حركة الاصلاح العربية
فلسفة التنوير حركة ثقافية أوروبية من أهم الحركات التي عاشتها البشرية, وقد تطورت و نمت هذه الحركة في أوروبا, و في فرنسا و ألمانيا على وجه التحديد على مدى نصف قرن (1700-1770), وقد كان لهذه الحركة الأثر الكبير على نمط العيش في ذلك العصر و في العصور التالية.
لقد أخذت هذه الحركة العديد من الأوجه و لكن الخاصية التي كانت أكثر حضور هي نقدها للدين و لطريقة الحكم. لقد واجه الفكر التنويري و بقوة العقلية الدينية السائدة في ذلك الوقت كما كان نقدهم للاستبداد لا يقل حدة على نقدهم للدين, وكانت عقيدتهم هي العقل و لا شيء غير العقل, وهذا ما يفسر كونية هذه الحركة.
الطابع العملي لهذه الحركة ( خاصة في فرنسا) جعل منها أساس الحضارة الغربية السائدة اليوم. فما يسمى بالحداثة هي نتاج هذا الفكر التنويري.
كانت المجتمعات العربية في القرن الثامن عشر, - قرن التنوير و العقل في أوروبا- ومنذ قرون سابقة في سبات عميق و في قطيعة مع الإسلام العالم, وكانت الثقافة الصوفية الشعبية هي الثقافة السائدة. لقد كنا بعيدين عن العصر الذهبي عصر الدولة العباسية الذي كان يشبه إلى حد كبير عصر التنوير الغربي, حيث الحوارات حول الإيمان و العقل, و تعدد المدارس الفكرية, من معتزلة وزنادقة و غيرهم من المدارس الفلسفية حتى الإلحادية منها.السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا لم ينتج عن هذه الحركة الفكرية الإسلامية حضارة عقلانية متفتحة كما حصل بعد ذلك كنتيجة للحركة التنويرية الغربية؟ بل العكس الذي حصل, لقد مرت حضارتنا بعد هذا العصر الذهبي إلى تغييب العقل و العقلانية و الغرق في الحنبلية و وريثتها الوهابية من ناحية و في الإسلام الصوفي الشعبي الخرافي من ناحية ثانية.
لقد كان المسلمون يعتقدون بأنهم لا زالوا قوة عسكرية في العالم و هم في مأمن من كل خطر خارجي, حتى صدموا بعكس ذلك في القرن الثامن عشر. لقد اكتشف العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر أن ذلك الغرب المسيحي المتخلف تحول إلى قوة عسكرية خيالية, و إلى عالم على قدر كبير من التمدن و التحضر. هذه الصدمة القوية ستدفع المسلمين إلى التفكير في أسباب هذه الهوة الكبيرة التي أصبحت تفصل بين غرب متحضر و شرق متخلف. ولكنهم لم يكن بإمكانهم فهم أن القطيعة التي أحدثتها الفلسفة التنويرية مع الدين هي وراء هذا التقدم. وقد زاد في تعقيد الفهم أن هذا الغرب لم يظهر لهم كمثال لحضارة مسالمة بل كقوة عسكرية وعلمية مهيمة. لم يكن بالمستطاع فهم أن هذه القوة كان أساسها حركة فكرية انبتت على نقد الدين و السياسة. و من النتائج الخطيرة التي أدى إليها سوء الفهم هذا, هو لجوء المسلمين إلى البحث عن التقدم و الحضارة لا في قطيعة مع الماضي بل في تجديد هذا الماضي. اخترنا النهضة و لم نختر التقدم
On a choisi la renaissance et pas le progrès
و لكن هذا لا ينفي وجود نخبة (أقلية) كانت اتجاهاتها و ايديولجيتها تنويرية. نذكر منهم الطهطاوي, طه حسين, فرح أنطون, شبلي شوميل و قاسم أمين. لقد حاول هؤلاء و غيرهم بالتفكير في الدين و المجتمع و السياسة بعقلانية على طريقة فلاسفة التنوير. كما وجد تيار سياسي ينتقد الدين و يمكن القول حتى أنه ضد الدين وهو التيار البورقيبي في تونس و الكمالي في تركيا. كما أن الحركات القومية الناصرية و البعثية تأثرت بطريقة أو بأخرى بهذا الفكر التنويري.
