نظريات التنمية خرافة عمرها نصف قرن
3 مليارات إنسان يعيشون بدولارين أو ثلاثة في اليوم وأكثر من مليار آخرين بأقل من دولار واحد

بيروت: سوسن الأبطح
بحسب كتاب «خرافة التنمية الاقتصادية» نظريات التنمية خرافة عمرها نصف قرن
فإن ما وعد به فقراء العالم منذ نصف قرن من انفراجات ورفاهية ـ لو هم اتبعوا الوصفات التي اعطيت لهم ـ هو مجرد سراب، بدليل ان هؤلاء يزدادون عوزاً وتقهقراً، فيما يحافظ الأغنياء (الذين يُسدون لهم النصائح ويرسمون لهم سبل النجاح) في مواقعهم بدون أن يتزعزعوا أو يرفّ لهم جفن.
أوزوالدو دي ريفيرو، ديبلوماسي بيروفي، مثّل بلاده في الأمم المتحدة ومنظمات دولية عدّة، واستطاع خلال عشرين سنة، ترأس خلالها البعثة الاقتصادية لقمة بلدان عدم الانحياز وعمل رئيساً لمجلس النظام الاقتصادي لبلدان أميركا اللاتينية، أن يرى بأم العين كيف يسحب البساط من تحت أرجل الدول الضعيفة بحجة دفعها إلى التنمية. وازداد إحساس هذا الديبلوماسي بوطأة الغشّ الذي ترزح تحته بلاده وأمثالها من دول العالم الثالث حين عيّن عام 2001 سفيراً لبلاده لدى «منظمة التجارة العالمية». وكتابه حول خرافة التنمية، الذي ترجمته حديثاً «الدار العالمية للكتاب» في بيروت، هو واحد من سلسلة مؤلفات له، الهدف منها تفتيح العيون على خدعة اقتصادية «افتراسية»، كما يسميها، سنرى نتائجها مأساوية خلال السنوات العشر المقبلة. والسبب، كما يشرح لنا المؤلف، ان الدول الغربية القوية اتبعت مساراً تدريجياً في بناء كياناتها فلسفياً وسياسياً واقتصادياً، وهي منذ 200 سنة على الأقل تنحت في مفاهيم ورؤى على أساسها أرست مداميكها، وهي اليوم دول صناعية وتكنولوجية تستطيع ان تبيع نتاجاتها العالية الجودة بأغلى الأثمان. أما وهم التنمية كما يسوّق لإنقاذ كيانات سياسية ـ هي في معظمها اصطناعية، جغرافيتها اعتباطية ـ بعد ان تم مص مواردها الطبيعية، وصودرت إرادتها الداخلية، فهو يتجلى عبر المزيد من القروض والديون التي تستخدم بشكل أساسي في سد رمق الجوعى والمحتاجين، فيما لا نرى مشاريع استثمارية حقيقية تعود بالرفاه على هذه البلدان. وبالتالي فقد وصل عدد العاطلين عن العمل على وجه المعمورة إلى بليون شخص، بين هؤلاء من يعيشون في قلب أوروبا الشرقية والغربية أيضاً. وإذا ما استمر الإقصاء الاجتماعي في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين فإن بليوني شخص من أصل 8 بلايين انسان فقط على وجه البسيطة سيكون لديهم مستوى دخل يسمح لهم بأن يصبحوا زبائن لدى الشركات العالمية. القطاع الأكبر من هؤلاء سيكون من سكان نصف الكرة الشمالي، ومجموعات قليلة أخرى هي من محظوظي الجنوب. وهذا الواقع المرير للمستثمرين سيجعلهم يفكرون بجدية، هذه المرة، أن من مصلحتهم العناية بتحسين أوضاع بلايين المعدمين والمشاركة في اخراجهم من بؤسهم من خلال المشاريع الإنمائية التي سيعود ريعها حينذاك على الجميع. فما فائدة سوق عالمية ضخمة بلا زبائن نهمين وقادرين على الشراء؟
قروض البنك الدولي وشروطه تأخذ الغالبية الساحقة من سكان الأرض إلى الجحيم. وبحسب ما يقول الكتاب فإن المشاريع الإنمائية، السارية المفعول حالياً، تجعل الناس يهرعون وراء الرغيف وهو يركض أمامهم، وإلا فكيف وصلنا بعد كل نظريات التطور والتنمية التي عهدناها إلى مأساة مفادها ان 3 بلايين انسان يعيشون على ما معدله دولاران أو ثلاثة دولارات في اليوم، وأكثر من بليون آخرين يعيشون في فقر مدقع، غير قادرين على إطعام أنفسهم، ويعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم. وبنتيجة هذه الأرقام الكارثية التي تترافق مع تزايد ديموغرافي مذهل، فإن الكاتب ينادي بوقف أكذوبة إيهام الناس بالرفاهية، والعمل بالسرعة القصوى على برامج هدفها «بقاء الأمم» وحفظ الشعوب من الموت والاندثار. فالغذاء والماء والطاقة بدأت تصبح نادرة ومكلفة بحسب عدة دراسات أميركية يذكرها الكتاب. وثمة دراسة ترى ان الثورة البريطانية عام 1640 والثورة الفرنسية عام 1789 وثورات اوروبا الوسطى عام 1848 وحركات التمرد على الامبراطورية العثمانية، نشأت جميعها بدافع النقص في القدرة السياسية على مواجهة المشاكل الخطيرة التي نجمت عن النمو السكاني والتقلص في الموارد، فهل نستنتج «والأزمة معولمة هذه المرة» ان ثمة ثورة مداها الكوكب الأرضي تلوح في الأفق؟ الكاتب لا يقول هذا صراحة لكنه يخبرنا بأن الأرض الزراعية قياساً بكل فرد على وجه البسيطة قد تناقصت بنسبة 7% منذ العام 1979 بسبب التصحر والتمدد المديني والإشباع التخصيبي. ولو نظرنا جيداً إلى الهجرة العالمية التي لم يسبق لها مثيل من الأرياف إلى المدن، وانخفاض الاحتياط العالمي من الحبوب، فيما يزداد الطلب على المواد الغذائية بنسبة 3% تقريبا، فلا بد من الشعور بالقلق الشديد، خاصة ان البحار بدأ استنزافها أيضاً وانخفض إمداد السمك لكل شاطئ منذ العام 1989 بما يعادل 8%، وأصبح السمك المصطاد أصغر حجماً من آيسلندا إلى ناميبيا ومن شيلي إلى كاليفورنيا، بسبب أدوات الصيد الجبارة التي باتت قادرة فعلاً على تنظيف المياه من ثرواتها.
ويعتبر خبراء «منظمة التغذية والزراعة العالمية» ان الأمن الغذائي لبلد ما، يتمثّل في استمرار تأمين القدر الكافي من المواد الغذائية لأجل عيش سكانه حياة صحية وناشطة. ولكن هل من وسيلة أكيدة اليوم لتأمين الغذاء لسبعين مليون مولود جديد كل عام في البلدان النامية؟ ومن الذي سيحصل على حصته من الطعام حين ترتفع الكلفة ويشحّ الكم بما لا يكفي للجميع؟ أهم الذين ينتجون ويملكون المال؟ أم البؤساء والعاطلون عن العمل؟. وما يصحّ على الغذاء يصح على الماء، إذ يعاني أربعون بلداً من الآن بسبب الشح وقلة المصادر. أما الطاقة فهي مشكلة المشاكل، إذ ان استنساخ الحضارة الغربية، ونمطها الاستهلاكي، يفرض على أكثر الدول تخلفاً استيراد كميات من النفط لا تتناسب وإمكاناتها الاقتصادية، وهو ما يتسبب بعجز كبير في ميزانيتها، إذ ان حاجة الدول النامية للنفط تزداد حالياً بمعدل 5% سنوياً، وبما انه لا خوف من تناقص الاحتياطي العالمي الموجود حتى منتصف القرن، فإن المشكلة هي في تسديد الفواتير لا في الحصول على المادة.
هذه اللوحة السوداء التي يرسمها الديبلوماسي البيروفي المتمرس في خفايا وقضايا الاتفاقات الاقتصادية الدولية التي ترمي إلى تحقيق التنمية فإذا بها تستولد العوز، ليست مجرد تكهنات، بل هي دراسة مبنية على أرقام ومعطيات علمية. لذلك يدق الرجل ناقوس الخطر معلناً ان الاستمرار في خدعة تسويق المشاريع التنموية، وتقديم الوعود الكاذبة بالرفاهية ستعود بعدم الاستقرار على العالم أجمع. إذ ان ما يسميه أشباه الدول، مستعيضاً بهذه التسمية عن «دول العالم الثالث» هي كيانات غير صالحة للبقاء بنهجها الحالي، فهي بحاجة إلى نمو سنوي ثابت في ناتجها القومي يصل إلى 7% خلال العقد المقبل على الأقل، هذا لتؤمن حاجة سكانها المعيشية على الأقل، لكن الإحصاءات تقول ان معدل هذا النمو لن يتجاوز3% أو 4% بسبب بدائية الصناعات وانخفاض مستوى التكنولوجيا المستعملة. وبما ان عدد السكان يتزايد باطراد في مثل هذه الدول، فإن هذا يعني عملياً على الأرض نمواً لا يتجاوز 3% في أحسن الأحوال.
وبكلام آخر ومن دون العودة إلى المقدمات التاريخية والنظريات السياسية التي يعرض لها الكاتب، لإثبات صحة نظريته، فمن الضروري القول إنه يشرح بإسهاب كيف ان التطور لن يكون من دون تكنولوجيا، والسلام لن يكون ممكناً في المناطق الحارة والدامية من دون رغد مالي. ولا مجال لتصور دول غير جائعة بعد اليوم إن لم تكن هذه الدول قد استطاعت تخطي بدائيتها الإنتاجية، وتجاوز شعوبها نعراتهم العصبية والفئوية.
أما الكلام عن عولمة ستجعل الأرض بلداً واحداً متشابه الملامح فهذا مستبعد بنظر الكاتب، إذ ان النتائج اثبتت ان الهمجية والبربرية والفكر البدائي القبلي كلها أمور تستطيع ان تتعايش مع استخدام الكومبيوتر بحده الأدنى والتفرج على التلفزيون ولبس الأزياء العالمية وأكل الهمبرجر وشرب الكوكاكولا.

http://www.asharqalawsat.com/2005/02/13/im...ooks.282642.jpg

[SIZE=5]لذلك يدق الرجل ناقوس الخطر معلناً ان الاستمرار في خدعة تسويق المشاريع التنموية، وتقديم الوعود الكاذبة بالرفاهية ستعود بعدم الاستقرار على العالم أجمع. إذ ان ما يسميه أشباه الدول، مستعيضاً بهذه التسمية عن «دول العالم الثالث» هي كيانات غير صالحة للبقاء بنهجها الحالي، فهي بحاجة إلى نمو سنوي ثابت في ناتجها القومي يصل إلى 7% خلال العقد المقبل على الأقل، هذا لتؤمن حاجة سكانها المعيشية على الأقل، لكن الإحصاءات تقول ان معدل هذا النمو لن يتجاوز3% أو 4% بسبب بدائية الصناعات وانخفاض مستوى التكنولوجيا المستعملة