قصة الصراع بين صلاح الدين الأيوبي و الاسماعيليين
يوجد في مصياف وعلى مقربة من أسوارها أطلال غرفة حجرية يتعارف الناس على تسميتها بغرفة صلاح الدين فما هي حقيقة هذه الغرفة وما حقيقة الصراع مابين صلاح الدين الأيوبي والاسماعيليين ؟
لا حاجة للتعريف بصلاح الدين الأيوبي فهو أشهر من نار على علم ولكن أجد حاجة في التعريف بشيخ الجبل الثالث نائب الإمام وممثله سنان راشد الدين :
ولد سنان بن محمد ويكنى ب ( أبي الحسن) في البصرة في مكان يقال له " عقر السعدان " درس وتثقف بألموت في عهد الإمام القاهر بقوة الله ثم أوفدإلى سوريا ليكون ممثل الإمام ونائبه وفي طريقه مر بعدة قرى وأماكن حتى استقر في مدينة مصياف . وعمل في مصياف على خلق جيل من المحاربين الأشداء المدربين على الأعمال الفدائية أو الفداوية كما عمل على تأسيس مجتمع اسماعيلي منظم فعمم المدارس وزودها بالدعاة و المدرسين ليخلق جيلاً مزوداً بعلوم الدنيا و الدين كما عمل على ترميم القلاع وحث الناس على فلاحة الأرض و زراعتها حتى استقرت أمور الدعوة وعاش الاسماعيليون في عهده حياة ازدهار ومجد . وكان يقضي أيامه بين هذه القلاع والحصون لدراسة أحوال أتباعه وباقي المسلمين كما عرف عنه انقطاعه لمدة يومين من كل أسبوع في جبل " المشهد العالي " كان يقضيها في دراسة كتب العقائد و الفلسفة وكان مولعاً بها كما عمل على رصد النجوم والفلك .
كل هذه الصفات حببت أتباعه إليه فقد تجسدت فيه صورة الاسماعيلي النموذجي واسع العلم و المعرفة والسياسي المحنك والمدرب المنظم مما أثار إعجاب و دهشة الكتاب و المؤرخين وجعله والاسماعيليين عرضة للأقاويل و الشائعات .
وكان من أهم أعماله هو تدريب الفدائية تدريباً عسكرياً صارماً كما علمهم لغات البلدان المجاورة وعاداتهم وتقاليدهم و التنكر و الاختباء فبسط نفوذه على القلاع المجاورة وهي : المرقب , القدموس , المينقة , ابو قبيس , المهالبة , الرصافة وجهزها لإيواء الاسماعيليين الهاربين من المذابح .
وجاء صلاح الدين الأيوبي على أنقاض الدولة الفاطمية بعد أن نكل بالاسماعيليين في مصر تنكيلاً فظيعاً , وفتك بعائلة الخليفة الفاطمي " العاضد " وكانوا أحد عشر ولد وأربع بنات و أربع زوجات وأقاربهم و أحرق المكتبة الاسماعيلية الشهيرة ب"دار الحكمة ", لما سمع سنان راشد الدين بهذا تألم ألماً شديداً رغم الخصومة الشديدة بين فرعا الاسماعيلية " النزارية " و " المستعلية " فأوفد الفدائي الشهير " حسن الأكرمي " ليهدد صلاح الدين في القاهرة , فتمكن هذا الفدائي من دخول القصر و الوصول على غرفة نوم صلاح الدين وغرس خنجر بقرب رأسه مع الرسالة التالية :
( اعلم أيها السلطان المغتصب العاتي .. أنك وإن أقفلت الأبواب , ووضعت الحراس , لا تستطيع أن تنجو من القصاص ومن انتقام الاسماعيلية . أراك قد بالغت في القحة واستبددت و قتلت , دون أن تحسب حساباً لشيخ الجبل الاسماعيلي الذي يقف لك بالمرصاد , لو أردنا قتلك الليلة لفعلنا , ولكن عفونا عنك لعلك تقدر هذا , و إننا ننذرك لتصلح من سيرك وتعيد الحق المغتصب إلى ذويه , ولا تحاول أن تعرف من أنا فذلك صعب عليك , وبعيد عنك , بعد السماء عن الأرض , إذا قد أكون أخاك أو خادمك أو حارسك , أو زوجك وأنت لاتدري و السلام )