لقد أدى لقاءنا مع هذا الفكر في القرن الثامن عشر إلى بروز تيارين فكريين في منطقتنا. تيار إصلاحي نهضوي في القرن التاسع عشر و حركات إسلامية منذ النصف الثاني من القرن العشرين. وتيار ثاني حداثي علماني متكون من نخبة لها ثقافة غربية تعمل في الحقل الفكري, و مناضلين سياسيين متأثرين بالأنظمة القومية الأوروبية التي قامت على أنقاض الملكيات القديمة.
على الرغم من أن الأنظمة التي استبدت بالحكم بعد الاستعمار كانت اتجاهاتها علمانية حداثية و لأسباب يطول شرحها, فإننا لم نعش حوارا صريحا و مواجهة بين الفكر الديني و الفكر العلماني. لقد كانت لهؤلاء الساسة أولويات أخرى فاجتنبوا هذا الصدام ولجئوا إلى حلول تلفيقية تدور كلها حول الإصلاح. لقد كانت الجدلية بين الماضي و الحاضر هي المسيطرة ولكن لم تكن هناك الجرأة على مهاجمة الدين كما حدث في الغرب. لقد سيطرت إشكالية الهوية و الدفاع عليها على حساب النقد الذاتي و النقد الموضوعي للأسس الدينية.
لقد تأثر المصلحون القدامى. محمد علي في مصر و أحمد باي في تونس بالفكر التنويري ما عدى في نقطة أساسية و هي نقد الدين, لقد كان اهتمامهم كبير بالتمدن و التحضر و التقدم العلمي. فالطهطاوي مثلا على الرغم من دراسته للفكر التنويري فكر فلتار, و مونتسكيو و روسو و ترجمة بعض كتبهم, فهو لم يهتم بالتغيير الداخلي للعقلية الإسلامية بل كان يبحث عن وسيلة مباشرة تمكننا من القوة العلمية و خلص إلى أن الحل يكمن في التمكن من العلوم الطبيعية. لقد كان الاتجاه السائد في ذلك الوقت هو البحث على اكتساب العلوم و التقنيات حتى نتمكن من بناء قوة صناعية و علمية. لم يكن الاهتمام موجها إلى الإنسان و إلى حياته اقتصاديا و اجتماعيا. لقد حاولوا اكتساب العلوم الحديثة بالقفز على كل المراحل التي مر بها الغرب حتى يحقق هذا المكسب, ففشلوا و لا زلنا غير قادرين على ذلك للأسباب نفسها.
كما كانت لخير الدين التونسي محاولات جريئة للإصلاح, وذلك بتأكيده على قيمة الحرية و العدل في العمل السياسي و اعتبرهما المدخل المنقض من التخلف و المادي إلى التقدم الاقتصادي و السياسي على غرار الغرب. وقد كان حريصا على إقناع رجال الدين أن هذا التوجه لا يتناقض مع الشرع. وقد كانت لهذه الإصلاحات الأثر الكبير في تكوين نخبة حداثية علمانية, نذكر منهم الزعيم المصلح الثعالبي الذي كان في مواجهة علماء الزيتونة و المستعمر الفرنسي, و الطاهر الحداد العالم الزيتوني و كاتب "امرأتنا في الشريعة و المجتمع" و الذي ينادي فيه بتعليم المرأة و منع تعدد الزوجات و التخلي عن الحجاب, فوقع طرده من الزيتونة و أنهى حياته في فقر و تعاسة كبيرين, الحبيب بورقيبة رئيس أول جمهورية تونسية و قد ميز حكمه إصلاحات جذرية منها تعميم التعليم و إعطاء الأولوية المطلقة لهذا القطاع منذ سنوات الاستقلال الأولى, تحرير المرأة بسن قانون ثوري للأحوال الشخصية حيث منع تعدد الزوجات, و إعطاء نفس الحقوق في الطلاق للمرأة والرجل و السماح بالتبني, كما أنه أغلق الجامعة الزيتونية و المحاكم الشرعية و أنهى العمل بقانون الأوقاف و الأحباس و حول ملكيتها إلى الدولة.
على الرغم من كل الإصلاحات التي حاول خير الدين إدخالها على المجتمع التونسي فانه لم ينجح في التغيير, وذلك ناتج أساسا على عدم رغبة الباي (الملك التونسي) و علماء الدين و أعيان الدولة في الدخول في مغامرة تهدد مصالحهم المباشرة.
