Awarfieمشكلتك يا عرفان هي انك قلما تذكر اسم كاتب الموضوع
د . محمد أبو الفضل بدران
http://www.ibn-rushd.org/forum/maarri.htm
الشك في الديانات والمذاهب :
لا يسلم دين أو مذهب من نقد المعري والتشكيك في أصوله فاليهودية محرفة والمسيحية لا تقوم على أساس عقلي والحنيفية خرجت عن مسارها والمذاهب جميعها متطاحنة وأن الأديان والمذاهب هي المسئولة عن الصراعات الموجودة في العالم وان الأديان هي تأليف من القدماء فلا أنبياء ولا وحي في رؤية المعري الشكية :
أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما دياناتكم مكرٌ من القدماء
وقوله :
ولا تطيعن قوما ما ديانتهم إلا احتيال على أخذ الإتاوات
وإنما حمل التوراة قارئهـا كسب الفوائد لا حب التلاوات
إن الشرائع ألقت بيننا إحنا وأودعتنا أفانين العـــداوات
وقوله :
مسيحية من قبلها موسوية حكت لك أخباراً بعيد ثبوتها
ويسخر المعري من الأيام المقدسة فيقول :
وجدنا اختــــلافا بيننا في إلهنا وفى غيـره عزَّ الذي جل واتحـد
لنا جمعة والسبت يدعى لأمـــة طافت بموسى والنصارى لها الأحد
فهل للبواقي السبعة الزّهر معشر يجلونها ممن تنسك أو جحــــد
تقرب ناس بالمدام وعنـــدنا على كل حـال أن شــاربها يُحَد
ويرى أن الأديان قد فشلت في خلق عالم مثالي :
أمور تستخف بها حلوم وما يدرى الفتى لمن الثبور
كتاب محمد وكتاب موسى وإنجيل ابن مريم والزبـور
نهت أمما فما قبلت وبارت نصيحتها فكل القوم بور
وعندما يصل الشك لدى المعري منتهاه يقول :
توافقت اليهود مع النصارى على قتل المسيـح بلا خلاف
وما اصطلحوا على ترك الدنايا بل اصطلحوا على شرب السلاف
ويرى أن المسيح لا يكون منطقيا ابنا لله :
عجبـا للمسيــح بين أناس و إلى الله والد نسبوه
أسلمته إلى اليهود النصارى واقروا بأنهم صلبــوه
يشفق الحازم اللبيب على الطفـــل إذا ما لداته ضربوه
وإذا كان ما يقولون في عيسى صحيحا فأين كان أبوه
كيف خلّى وليدَه للأعادي أم يظنون أنهم غلبوه ؟
ويتساءل المعري وهو في قمة شكه أي الأديان هو الصحيح :
في اللاذقية ضجةٌ ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق وذا بمئـذنة يصيح
كل يعظّم ديـنه ياليت شعري ما الصحيح ؟
وفى شك المعري وتحكيمه للعقل كفيصل وحيد نحو الوصول إلى اليقين يشكك المعري في وجود الوحي :
فلا تحسب مقال الرسل حقا ولكن قول زور سطّروه
وكان الناس في يمنٍ رغيدٍ فجاءوا باالمحال فكدروه
ويشكك في تناسق الأديان ووحدتها بل يشكك في الدين الواحد الذي تتشعب منه المذاهب المتعارضة والمتناقضة على نحو ما نرى في أبيات اللزوميات والتي لا داعي لذكرها هنا وأنه يعيش في شك لأنه لا يرى الهدى وإنما :
دين وكفر وأنباء تقص وفرقان وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل ، يدان بها فهل تفرد يوما بالهدى جيل ؟
وقال عبدالسلام القزوينى : اجتمعت به ( أي المعري ) مرة فقال لي : لم أهج أحدا قط ! قال : صدقت إلا الأنبياء ! فتغير وجهه "
وقد ألف المعري رسالة الفصول والغايات التي لم يصل إلينا سوى الجزء الأول منها وهو ما يساوى ثلثها تقريبا وأسماها " الفصول والغايات في محاذاة السور والآيات " كما يرى البعض بينما يرى الآخرون أنها في تمجيد الله والمواعظ ويروى أنه قيل له : ليس هذا مثل القرآن ، فقال : لم تصقله المحاريب أربعمائة سنة "13 ترى ماذا يفعل الناقد أمام هذه المقولة التي يقولها المعري وأمام شعره الذي يقول فيه:
أقيم خمسي ، وصوم الدهر آلفه وأدمن الذكر أبكارا بآصال
عيدين أفطر في عامي إذا حضرا عيد الأضاحي يقفو عيد شوال
الشك في الفرائض :
يقف المعري موقفا رافضا للحج ويرى أنه ليس فرضا على العجائز والعذارى طالما بقى هؤلاء الناس الأشرار حول الكعبة :
أقيمي لا أعد الحج فرضا على عجز النساء ولا العذارى
ففي بطحاء مكة شر فقوم وليسوا بالحماة ولا الغيـارى
وكذلك قوله :
هل تزدهي كعبة الحجاج إذا فقدت حسا بكثرة زوار وسدان
فالحج في نظر المعري هو تقليد لا يقف أمام العقل :
وما حجى إلى أحجار بيت كؤوس الخمر تشرب في زراها
إذا رجع الحكيم إلى حجاه تهاون بالمذاهب وازدراها
ويردد آراء بعض الناس أن طقوس الحج طقوس وثنية :
ما الركن في قول ناس لست أذكرهم إلا بقية أوثان وأنصاب
