معارضة اشبه بالحكومة و حكومة اشبه بالمعارضة
العملاق والمهرّج
المحامي / سليمان الحكيم
أبادر إلى القول بأن الأسباب المعلنة لما يحدث في لبنان ليست إلا ستارة تموه مصدر الشرر الذي تطاير في هذه الأيام وأطلق نذر حرب أهلية قد تسحب وراءها إلى ساحة القتال أطرافا اقليمية ودولية . وكانت بداية القصة في زمن الرئيس رفيق الحريري الذي نسج بالاتفاق مع السعودية والولايات المتحدة ملامح حل شامل لما يعرف بأزمة الشرق الأوسط , وفيما يتعلق بلبنان فإن أحد بنود المشروع تقترح توطين الفلسطينيين المقيمين على الأرض اللبنانية منذ احتلال فلسطين عام 1948 , ومنحهم الجنسية اللبنانية ومعها تعويض مالي تتعاون دول الخليج على أدائه ولما كان التكوين السكاني اللبناني حساساً ويقوم على توازن طائفي دقيق لا يحتمل أي إخلال به , بما يعني أن هؤلاء الفلسطينيين سيرجّحون من حيث العدد كفة الطائفة السنية , و قد يكون مثل هذا الاعتبار حيويا بالنسبة لليمين اللبناني التقليدي الذي كيّف مصالحه وفق الاعتبارات الطائفية , ولكن القضية بالنسبة لحزب الله ومعه اليسار والقوى الوطنية اللبنانية ,تعني تصفية نهائية للقضية الفلسطينية وتثبيتاً لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي ستحتل اسرائيل موقع القلب والطليعة فيه .
ومما يدهش أن اليمين اللبناني المسيحي الذي عُرف بانعزاليته وبطروحاته الاقليمية والطائفية المتعصبة , وببغضه المرّ لكل ما هو عربي ومسلم , قد بدا متحمساً لمشروع التوطين بأكثر مما بدا اليمين المسلم , ولهذه الحماسة سببان , الانصياع الذليل أمام الارادة الأميركية , ومنى الظفر بالمليارات التي ستغطي بها السعودية ومعها دول الخليج كلفة المشروع . وقد حدث في آخر اجتماع للراحل رفيق الحريري مع مجلس الوزراء , أن طرُحت قضية الدين الخارجي الكبير الذي ينوء به لبنان وكان مقداره وقتها أربعون مليار دولار , فقطع الحريري مجرى الحديث وأشار مبتسما بإبهام يده اليمنى وكأنه يمحو شيئا على يده اليسرى , ولما استعصى مغزى هذه الحركة على بعض الوزراء , اضطر الحريري الى شرحها له بالعربي الفصيح وقال لهم أن لبنان سيغدو بلداً بلا ديون بمجرد صدور مرسوم توطين الفلسطينيين . ولن يكون لبنان وحده معنياً بهذا المشروع , إذ ستلحق به كل الدول العربية المضيفة للاجئين الفلسطينيين وعلى رأسها الأردن الموعود بإعادة إلحاق الضفة الغربية لنهر الأردن بسيادته ليرجع أهلها مواطنين أردنيين , ولعل هذا ما يفسر توسع حركة الاستثمار العقاري فيه الى مستوى غير مسبوق متجاوزة الامكانيات الاقتصادية لسكانه وأعدادهم , وهذه قصة تستحق حديثا خاصا بها .