كان جيل الطهطاوي و خيرا لدين هو جيل المصلحين الأول جاء بعدهم جيل ثاني أكثر عقلانية و تأثر بالفكر التنويري. ونذكر من هؤلاء الحركة التركية"الاتحاد و الرقي", ومن العرب المسلمين شيخ علي يوسف و عبد الله نديم و علي باشا مبارك كما ظهر العديد من المفكرين السوريين اللبنانيين المسيحيين المتأثرين بالثورة الفرنسية. و يبقى المفكر الذي كان له التأثير الأكبر في هذا الجيل هو الكواكبي (توفى 1902), لقد كان تفكيره عربي إسلامي, ولكن الذي يميزه عن باقي المفكرين هو عدائه للحكم الاستبدادي في وقت كانت فيه فكرة "المستبد العادل" هي الطاغية. و من أشهر كتبه "طبائع الاستبداد".
كما ميز هذه الحقبة كذلك ببروز مفكرين أعادوا إحياء مدرسة المعتزلة و المدرسة الرشدية, و نذكر منهم فرح أنطون كاتب "ابن رشد و فلسفته" و شبلي شميل الذي حاول نقد الظاهرة الدينية عبر التاريخ الإنساني. لقد نجحا هاذين المفكرين مع نخبة أخرى في تأسيس تيار عقلاني في حركة النهضة. لقد كان الفضل لهذا التيار أن يجعل من إشكالية العقل المحور الأساسي للتفكير وقد تجلى ذلك في الإنتاج الغزير الذي يدور حول العقل العربي و العقل الإنساني. كما تميزت تلك الفترة كذلك بتزعم المفكرين المثقفين الساحة الفكرية على حساب المفكرين السياسيين, مما أعطى للقضايا الدينية الأولوية على غيرها من القضايا و كان ذلك في بدايات العهد الاستعماري الغربي (بداية من سنوات 1880).
لقد ظهر الغرب لهذا الجيل بوجهين مختلفين. غرب مستعمر امبريالي يستغل, و يغتصب و ينهب و يقتل. و غرب فلاسفة التنوير, غرب الحريات, وحقوق الإنسان و التقدم و القيم الفاضلة.
لقد كانت الصدمة شديدة, و أصبح الغربي عدوا غاصبا بعدما كان مثقف تنويري. في هذه الظروف ظهر التيار الإصلاحي السياسي الديني مع جمال الدين الأفغاني و محمد عبده. تيار النهضة العربية الإسلامية. لقد كان هذا التيار ضد كل محاولة لنقد الدين, و أسس مدرسته على نقيض الفكر التنويري. الإصلاح بالرجوع إلى الدين و ليس الخروج منه. أسباب الانحطاط الإسلامي بالنسبة لهم ليست في الدين بل في استبداد الحكام, و في العدوان الخارجي, و في الفهم الخاطئ للدين. و يذهب الأفغاني إلى أبعد من ذلك حيث لا يطالب بالرجوع إلى الفكر الديني الصحيح, فكر السلف فقط, فهو يعتبر أسس التنوير التي جاءت بالتقدم الصناعي وبال على العالم و الإنسانية, و أن هذه الحضارة الحديثة هي حضارة حروب, و التقدم الصحيح يجب أن يكون إنساني و أخلاقي باعتماده على العقيدة الدينية.بالنسبة للأفغاني, الغرب لا يتقدم علينا إلا صناعيا و علميا. و لكنهم متأخرين مثلنا لأنهم ابتعدوا عن القيم الروحية.
عبقرية الأفغاني تكمن في رأيي في تحديه الصريح و المباشر للفكر التنويري. فهو ينادي إلى ما بعد التنوير. إلى ما بعد الحداثة بمصطلحات اليوم. يقول الأفغاني أن فكر التنوير فكر هدام. مائة سنة بعد الأفغاني, مدرسة فرنكفورت و هوركيمر و أدورنو يعلنون باسم الإنسانية حرب بلا هوادة على الفكر التنويري.
لقد كان الأفغاني واعيا قبل غيره بأن الفكر المادي الملحد (أفضل كلمة بدون ضوابط أخلاقية على كلمة ملحد) و تقدمه العلمي و الصناعي نقمة للبشرية وليس نعمة ( لقد فاقت هذه الحضارة كل الحضارات الأخرى في التدمير البشري و البيئي) و من نتائجها المحتملة فناء العالم.
لقد نجح الأفغاني و تلميذه عبده في صد المد العقلاني التنويري, بوضعهم للدين الإسلامي في صلب العملية الإصلاحية. هذه المعتزلة الجديدة أخذت على عاتقها تصحيح المسار الذي أخذته الأمة و ذلك برجوعها إلى قراءة صحيحة للدين.
|