اهتز العالم على صور التعذيب الذي تعرض له سجناء ابو غريب تحت الادارة الامريكية، وتساءلوا: كيف يتمكن ان يتحول الانسان الذي يُصف بالطيب الى سجان طاغية. العالم الامريكي الشهير Philip Zimbardo, والمختص بعلم النفس الاجتماعي يشير الى ان ذلك ممكن تحت ضغط اخلاق وسلوك الجماعة، فماهو تأثير الجماعة على سلوك الانسان ، وماهي تجلياته؟
Ivan Fredrick, جندي خدم لمدة ثلاثة اشهر في سجن ابو غريب، معروف في موطنه كأب حنون وزوج طيب. كان محبوبا من الجميع. في محكمته اعلن قائلا" انا لست ساديا"، على الرغم من انه قام بتعذيب السجناء وإذلالهم وإجبارهم على ممارسة العادة السرية علنا امام بقية السجناء واجبرهم على الاستلقاء فوق بعضهم البعض عرايا.
على العكس من رأي جماعة السجانين، لم تكن شخصية ايفان فريدريك وبقية الفاعلين هم المصدر الحقيقي للانتهاكات، وانما الوضع الفوضوي الذي كان سائد في ابو غريب. على الاخص كان نقص التعليمات واللوائح التي تحكم سلوك السجانين، الامر الذي افسح المجال لتسلل الاحكام المسبقة وضغط السلوك الجماعي واضمحلال الشخصية الفردية. اوضح عالم النفس الاجتماعي فليب زيمباردو الوضع بأنه " في وسط الخل من المستحيل ان تبقى الخيارة حلوة".
الامثلة على تأثير الجماعة على الفرد وتغييرها لشخصيته وتصرفاته كثيرة للغاية. البروفيسور Philip Zimbardo على مدى العديد من السنوات، اجرى العديد من التجارب لمعرفة الاسباب التي تؤدي الى ان شخص كان طيب على الدوام يصدر عنه فجأة افعال غير أخلاقية، بدون سابق تحذير. نموذج ايفان فريدريك يمكن ان يظهر للبعض على انه متطرف تطرف استثنائي ، ولكن مثل هذه الحالات يمكن ان نراها بمختلف الاحجام ، وفي كل مكان بشكل لايصدق والى درجات غير متوقعة. هذه الحوادث لاتقف فقط عند ماسمعناه في الفترة الاخيرة عن مراكز التوقيف المصرية والسعودية والسورية، ولكنها تتجاوزها ليدخل فيها نموذج بيت الايتام العراقي الذي وصل فيه الايتام الى حافة الموت جوعا.
في بيئة عمل لاتملك تعليمات وقواعد واضحة تقوم نفسية الجماعة بتغيير سلوك الفرد وقيمه تغييرا راديكاليا. عالمة النفس الامريكية Susane Fiske, تستنتج، بعد دراسة 25 الف حالة اجتماعية، ان كل واحد منا قابل لممارسة اعمال طغيانية او اي عمل شرير اخر ضد الاخرين ، إذا كنا صادف اننا كنا في بيئة او اعضاء في جماعة غير مناسبة.
حسب الاختصاصي فيليب زيمباردو فإن ظاهرة التعذيب والوصاية والقتل لاسباب عقائدية والابادة الجماعية لايمكن الانتهاء منها وتصفيتها الا إذا فهمنا قوة وسلطة النفسية الاجتماعية. لهذا السبب تفرغ لكتابة قسم كامل عن " نفسية الشر" في كتابه: "The Lucifer Effect", الذي كتبه عام 2007.
من اجل دراسة سلوك الانسان في بيئة السجن قام فيليب زيمباردو بإجراء تجربة عام 1971 تسمى "Stanford Prison Experiment", وفيها استعرض مدى سهولة جعل الانسان يقوم بأعمال لااخلاقية، كانوا يعتقدون انهم ابدا لن يجرؤن على القيام بها، بالرغم من انه لااحد قد طلب منهم بشكل صريح ان يقوموا بها. في سرداب الجامعة انشئ زيمباردو سجن. في تجربته شارك 25 شخصا من بينهم اشخاص معروفين بنضالهم من اجل حقوق الانسان واشخاص اخرين لااهتمامات لهم، توزعوا جميعا على فريق السجانين وفريق المساجين من خلال القرعة. فريق المساجين جرى تجهيزهم بالعصي والكلبشات ونظارات سوداء، وكانت مهتمهم الحفاظ على النظام خلال الارعة عشرة اياما القادمة. المسجونين تم ربط ارجلهم بالسلاسل واعطاءهم ملابس المساجين المخططة. وعوضا عن اسماءهم اطلق عليهم ارقام. المجموعتين تركوا لوحدهم ولكن جرى تصوير الاحداث.
