من الصعب القول إن ما هو موجود في سوريا علمانية أو حالة علمانية، على الرغم من الخلفية الأيدلوجية العلمانية للنظام القائم في دمشق. يمكن القول إن ما هو كائن في سوريا عبارة عن مكتسبات علمانية، يعود السبب الأول في وجودها إلى تعدد الأديان والطوائف والإثنيات المكونة للمجتمع السوري، من دون أن نغفل أن نظام البعث السوري قد ساهم فعلياً -في حين من الزمن- في تكريس تلك المكتسبات خاصة قبيل أن تشهد بعض مكونات ذلك المجتمع عودة شرسة إلى الأصولية الدينية.
ومن تلك المكتسبات العلمانية التي نعني، التعليم المختلط الذي كان سائداً في معظم الأرياف السورية وبعض المدن لاسيما مدن الساحل السوري، وكذلك التحرر النسبي الذي تعيش في ظله المرأة السورية مقارنة بالمرأة الوهابية، فعلى سبيل المثال نجد أن حق المرأة في سوريا في الحصول على إجازة سوق السيارة وقيادتها أمر بديهي ولا يحتاج إلى نقاش وهذا المكتسب(الحق) شكل من أشكال العلمانية!، وقل الأمر نفسه في حق المرأة في الانتخاب والترشيح لعضوية مجلس الشعب وما شابه ذلك بمعزل عن رأينا بآليات الانتخاب والترشح تلك، ناهيك عن العديد من المناصب الرفيعة التي تولتها المرأة السورية في وزارات الدولة وسلك القضاء الخ...
المكاسب التي حققتها المرأة السورية طوال خمسين عاماً، وجلّها علماني بامتياز، بدأت الآن تتعرض للتلاشي بطريقة تبدو مقصودة ومنظمة في آن ، وقد سبق للكثير من الكاتبات والناشطات السوريات أن أشرن إلى ذلك في الكثير من مقالاتهن أثناء عرضهن للهجوم الذي تتعرض له الجمعيات المعنية بالمرأة وهو هجوم لم تكن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بمنأى عنه! ومن أولئك الكاتبات المحامية رزان زيتونة والروائية سمر يزبك والدكتورة مية الرحبي على سبيل المثال لا الحصر، وقد بينت معظم تلك الكاتبات الدور السلبي لرجال الدين الإسلامي "المعتدل" في حالة التدهور تلك، وطبعاً يأتي في طليعتهم الشيخ "المتنور" محمد سعيد رمضان البوطي الذي لا يجد حرجاً أن يلصق تهمة العمالة للصهيونية بكل من يخالفه الرأي والتوجه وهو متمكن في هذا المنحى ولله الحمد.
لكن، من جهة أخرى، نجد أن العلمانية لم تكن متجذرة ذات يوم في بنية المجتمع السوري، بمعنى أن الأقليات الدينية والإثنية كانت تتمترس خلف العلمانية كون هذه الأخيرة تحقق لها العديد من المكاسب أو الحقوق التي ربما ستكون مغتصبة(من وجهة نظرها) في ظل هيمنة الثقافة الإسلامية التي اعتادت النظر إلى الآخر المغاير أو المختلف عنها باعتباره صنفاً ثانيا أو ثالثاً من البشر! بهذا المعنى نجد أن العلمانيين من خلفيات إسلامية هم أكثر صدقاً في علمانيتهم من أولئك الذين هم من خلفيات أقلوية(الكلام هنا ينطوي على استثناءات بالتأكيد).
ورغم كل ما سبق ذكره، فإن المدقق والمتابع للحراك في المجتمع السوري طوال نصف قرن، قد يصل إلى نتيجة مفادها أن لا وجود للعلمانية الكلية حتى لدى العلمانيين أنفسهم، إذ بشيء من الدقة سنصل إلى نتيجة مفادها أن العلمانيين السوريين(وهم من خلفيات مثقفة بطبيعة الحال) هم علمانيون علويون وعلمانيون سُنّة وعلمانيون مسيحيون وعلمانيون أكراد وعلمانيون دروز وعلمانيون أرمن الخ... بكلمة أخرى، الطيف الأوسع من العلمانيين السوريين هو علماني لكن ضمن حدود طائفته أو عرقه أو مذهبه الديني.
وقولي هذا تترجمه الندرة في حالات الزواج المختلط في صفوف العلمانيين، لاسيّما جيل الآباء؛ وسيكون أكثر حدة ووضوحاً حال كانت الفتاة الراغبة بزواج من خارج طائفتها ابنة لرجل أو مثقف علماني، ومن أي طائفة كان ذلك العلماني. وحالات الزواج التي رصدتُ بعضها في صفوف العلمانيين كان أغلبها نتاج مكابرة أو مصلحة مادية، أو نزوة عاطفية من قبل هذه الفتاة أو ذلك الشاب، أكثر من كونه ناتجاً عن قناعة راسخة. وهذا لا ينفي بحال من الأحوال أن الكثير من حالات الزواج كانت تتم عن قناعة ورضا من قبل الطرفين وحتى من قبل أهل الطرفين كذلك، لاسيما في خمسينات القرن الماضي وستيناته عندما كان واقع هاتيك المرحلة ينطوي على إمكانات كبيرة(كما كان يبدو)، ولم تكن الطائفة الدينية هي المرجع لهذا المواطن أو ذاك، بل كان مرجعه الوحيد هو عقيدته الحزبية والإيديولوجية التي يعتنقها، فضلاً عن ثقافته التي كان يظن انه سيغيّر بها وجه العالم من حوله بغية الولوج إلى عالم جديد! أضف إلى ذلك أن المد الإسلامي لم يكن قد استشرى في المنطقة بمثل هذه الطريقة المرعبة التي بدأها منذ هزيمة حزيران.
