هو. فما وصل إليه غيرُه، وما انفصل عنه غيرُه. فمَن فهم ذلك خلص من شَرَك الشِّرْك. – وإلا فلم يشم رائحة الخلاص من الشرك.
وأكثر العُرَّاف الذين ظنوا أنهم عرفوا نفوسهم وعرفوا ربَّهم، وأنهم خلصوا من غفلة الوجود، قالوا إن الطريق لا تتيسَّر إلا بالفناء وبفناء الفناء، وذلك لعدم فهمهم قولَ النبي – صلى الله عليه وسلم – ولظنِّهم أنهم – بمحض الشرك – أشاروا طورًا إلى نفي الوجود، أي فناء الوجود، وطورًا إلى الفناء، وطورًا إلى فناء الفناء، وطورًا إلى المحو، وطورًا إلى الاصطلام[27] – وهذه الإشارات كلها شِرْك محض: فإن مَن جوَّز أن يكون شيءٌ سواه ويفنى بعده، وجوَّز فناءَ فنائه، فقد أثبت شيئًا سواه؛ ومَن أثبت شيئًا سواه فقد أشرك به – تعالى –. – أرشدهم الله وإيَّانا إلى سواء السبيل.
شعر
ظنـنتَ ظـنـونًـا بأنَّـك أنـتَ * ومـا أن تكـونَ ولا قـط كنـتَ
فـإنْ أنـت أنـتَ فـإنَّــك ربٌّ * وثـانـي اثنـيـن، دَعْ ما ظننتَ
فـلا فـرق بيـن وجـوديـكمـا * فمـا بـانَ عنك ولا عنـه بِنْـتَ
فإن قلتَ – جهلاً – بأنَّـك غيـرَه * حَسُنْتَ، وإنْ زال جـهـلُك كُنـتَ
فوصـلُك هَجْـرٌ وهجـرُك وَصْـلٌ * وبُعدُك قُـرْب – بهـذا حَـسُـنْتَ
دَعِ العقـلَ وافهمْ بنـور انكـشـ * ـافٍ – ليلى تفوقُ ما عنه وصفتَ
ولا تُـشْـرِكْ مــع الله شـيـئًا * لئـلاَّ تهـونَ – فالشـرك هُـنْتَ
فإنْ قال قائل: "أنت تشير إلى أن عرفانك نفسَك هو عرفان الله – تعالى –، والعارف بنفسه غير الله، وغير الله كيف يعرف الله وكيف يصل إليه؟"، فالجواب: مَن عرف نفسَه علم أن وجوده ليس بوجوده ولا غير وجوده، بل وجودُه وجود الله بلا صيرورة، وجودُه وجود الله بلا دخول، وجودُه في الله ولا خروج منه. ولا يكون وجودُه معه وفيه، بل يرى وجودَه بحاله: ما كان قبل أن يكون، بلا فناء، ولا محو، ولا فناءِ فناء. فإن فناء الشيء بقدرة الله – تعالى –؛ وهذا محالٌ واضح صريح. فتبيَّن أن عرفان العارف بنفسه هو عرفان الله – سبحانه وتعالى – نفسُه، لأن نفسه ليس إلا هو. وعنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بـ"النفس" الوجود. فمَن وصل إلى هذا المقام، لم يكن وجودُه في الظاهر والباطن وجودَه، بل وجودُه وجود الله، وكلامُه كلام الله، وفعلُه فعل الله، ودعواه معرفة الله هو دعواه معرفة الله نفسَه بنفسه. ولكنك تسمع الدعوى منه، وترى الفعل منه، وترى غير الله كما ترى نفسَك غير الله، بجهلك بمعرفة نفسك. فإن "المؤمن مرآة المؤمن": فهو بعينه، أي ينظره؛ فإن عينَه عينُ الله، ونظرَه نظرُ الله بلا كيفية: لا هو هو بعينك أو علمك أو فهمك أو وهمك أو ظنك أو رؤيتك، بل هو هو بعينه وعلمه ورؤيته. فإنْ قال قائل: "إنِّي الله، فإن الله يقول: إنِّي الله"، فالجواب: لا هو، ولكنك ما وصلتَ إلى ما وصل إليه؛ فإنْ وصلتَ إلى ما وصل إليه، فهمتَ ما يقول، وقلتَ ما يقول، ورأيتَ ما يرى.