ابن حوران
عضو رائد
المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
|
نزار قباني والنثر
البنادق .. والعيون السود ( من رسالة إلى صديقة مجندة )
أيتها الصديقة .
الآن تعودين من معسكر التدريب , وأنت كالراية المتعبة , كالزورق العائد من رحلة مجد ..
جلست أدخِّن .. وأتأملك قطعة قطعة .. كما لو كنت لا أعرفك من قبل . عيناك النقيتان كأمطار ليلة افريقية , قميصك المعقود الأكمام الذي تركت عليه البندقية بقعاً من الزيت أطهر من زيت المعابد .. أطهر من الطهر .. غطاء الرأس الجامح على شعر فوضى . لباسك المعجون بذرات التراب , ورؤوس الشوك , ورائحة الأرض . جوربك الصوفي الخشن , راحتاك الملوثتان بشحم الزناد , حذاؤك الأكل من جبين الصخر يترك على أرض الحجرة قطعاً من طين يابس هي أثمن ما تضمهُ حجرتي من تحف . أرأيت كيف تنتقل بلادي إليّ . كيف تتحول إلى ذرة غبار على قميص شجاع . قعدت أتأملك وأنت كزهرة اللوتس الوحشية .. ليس على فمك شيء .. ومع هذا فهو أروع من كل شيء .. ذلك الثغر الراقد كنصف كرزة حمراء .. لا تعرف
من الطعام غير الهواء .. والشمس .. وجيرة العصافير .
قعدت أتأمل حسنك من زاوية جديدة . أنا أمام تجربة جمال لم أمر بها من قبل . لم يمر بها هذا الشرق من قبل . كانت المرأة في بلادنا قطعة من قطع الأثار .. ليرة ذهبية ملفوفة بالقطن .. تعويذة كتبها شيخ لا يعرف الكتابة . ثم انفكَّ السحر يا صديقي وخرجتِ من قطنك .. من الصدفة الباردة المغلقة . وها أنت تجلسين أمامي أغنية بطولة تقرع نوافذ الشمس . مضى عهد يا صديقتي كانت المرأة فيه دمية مطاط في يد الرجل يضغطها فتغني , ويزجرها فتسكت . مر عهد كانت فيه أكبر مغامرة بطولية تنفذها امرأة هي أن تذهب الى حمام السوق .. أما سمعت قول أحد الفقهاء
(( تخرج المرأة من بيتها مرتين .. مرة الى بيت زوجها .. ومرة الى القبر ..))
تأملي هذا المخطط الذي رسمه ذلك السخيف . تأملي هذا البرنامج الجافل الذي وضعه لتنقلك وتنقل زميلاتك .
مشوران فقط .. واحد إلى دار الزوجية .. وواحد إلى دار الأبدية . المهم أن صاحب القول قبر في المكان الذي اعدَّه للمرأة .. وخرجت المرأة من قوقعتها الكلسية .. قفزةً واحدة .. إلى العراء .. إلى ملاعب الرياح والشموس .
أحاول الآن أن أدرس أشواقي من جديد . أن أبحث قضية الحب . حبي لك . قد تقولين : ما نفع هذا ونحن لم نتغير ؟ هذا خطأ . إنني أشعر بتغيير جذري في لون حبي .. في نكهته .. في طاقته .. في اتجاهه .. ترى هل تختلف قضية بين حالة السلم والحرب .
هذا سؤال تحرك في جبيني أكثر من مرة .
أنا أقرر أن شيئاً ما قد وقع فأعطى جمالك مفهوماً جديداً وأعطى حبي لوناً آخر ..
إنني معجب مثلاً بهذه الكدمة الصغيرة التي تركها الزحف على التراب فوق مرفقك .
معجب برائحة اللاشيء .. نعم برائحة اللاشيء .. بأظافرك التي كسرها قتال الخنادق واحداً .. واحداً .. معجب بما حملت معك من معسكر التدريب من تعب .. وغبار .. وقطرات عرق .. أعود الى الكدمة الصغيرة المرسومة على مرفقك... هي حرف مجد يستحق ان يعبد ..إشارة بطولة يصلى لها ..
لم يعد يهمني صفاء البللور في الأصابع الشمعية .. كفرتُ بملاسة الشمع . . أصبحت أبحث عن معنى الأصابع قبل الأصابع .. عن بطولة اليد قبل اليد ..
هكذا هدمت المعركة كل مفاهيمي الجمالية . فلا تستغربي أن أزهد بكل ما تعبق به خزائنك .. من أصفر .. وأسود .. وليلكي .. وأقف ساعات أمام بقعة زيت تركتها بندقية على قميص مجندة من بنات بلادي .. .