أراد صلاح الدين أن ينهج نهج سلفه نور الدين في الشام فسار على حلب وأغار على القرى الاسماعيلي مثل " بزاعة و إعزاز " وهناك هاجمه أحد الفدائيين و طعنه بسكين في رأسه وتمكن حرسه من الإمساك بالفدائي و تقطيعه إرباً , فهجم عليه فدائي آخر وضربه بخنجره و قتل أيضاً . وهنا لجأ صلاح الدين على خيمته وقد صمم على الانتقام من مقدم الاسماعيليين في مصياف ويقول ابن خلكان أن :
أن صلاح الدين بعث إلى على سنان يهدده ويتوعده وأن سناناً أجاب على تهديده بهذه الرسالة
يا للرجال من أمر هال مفظعه ******** مامر قط على سمعي توقعه
ياذا الي بقراع السيف هددنا ******** لا قام مصرع جبيني حين تصرعه
قام الحمام إلى البازي يهدده ******** و استيقظت لأسود البر أضبعه
أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه ******** يكفيه ما قد تلاقي منه أصبعه
لو أن عمرك حبلاً أنت ماسكه ******** فسوف تعلم يوماً كيف نقطعه
إن منحناك ثوباً للحياة فإن ******** كنت الشكور وإلا سوف نخلعه
وقفنا على تفاصيله و جمله , وعلمنا ما هددنا به من قوله و عمله , فيالله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل , وبعوضة تعض في التماثيل , ولقد قالها من قبلك رجال آخرون , فدمرناها عليهم , ماكانوا لهم من ناصرين , أو للحق تدحضون , و للباطل تنصرون ؟ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون , و أما ما صدر من قولك في قطع رأسي , و قلعك لقلاعي من الجبال الرواسي , فتلك أماني كاذبة و خيالات غير صائبة , فإن الجوهر لا تزول بالأعراض , كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض , كم بين قوي و ضعيف , ودنيء و شريف , وإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات وعدلنا عن البواطن و المعقولات , فلنا أسوة في رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله :"ما أوذي نبي ما أوذيت " ولقد علمتم ماجرى على عترته وأهل بيته و شيعته , و الحال ماحال و الأمر مازال , ولله الحمد في الأولى و الآخرة , إذ نحن مظلومون لا ظالمون , ومغصبون لا غاصبون , وإذا جاء الحق زهق الباطل , إن الباطل كان زهوقاً ولقد علمتم ظاهر حالنا و كيفية رجالنا وما يتمنونه من الفوت , ويتقربون به إلى حياض الموت . " قل فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين " و في أمثال العامة السائرة ( أو للبط تهددون بالشط ؟) فهيئ للبلايا جلباباً وتدرع للرزايا اثواباً , فلأظهرن عليك منك , ولأفنينهم فيك عنك , فنكون كالباحث عن حتفه بظلفه , والجادع مارن أنفه بكفه , وما ذلك على الله بعزيز . فإذا وقفت على كتبانا هذا فكن لأمرنا بالمرصاد , ومن حالك على اقتصاد , واقرأ أول النحل وآخر صاد ".