اليوم الاول من التجربة مر بكل هدوء، ولكن الخفر الليلي اصيبوا بالملل لذلك قاموا بإيقاظ المساجين في الساعة الثانية والنصف ليلا واجبروهم على ترتيب اسرتهم. وإذا لم يكن الخفر الليلي راضي عن الترتيب يقوموا بتخريبه واجبار السجناء على الترتيب من جديد.
المساجين قاموا بالانتقام. في الصباح اعتصموا في زنازينهم ونزعوا الارقام عن ملابسهم. ردة فعل الحراس كانت سريعة. لقد فتحوا عليهم عبوات اضفاء الحريق، واخرجوا الاسرة من الزنازين وتركوا المساجين يجلسون عرايا، في حين وضع قائد الانتفاضة في السجن الانفرادي. بعد 36 ساعة انهار السجين رقم 8612 وطلب مغادرة التجربة. غير ان البروفيسور طلب منه الاستمرار بصفة جاسوسه الخاص.
غير ان المسجون رقم 8612 قج اعتقد انه من غير المسموح بمغادرة التجربة واصيب بالانهيار العصبي وبدأ بالصراخ الى ان سمح له بالمغادرة. في الايام التالية انهار المزيد من المساجين، في نفس الوقت الذي ازدادت فيه سادية السجانين، الذين منعوا المساجين عن الذعهاب الى التواليت بل ورفضوا ان يقوموا بتفريغ السطول الممتلئة بمخلفاتهم. في النتجية اصبحت الزنازين تعبق بالروائح الكريهة.
عندما اصبح السجانين ينظرون الى انفسهم من خلال الجماعة كوظيفة " نحن السجانين"، تصبح العدائية هي القيمة التي ينتجها مثل هذا الانتماء الى هذه الجماعة-الوظيفة"، حسب توضيح عالم النفس الاجتماعي Bernd Simon, من جامعة كيل الالمانية. القيم السلوكية العامة كأن تكون طيب ولطيف تصبح منسية بسبب تقمص المرء لدور معبئ بالاحكام المسبقة وخاضع لسلوك الجماعة الطاغي.
قيم السلوك العامة يفترض انها كافية ليحصل سجناء الاختبار على معاملة طيبة، ولكن التجربة، التي اجبر الباحثين على التوقف عنها بعد ستة ايام، اثبتت ان الامر ليس كذلك. البروفيسور زيبمباردو يعترف بأسف ان توقيف التجربة كان يجب ان يجري ابكر، وان تصرفه يدل على انه بنفسه تصرف وكأنه "مدير سجن"، الامر الذي يعتذر عنه.
بين تجربة Stanford Prison Experiment وابو غريب (وملجأ الايتام) توجد علاقة مباشرة. في كلا الحالتين لم يرى السجانين السجناء كأفراد وانما كمجموعة لاوجه لها تنقسم بين " نحن ، وهم". في نفس الوقت كان المسؤولين بدون مراقبة وبدون قواعد عمل واضحة حول كيفية سلوكهم مع من هم تحت مسؤوليتهم.
من نتائج مثل هذا الوضع ان السجانين قد نمى لديهم مشاعر غير ودية تجاه السجناء. حسب احدى مبادئ علم النفس الاجتماعي يفضل الانسان الجماعة التي ينتمي اليها ويصم بسهولة "مختلف المساوئ" بأفراد الجماعة الاخرى. ظاهرة التقسيم الى جماعة (نحن، وهم) تنشئ عندما يبدأ الفرد بوعي هويته وانتمائه من خلال الجماعة (نحن)، بإعتباره جزء من الكل. كلما زادت رؤية المرء لنفسه كجزء من الجماعة كلما زاد تقبله لقيم الجماعة وقواعدها. عندها يقوم بتصحيح مفاهيمه الخاصة للتتناسب مع مفاهيم الجماعة من اجل خير الجماعة والمصلحة المشتركة على حساب قيمه الفردية، ليصبح على استعداد للتضحية بحياته من اجل الجماعة. على خلفية هذه الصورة يمكن ان نفهم حتى العمليات الانتحارية للمتطرفين الدينيين، وسلوك الاصوليين الابتزازي في المجتمعات الاسلامية.