وكذلك قوله :
أرى عالما يرجون عفو مليكهم بتقبيل ركن واتخاذ صليب
ونستطيع أن نقول إن هذا الرأي يبدو متطابقا مع رأى ابن الراوندي تجاه الحج حيث يقول ابن الراوندى : " فما الفرق بين الصفا والمروة إلا كالفرق بين أبى قبيس وحرى (جبلان بمكة ) ، وما الطواف على البيت إلا كالطواف على غيره من البيوت"14 ويتفق مع رأى الكندي الذي يقول " هذا فعل الشمسية والبراهمة الذي يسمونه النسك لأصنامهم بالهند ، فإنهم يفعلون في بلدهم هذا الفعل بعينه الذي يفعله المسلمون اليوم من الحلق والتعري الذي يسمونه الاحترام والطواف"15
1-4
موقف معاصريه ولاحقيه منه :
يتبقى لدينا سؤال : كيف نفسر تأرجح المعري في آرائه بين الإيمان والكفر .. ؟
هل ذلك راجع إلى أعدائه الذين كما يزعم المعري يدسون أبياتا ينسبونها إليه؟ فقد ذكر في سقط الزند "أنا شيخ مكذوبٌ عليه"16
أو أن ذلك يعود إلى موجة الإلحاد التي راجت قبيل عصر المعري وفى أثناء عصره فقد اتهم صالح بن عبدالقدوس وابن المقفع وبشار بن برد وحماد عجرد وأبوعيسى الوراق وابن الراوندى وأبوحيان التوحيدي (ت 400 = 1009 م ) بأنهم ملحدون .
إننا لا نستطيع أن ننفي أثر العصر على المعري وعلى تكوينه الثقافي لكننا في الوقت نفسه لا نرى المعري المقلد بل هو المجدد كما أنه لا يتبع طرق من سبقه لكنه يشق بمفرده الطريق الوعر . فقد خالف المعري ابن الراوندى في موقفه تجاه إعجاز القرآن الكريم إذ يقول " وأجمع ملحد ومهتد ، وناكب عن المحجة ومقتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز"17 وفى الوقت ذاته فإننا لا نستطيع أن نقبل أن كل الأبيات والجمل النثرية التي تتعارض مع الأديان قد وُضعت على لسانه لأن ذلك الجدل حول كتاباته بدأ في حياته مما جعله يؤلف كتبا في تفسير ما اتهم به في كتبه السابقة وعندما نقرأ الرسائل التي بودلت بين المعري وبين داعي الدعاة الإسماعيلي (المؤيد في الدين هبة الله بن عمران الشيرازي الإسماعيلي داعي الدعاة في عصر الخليفة المستنصر بالله الفاطمي ) نجد أن ابن أبي عمران الشيرازي يقول في إحدى رسائله للمعرى : " ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه (أي المعري ) مختلفين"18 ويحكى الخطيب البغدادي (392 - 463 ) وهو معاصر للمعرى " أن المعري عارض سورا من القرآن ، وحكي عنه حكايات مختلفة في اعتقاده ، حتى رماه بعض الناس بالإلحاد"19 ويذكر ذلك الباخرزى (أبوالحسن على بن الحسن بن على بن أبى الطيب الباخرزى ) وهو معاصر للمعرى أيضا :
" إنما تحدثت الألسن بإساءته للكتاب الذي زعموا أنه عارض به القرآن"20
وصاح معاصره أبوجعفر محمد بن اسحق بن على البحاثى الزوزنى (ت 463) :
كلب عوى بمعرة النعمان لما خلا عن ربعة الإيمان
واختلف الأمر لدى النقاد والفقهاء الذين أتوا من بعده فبعضهم رأى أنه كافر وملحد وزنديق بينما رأى بعضهم أنه مؤمن بل وليٌّ من الأولياء فالسمعاني (506-562 هـ) ينقل في كتابه الأنساب رأى البغدادي ويقرر ابن الجوزي (أبوالفرج عبدالرحمن 510-597) في كتابه المنتظم في ترجمته للمعرى أن أحواله تدل على اختلاف عقيدته ، وقد حكى لنا عن أبى زكريا أنه قال : قال لي المعري : ما الذي تعتقد - فقلت في نفسي : اليوم أعرف اعتقاده - فقلت : ما أنا إلا شاك ! فقال : هكذا شيخك " ويضيف " وقد رماه جماعة من العلماء بالزندقة والإلحاد وذلك أمر ظاهر في كلامه وأشعاره وأنه يردّ على الرسل ، ويعيب الشرائع ، ويجحد البعث"21
وقد وقف القفطي ( أبوالحسن على بن يوسف القفطي 568-646) موقفا وسطا بين الفئتين فقد نقل آراء الفريقين إلا أنه قد أورد لنا رواية نتوقف حيالها قليلا فقد ذكر أن المعري قد رحل إلى طرابلس الشام " فاجتاز باللاذقية ، ونزل دير الفاروس ، وكان به راهب يشدو شيئا من علوم الأوائل ، فسمع منه أبوالعلاء كلا ما من أوائل أقوال الفلاسفة ، حصل له به شكوك لم يكن عنده ما يدفعها به فعلق بخاطره ما حصل به بعض الانحلال .... ثم ارعوى ورجع واستغفر واعتذر"22 ولا يعقل أن يكون الراهب قد أثر على المعري في يوم أو ليلة ولذا أترك هذه الرواية إلا أنني أتوقف حيال أنه قد استغفر ربه عما قاله في شبابه وأنه قد غيّر آراءه الشكية قبيل وفاته.