بطبيعة الحال لا يمكن التفكير بشرق أوسط جديد إلا بتكبيل القوى الوطنية اللبنانية وإضعاف قدرتها على المقاومة بدءاً من تجريدها من سلاحها وانتهاء بإخماد صوتها , وقد يكون حزب الله في طليعة هذه القوى , إلا أنه ليس وحده المعبّر عنها في لبنان , فإلى جانبه يقف الحزب الشيوعي اللبناني , والحزب القومي الإجتماعي , والناصريون , والهيئة السنّية لدعم المقاومة وتيار التوحيد ,وقسم مهم من المسيحيين في منطقة الشمال والذين يقودهم آل فرنجية ,والحزب اللبناني الديمقراطي الذي يقوده سليل إمارة آل أرسلان الدرزية العريقة ,وتمثّل هذه القوى كل الطيف الديني والمذهبي اللبناني , بل أن اللواء ميشيل عون وتنظيمه وهم جميعا من الطائفة المارونية , وقف بشجاعة وفهم العسكري اللامع لطبيعة الصراع ودور اسرائيل فيه , الى جانب حزب الله والقوى الوطنية , ولعلها المرة الأولى منذ استقلال لبنان , التي تقف فيها كتلة مارونية بهذا الثقل الى جانب الطرف المسلم العروبي المقاوم , ويجب أن يسجل التاريخ للرجل أنه رفض في عام 2006 عرضاً أميركياً صريحاً بتنصيبه رئيساً للجمهورية مقابل نفض يده من يد حزب الله والانخراط في المشروع الأميركي – الاسرائيلي.
كان موضوع شبكة الاتصالات السلكية التي مددها حزب الله مابين بيروت وجنوب لبنان , وقضية نقل العميد وفيق شقير من منصبه كرئيس لأمن مطار بيروت الدولي , هما الحدّ الذي طفح عندهما صبر القوى الوطنية اللبنانية , معتبرة أنهما بداية تنفيذ المخطط الأميركي – الاسرائيلي بالتواطؤ مع اليمين الذي يمثله سعد الحريري والمارونية التقليدية ومعهم زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي ونجل زعيم اليسار الراحل , وليد جنبلاط ! وقد يكون الارتباط العضوي بالمصالح الاقتصادية الأميركية من مبررات اليمين اللبناني للانجراف في هذا المخطط , ولكن لوليد جنبلاط مبررات بعيدة تماماً عن أي منطق سوي .
كان الزعيم كمال جنبلاط فيلسوفاً وقائداً ذا شخصية فذة وعقلية تقدمية أهلته لقيادة الحركة الوطنية اللبنانية منذ الاستقلال وحتى اغتياله على يد المخابرات السورية في ربيع 1976 , كما كان قد ورث عن أسلافه زعامة الطائفة الدرزية , واستطاع أن يخرجها من عزلتها ويزج بها في المسار النضالي لأمتها العربية . وقد ورث وحيده وليد عنه تلك الزعامة دون صفاته الأخلاقية أو قدراته القيادية , والحقيقة أن العلاقة بينهما اتصفت منذ بلوغ وليد سن المراهقة بالتوتر والجفاء , فقد كان الأب يشعر بخيبة أمل شديدة وهو يستشعر ضياع إرثه على يد ولد عاطل عن الثقافة والعلم , منشغل بسفاسف الأمور . وقد كان كمال جنبلاط محقاً في مخاوفه لأن الولد بدد كل إرث أبيه السياسي والأخلاقي و أبقى على الإرث الطائفي الذي لا يتطلب موهبة ولاعقلا , فالناس في المجتمعات المتخلفة تتبع زعيم الطائفة لشخصه حتى لو كان مجنونا .
