صديقي Awarfie
أنا أمام احتمالين:
1. إما أنك قرأت مداخلتي الأخيرة باستعجال بطريقة سطر وسطر،
2. أو أني فشلت في اختيار الكلمات المناسبة للتعبير عن فكرتي.
سأحسن بك الظن وأستبعد الاحتمال الأول بشرط أن تقرأ هذه المداخلة بتركيز وتربط بين الجمل لا أن تقرأ كل جملة بمعزل عما قبلها وما بعدها.
فإذا رجحنا الاحتمال الثاني أكون مضطراً لإعادة محاولة توضيح ما أردتُ قوله رغم ما أخشاه من ملل قد يصيبك وبقية القراء.
مشكلتنا تكمن في اللغة التي نستخدمها خاصة عندما نستخدم كلمات جدلية مثل "وجود" و "عدم". لهذا السبب حرصت كثيراً على تحديد ما أعنيه بهاتين الكلمتين.
تكلمتَ عن أنواع الوجود من تاريخي وجيني وفكري. ولكن إن وسعنا مفهوم الوجود بهذا الشكل سنضيع في متاهة من التعريفات ولن نصل إلى أي نتيجة. وهذا ما حاولت تجنبه عندما طلبت منك التركيز على الوجود المادي الذي هو أساس بقية الأنواع المفترضة من الوجود.
اقتباس:فأنت تتجاهل أن وجودنا قبل الموت يختلف تماماً عن بقايا ذلك الوجود بعد الموت.
---------------------
اولم احدثك عن انواع الوجود لدى البشر؟
توقعتُ أن القارئ سيفهم ما أريد قوله عندما يربط هذه الجملة بما بعدها.
اقتباس:مالذي يحصل لذلك الجزء من الدماغ الذي أشار إليه نبيل حاجي في موضوع الوعي؟ هل يستمر بوظيفته التي كان يقوم بها خلال الخمسين أو السبعين سنة الماضية؟ وهل تستطيع تلك الخلايا المتبقية من جسدنا التعبير عن وجودنا؟
----------------------
الدماغ يتلف ، و الخلايا تتفكك ، و لا يبق هناك وجودبالمعنى الذاتي ، بل هناك وجود لخلايا و بقايا و شظايا !
المقصود من الجملتين السابقتين أن ذلك الجزء من الدماغ المسؤول عن الوعي بالذات والذي يمكن اعتباره جوهر وجودنا المادي يتغير تماماً بعد الموت ويفقد قدرته على أداء وظيفته التي استمرت طوال مدة حياتنا.
ما أعترض عليه أنك تتجاهل هذه النقطة عند حديثك عن الموت فتركز على تحلل وتفكك الخلايا دون تمييز بين خلايا الدماغ وغيرها من أظافر وشعر وبشرة.
وهناك نقطة أخرى فاتني أن أضيفها في المداخلة الماضية: المعروف أن الجسم يستمر بتعويض ما يفقده من خلايا تالفة طوال مدة حياته. ولكن عملية التعويض هذه تتوقف تماماً عند الموت.
أي أن وجودنا المادي قبل الموت له سمات واضحة لاتقبل الشك، أما بعد الموت فإن ما يتبقى من وجودنا المادي (الخلايا المتحللة) يختلف تماماً عما سبق ولا يؤهل صاحبه الادعاء بأنه مازال موجوداً.
اقتباس:لو عدنا بالتاريخ 2350 سنة هل سنجد فرقاً مهماً بين وجود أرسطو ووجود جدي السابع والسبعين الذي كان يرعى الغنم في إحدى بوادي الجزيرة العربية؟
---------------------
تحدثنا عن ذلك، و قلنا ان وجود ارسطو التاريخي و الثقافي ، يختلف تماما عن جدتك ، التي لا تعرفها ( انت ) بالتاكيد ، اي لم يبق لها وجود . اما ارسطو فما زال موجودا في الثقافة ، يقارع المثقفين، و الفلاسفة . و يزوره طلاب الحكمة كل يوم . اما جدتك ، فهل تعرف شيئا عنها ، بالتاكيد لا ، اما اذا كنت تعرف شيئا محددا ، اي ان التاريخ لم يغفلها ، فهي موجودة كما ارسطو و الاسكندر و هتلر و موسوليني ..الخ .