وعطفاً على ما سبق سيكون من السخف أن يناقش الزواج المختلط بين أبناء رجال الدين، سواء أكان المسيحي- الإسلامي، أم ضمن الطوائف الإسلامية المختلفة. والحالة الوحيدة التي تم رصدها –حسب معلوماتنا المتواضعة- هي زواج ابنتين لرجل دين علوي كانت له شهرته في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد تزوجت ابنتاه برجلين من الطائفة السُنيّة. ومن نافل القول إن مثل ذلك الزواج قام رغم انف أهل الطرفين، خاصة أن أحدهما كان متديناً. لكن ما يسجل في هذه الحادثة، انه لم يجر فيها أي شكل من أشكال الإرهاب الاجتماعي الذي عادة ما ينتهي بجرائم "الشرف"، وقد يكون السبب في ذلك كون "جرائم الشرف" منبوذة بحكم العرف والعادة في صفوف الطائفة العلوية. وحالياً ثمة شخصية ثقافية سورية متميزة، لا تجرؤ زوجته حتى الآن أن تعلن عن زواجها منه أمام أهلها خشية منهم، ذلك نتيجة الاختلاف المذهبي الديني، رغم مضي أكثر من ثلاث سنوات على ذلك الزواج!
وقد كان من الأمور التي لفتت انتباهنا، راهناً، في حالات الزواج المختلط، هو تعصب الأبناء للمذهب الديني للأب إذا كانوا يعيشون في محيط أكثريته العددية مماثلة لمذهب الأب، أما إذا كانوا يعيشون وسط أكثرية عددية مماثلة للمذهب الديني للأم فإن التعصب يكون لها. وكأننا بالأبناء من خلال تعصبهم ذاك، وهو يفوق عادة تعصب أتباع المذهب بالوراثة من قبل والدين متماثلين مذهبياً، يريدون التأكيد بشدة في ولائهم للأكثرية التي يعيشون وسطها! وكأننا بهم في تعصبهم (الزائد) هذا يبغون تقديم شهادة "حسن سلوك" بحيث يصبحون مقبولين اجتماعياً ضمن الأكثرية التي يعيشون وسطها! مع تأكيدنا أن التعصب هنا قد لا يكون ذا علاقة بالتديّن مطلقاً.
وحال العلمانيين السوريين التي عنيت، ليست عن سوء نية إطلاقاً، بل ببساطة هناك تراكم تاريخي جرّاء موروث ديني أو عرقي هائل، قد يكون قابعاً في البنية النفسية، لدى هذا العلماني أو ذاك لا يستطيع تجاوزه بين ليلة وضحاها لصالح علمانية لم تتجذّر بعدُ في المجتمع ولا في وعي هذا العلماني أو ذاك! وهذا ما ترجمته نصيحة رجل علماني(من خلفية طائفية صغيرة) لابنته التي أحبت شخصاً من خارج طائفتها المشهود لها بشدة التعصب، وقد كانت نصيحة الرجل لابنته: "اعشقي يا بنتي من شئت لكن لا تتزوجي من خارج طائفتك لان المجتمع لن يرحمك".
من جهة أخرى نجد أن القانون السوري يرتكز في بعض مبادئه على أدبيات ونصوص إسلامية، بعضها لا يراعي مشاعر الآخرين وحقوقهم، منها على سبيل المثال لا الحصر، نسبة الأبناء (حال كان الزواج بين شخصين أحدهما من الدين المسيحي والآخر من الدين الإسلامي) إلى "أشرف الوالدين ديناً"، طبعاً أشرف الوالدين ديناً هنا هو المسلم! وهذا من شأنه أن يعيق الكثير من حالات الزواج الإسلامي- المسيحي، لما في تلك النظرة من انتقاص لحقوق المواطن المسيحي ومشاعره (طبعاً نستخدم هنا لفظة مواطن على سبيل المجاز أياً كانت خلفيته الدينية).
ما سبق ذكره ليس حكراً على علمانيي سوريا بالتأكيد، كما أن حالات عديدة مشابهة جرت في التاريخ، وما ذكره مسعود ضاهر أثناء حديثه عن زواج الشوام بالمصريين يوجز لنا الكثير، إذ يقول «فقد عُرف المهاجرون من الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين بـ"الشوام" وقد حملوا معهم "أمراضهم المذهبية وجعلوا الرابطة الطائفية أقوى من الرابطة الوطنية، لذلك تمايزت كل طائفة عن سواها بالنوادي والجمعيات الخيرية والكنائس والمستوصفات. وفي حال الخروج من الطائفة تبقى رابطة الدين الواحد.. ونادراً ما خرج الشوام في علاقتهم الاجتماعية، خاصة شؤون الزواج، من دين لآخر لا بل من طائفة إلى أخرى طيلة القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. وكان المسلمون الشوام أكثر انخراطاً من إخوانهم المسيحيين في المجتمع المصري في حين كان تقارب المسيحيين أكثر بروزاً مع الجاليات الأوربية خاصة في الإسكندرية حيث سجلت حالات كثيرة للزواج"» (هجرة اللبنانيين إلى مصر- هجرة الشوام، منشورات الجامعة اللبنانية، 1986، ص59).
طبعاً، قد لا تكون صورة المشهد السوري في الجانب الذي تطرقت إليه بالسوداوية التي قد يخرج بها انطباع القارئ، لكن حتماً ستكون الصورة شديدة السواد إذا استمر الإعلام الوهابي ببث سمومه عبر شاشات تلفازه في أرجاء الأرض.
http://www.alawan.org/?page=articles&o...article_id=1232