المسيحية
يقر جل المؤرخين أن الإصلاح الديني الذي دشنته الكنيسة في أواخر القرن العاشر له دور كبير في التقدم الذي شهده الغرب بداية من القرن الثامن عشر. وحتى الذين يقللون من دور هذا الإصلاح في بناء الحضارة الغربية, فهم لا ينفون على الأقل تقلص الجانب السلبي الذي كان يلعبه الدين و الفكر الديني كحاجز أمام العقل و العقلانية.
فما هي غايتهم وراء ذلك و أي منهج اتبعوا لبناء منظومة جديدة ؟
لقد سبق عصر فلاسفة التنوير ( القرن الثامن عشر), تفتح المجتمع الغربي على العلوم القديمة ( العلوم اليونانية عن طريق ابن رشد) و على التشريع الروماني (كانت المجلدات تنام في الرفوف و لا أحد يلتفت إليها). وقد تواصل إحياء هذا التراث ( اليوناني و الروماني) على مدى ستة قرون على الأقل.قبل تقديم لمحة عن هذا التراث الذي يقر كل المفكرين أنه وراء التقدم الغربي, أرى من المفيد أن نعرف و لو بعجالة بالدين المسيحي, الذي كان يمثل السلطة الروحية و الاجتماعية.
تقول المصادر المسيحية أن النبي عيسى ترك تعاليم شفوية و سيرة دعوته متداولة بين أتباعه و المؤمنين به. و بعد قرن من الزمن جمعت هذه التعاليم و السيرة في كتب سميت الأناجيل ( البشرى) تنسب إلى الذين جمعوها و هم متى و مرقص و لوقا و يوحنا
MATHIEU / MARC / LUC / JEAN
و قد كتبت باللغة اليونانية التي كانت متداولة في ذلك العهد في اليونان و الرومان و سورية و فلسطين و مصر.
وقد تزامنت الدعوة المسيحية مع انتشار المدارس الفلسفية اليونانية, مما أد إلى صدام بينهما و كذلك أيضا محاولات توفيقية بين العقل اليوناني و الإيمان المسيحي.
من الإشكاليات التي كانت مطروحة على الفلسفة اليونانية إشكالية العلاقة بين الكائن الأسمى ( الله) اللا مادي و ليس كمثله شيء و بين العالم المادي المتغير. وقد حاول معالجة هذه القضية كل من أفلاطون و أرسطو وخاصة المدرسة "الأفلاطونية الحديثة". وقد اهتدى هؤلاء إلى القول بكائن الاهي وسيط. وهو الرجوع إلى فكر أفلاطون "الاه متعالي" و "الاه صانع". و في موازاة مع هذا الفكر, جاءت المسيحية وقررت أن عيسى ولد من مر يم العذراء و نفخة من الله (روح القدس). و بالتالي هم أمام ثلاثة كائنات الاهية: الله (الأب), النفس الالاهي (روح القدس) و عيسى (الابن). نلاحظ أننا أمام عقل يوناني و إيمان مسيحي متطابقين تقريبا. الاه متعالي "يوناني" يوافق الله (الأب) المسيحي و الالاه الصانع يوافق روح القدس و عيسى (الابن). و برجوعنا إلى المصادر المسيحية نقرأ ما يلي "كان شاول من المتفلسفين اليهود, و كان من ألد خصوم السيد المسيح و من أقساهم على أتباعه, لكن ما لبث أن اعتنق المسيحية و صار من أكبر الدعاة فيها, خارج المجتمع اليهودي بفلسطين, وقد سمي و لقب بسبب نشاطه التبشيري ذاك ب "بولس الرسول", كما انه أول من قام بالتوفيق بين العقيدة التي بشر بها السيد المسيح التي تقول بالا ه واحد, و بين الأفلاطونية المحدثة التي تقول بضرورة الوسيط بين الله و العالم, معتمدا في ذلك على فكرة "التثليث ".
لم تكن عقيدة التثليث هي العقيدة الوحيدة في المسيحية, بل كان هناك من الفرق من يقول بالتوحيد, و أهمها الفرقة الأريوسية نسبة إلى صاحبها أريوس الذي أحدث أزمة خطيرة في المجتمع المسيحي في عهد قسطنطين العظيم. ولقد لاقى اريوس اهتماما كبيرا من لدن المؤرخين المسلمين بوصفه حاملا لعقيدة التوحيد حتى استحق اسم عبد الله. وأصبح يذكر في المصادر الإسلامية باسم "عبد الله بن أريوس" (ابن كثير, البداية و النهاية).
تقديم سريع الغاية منه بعض الاستنتاجات, تفيدنا لاحقا في بحثنا هذا:
1/ إذا كان محور الديانة اليهودية هم بني إسرائيل "شعب الله المختار", فان محور الديانة المسيحية هي شخصية عيسى عليه السلام, الإنسان-الرب, و ستأتي بعد ذلك بستة قرون تقريبا ديانة جديدة اسمها الإسلام و سيكون محورها الكتاب ( نص ورسالة), القران.
2/ لم تكن عقيدة التثليث, مسلمة واضحة بديهية. بل العكس هو الصحيح, لقد كانت عقيدة التوحيد هي السائدة. و ما التثليث إلا عملية توفيقية بين العقل و الإيمان.
3/ عصر التدوين المسيحي (تدوين الأناجيل) كان تحت تأثير العقل اليوناني عامة, و الأفلاطونية المحدثة خاصة. .
شكرا
|