د. كامل النجار
الكل يعرف أبوقراط، ذلك الإغريقي الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد وارتبط اسمه بذلك القسم الذي يؤديه كل طبيب أكمل دراسته في جميع أنحاء العالم. ذلك القسم يقول: "أقسم بالإله الطبيب، وآلهة الصحة والشفاء وسائر الآلهة، على أنّه - قدر استطاعتي وتقديري - سأتمسك بهذا القسم وهذا الميثاق .... وأن أقصد قدر وسعي منفعة المرضى، وأمتنع عمّا يضرّهم أو يسيء اليهم. وألاّ أعطي دواءاً قتّالا ولا أشير به، ولا ما يُسقط الأجنّة. وأن أحفظ نفسي على النزاهة و الطهر، وأحافظ على السّر الطبيّ." ومن البديهي أن القسم بالألهة أصبح يختلف من بلد لآخر، فمنهم من يقسم بالله ومنهم من يقسم ببوذا وغيره.
أطباء مصر مثلهم مثل غيرهم أقسموا بالله العظيم أن يقصدوا ما وسعهم مصلحة المرضى والامتناع عما يضرهم. ولكن يبدو أن القسم الإسلامي لا يعني شيئاً، خاصة عند الشيوخ الملتحين، فقد (أشعل الشيخ عيسى قاسم، أحد أكبر العلماء الشيعة في البحرين الأجواء الانتخابية، قبيل الانتخابات البرلمانية المقررة في الخامس والعشرين من الشهر الجاري {نوفمبر، تشرين الثاني}، عندما قال في كلمة خطابية إن النائب في البرلمان البحريني غير ملزم بالالتزام بدستور 2002 وأن القسم للدستور لا يقيد النائب.) (سلمان الدوسري، الشرق الأوسط 4/11/2006). ومعروف في الفقه الإسلامي أن الذي يحنث في قسمه يُكفّر عن ذلك بالمال أو الصيام.
ومصر التي قادت النهضة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، قد تجمعت فوق سمائها سحب الأصولية الداكنة التي تهطل على الإسلاميين بترودولارات بالملايين، فمكنتهم من السيطرة على نقابة الصحفيين التي أساء لها السيد جمال عبد الرحيم، الأمين العام المساعد، عندما قال إنه يرفض رفضا قاطعا أن تصبح نقابة الصحفيين منبرا للتبشير بالخرافات والخزعبلات للحركة البهائية المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل، حسب قوله. وقال متسائلا: كيف توافق نقابة الصحفيين على استضافة من يسمون بالبهائيين رغم أن الأزهر وجميع شيوخه منذ قرن كامل أفتوا بكفر معتنقي البهائية وبأنهم مرتدون عن الإسلام. وشن هجوما على نقابة الصحفيين، قائلا إنه من العيب والعار عليها أن تسعى لتأجير قاعاتها لكل من هب ودب من أصحاب الفكر المنحرف دينيا من أجل تحقيق مكاسب مالية مقابل الإيجار (المصريون 2/4/2008.) فنقابة الصحفيين تنكرت لمفهوم حرية التعبير من أجل إرضاء التعصب الإسلامي وشيوخه.
وسيطر الإسلاميون على معظم الاتحادات الطلابية والنقابات، ومنها نقابة المحامين. وحتى الجيش الذي يمول بالكامل من ضرائب المسلمين والمسيحيين والبهائيين وغيرهم، تسيطر عليه الروح الإسلاموية التي تصدر مجلة "المجاهد" والتي توزع على جميع أفراد القوات المصرية. هذه المجلة نشرت موضوعاً بعنوان "المسلمون والعولمة في مفترق الطرق" للشيخ عبد اللطيف محمد عمارة قال فيه (الذي وضح لنا موقف أهل الكتاب من المسلمين منذ أربعة عشر قرناً فالله هو العليم بسرائرهم وما في نفوسهم من شرور وما في عقولهم من مكر ولؤم وخبث... أن التوراة والإنجيل كتموا فيها نبوة الرسول (ص) ليشتروا به ثمناً قليلاً وهو متاع الحياة الدنيا... اليهود والنصارى لا يرضون عن رسول الله ولا عن المسلمين حتى يتبعوا دينهم وملتهم والكفر كله ملة واحدة.)
