http://www.almasry-alyoum.com/article.as...leID=98856
الانهيارات الأخيرة
بقلم د.عمرو الشوبكى ٢٧/٣/٢٠٠٨
شهدت السنوات الأربع الأخيرة في عمر مصر نوعين من الاحتجاجات، الأول هو الاحتجاجات السياسية المنظمة التي بدأتها حركة كفاية في ٢٠٠٤، واستمرت حوالي سنتين قبل أن تصل إلي النزع الأخير، والثاني هو ما عرف بالاحتجاجات الاجتماعية، وبدأت في ٢٠٠٦، واستمرت في التصاعد دون أي إمكانية لإيقافها.
وإذا نظرنا إلي عام ٢٠٠٦ فسنجد أنه شهد حوالي ٢٢٨ وقفة احتجاجية وإضرابا عن العمل، أما ٢٠٠٧ فقد شهد ما يزيد علي ١٠٠٠ احتجاج، واقترب الرقم في الثلاثة أشهر الأولي من هذا العام من رقم العام الماضي في تصاعد غير مسبوق لم تشهده مصر منذ دستور ١٩٢٣.
ورغم أن هذه الاحتجاجات امتدت تقريبا لتشمل كل شرائح المجتمع، فإن معظمها ركز علي المطالب الفئوية المتعلقة بتحسين الأجور، ولم تطرح مطالب تتعلق بتغيير الحكم أو إسقاط النظام، فهي ليست «ثورات برتقالية» كالتي شهدتها بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، ولا هي ثورات شعبية تخطط لها تنظيمات سياسية بهدف الاستيلاء علي السلطة، إنما هي احتجاجات اجتماعية ساخطة علي الأوضاع المعيشية السيئة التي يعيشها أغلب المصريين، ولو كنا نعيش في ظل نظام يتحول نحو الديمقراطية، لكان يمكن أن تصبح هذه الاحتجاجات قوة دفع في اتجاه الإصلاح الشامل.
ولأن هذا ليس هو الحال، فصارت هذه الاحتجاجات تمثل قوة ضغط حقيقية علي الحكم، نظرا لأنه لم يخلق الآليات المطلوبة لامتصاصها عن طريق خلق قادة نقابيين حقيقيين يعبرون عن هؤلاء العمال، وقادرين علي الحوار معه والوصول إلي حلول سياسية وليست تلفيقية، كما أنه لم يأخذ آراءهم بعين الاعتبار حين تعلق الأمر باختيار رؤسائهم المعينين، وتميز معظمهم بالجهل والفساد، إنما تعامل معهم وفق الرؤية الأمنية التي "تقدر خطرهم" إذا كانوا من بين عمال المحلة، وتقدم لهم بعض التنازلات، دون البحث في أسباب تصاعد إضراباتهم.
ومن هنا فإن خطورة احتجاجات العمال وموظفي الضرائب العقارية والأطباء وأساتذة الجامعات، ليست فقط في أن هذه حوادث غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث، وإنما لعجز الحكم الكامل عن إيجاد أي حل لمشاكلهم بعيدا عن سياسة المسكنات والتلفيق والمراوغة، فعمال المحلة لن ينتخبوا نقابيين يعبرون عنهم، لأن الأمن يشطبهم قبل الانتخابات، ولن يختاروا رؤساء مجالس الإدارة ويكونوا شركاء في الأرباح، ولن ترتفع رواتبهم إلي ١٢٠٠ جنيه، لأن حل مشاكلهم يتطلب نظاما كفئا وديمقراطيا، وليس بليداً واستبدادياً، كما أن أساتذة الجامعات قد ترفع رواتبهم قليلا، ولكن مشكلاتهم لن تحل إلا إذا أصبحوا أساتذة لا يخترقهم المخبرون، ولا يعين في وسطهم الجهلاء، ويجدون أنفسهم في جامعة ينتخب فيها العميد، ويغيب عنها البلطجية الذين يدخلون الحرم الجامعي، للاعتداء علي الطلاب،
ويعاد النظر في وهم "مجانية التعليم" التي أصبحت مرادفاً لمجانية لا تعليم فيها، ولأن الدولة اختارت ألا تصرف علي العلم، فغاب مفهوم الجامعات العامة التي تنفق عليها الدولة كما هو الحال في فرنسا، أو الجامعات الخاصة التي يتقاسم تكاليفها الأفراد مع الدولة كبريطانيا وأمريكا، وارتحنا نحن علي معادلة المجانية التي تعني غياب العلم، نظير عدم دفع المال.