ماذا ؟ هل غيرت معركة بور سعيد حواسِّي أيضاً .. إن رائحة العطر التي كانت تنسف أعصابي من جذورها في الصيف الماضي لم تعد ذات موضوع . أشياء تزلزل وجودي في زمن السلام لم تعد تفعل بي شيئا ..
وفني , كجمالك , تغير يا صديقي بحركة داخلية تلقائية .. مدَّ أظافره ونشر ريشه كما يفعل الطائر أمام خطر داهم بدافع من غريزته ..
لقد أخذت القصائد مكانها في الخنادق .. وتحت الأسلاك الشائكة , وحاربت بجميع ما يحمل
الحرف من طاقة وقوة تفجير ..
البنادق .. والقصائد .. والعيون السود .. كلها أصبحت فحماً مشتعلاً في ليل المعركة . فيا صديقتي .. يا ذات القميص المعقود الأكمام .. والشعر والفوضى , والفم المصبوغ باللاشيء .. والكدمة الصغيرة التي تُضَمُّ وتعبد ..
سلامٌ عليك .
1956
يتبع
:redrose:
|
|
03-20-2008, 12:07 AM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
ابن حوران
عضو رائد
المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
|
نزار قباني والنثر
الأدب المستريح
أكتب لكم عن الأدب المستريح في بلادنا .
لم أشأ أن أسمّيه الأدب الكسيح .. أو الأدب المتقاعد .. أو الأدب المصاب بلين العظام ..
إخترت الصفة الأقل ظلماً لأكتب لكم عما أسميه متسامحاً (الأدب المستريح ) .
إنه الأدب الذي نشف الزيت في مفاصله , وتصلبت عضلات الحركة في قدميه . إنه الأدب الذي نسي غريزة المشي .
ما هو موقفنا من الأدب الذي لا يمشي ؟ ..
إنه موقف الحياة نفسها من كل كائن يتوالد , موقف المجتمع من كل عضو لا ينتج , موقف صاحب الأرض من كل شجرة لا تثمر في حقله .. الإهمال .. ثم القطع .. ثم أحشاء الموقدة . الحياة لا تهمل إلا الذين يهملونها و ولا تكافئ إلا الذين يقابلون هداياها الجميلة بهدايا ذهنية أجمل.
أسطورة السلطة الإلهية للملوك والأدباء انتهت . وتيجان المجد لن تعطى بعد اليوم إلا لمستحقيها لن ترفع إلا على الرؤوس الحبلى بالهبات ...
لا نريد أن نظلم أحداً . ولكن لن نسمح لأحد أن يظلمنا بعد اليوم . لن نسمح (للألقاب العثمانية ) أن تجلس على رقبة الأدب وتمدَّ رجليها . سنمزق ( الفرمانات ) التي جعلت من هذا شاعر العرب .. ومن ذاك شاعر الشام الأكبر ..
مثل هذه الألقاب يجب ان تصادر من أصحابها كما تصادر قطع الأرض العائدة للأمة من مالكيها عندما يهملون حرثها وريها وإنباتها .. وتعطى إلى مالكين جدد .. والفرق بين المصادرتين أن الواحدة تتم في سبيل النفع والثانية في سبيل الذوق العام .
و( الذوق العام ) هو قوس المحكمة التي تنظر في أمر هؤلاء العاطلين عن العمل , لأنهم استهانوا بكرامة الذوق العام , وكفروا بمسؤولية الحرف وانسحبوا إلى قواقعهم الرطبة يشربون السوائل الساخنة ويشدون على بطونهم أحزمة الصوف ..
نحن عمال في مصنع الأدب الكبير . كل واحد منا يصنع الجزء الذي يناسب مواهبه وكفاءته من التمثال الضخم الذي سنعرضه على الدنيا .
هذا يرسم المخطط , وهذا يعحن الصلصال وهذا يخبزه .. وهذا يصقل بالسكيِّن نتوءات الطين الصغيرة ..
و( الذوق العام ) ينتظر خارج أسوار المصنع ولادة التمثال .. وعند الذوق العام يكون الثواب ويكون العقاب . حتى اولئك العمال الذين شاركوا في صنع الأجزاء الثانوية من التمثال سيكرمون لأن شرف العمل لا يتجزأ . إنه كمطر تشرين لا ينسى ربوة .. ولا يهمل سفحاً ..
أما ( المستريحون ) الذين كانوا خلال عملية التمثال يتشمسون على سطح المصنع , ويشموّن النشوق .. ويشربون محلول البابونج .. فإن الجماهير خارج أسوار المصنع ستسقبلهم بالصفير .. ومدّ الألسنة .