وحتى تكتمل صورة أسلمة مصر المحروسة أصدرت نقابة أطباء مصر، التي يسيطر عليها الإخوان المسلمون، أمراً يحظر نقل الكلى بين المسلمين والمسيحيين. وقد دافع الدكتور حمدي السيد نقيب أطباء مصر، ورئيس لجنة الصحة في مجلس الشعب (البرلمان) عن هذا القرار ونفي عنه أي شبهة طائفية أو دينية، قائلاً: (إن حظر نقل الأعضاء بين مختلفي الديانة والجنسية مجرد محاولة لوقف تجارة الأعضاء التي استشرت في الفترة الأخيرة فليس من المعقول أن يتبرع قبطي لمسلم ولا العكس، كذلك لا يجوز أن يتبرع مصري لخليجي أو أوروبي، ففي هذه الحالة فإن الأمر سيصبح تجارة أو على الأقل سيكون مشوباً بشبهة الاتجار بالأعضاء البشرية، ومن هنا تدخلت النقابة لضبط الأوضاع.) (نبيل شرف الدين، إيلاف، 18 أغسطس، آب 2008).
وربما يعتقد السيد الدكتور حمدي السيد أنه أذكى من كل الناس ويستطيع أن يغطي على الدوافع الأصلية وراء القرار بذكر أسباب واهية مثل التي أتى بها. ولكن تنظيم زراعة الأعضاء هو من صميم واجبات المجلس الطبي المصري. فالجراح الذي يقوم بزراعة أي عضو لمريض يستجوب المريض والمتبرع بالعضو ويكشف عليهما ويعرف العلاقة بينهما ويستطيع أن يقرر إذا كان التبرع بالعضو نتيجة شراء أم تبرع حقيقي. وهذه مسؤولية جمعية يشترك فيها الجراح وأخصائي أمراض الكلى أو الكبد أو غيرها، والممرضون وفنيو المختبر الذين يجرون الفحص على دم المريض والمتبرع. ومن واجب أي منهم إذا أحس أن التبرع وراءه أموال، فواجبه أن ينقل شكه إلى المجلس الطبي الذي يحقق في الأمر ويعاقب الطبيب. وقد حدثت حالات مشابهة في لندن قبل حوالي عشرين عاماً عندما اعتاد جراح إنكليزي أن ينقل كلى من أفراد أتراك، يأتون بهم من تركيا إلى لندن، إلى مرضى إنكليز. نقل ممرضو غرفة العمليات شكوكهم إلى المجلس الطبي الذي تحرى في الموضوع وأدان الجراح وأوقفه عن العمل لمدة ستة أشهر. ومثل هذا الجراح لن يجرؤ على أجراء عملية أخرى من هذا النوع. ولكن الدكتور حمدي السيد ونقابته فضلوا أن يعفوا أنفسهم وممرضاتهم المنقبات من هذه المسؤولية ويصدروا قانوناً يمنع نقل الكلى بين المسلم والمسيحي. إنه عار على نقابة الأطباء وعار على كل الأطباء المصريين الذين صمتوا ولم يحتجوا على القرار. والصامت عن الحق شيطان أخرس.
