رحل الفارس مبكرا وترك الحصان وحيدا
GMT 10:00:00 2008 الأحد 10 أغسطس
ميرفت أبو جامع
--------------------------------------------------------------------------------
حنظلة ابن ناجي العلي وحكايات غسان كنفاني وقصائد دويش
عشاق الشاعر الراحل: ترجّل الفارس مبكرًا تاركًا الحصان وحيدًا
ميرفت ابو جامع من غزة: لم يكن غياب محمود درويش أمرًا سهلاً على الفلسطينيين الذين لا يسيطرون على الجغرافيا بقدر ما يقبضون على التاريخ، ويحرصون في رحلة دفاعهم المستميت عن قضيتهم على تسجيل نبضهم وألمهم ومعاناتهم وقهرهم وإبداعهم بالكلمات. كيف لا ودرويش كتب أسرارها ومجد زحفها المقاوم وسجل حنينها المؤبد لقراها ومدنها وخبز أمهاتها وقهواتهن... "أحن الى خبز أمي وقهوة أمي... وتكبر فيّا الطفولة يومًا على صدر أمي" من ديوان عاشق من فلسطين. لم يمر وفاة محمود درويش المبكر والمفاجئ على الفلسطينيين مرور الكرام، فالشاعر غير العاديّ وابن الثورة الفلسطينيَّة والمخلص لها، وكاتب إعلان استقلال فلسطين في الجزائر في العام 1988، رحل باحتفال بكائي ممّن أحبوه وكذلك من اختلفوا معه. كيف لا وهم من يقدسون العظماء والشهداء والأطفال والحجارة، ويفرشون أهدابهم لاستقبال دموع رحيل أحبابهم بعز وكبرياء.
ولن يحتاج الفلسطينيون اليوم ذاكرة لنسيان الفارس الذي ترجل وترك الحصان وحيدًا، لأنهم أوفوا حق من سبقوه، فلم تمحوا الأيام الحالكة ذكراهم وكأنهم يعيشوا بيننا ومعنا فوجه حنظلة ابن ناجي العلي " ابن القضية أيضا" لازال يرافقنا في شوارع المخيمات ويطل بوجه على بيروت وغزة كل صباح.وحكايات غسان كنفاني لازالت نبراسا لنا نرقي بها أوجاعنا.
ويجزم الشباب الفلسطيني أن درويش كان أبا لهم يعبر دوما عن همومهم ومآسيهم يهجوهم ويشكوهم يرثيهم ويطربهم يغازلهم ويتمرد عليهم، يأخذهم إلى مدن لم يروها ومنصات لم يحلموا أن يقفوا أمامها.
هل مات حقا؟
بكاء بطعم المرار استقبلت أسماء شاكر الصحافية والشاعرة الشابة خبر وفاة درويش بل أكدت أنها ودت لو لم تسمع الخبر وتتسال هل حقا مات درويش؟ لم اصدق انه سيفارقنا للأبد وكنت انتظر أن اجري لقاء معه، ليته انتظر قليلا ريثما أقابله.. كلمات لم تجد نفعا!!.
ويأتي موت درويش في أوضاع حالكة يعيشها الفلسطينيون حيث الانقسام السياسي والصراع الذي لا ينتهي مع أنفسهم ومع إسرائيل حيث تغذى شعر درويش منهما، وقد كتب قصيدته " أنت منذ الآن غيرك " اثر الانقسام وسيطرة حماس على قطاع غزة في حزيران الماضي التي أغضبت حركة حماس وشنت الأخيرة هجوما عليه، حيث انتقد فيها أحداث حزيران الماضي ويقول فيها: " لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم النبي الجديد!
ولولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا!
أعجبنا حزيران في ذكراه الأربعين: إن لم نجد مَنْ يهزمنا ثانيةً هزمنا أنفسنا بأيدينا لئلا ننسى!" "
تشير أسماء أن موت درويش جاء في وقت صعب جدا يعاني الفلسطينيون من أزمات عدة في الثقافة و القراءة وأزمات كبرى في السياسة ومع أنفسهم.
وفارق درويش "67 عاما" الحياة مساء أمس السبت في مستشفى بولاية تكساس الأمريكية عقب جراحة في القلب وأعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس الحداد العام لمدة ثلاثة أيام.