وقد حدث في يوم 12-6-1982 , إبان الاجتياح الاسرائيلي للبنان والمسمى بعملية سلامة الجليل , أن فوجئت قيادة القوات المشتركة الفلسطينية واللبنانية , بالدبابات الاسرائيلية تنحدر الى شرق بيروت قادمة من جبال الشوف التي تقع تحت سيطرة الحزب التقدمي الاشتراكي , الحليف التاريخي للثورة الفلسطينية والقائد للحركة الوطنية اللبنانية , وكان العميد سعد صايل رئيس هيئة الأركان الفلسطيني – رحمه الله – قد أقام خطة دفاعه على أساس وقف الزحف الاسرائيلي عند مضيق الناعمة الساحلي والذي يعتبر مصيدة قتل مثالية للآليات , باعتباره الطريق الوحيد المتاح أمامها من حدود فلسطين وعلى عرض السهل الجنوبي اللبناني , وقد استبعد العميد سعد صايل أن يسلك الزحف الاسرائيلي الطريق الجبلي بظن أن إعاقته هناك مؤكدة . وقد تبين فيما بعد أن الجيش الاسرائيلي قد وضع وراء مقود دباباته وعلى أبراجها أطقماً من الضباط والجنود الدروز ولما تقدموا باتجاه المرتفعات الدرزية فإن وليد جنبلاط أمر مقاتلي حزبه بإفساح الطريق أمامهم والامتناع عن التصدي لهم , ولما عاتبه ياسر عرفات – رحمه الله – في الاجتماع الأخير للقيادة المشتركة قبل خروج الفلسطينيين من لبنان , وجد وليد جنبلاط الجرأة – وقد أمن العقوبة – ليردّ عليه قائلا : بدّك يا أخ أبوعمار درزي يقوّص درزي منشان خاطرك؟ والشاهد أن الالتزام الطائفي الموصول باسرئيل , ودناءة نفسه أمام بريق الذهب السعودي , هما اللذان يحركان وليد جنبلاط بعيدا عن أي التزام آخر ولو تعلق بمصالح وطنه لبنان , وقد وجد في مشروع الشرق الأوسط الجديد منفذا لتوسيع نطاق زعامته الطائفية لتمتد الى دروز فلسطين والجولان السوري .
إن الصراع الدائر اليوم في لبنان , ليس طائفيا بالتأكيد وبدلالة الأمثلة التي أوردتها , وهو ليس صراع ايراني – سعودي تخوضه السعودية بالوكالة عن الولايات المتحدة , ويخوضه حزب الله بالوكالة عن ايران , ولكنه صراع بين القوى الوطنية والقومية والاسلامية المتنورة , ضد العدوان الاسرائيلي وحليفته أميركا وذيلهما الرجعي العربي , بل هو صراع للدفاع عن القرار الوطني اللبناني المستقل ضد محاولة ارتهانه للارادة السعودية الوكيلة المنفذة للمشروع الأميركي – الاسرائيلي.
وفي ظني أن العلاقة بين حزب الله وايران تحتاج الى وقفة موضوعية بعيداً عن التجني الأعمى وعن الانحياز المتعصب , فالحزب ليس تنظيماً طائفياً مغلقاً على الشيعة وإن كانوا يشكلون الكتلة الأعظم في صفوفه , ففيه مناضلون من السنّة ومن المسيحيين , وهوقد يسلّم بولاية الفقيه في ايران , ولكنه يناضل من أجل تحرير ما تبقّى من أرض لبنانية محتلة , ولقيام نظام ديمقراطي تتقاسم السلطة فيه كل القوى السياسية اللبنانية بمختلف اتجاهاتها , وهو أول من يعرف أن لبنان غير قابل للقسمة ولا للانضواء تحت ظل نظام شمولي, وقد أثبت الحزب على طول مسيرته المضيئة التي بلغت حتى اليوم خمسة عشر سنة , أنه يميز بين العلاقة الشرعية والعلاقة السياسية مع الأنظمة التي فرضت ضرورات السياسة أن يتحالف معها . ولما كانت الوطنية والعمالة – مهما كانت مبرراتها العقائدية – لا تجتمعان فإن الحزب الذي يهزم القوة الاسرائيلية العاتية ويمرغ كرامتها في تراب أرضه , والحزب الذي يقدّم الابن البكر لأمينه العام في طليعة السرايا الاستشهادية , يمتلك من الكرامة والأنفة ما ينزهه عن التبعية لأحد مهما كانت درجة القربى, والعين المنصفة قادرة على التمييز بين التحالف الذي تشد خيوطه المصالح والتقارب العقائدي, وبين العمالة التي لا تتعدى عملية بيع ضمائر وشراء ذمم !
