عبد البارى عطوان
القدس العربى
مصر مثل الفيل، ثقيلة في حركتها، صبورة في تحملها، ولكنها عندما تبدأ في الحــــركة فانها لا تتــــوقف مطلقا، حتي تحطم كل ما هو امامها، خاصـــة اذا كانت معدتها خاوية، واطفالها لا يجدون الطعام.
ما حدث في مدن مصر بالامس من اضرابات ومظاهرات مجرد البداية، او بداية النهاية لهذا النظام، فالمهم لم يعد هو نجاح الاضراب او فشله، وانما هو ان المارد الذي تمثله القاعدة الشعبية، بدأ يتمرد علي الجوع والقهر والفساد، ويرفع صوته محتجا.
ثلاثون عامـــا من السلام الزائف والوعود الكاذبة، والانـــخراط المذل في مشاريع الحروب الامريكـية ضد العـــرب والمسلمين اوصلت الشـــعب المصري الطيــب الصـــبور الي الجوع، والموت في طوابير الخبز، بينما الشعوب الاخري تتقدم وتزدهر، وتتحول الي نمور اقتصادية.
الرئيس المصري انور السادات وعد المصريين بالرخاء في غضون ثلاث سنوات من توقيع معاهدة السلام.
وبعد ثلاثين عاما جاء الرخاء فعلا، ولكن ليس للشعب بل الي مجموعة صغيرة من المحيطين بقصر الحكم، امتصوا دماء الفقراء والمعدمين، وحولوهم الي ادوات لخدمة جشعهم ونهب ثروات البلاد.
قبل ثلاثين عاما كان المصريون يتندرون علي طوابير الفراخ امام الجمعيات، حتي انهم هتفوا في انتفاضة الخبز عام 1977 ضد وصول كيلو اللحم الي جنيه، الآن لا يجد الفقراء، وهم الاغلبية الساحقة، حتي رغيف الخبز.
عشت في مصر، حيث كنت طالبا في احدي جامعاتها، في اواخر الستينات واوائل السبعينات واثناء حرب الاستنزاف، وقبل ان تنحرف البلاد غربا، وتسلم رقبتها لصندوق النقد الدولي، واستطيع ان اقول بان الجمعيات كانت عامرة بكل انواع المواد الغذائية. وكان جميع ابناء مصر يلبسون الملابس الصوفية والقطنية والاحذية المصرية عالية الجودة، ابتداء من رئيس الجمهورية وحتي اصغر موظف في الدولة.
الملابس والكماليات المستوردة كانت تباع في شارع صغير اسمه الشواربي لا يؤمه غالبا الا الاجانب وحفنة من المصريين.
ومن المفارقة ان كيلو اللحم البتلو كان يباع في موسمه بأقل من 45 قرشا، اي اقل من النصف من التسعيرة الحكومية الرسمية، بسبب وفرة المعروض، وانحياز الدولة الي الفقراء المعدمين المسحوقين. اما اليوم فوصل سعره الي 45 جنيها.
مصر الكبيرة العظيمة بيعت تحت عنوان الخصخصة للولايات المتحدة الامريكية واسرائيل بثمن بخس قبضته مجموعة محيطة بالرئيس مبارك ونجليه والنخبة الحاكمة، واصبح كل هم هذه المجموعة هو تحقيق المزيد والمزيد من المليارات، وتتكلم فيما بينها بلغات اجنبية وتستنكف عن استخدام اللهجة المصرية المحببة لدي ثلاثمئة مليون عربي، باعتبارها لغة التخلف، ولتمييز نفسها عن الاغلبية الساحقة من ابناء مصر الصابرين الطيبين.
صعقت عندما سمعت يوما سيدة مصرية تنتمي الي طبقة القطط السمان، قابلتها بالصدفة، تقول انها ترفض التعامل بالجنيه المصري، لانه اقل من مستواها، وتفضل التعامل بالدولار وبطاقات الائتمان الغربية، وتسافر دائما علي الخطوط الاجنبية، حتي لا تحتك بالطبقة الدنيا من ابناء شعبها.
هذه هي افرازات ثقافة السلام والركوع عند اقدام الولايات المتحدة، والانخراط في صفوف محور المعتدلين وتقزيم دور مصر، من دولة رائدة الي دولة تابعة، ترضخ لاملاءات كوندوليزا رايس كاملة ولا تجرؤ علي المناقشة.
امريكا اكبر دولة منتجة للقمح، ومصدرة له في العالم، فلماذا لا تهرع لإنقاذ حليفها الرئيس حسني مبارك الذي ساعدها في كل حروبها في العراق وافغانستان وربما ضد ايران وسورية في المستقبل، وتحول الي وسيطها للسلام والتطبيع في المنطقة؟
الجواب بسيط، وهو ان المشكلة ليست في الولايات المتحدة، بقدر ما هي في النظام المصري نفسه، الذي لا يعرف كيف يدير تحالفاته ويوظفها في خدمة مصالح شعبه واجياله المقبلة. فكل هم هذا النظام هو البقاء في الحكم بأي ثمن مع تضخيم ارصدة المحيطين به في البنوك الاجنبية.
ثلاثون عاما من الكذب والتضليل، واصدار احصاءات مزورة عن نسب النمو الاقتصادي، وزيادة رصيد البلاد من العملات الاجنبية، والوعود بالرخاء وارتفاع مستوي المعيشة، ليجد الشعب المصري نفسه واقفا في طوابير الخبز لاكثر من ثماني ساعات يوميا، وأحد عشر شخصا اصبحوا شهداء هذه الطوابير حتي الآن.
مصر الآن بلا اقتصاد ولا سياسة ولا قيادة، مثل خشبة تطفو علي سطح نهر متدفق لا تعرف اين ستتوقف ومتي وكيف، دفتها ليست بين يديها، وربانها هارب من القيادة ومسؤولياتها الي عالمه الخاص في منتجع شرم الشيخ بعيدا عن المشاكل وما يكدر النفس.
مآسي مصر اليوم كثيرة، ولكن ابرزها نخبة فاسدة بلا ضمير من الاعلاميين والكتاب الذين احــــترفوا تزوير الحـــقائق، وتخدير المواطنين بوعود كاذبة بالرخاء والاستقرار، ومساندة سياسات اوصلت البلاد والعباد الي الهاوية. نحن لا نعمم، وانما نخص المجموعة المسيطرة علي وسائل الاعلام المؤثرة المملوكة للدولة، فهؤلاء خانوا ضميرهم الوطني والمهني معا، عندما تستروا علي الفساد، واصبحوا جزءا منه.
الشعب المصري بدأ يتمرد، ويكسر دائرة الصمت، ويسمع صوته عاليا طالبا التغيير الجذري، وهو قطعا سيحقق اهدافه، هكذا علمتنا التجارب المشرفة التي خاضها طوال ثمانية آلاف سنة من الحضارة والابداع. وفي تمرده بداية الخلاص لهذه الأمة من حال الهوان التي تعيشها، فمنذ ان خرجت مصر عن سربها باتفاقات كامب ديفيد واحوالها في تدهور. ولعل ما حدث بالأمس هو بداية خروج مصر والعرب جميعا من هذا النفق المظلم.
وربما نجحت قوات الامن المركزي هذه المرة في قمع المتظاهرين وارهاب الشعب في استعراضها للقوة ونزول عشرات الآلاف من منتسبيها الي الشوارع والميادين العامة، ولكن السؤال يبقي بشأن الخطوة المقبلة، وخطط الحكومة لمعالجة ازمة الجوع المتفاقمة وتلبية الاحتياجات الاساسية لنحو ثمانين مليون مصري