صحيح أن الأول تناقل الناس كلامه وفكره عبر العصور وتأثر به كثيرون بينما لم يسمع أحد بالثاني، ولكن الاثنين ماتا وانتهى (أو تحول) وجودهما بنفس الطريقة ولا يستطيع أي منهما الادعاء بأنه مازال موجوداً.
--------------------
يا اخي ، لعلمك ، فان ارسطو موجود بقوة ، و يؤثر في تاريخنا اكثر مما اؤثر انا او انت . هنا قوة الوجود و مربط الفرس ، و قيمة الوجود او حقيقته .ارسطو ما زال حيا يرزق في كل جامعات العالم و مناهج التدريس في كل دولة من دول هذا الكون ! اما انت ، فمن يعرفك ؟ هل يعرفك اكثر من عشرة آلاف انسان ؟ لا اعتقد ، اما ارسطو فمعارفه يكثرون يوميا . فقد عرفه ربما عشرة الام انسان في عصره لكن منذ 500 سنة عرفه اكثر من مليون ، اما اليوم فمعارفه يزدادون و هم بعشرات الملايين، ان لم يكن اكثر . فكيف يمكن لنا ان نقول بان ذلك الكائن قد مات ن و هو ما زال يتحدث يوميا في الاف الكتب الجديدة التي تتحدث عنه !
أولاً، المقارنة كانت بين أرسطو وجدي السابع والسبعين على اعتبار أنه من معاصريه. أما جدتي (أم أمي) فقد قارنتها بشخصية تاريخية أخرى (هتلر). على أي حال لا يهم أي جد من الاثنين اخترت، ولكن الشاهد هنا أن الاحتمال الذي استبعدناه آنفاً له ما يبرره.
ثانياً، كلامك عن أرسطو يشبه كلام الشعراء عن محبوباتهم وكلام القرآن عن الشهداء (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون). فهو كلام مجازي يقصد به المبالغة في التشبيه. فعندما يقول شاعر أن محبوبته قمر لا يقصد أنها تحولت إلى كويكب صخري يدور حول كوكب آخر، بل يقصد المبالغة بوصف جمالها. كذلك كلام القرآن عن الشهداء لا يقصد أنهم يتنفسون ويأكلون ويتناسلون كبقية الأحياء بل يقصد المبالغة بتشبيههم بغيرهم من الأحياء.
نفس الشيء ينطبق على كلامك عن أرسطو، فأنت تقول أنه موجود ويؤثر ويفعل ويقول و... كل هذا كلام جميل، لكنه يبقى مجازياً نقبله مثلما نقبل كلام الشعراء ولا نأخذه بحذافيره.
اقتباس:ولكن الأفضلية هنا لصالح جدتي التي لم تتسبب بقتل الملايين من أبناء جنسها كما فعل هتلر. وأنا هنا لا أقيم الوجود من الناحية الأخلاقية وإنما أريد كشف التناقض في نظرتنا إلى الاختلافات بين وجود إنسان ما ووجود إنسان آخر.
------------------------
لا اعتقد ان هناك افضليات فيما نتحدث به ، بل هناك تأثير ، يترك قيمة ، و دور ، و اثر ، و منهج ، ووجود لا يمكن انكاره !
كيف دخل أولئك التاريخ بينما لم يدخله آخرون؟ بعضهم عمل عملاً اهتم به الناس فسجلوه لأنهم وجدوا أنه يستحق التسجيل، أي أنهم
فضلوا تسجيل هذا العمل وتخليد اسم صاحبه وتجاهلوا أعمالاً أخرى ربما كانت أهم وأكثر قيمة. وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ لم يفعل أصحابها شيئاً ذا قيمة ولكنهم دخلوا التاريخ لمجرد قربهم من أشخاص معينين أو بسبب العثور على نصوص أثرية تذكر أسماءهم. من هذه الأمثلة إيفا براون عشيقة هتلر وجيوكوندا (الموناليزا) والفلاح المصري خون إنبو الذي عاش قبل أكثر من 4000 سنة.
