المعتزلة و العقل
"الدليل الأول المستقل هو العقل. احتاج غيره له. ولم يحتج هو إليها"
هذه المقولة تترجم بكل وضوح المكانة التي يعطيها الفكر المعتزلي للعقل. يقول حسين مروة في كتابه النزعات المادية " لقد أحلت المعتزلة العقل محله الأسمى في أسس نظريتها المتكاملة الجوانب إلى حد كبير, و في أسس المبادىء التي تنطلق منها نظرية الاعتزال بكاملها. و ما مسألة حرية إرادة الإنسان عندهم, من حيث الأساس و المنطق, سوى وجه من وجوه التطبيق الخلاق لنظريتهم الثابتة في مسألة العقل."
لنترك هذه النتيجة جانبا و نبدأ بتعريف نظرية المعتزلة في العقل.
ما العقل في نظرية المعتزلة. و ما وظيفته؟ ما حدود امكاناته المعرفية؟
تمدنا المصادر بتعريفين للعقل الأول للعلاف و الثاني للجبائي.
يقول العلاف " العقل هو القوة على اكتساب العلم, وهو القوة التي يفرق بها الإنسان بين نفسه و بين باقي الأشياء, يقع التمييز بين الأشياء بعضها من بعض بواسطة العقل. و العلم الحسي إنما نسميه عقلا بمعنى أنه معقول"
بينما للجبائي تعريف ثاني مختلف على ما جاء به العلاف "العقل هو العلم..... و إنما العقل سمي عقلا لأن الإنسان يمنع نفسه به عما لا يمنع المجنون نفسه عنه, و أن ذلك مأخوذ من عقال البعير, و إنما سمي عقاله-أي البعير- عقالا لأنه يمنع به". كما نرى أن الاختلاف واضح بين التعريفين. فالأول يقول أن العقل هو القوة على اكتساب العلم بينما الثاني يذهب إلى أن العقل هو العلم, إذن نحن أمام من يقول أن العقل هو الأداة الموصلة إلى المعرفة العقلية و من يقول أن العقل هو المعرفة ذاتها. و الأرجح أن تعريف الجبائي تعريف شاذ, و أن أغلب المعتزلة يقولون بالتعريف الأول. فنجد عن الأشعري تعريفا ينسبه إلى المعتزلة بوجه عام يقول " أن العقل هو القوة التي في الإنسان تمكنه من اكتساب العلوم".
لنحتفظ بهذا التعريف الأخير و ندخل عليه بعض التغيير ليكون أكثر تلائما مع الفكر المعتزلي فيصبح " أن العقل هو القوة الوحيدة التي في الإنسان و الكافية التي تمكنه من اكتساب العلوم"
لماذا أضفت "الوحيدة" و "الكافية"؟ لنترك أحمد أمين يجيب على هذا السؤال "لقد قال المعتزلة بسلطان العقل في معرفة الخير و الشر, فليس الخير يفرض من الله فرضا على الأشياء, ولا الشر كذلك. و بعبارة أخرى: ليس أمر الله بالشيء هو الذي يجعله خيرا, ولا نهيه عنه هو الذي يجعله شرا, بل الله يأمر بالشيء لأنه خير في ذاته, وينهى عنه لأنه شر في ذاته. وفي طبيعة الأشياء صفات تجعلها خيرا و صفات تجعلها شرا, وفي وسع العقل, أن يتعرف هذه الطبائع لمعرفة الخير و الشر."
و يبرهن المعتزلة على قولهم هذا بعديد البراهين, وقد لخصها حسين مروة في ثلاثة براهين أساسية و هي:
1/ إن الناس قبل ورود الشرائع كانت تحتكم إلى العقل وتجادل بالعقل, ويلزم أحد الفريقين خصمه بما يقضي به العقل. وما كان ذلك إلا بالرجوع إلى ما يراه العقل بذاته في الأشياء من حسن وقبح قائمين بذاتيهما, أي بصورة مستقلة عن حكم كل شريعة, إذ لم تكن أي شريعة بعد. مثال ذلك: أن العقلاء كانوا-قبل الشرائع- يستحسنون إنقاذ الغرقى وتخليص الهلكى, ويستقبحون الظلم و العدوان.
2/ إن الرسل يطلبون في دعوتهم إلى الناس أن ينظروا في أشياء الكون بعقولهم. فلو لم تكن الأشياء حسنة أو قبيحة في ذاتها يدركها العقل من نفسه من غير توقف على الشرع, لقال الناس للرسل: لا يجب علينا النظر في معجزاتكم و نبوتكم إلا بالشرع, ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في نبوتكم و معجزاتكم... فيقف الرسل أمام هذا القول مفحمين, وتبطل دعوتهم, وهذا غير صحيح. إذن الأشياء حسنة و قبيحة في ذاتها يدركها العقل قبل ورود الشرع
3/ لو لم تكن في الأفعال ذاتها حسن وقبح, وكان حسنها وقبحها مكتسبين اكتسابا من الشرع, لما أمكن الفقهاء, أن يعملوا عقولهم في المسائل التي لم يرد فيها نص شرعي, و لاستحال تعليل الأحكام و لبطل السؤال "لم" و الجواب عنه "لأنه, لأن التعليل كله مبني على ما في الأشياء والأفعال من صفات قائمة في ذاتها موضوعيا.
|