وهكذا تحولت الإضرابات الاجتماعية إلي عوامل نخر في قلب النظام الذي واجهها بالمواءمة وليس بالإصلاح، وأصبحنا أمام المشهد الأخير من عرض رتيب استمر لعقود رأينا فيه نفس الوجوه، ودفعنا جميعا ثمن نفس السياسات، وبالتالي لم يكن غريبا أن تبدأ إضرابات المحلة العام الماضي، وتتوقف ثم تعود وتتوقف، لتعود مرة أخري في الشهر المقبل،
كما امتدت الاحتجاجات، لتشمل لأول مرة في تاريخ مصر الموظفين، وتصل إلي الأطباء وأساتذة الجامعات والقضاة الإصلاحيين، وعرف الناس جرأة غير مسبوقة في رفض الأوضاع القائمة، وإن ظلت جميعها عند حدود الثقافة السائدة التي ترغب في تحسين الأحوال الاقتصادية مباشرة وسريعا، والحصول علي ما يسد الرمق، وليس بالضرورة أحوال البلد وأحوال الصناعة والتعليم والقضاء وغيرها. ولم تعبر حتي الآن عن قناعة واضحة بأن سبب العجز عن حل أي مشكلة، يرجع إلي طريقة إدارة الحكم نفسها، وليس بسبب مشكلات فنية في اختيار فلان وتجاهل علان.
إن ضغوط الاحتجاجات الاجتماعية مع الفشل والتحلل الداخلي، قدما لنا مشهداً عشوائياً وفوضوياً نادر الحدوث، فالحكومة استدعت جهاز الخدمة الوطنية لتوزيع الخبز، وهو ما يعني أنها فشلت في تنفيذ أبسط واجباتها، كما أنها فشلت في بناء صروح للعلم، حتي لو كانت غير ديمقراطية، وفشلت في بناء إعلام يحترم مهنيته وقارئه، حتي لو استبعد المعارضة، وفشلت في أن تحافظ علي صحة الناس من كل صنوف المرض وعذاب المستشفيات، وعجزت عن حماية أرواحهم في الطرقات، فأصبح قتلي الطرق أكثر من قتلي حروبنا مع إسرائيل، وتركتهم ببلادة تحسد عليها ضحايا الموت في عرض البحار، والمخدرات في وضح النهار، وفتاوي تجلب التخلف العقلي، وصار كل ذلك أمرا مقبولا، وليس مهما طالما لا يمثل خطرا علي أمن الحكم.
من المؤكد أن السكتة القلبية التي أصابت شوارع القاهرة، نتيجة الفوضي والعشوائية والفساد وانعدام التخطيط، ستصيب النظام برمته بسكتة مماثلة نتيجة نفس الأسباب، فلأول مرة تشهد مصر منذ تأسيس محمد علي الدولة المصرية الحديثة، نظاما سياسيا يركز كل قدراته علي إدارة العمل اليومي الذي تحول مع طول البقاء في السلطة إلي إدارة التسيب اليومي، لا يفرق معه تقارير الفساد عن أي مسؤول، ولا الانهيار الذي أصاب التعليم والصحة والنقل والبحث العلمي، ناهيك عن المشاهد المخزية التي تصاحب أي انتخابات، وأدخلنا جميعا في معارك حربية يعاني منها كل مصري طبيعي، وهو في طريقه لعمله سواء استخدم وسيلة نقل عام، أو فتح الله عليه بسيارة،
فالأخطار التي تحيط به وتحرق دمه من غير الطبيعي أن يستمر في تحملها، وعاني أيضا من مشكلات وقصص مدارس أبنائه ومستشفيات حكومته، ومن خناقات الجيران وزملاء العمل، وجرائم المسؤولين دون رابط ولا قانون، كل هذا جعله دائخاً عاجزاً علي الفعل السياسي المنظم، ولكنه وضع يده أخيراً علي سبل جديدة للمقاومة والرفض عبر عنها بالاحتجاجات الاجتماعية الجديدة .
لقد أصبح العجز والفشل الداخلي للحكم، لا يؤهلانه علي تحمل ربع تلك الاحتجاجات، وسيصاب حتما بسكتة داخلية شاملة، ربما تكون في نفس توقيت السكتة المرورية الكاملة المتوقع أن تصيب مدينة القاهرة قبل نهاية هذا العام.