اقتباس:على كل حال، الأمثلة الأربعة المذكورة وغيرهم من الأموات فقدوا وجودهم وانتقلوا إلى حالة من العدم (بالمعنى الموضح أعلاه)
---------------------
حتى الآن ، لم اتمكن من فهم العدم (بالمعنى الموضح أعلاه) .
أكرر ما قلته سابقاً.
لم أقصد بكلمة العدم تلك الحالة التي يختفي فيها الزمان والمكان والمادة، بل قصدت غيابي أنا من الوجود وغيابك أنت وغياب كل منا بشخصه.
وأضيف، أنا مثلاً كنيتي أبو عبد الرحمن ولكني لم أرزق بولد لأسميه بهذا الاسم، لذا يمكن القول أن ابني عبد الرحمن غير موجود أو هو في حالة من العدم.
اقتباس:ولم يبق منهم إلا ما نحمله نحن الأحياء من ذكريات أو معلومات عنهم وهذه المعلومات لا تغير شيئاً من حقيقة أنهم غير موجودين مهما كثرت معلوماتنا عنهم ومهما كانت أعمالهم نافعة أو ضارة.
-------------------------
هنا بيت القصيد !! تلك الذكريات و المعلومات ، هي الوجود بعينه . فمن انا بالنسبة اليك ، و من هو ابوك ، او عمك ، او جدك الذي تعرفه ؟ ما هم الا ذكريات و معلومات . انهم مفاهيم و Data ، بكل معنى الكلمة !! فمن هو باباي ، the sailor man ؟ انه كمية من المعلومات، عن كائن يتصرف و يقوم باعمال معينة لا تنسى ، و يترك لنا ذكرى ، قد تدوم لالف سنة او اكثر . ما هي اغنية " بين الدوالي " انها تترك ذكريات ترتبط بالدالية و العنب و البدر الذي يتلالا . انها اغنية يتجاوز عمرها المئة عام و لسوف تعيش طالما ان هناك دوالي و هناك قمر يضيء الليل، و يتلالا بدرا فوق الساهرين . هناك وجود نسبي زائل كوجود جدي و جدك ، و هناك وجود شبه مطلق كوجود الاسكندر و محمد و بوذا و اغنية بين الدوالي ، و توم اند جيري ....الخ .
حسناً فعلتَ بضرب هذه الأمثلة من الشخصيات ذات الوجود الافتراضي (virtual). لقد وفرتَ عليّ الكثير من الجهد لأن هذا حقاً بيت القصيد. فشخصية "بوباي" والثنائي "توم وجيري" وأغنية "بين الدوالي" ليس لها أي وجود مادي، وما هي إلا وسائل للتعبير عن وجود خالقيها. ولكن هل نجح خالقو هذه الوسائل بإطالة عمر وجودهم بعد موتهم؟ لا أظن.
حتى الشخصيات التي تمتعت بوجود مادي فيما مضى، هل نملك مايكفي من المعلومات عنها؟ كم من المعلومات المغلوطة والأساطير والخرافات ألصقت بهذه الشخصيات بينما هي أعجز من أن تؤكدها أو تنفيها؟ كم من الشخصيات التاريخية لاندري حتى إن كانت حقيقية أم مجرد خيال؟ لنأخذ النبي موسى مثالاً، نقرأ ونسمع الكثير من المعلومات عنه، ولكن أيها صحيح وأيها محض خيال وأيها خليط من الاثنين؟ والسؤال الأهم هل كان له وجود مادي أصلاً أم هو مجرد حلم تطلّع إليه شعب مقهور؟
بهذا المعنى وطالما أن مربط الفرس هنا يتعلق بالمعلومات (data) الصحيح منها والخاطئ والمبالغ فيه، نستطيع القول أن وجود شخصيات مثل النبي موسى والأسكندر وبوذا وهتلر ومحمد وباباي وتان تان هو وجود افتراضي (virtual) قابل للإضافة والتعديل والحذف كلما زادت معلوماتنا وتطورت أدواتنا.
تحياتي.