ولقد كان بوسع حزب الله وحلفائه تصفية المرتكزات اللبنانية لاسرائيل وأميركا بيسر كما أثبتت وقائع الميدان , ولكنه اكتفى باقتلاع مخالبها و تحجيمها فهماً منه لطبيعة التوازنات الاقليمية والدولية , وحرصاً على الحد الأدني من الوحدة الوطنية . وكذلك أخليت أوكار الحريري وجنبلاط من مقاتليها وسلاحها في غضون ليلة واحدة , وكانت اوكار اليمين المسيحي في متناول اليد , وبخطوة كانت قمة في الوطنية والحصافة والكبرياء , سلّمت القوى الوطنية تلك الأوكار والأسلحة بل الشارع اللبناني بأسره , لقوات الجيش اللبناني . وفي واقع الأمر فإن نظرة على حلفاء تيار المستقبل الذي يقوده السيد سعد الحريري , تعطي العارف بوضع لبنان صورة عن الانحطاط الأخلاقي والوطني بل والديني الذي انحدر اليه هذا التيار ومن ورائه النظام السعودي, فمن هؤلاء الحلفاء الدكتور سمير جعجع جزار مخيمي صبرا وشاتيلا في خريف 1982 والذي ذبح بحماية الجيش الاسرائيلي عشرة آلاف فلسطيني ليس بينهم مقاتل واحد , ومن حلفائه وليد جنبلاط الذي فتح أبواب معاقله الجبلية للغزو الاسرائيلي في صيف ذلك العام وكان وراء سقوط بيروت, ومن حلفائه أمين الجميّل الرئيس اللبناني الوحيد الذي أنهى مدة رئاسته بفضيحة عمولات واختلاس, وأحد عرّابي التحالف اليميني- الاسرائيلي.
هذه هي صورة ما يحدث في لبنان, ولايسع المتابع المهتم إلا أن يقارنها بما يحدث عندنا في العراق حيث يُراد للصراع بين القوى السياسية أن يأخذ ستاراً طائفياً ليغطي الدور السعودي والكويتي والقطري , ويطمس آثار التخريب الايراني, والمؤلم حقا أنه بقدرما نغبط القوى الوطنية اللبنانية على قيادتها الواعية والنزيهة والمتفتحة , فإننا نرثي لحال العراق ونتساءل عن سبب غياب مقاومة وطنية حقيقية على أرضه تقتدي بتجارب ثورية سبقتها على أرض الجزائر وفييتنام .
وفي حين تنصت الدنيا لخطاب يلقيه السيد حسن نصر الله أو لمؤتمر صحفي يعقده , ويشهد له الأعداء بالصدق والالتزام بشرف الكلمة, وبكونه اليد الضاربة حقاً والممتدة بالعون المجرد عن الغرض لحماس وغيرها من القوى المقاتلة على أرض فلسطين – برغم تحفظات مشروعة على هذه العلاقة – فإن قدرنا في العراق قد رزأنا بقادة مدعين عجزوا أن يكونوا ولو إصبعاً ضارباً دفاعاً عن فقراء مدينة الثورة التي تسببوا في قتلهم وخراب بيوتهم , في حين سلِمت الرقاب الغليظة لأناس من شاكلة بهاء وحازم الأعرجي وحسن شنيشل وعبد الهادي المحمداوي ! بل أن كبيرهم الهارب اللائذ بحمى مدينة قم – الذي بدأ بادعاء القيادة وانتهى بطلب الحماية - لم يجد ما يردّ به على استغاثات عصابته من عملية التصفية التي تتعرض لها على يد السلطة , سوى بشارة زعم أن السيدة فاطمة الزهراء قد ألقتها اليه خلال زيارتها له , وبشرته بالمنزلة والكرامة للمقتدائيين القتلى في سوق الشيوخ , وأنبأته أن حكومة المالكي ستسقط بعد أربعين هؤلاء القتلى ! وقد ردّ المقتدائيون له البشارة بأحسن منها , فزفوا اليه خبر كرامة أنعم بها الله عليه , فقد بكت دماً قانياً صورة معلقة له في مسجد الحسين القديم بالعمارة !
|