يرى القفطى أنه قد رأى المعري في المنام فقال له : ما الذي يحملك على الوقيعة في ديني ؟ وما يدريك لعل الله غفر لي " فخجلت من قوله …. فابتسمت متعجبا للرؤيا ، واستغفرت الله لي وله ، ولم أعد إلى الكلام في حقه إلا بخير"23
ويصيح ياقوت الحموي 574-626 : كأن المعري حمار لا يفقه شيئا"24
ويرى ابن الأثير( 555- 630 )"أن أكثر الناس يرمونه بالزندقة وفى شعره ما يدل على ذلك"25 ويذكر سبط ابن الجوزي (581-654 )في كتابه مرآة الزمان رواية على لسان المنازي الشاعر قال : "اجتمعت بأبى العلاء بمعرة النعمان فقلت له : ما هذا الذي يحكى عنك ؟ فقال : حسدني قوم ، فكذبوا عليَّ ؛ قلت علامَ حسدوك وقد تركتَ لهم الدنيا والآخرة ؟ قال : والآخرة ؟ قلت : إي والله"26 ويسوق الغزالي في كتابه "سر العالمين وكشف ما في الدارين" كرامة من كرامات المعري ليدلل على تقواه وإيمانه.27
ويرى أبوالفداء( 672-732 )في كتابه "المختصر في أخبار البشر" أن أبا العلاء المعري " كان يُظهر الكفر"28 وإلى هذا ذهب الذهبي (673-748) في تاريخ الإسلام ويرى ابن الوردى أنه تقي .
ولعل فيما أوردته من أمثله ما يدل على اختلاف الناس معاصرين ولاحقين في أمره ، وهذا التأرجح إنما هو ناتج من تأرجح المعري ذاته ومن الشك لديه الذي يجعل الناس في شك من أمره فقد يناصره بعضهم بينما يعاديه البعض الآخر " ويعمل - كما يذكر الصفدي - تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار ، يضمونها أقاويل الملاحدة ، قصدا لهلاكه"29
لكن الثابت أن جدلا كبيرا دار حول كتابه " الفصول والغايات " وهل هو معارضة للقرآن الكريم أو كتاب مستقل ، وهذا الجدل بدأ أيضا في حياة المعري إذ زاره الرحالة الفارسي ناصري خسرو ودوّن في كتابه " سفر نامه " أن المعري " وضع كتابا اسماه " الفصول والغايات " ذكر به كلمات مرموز وأمثال في لفظ فصيح عجيب ، بحيث لا يقف الناس إلا على قليل منه ، ويفهمه من يقرؤه عليه . وقد اتهموه بقولهم "إنك وضعت هذا الكتاب معارضة للقرآن ؛ ويجلس حوله أكثر من مائتي رجل …. وسمعت أن له أكثر من مائة ألف بيت شعر"30 أي أن الغموض الذي كان يكتنف كتابات المعري وأسلوبه الصعب ساعد على عدم فهم مؤلفاته ، فقد كان واسع المعرفة ولم يتوقف المعري في نقده تجاه الأديان فقط بل نقد المجتمع والسلطة وتمنى إذا ما مات أن يحرق جسده وإذا قُبر فقد أوصى أن يكتب على قبره
هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد
لقد توقف النقاد القدامى والمحدثون أمام إيمان المعري أو كفره إلا أنني اختلف مع الفريقين إذ كان أحرى بهم أن ينظروا إلى المعري الذي يمثل العقلية العربية المستنيرة التي تحاول أن تشك في كل الحقائق لكي تستنتج حقيقة واحدة وهى البحث عن الحقيقة .