عندما يصبح الانسان مذابا في الانا الجماعية يتوقف عن استخدام تعبير انا وانت، ويصبح التعبير المستخدم هو " نحن، وهم"، والاخيرة يكون لها مضمون عدائي، تماما كما هو الامر لدى الاصوليين الاسلاميين ايضا. عندما يلتقي افراد لهم المشاعر ذاتها تصبح مواقفهم اكثر راديكالية مما لو كان كل منهم على انفراد. لهذا السبب يقال ان فكر الجماعة يعيد الفرد الى ماضيه المتوحش والبدائي.
في تجربة جرت من اجل معرفة طريقة التخلص من الاحكام المسبقة على الاحرين قام طلبة امريكيين بالنظر الى مجموعة من الصور لاشخاص من مختلف المستويات الاجتماعية. في نفس الوقت قام العالمين Lasana Harris, Susan Fiske, بتصوير ادمغتهم بالتصوير المغناطيسي لمعرفة مناطق النشاط التي ظهر تواجدها في منطقة mediala prefrontala cortex, MPFC. هذه المنطقة تكون نشطة عندما تكون هناك علاقة انسانية بين شخصين. مثلا، عندما نظر احد اشخاص التجربة الى صورة شخص مدمن مخدرات لم يجري تاشير اي نشاط في المنطقة الدماغية. بمعنى اخر لم يجري اعتبار المدمن على انه فرد ذو شخصية خاصة، على الاغلب بسبب احكام مسبقة متجذرة. عندما وجه الباحث اسئلة شخصية مثل "ماهي الفاكهة التي تروق لهذا النمر؟" نجد ان المنطقة الدماغية اصبحت نشطة، لكون المرء تعامل مع النمر على انه فرد وليس جماعة. هذه التجربة تشير بوضوح الى ان الجماعة لاوجه انساني لها، في حين ان العلاقة الفردية تخلق مشاعر ودية وانسانية وتقتل الاحكام المسبقة، كما ان المعرفة الفردية تعطي للانسان وجها حميما.
احدى القوى التي تحرك دوافع الممارسات التعسفية والارهابية هي الحاجة لخلق دفاع ضد فكرة الموت. حسب نظرية terror-management-teori, التي وضعها عالم النفس الامريكي Tom Pyszczynski, نستخدم تقاليدنا وقيمنا الثقافية من اجل تخفيف خوفنا من الموت، عندما نشعر بتعرضنا لخطر. مثلا عند وجود خطر عمليات ارهابية نصبح على استعداد للقبول بممارسات وقيم استثنائية ومتطرفة بالنسبة لقيمنا وعاداتنا الثقافية. هذا المبدأ ذاته الذي استغلته بعض الانظمة الغربية، بعد هجمات 11 سبتمبر، من اجل الحصول على تأييد سكانها للقبول بقوانين مكافحة الارهاب.
مثلا، قام Tom Pyszczynski بالطلب من طلبة ايرانيين ان يفكروا بموقفهم من ان يموتوا، هذا الامر جعلهم يعبرون بحماس عن مشاعر ايجابية تجاه عمليات انتحارية ضد الولايات المتحدة، ولكنه بعد ذلك قام بعرض نتائج دراسة تشير الى ان اغلب الايرانيين ضد العمليات الانتحارية، عندها تراجع الطلبة عن رأيهم الاول. بتجربة عكسية اجراها على الطلبة الامريكيين جعل الطلبة يقفون ،في البداية ،الى جانب " عملية هجوم وقائية" ضد الارهابيين وبعد ذلك يغيرون رأيهم ليكونوا ضد مثل هذا العمل. التجربة تشير بوضوح الى كيفية تأثير نفسية الجماعة على المواقف الفردية المصيرية.
نصيحة علماء النفس لتفادي الوقوع تحت تأثير " السلوك الشرير للجماعة"، هي ان يكون المرء دائما على استعداد للاعتراف بخطئه وتغيير وجهة نظره. من الجيد ان يكون المرء نشيط اجتماعيا ومهتم بالعمل الجماعي ولكن يجب علينا التذكر ان علينا ان نحافظ على هويتنا ( الانا) ولانذوب بهوية الجماعة (نحن) ولانتبع القواعد والقيم بدون تفكير في مضامينها. وفي حالة الضرورة لانتحرج من رفض الاطاعة، حتى ولو كانت الدولة هي التي تقوم بممارسات لااخلاقية. هذا الامر ليس دائما سهل، ولكنه ليس غير ممكن.
للكاتب محمود العودة