وولد درويش الابن الثاني لعائلة تتكون من خمسة أبناء وثلاث بنات، عام 1942 في قرية البروة، وفي عام 1948 لجأ إلى لبنان وهو في السابعة من عمره وبقي هناك عام واحد، ثم عاد بعدها متسللا إلى فلسطين وبقي في قرية دير الأسد شمال بلدة مجد كروم في الجليل لفترة قصيرة، أنهى تعليمه الابتدائي فيها،استقر بعدها في قرية الجديدة شمال غرب قريته الأم البروة.
انضم محمود درويش إلى الحزب الشيوعي في فلسطين، وبعد إنهائه تعليمه الثانوي، كرس حياته لكتابة للشعر والمقالات في الجرائد مثل "الإتحاد" والمجلات مثل "الجديد" التي أصبح فيما بعد مشرفا على تحريرها، وكلاهما تابعتان للحزب الشيوعي، كما اشترك في تحرير جريدة الفجر.
تعرض درويش للاعتقال من الجيش الإسرائيلي، حيث أُعتقل أكثر من مرّة منذ العام 1961، حتى عام 1972 و نزح إلى مصر وانتقل بعدها إلى لبنان وعمل في مؤسسات النشر والدراسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقد استقال محمود درويش من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجاً على اتفاق أوسلو.
شغل منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وترأس تحرير مجلة الكرمل، وأقام في باريس قبل عودته إلى وطنه حيث أنه دخل إلى إسرائيل بتصريح لزيارة أمه، وفي فترة وجوده هناك قدم بعض أعضاء الكنيست الإسرائيلي العرب واليهود اقتراحا بالسماح له بالبقاء في وطنه، وقد سمح له بذلك وفي التسعينات قامت زيارة أولى وأخيرة لغزة وترك ارث زاخر من دواوين الشعر وحصل على عدة جوائز محلية ودولية وعالمية.
ترك درويش الذي لطالما دافع عن قوة الحياة لدي الفلسطينيين وقال في إحدى قصائده: " نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا... ونسرق من دودة القز بيتا...لنبني سماء لنا ونسيج هذا الرحيلا." ألما في قلوب عشاقه ومحبيه الذين لطالما صفقوا له وحفظوا قصائده في صدورهم كتعاويذ يرددونها.
"أيها العابرون لن تمروا،، أنا الأرض في جسد لن تمروا، أنا الأرض في صحوها لن تمروا"
ويصف رائد أبو سته الصحفي من غزة موت درويش بالفاجعة وقال كلمات مرتبكة:" قالها الراحل، يكون الموت فلا نكون.. نعم كان الموت وكان الخراب وكانت الفجيعة وغاب العظيم محمود درويش.ويتابع:" رحل على حين غره، وتركنا برفقة الموت.. في أنسة الخراب.. وتسأل بقلق،من سيرثينا و يبكينا ومن يسخر منا ومن يهجونا؟؟؟.
الشاعر الثائر
أما يوسف صادق الصحفي ومدير موقع فجر الوطن بغزة فيشير أن محمود درويش عرفناه شاعرا مقاوما حمل هموم القضية وطاف بكلماته العالم حيث باتت كلماته تتردد في الكثير من المناسبات الوطنية وغير الوطنية.
ويضيف صادق:" فقدناه كما فقدنا رئيسنا ورمز ثورتنا القائد ياسر عرفات وشيخنا أحمد ياسين اذ نعتبره أحد الرموز الهامة منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية الخالدة في العام.
ولم يتخيل الشاعر الشاب عمر أبو شاويش أن يودع الفلسطينيون درويش وهم بحاجة لأن يمسكوا برموزهم في هذه الأوضاع المتعسرة وقال:"، شعرت بصدمة شديدة، أعقبها بكاء صامت فور سماعي خبر وفاته وأكد ان درويش متمسك بالقضية الفلسطينية وأعطاها طابع ثوري بكتاباته، واستطاع نشر فكر القضية الفلسطينية عالمياً ودولياً وعربياً وإقليمياً.