وتذكر المراجع أن هذه الرسالة هي رد على رسالة من صلاح الدين يقول فيها :
( من الملك الناصر أبي المظفر صلاح الدين ملك مصر إلى سنان راشد الدين زعيم الاسماعيلية في بلاد الشام :
إعلم يا سنان أنك وإن كنت قد أغلقت أبواب قلاعك , و أوصدت أبراج حصونك في وجهي , و أقمت الحراس , وحشدت الفدائية بالنبال و الأقواس , فأنت لاتقدر أن تنجو من صلاح الدين , الذي سيقطع رأسك , ويخمد أنفاسك , بالرغم من فدائيتك و حراسك . أنا قادم إليك بجيوشيي و رجالي , فإما أن تأتي إلينا خاضعاً تائباً و لأوامرنا طائعاً , أنت و جميع قوادك ورؤساء جندك , و تسلموا إلينا مفاتيح القلاع و الحصون , لنرفع عليها الأعلام و البنود , وإما نصبنا عليكم المنجنيقات فلا أبقينا منكم أحد على قيد الحياة , وقد أعذر من أنذر و السلام )
صلاح الدين
وأراد صلاح الدين أن يجرب حظه مع الاسماعيلية فقصد معاقلهم في منطقة مصياف سنة 572 ه في جيش عظيم ونصب على مصياف المنجنيقات وعسكر بضواحيها وجلس ينتظر سنان راشد الدين الذي لم يكن في مصياف وقتها والذي حاول استدراج صلاح الدين إلى الحصون الجبلية لملاقاته ولكن هذه الحيلة لم تنطل على صلاح الدين العسكري المحنك لأن لو جرب دخول هذه المسالك الجبلية الوعرة لقضي على جيشه فرداً فرداً. عاد سنان إلى مصياف و صعد على قمة جبل المشهد العالي يراقب جيوش صلاح الدين تحيط بالبلدة من جميع نواحيها وبدأت المراسلات ورسائل التهديد بين الطرفين ولما وجد سنان أن الرسائل لا تكفي عمد إلى قرن القول بالفعل فعمد على إرسال أحد الفدائية ليلاً إلى غرفة صلاح الدين فدخلها رغم الحراسة فبدل موضع الفوانيس ووضع سكيناً مسموماً من سكاكين الفدائية في رغيف خبز من صنع الاسماعيلية قرب رأس صلاح الدين , وبجانبه ورقة كتب عليها أبيات شعر من نظم سنان راشد الدين يقول فيها :
قد قام قف إلى قاف يزعزعه ******** كضفدع تحت صخر رام يقلعه
ما يستحي ثعلب صغر همته ******** يرسل إلى أسد الغابات يفزعه
إنا منحناك ثوباً للحياة فإن ******** كنت الشكور و إلا سوف نخلعه
ولما نهض صلاح الدين مبكراً كعادته شاهد السكين والرسالة فنادى على رجاله وأطلعهم عليها وقال لهم : لو أراد قتلنا لكنا الآن في عالم الأموات . فما ترون أن نفعل ؟ فاقترح عليه خاله شهاب الدين الحارمي أمير حماه أن يكون وسيطاً بينهما لعقد صلح ويقال أنهما أصبحا من أعز الأصدقاء ويقال أن سنان لم يشأ أن يقتل صلاح الدين لأنه عرف من حركة النجوم و الكواكب أنه يموت بنفس العام , وقد تحقق ذلك .
وكان من ثمار التعاون تأسيس جيش قوي لمحاربة الصليبيين وقد ساهم سنان بفدائيته المشهورين ورماته المهرة في معركة حطين و بيت المقدس و احتلال القلاع و الحصون و يقال أنه قد بعث بأحد فدائيته لقتل " كونراد مونتفرات " أمير صور وإرسال رأسه لصلاح الدين الذي قام بمكافأة الفدائيين الذي نفذا المهمة , وأعطى سنان عشرة قرى ألحقها بمصياف.
و في سنة 588 ه مات سنان راشد الدين ودفن قمة جبل مشهد إلى جانب الإمام " أحمد الوفي " صاحب " رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا" وما يزال ضريحهما موجوداً حتى الآن .
المراجع : " سنان راشد الدين "
شيخ الجبل الثالث
مصطفى غالب
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 03-09-2008, 11:53 PM بواسطة eyad 65.)
|