والغريب أن الجامع الأزهر الذي كان يعارض زراعة الأعضاء حتى السنوات القليلة الماضية، استنكر قرار نقابة الأطباء. ورغم أن شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي كعادته فضل الجلوس على الجدار وقال بإباحة نقل الأعضاء دون أن يتطرق إلى موضوع الديانة، فإن الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر السابق تحدث بعبارات صريحة وأباح نقل الأعضاء بين المسلمين والمسيحيين بقوله (إن التبرع بالأعضاء جائز شرعاً ولا شبهة فيه بالتحريم أو التأثيم، لأن المسلم إنسان والمسيحي إنسان، أما الحرام فهو البيع أو التجارة بالأعضاء البشرية، غير أن التبرع بها طواعية، فلا أعرف نصاً في القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة أو إجماع الفقهاء، أو غير ذلك من المصادر الفقهية ما يحرم هذا، أو حتى يتطرق إليه، باعتباره من الأمور المستحدثة في العلوم الطبية، والتي تقتضي أن تخضع لفقه جديد، يوازن بين المصالح المعتبرة والنصوص الشرعية، فما بالنا حين ينعدم وجود أي نص يحرم ذلك) (نفس المصدر)
وموقف أطباء مصر ونقابتهم لا يختلف كثيراً عن موقف الأطباء البيض في جنوب إفريقية في سنوات "الأبرتايد". فقد نشر بروفسور في قسم الأمراض pathology ورقة في المجلة الطبية البريطانية British Medical Journal في السبعينات من القرن المنصرم قال فيها بمنع نقل الدم من متبرع أسود إلى مريض أبيض أو العكس لأن جيناتهم تختلف عن بعضها. وطبعاً لم يكن هناك أي سبب علمي يساند هذه الفكرة، ولكن لأن المجلة الإنكليزية نشرت البحث أصبح نقل الدم بين الأجناس ممنوعاً، وحتى نقل المصابين البيض والسود في نفس سيارة الإسعاف كان ممنوعاً. وعندما احتج بعض الأطباء الإنكليز، وصمت الأطباء الجنوب إفريقيين، تعللت نقابة أطباء جنوب إفريقية بأعذار كالتي قدمها الدكتور حمدي السيد.
وفي دولة إسرائيل، التي يحمل عليها الإخوان المسلمون في كل مناسبة حتى إن لم يكن لليهود دخل بها، يؤدي الأطباء الجدد نفس قسم أبوقراط ويلتزمون فيه بمساعدة أي شخص يعاني من ضائقة. وقد جاء في النص العبري، الذي يقسم به كل طلبة الطب مع انتهاء دراستهم: "وتساعدون المريض أيا كان، سواء كان يهودياً أو أجنبياً، سواء كان من البسطاء أو من الأشراف". ولكن في صبيحة يوم 27/7/2005 رفض مستشفى هداسة عين كيريم استقبال وعلاج مخرب فلسطيني، كان قد أصيب برصاص جنود الجيش الإسرائيلي. وقد انتظرت سيارة الإسعاف العسكرية التي أحضرت المصاب دقائق طويلة بجوار أبواب المستشفى، حتى تقرر نقل المصاب إلى مستشفى شعاري تسيديك في القدس وقد أكد البروفسور يوناتان هاليفي، مدير مستشفى شعاري تسيديك، أن المخرب المصاب وصل إلى المستشفى، وأجريت له عملية جراحية (
www.nrg.co.il, 28/7/2005). وطبعاً أي شخص يتصرف مثل هذا التصرف فلن تعجزه الأعذار، فقد قدمت ياعيل بوسم ليفي، المتحدثة باسم مستشفى هداسا عين كيريم هذا العذر: (لقد وصل طلب من الجيش إلى مدير المستشفى لاستقبال مصاب فلسطيني، ولكن بسبب الازدحام في قسم استقبال الطوارئ، طلب مدير المستشفى تحويل المصاب إلى مستشفى آخر. ورغم ذلك تم نقل الفلسطيني إلى المستشفى. وقد وافق مدير المستشفى على استقباله ولكن الجنود الذين نقلوا المصاب قرروا من تلقاء أنفسهم، نقله إلى مستشفى شعاري تسيديك.) فهل موقف نقابة أطباء مصر يقل شناعةً عن موقف مدير مستشفى هداسة عين كيريم أو نقابة أطباء جنوب إفريقيا العنصرية؟ واللوم كله ينصب على أطباء مصر الذين انتخبوا نقابة يسيطر عليها الإخوان المسلمون. ولن يكون حالهم مستقبلاً بأحسن من حال أهل غزة الذين انتخبوا حماس لتحكمهم فقاطعتهم كل دول العالم.
ولا نستطيع إلا أن نأسف لحال مصر التي لم يبقَ بها شيء لم يتأسلم غير بعض الأقباط وكنائسهم؟