ويصف ابو شاويش نفسه بالمتأثر بشعريته وعاشق لكتاباته ولشخصيته لدرجة حفظه غالبية النصوص التي كتبها.
تقول الصحافية الشابة نيلي المصري:"برحيل درويش فقدت فلسطين احد أهم أعمدة الشعر واهم الشعراء الفلسطينيين المعاصرين والذي استطاع أن يترك بصمة قوية في شعره، الذي صبغ بالوطنية وعشق الوطن،وتضيف:" شهد له التاريخ بنضاله بالكلمة واعتقالاته المتكررة بسبب نشاطه السياسية، رحم الله شاعرنا شاعر فلسطين وشاعر العرب،، شاعر الكلمة وشاعر الوطنية والأرض".
سجل انا عربي
كلمات درويش تحظى باهتمام الفئات المختلفة من الفلسطينيين من بينهم الأطفال والكبار والشباب وتدرس بعض قصائده في المنهاج الدراسي بالمدارس خاصة قصيدته الأكثر شهرة "سجل أنا عربي "
تقول أسماء:" كان أول قراءاتي، يوم تفتح قريحتي على قراءة الشعر وكتابته، معربة عن أملها في أن لو زار غزة لتجري معه مقابلة تسجل في تاريخ عملها الصحافي.
ويرى أبو شاويش أن غياب درويش سيترك فراغاً كبيراً في الشعر الفلسطيني من ناحية معنوية ونفسية، أما من ناحية واقعية فهناك الكثيرين من الشعراء مماً يسيرون بدرب الشاعر درويش، ويسلكون طريقه لتكملة مشواره.
ويضيف:" الشعر سيلد آلاف محمود درويش خاصة وأنه ترك بصمات جميلة وواضحة تمكّن الشعراء اليافعين والشباب من تكرار تجربته والتعمق بها وبتفاصيلها.
وتشير أسماء انه رغم أن شعر محمود درويش حمل رؤية سياسية أكثر التي برزت في قصائده في الفترة الأخيرة التي أعقبت سيطرة حماس على غزة، بينما في مواقف كثيرة لم يتخذ موقفا مشابها، معللة أن أحدا لم ينكر أن كل شيء أصبح مسيسا في فلسطين حتى الأدب.
الموت لا مفر
الموت هذه المرة غيب درويش عن عيون محبيه، وهو الذي نجا منه مرارا،وعانده مرات فيقول في إحدى قصائده:" من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً...من الموت حبّاً...ومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً...لأدخل في التجربةْ ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلي جسدي...وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ...فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق...عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً...وأُخيِّب ظنّ العدم.
وعاند الموت في قصيدة أخرى حيث قال:" لا أريد الموت ما دامت على الأرض قصائد...
و عيون لا تنام... فإذا جاء و لن يأتي بإذن لن أعاند....بل سأرجوه لكي أرثي الختام.
وها قد جاء بغير استئذان،ولسان حالهم يقول:" نعجز عن رثائك ويتساءلون من سيرثينا ويرثيك ومن سيهجونا ويسخر منا،سينحاز لنا ولا يقف موقف الحياد؟؟؟
وتتسأل أسماء بحزن هل سينساه الفلسطينيون؟؟ مجيبة بتحدِ: لا لن ينسى درويش لكنه سيصبح رمزا تماما كمفتاح العودة كرسم حنظله، ككعك غسان علي الرصيف،كرجاله الذين هم لا يزالون في الشمس،
وتختم أسماء بمقطع لدرويش:"نيرون ما ت ولم تمت روما بعينيها تقاتل وحبوب سنبلة تموت،ستملأ الوادي سنابل.
وكذلك محمود درويش صاح بتلك الأبيات ولن يموت و سيبقي حاضرا في الذاكرة و في الأدب و الكتب و في الصور و طوابع البريد.
كيف لا وهو القائل في الذكرى الأربعين لرحيل الماغوط:"رحل الماغوط، ونقص الشعر، لكنه لم يأخذ شعره معه كما فعل الكثيرون...وختمها بقول:" وهو الآن في غيابه، أقل موتاً منا، وأكثر منا حياة!
http://65.17.227.80/Web/Culture/2008/8/355640.htm