لقد نضج الذوق العام عندنا بشكل يدعو إلى الدهشة . إنه لم يعد ذلك الطفل الذي يقنع بلعبة مطاط توضع بين يديه .
منذ عشرين عاماً تفتحت مداركنا الصغيرة على طبقة من الأدباء كانوا يبيضون كل سنة بيضة على مدرج الجامعة السورية أو في حديقة المنشية , أو على سور مقبرة الدحداح ..
كانت مواسمهم معلومة ومحسوبة على عقارب الساعة , لا تخرج عن نظم قصيدة في ذكرى أربعين ميت .. أو تهنئة رئيس برئاسة .
في تلك الأيام كنا أطفالاً , وكان الذوق العام أكثر طفولة منا .. كنا يومئذ لا نفرق في الفن بين ( الجاهز ) .. و ( التفصيل ) . بين القصائد الطازجة .. والقصائد المحفوظة على طريقة الأطعمة المحفوظة ..
كنا نقوم ونقعد للقصائد ذات المئة والعشرين بيتاً وهي مرصوصة كأسنان المشط .. كالمسدس سريع الطلقات .
وكبرنا وكبر الذوق العام . لم تعد تشبعنا الأطعمة المحفوظة . لم تعد تقنعنا الهدايا التافهة . لم تعد تثيرنا القصائد السريعة الطلقات ..
وتلفتنا إلى الأبطال الذين طالما ملأوا مخيلتنا يوم كن صغاراً بالرؤى والأحلام العريضة . تلفتنا إلى هؤلاء الفرسان فلم نجد إلا هياكل خشبية لها شكل الفرسان ولكنها لا تتحرك إلا بواسطة المسننات والنوابض ..
ماذا فعل فرسان الخشب لقضية الأدب في بلادي ؟
إنهم عانقوا وسائدهم وناموا منذ عشرين سنة . ناموا .. ورياح الفكر العالمي تلطم نوافذهم بدون هوادة .. وحوافر التاريخ تنبش تراب بلادنا كما لم تنبشه من قبل .
إذن ما خطب هؤلاء المستريحين ؟ هل أقعدتهم السن عن العطاء ؟ إنني لا أؤمن بهذا , فتاريخ الإنتاج الأدبي يثبت أن اروع آثار الفكر التي عرفتها الإنسانية إنما كتبها أصحابها وهم في سن النضج والاختمار . وفيكتور هوجو , وطاغور , وتولستوي , وأرنست همنغواي وسومرست موم أمثلة قليلة على ما أقول ..
وعلى ذكر القصاص الإنكليزي العظيم سومرست موم , أذكر انني رأيته مرة على شاشة التليفزيون في لندن يتحدث في شؤون القصة والأدب وهو من شدة الجهد وإلحاح السن يكاد يسقط أمام أضواء المصورين .
ولكن مسؤوليته كقصّاص تغلبت على شيخوخته فجاء إلى التلفزيون مستنداً على كتفي ممرضة .. ليشعر الناس الذين يقرأونه أنه لا يزال منهم ولهم .
إن الأدب هو غرم قبل أن يكون غنماً . مسؤولية لا نزهة على شاطىء نهر . فعلى الذين يريدون دخول مصنع الأدب الكبير , أن يلبسوا ثياب العمل ويغمسوا أيديهم حتى المرافق في الصلصال الساخن .
أما الذين يخافون على بذلاتهم المكويَّة من نثارات الطين .. وعلى أيديهم الملساء من الحروق والجروح .. فإن مكانهم هو المصحات حيث تتوفر لهم كؤوس الشراب الساخن .. وأدوية الروماتيزم .
ايها المستريحون . إن الذوق العام يطلب منكم أن تستريحوا .. وتريحوا ..
1956
يتبع
:redrose:
|
|
03-25-2008, 10:33 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
ابن حوران
عضو رائد
المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
|
نزار قباني والنثر
كلمات مكتوبة بحبر العناقيد
موعدي مع زحلة , أحلى موعد أعطيته في حياتي .
هل يتاح لشاعر أن يرقد على مخدَّة من ورق الدوالي ويتردَّد ؟
هل يتاح لشاعر أن يكون منبره مصنوعاً من ضفائر عريشة , ويرفض النوم على تخت من الضفائر لا أطرى ولا أطيب .
ما أنا .. ما أنا .. من يهرب من معركة العناقيد .. ومعركة الضفائر .. فهي المعركة الوحيدة التي يطيب لي أن أموت على أرضها . المعركة الوحيدة التي تكون نكهة الهزيمة أحلى من نكهة النصر .
في دمشق , تركت كلَّ محابري وألواني . ففي زحلة لا لزوم للمداد والأصباغ والمحابر !. العناقيد الحمراء والسوداء التي تشرق بالضوء والسكر على روابيكم هي المحابر الطبيعية التي يتمنى كلُّ موهوب أن يغطَّ حروفه فيها .. ويستحمَّ في نزيفها الذهبي .
أنا لبنان لأعطي شعراً . في يدي زوَّادة صغيرة , فيها زهرات حمراء .. وأقمار بنفسجية .. وحروف تنبض كقلوب العصافير أو الصيف ..
لا لبنان تغيَّر . ولا قضية الشعر فيه تغيرَّت .
لبنان حقيقة شعرية كما هو حقيقة جغرافية . كما هو هواء وشمس .. وطيب مناخ . ووجود القصيدة فيه قدر محتوم كحتمية وجود ثلوجه , وصخوره , وسنديانه , ومساقط مياهه .
لبنان يغزل الشعر كما تغزل دودة الحرير شرنقتها .. كما تصنع المحارة لؤلؤتها ..
في لبنان يتحول حبري إلى ضوء مسموع , ودفتري إلى عطر مقروء ..
في لبنان يتغير شكل يدي . مرة تأخذ شكل زهرة بيضاء .. ومرةً تأخذ شكل جمرة حمراء ..
طالما لعبت في طفولتي أمام ( بِرْكة الشعراء ) في زحلة . طالما مسحت بأناملي رخامها .. وطربت لوشوشة نافورتها المغنّية .
طالما تمنيت أن يعمِّدني أحد بمائها المثلج فأصبح واحداً من أولئك الشعراء الذين حفروا أسمائهم في ذاكرة الرخام وذهبوا ..
كان خيالي الطفولي مقتنعاً أن من لا يغمس أصابعه في ماء البِرْكة المسحورة .. لن تكلمه جنيَّة الشعر .. ولن تأخذه معها إلى مغارتها المسحورة تحت البحر أبداً ..
وأنا كنت أريد أن أرى الجنية ذات العينين البنفسجيتين بأي ثمن .. كنت أريد أن تأخذني معها إلى بيتها المخبوء في جوف صدفة بحرية كبيرة .. لتعطيني خاتمها العجيب الذي كلما فركته مرة أعطاني قصيدة .
وكبرتُ أنا .. وكبرتْ زحلة . وعرفت أكثر من جنية واحدة .. وأكثر من عين بنفسجية واحدة .. وأصبحت مهنتي أن أفرك الخواتم المسحورة وأستخرج منها أشعاراً وأقماراً ..
واليوم أعود إلى بِرْكة الشعراء لأغمس أصابعي من جديد في الماء المثلج الذي تعمَّدت به عندما كنت طفلاً . أعود لأحضن بأهدابي رخامها المليس ونافورتها المغنية ولأردَّ لها بعض ما أعطتنيه في طفولتي .
ولكن هل يمكن لعطائي أن يكون في مستوى عطائكم .
هل بوسع قصائدي أن تكون في مستوى القصائد المنقوشة على الغيم والصخر وأجنحة العصافير ومساند الكروم في هذه المدينة التي هي أروع خيمة ظلّ يحلم بها مسافر .
ألقيت أشعاري في مدن كثيرة , فلم يرتجف لي جفن ولم يحترق بي عصب ..
أما هنا .. أما هنا في زحلة فإن الأمر يختلف .
كيف أعطي زحلة شعراً وهي الشعر كلهُّ ؟ وهل تحتاج الجنة إلى غصن أخضر يضاف إليها ؟ هل تحتاج العناقيد المجوهرة الحبّات إلى أية حبّة جديدة ؟ وهل يحمل الشارب معه الخمر إلى الحانة ؟
تلك هي المشكلة التي عذبتني وأنا في طريقي إليكم . مشكلة ماذا أهدي لزحلة ؟
فالرجل عندما يفكر في ان يهدي حبيبته عقداً أو شالاً أو قارورة عطر يرضيه أن يعرف أن حبيبته لا تملك هذه الاشياء .
أما الحبيبة الجميلة التي أزورها اليوم فلديها كلُّ اشياء الجمال .. وفي حزانتها كنوز من الطيب والكحل والحرير .. ترهق مخيلة الرجل .
إنني أعرف أن زحلة أميرة أسطورية تنام على الحرير وتصحو على الحرير وأن ألف فارس ينتظر تحت شرفتها المقمرة ..
ومع هذا فقد حملت هديتي وجئت , علّ الأميرة ذات الشرفة المقمرة .. والعينين القزحيتين , تفتح بابها لتسمع استغفاري وتقبل أشعاري .
1962
يتبع
:redrose:
|
|
04-04-2008, 10:24 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
|