لماذا هنالك شيء بدلا من لاشيء؟
فمن أجل ماذا، وجد هذا الشيء ولأيّة غاية؟
لسنا ندري إطلاقا، كما لا ندري ما إذا كانت ثمّة غاية أصلا. لكن إذا سلّمنا سويّا بألاّ شيء ينتج عن لاشيء، فمجرّد وجود شيء ما – العالم، الكون – يدلّ على أنّ هنالك دوما شيئا آخر. مما يعني: أنّ الوجــــــود l’être أزليّ *، غير مخلوق بل وربّما خالق، وهذا ما يسمّيه البعض بـ "الله".
فهل يكون هذا الأخير، قد وجد على مرّ الزمان؟ أو بالأحرى، خارج الزمان* وكخالق، ما دام هو من يخلق كلّ شيء. ماذا كان الله يفعله قبل الخلق؟ لم يكن يفعل أيّ شيء، يردّ القديس أوغسطين، لكنّ الواقع أنه ليس ثمّة من قبل pas d’avant (ما دام كلّ " قبل " يستوجب الزمان): لم يكن ثمّة غير هذا " الحاضر الأزليّ " le perpétuel aujourd’hui " الخاصّ بالله، والذي ليس لا نهارا (إذ بأيّ شمس نقيسه؟ ما دامت كلّ شمس تتوقّف عليه) ولا ليلة، بل يسبق ويشمل كلّ نهار وكلّ ليلة نعيشهما وسوف نعيشهما، كما يشمل أيضا كلّ تلك الأيام، اللامعدودة التي لم يعشها أحد بعد، فليست الأزلية هي ما ينتمي إلى الزمان بل الزمان هو ما ينتمي إلى الأزلية، فليس الله هو الذي يوجد / ينتمي في و إلى، الكون، بل الكون هو الذي ينتمي إلى الله. أن نؤمن به؟ يبدو أنّ ذلك من أبسط الأمور، على اعتبار ألاّ شيء دونما هذا الكائن الضروريّ حتما، يحقّ له أن يوجد، لكن هل يمكنه ألا يكون؟
إن الله يوجد خارج الكون، على نحو ما هو علّته وغايته. فكلّ شيء ينتج عنه، وكلّ شيء بيده( " بفضله كان الوجود، وكانت الحركة والحياة" على حدّ تعبير القديس بولس) بل وكلّ شيء يقفل عائدا إليه. فهو بداية الكون ومنتهاه: إنّه الكائن المطلق l’être absolu - اللامتناهي إطلاقا، الكامل تماما، الحقيقيّ كليا – وبدونه لا يمكن لأيّ شيء نسبيّ أن يكون، لماذا هناك شيء بدلا من لاشيء؟ لأنّ ثمّة الله.
سنكرّر القول، بأنّ ذلك لا يعفينا من إعادة السؤال: ولماذا ثمّة إلاه - الله - بدلا من لاشيء؟ وهو قول معقول جدّا ولا فكاك لنا عنه. لكنّ الله سوف يكون هو هذا الكائن القادر على إتيان الجواب – من تلقاء ذاته، عبر ذاته، ولذاته – لهذا السؤال المتّصل بوجوده الخاصّ. فهو علّة ذاته كما يؤكّد الفلاسفة وهذا السرّ( كيف يمكن لكائن أن يكون علّة ذاته ؟) معتمد عند كلّ محاولة وضع تعريف لله . "أعني بعلّة ذاته، يقول سبينوزا، ما تنطوي ماهيته على وجوده، أي بعبارة أخرى، ما لا يمكن إدراكه بطبعه، إلا إذا كان موجودا".إنّ هذا التعريف لا يصدق إلا بالنسبة لله، فهذا هو الله ذاته، أو لنقل على الأقل إنّه إله الفلاسفة. يتساءل هيدجر: "كيف اقتحم الله مجال الفلسفة"؟ ويردّ، كعلّة ذاته: "إذ أنّ وجود الموجود، من حيث هو أساس، لا يمكن إدراكه إلا كعلّة ذاته causa sui . وهنا تكمن دلالة التصوّر الميتافزيقي لله "إنّ هذا الإله يضيف هيدجر: "ليس بمقدور الإنسان لا الصلاة له ولا التضحية من أجله". لكن لا صلاة ولا تضحية بدونه، يمكنهما أن يضحيا موضوع تفكير فلسفيّ. فما الله إذن؟ إنه الكائن الضروريّ إطلاقا (علّة ذاته) الخالق إطلاقا (علّة كلّ شيء) المطلق إطلاقا(فهو ليس يتوقّف على أيّ شيء، لكن كلّ شيء يتوقّف عليه): إنه كائن الكائنات، وأساس كلّ شيء. فهل هو موجود؟ أجل، إنه موجود ما أن تمّ وضع تعريف له، لكن دونما قدرتنا على اعتماد تعريفه هذا، كبرهان.
فعلى أيّ نحو نعرف الله؟ هل هو الكائن الأعظم ( يرى القديس أنسيلم انه " الكائن الذي لا يمكن تصوّر شيء آخر يفوقه عظمة)، أم الكائن مطلق السيادة (ديكارت) أم الكائن اللامتناهي إطلاقا ( سبينوزا، هيجل).
لكنّه والحالة هاته، إذا لم يكن موجودا، فلن يكون لا الأعظم ولا اللامتناهي، بل وسوف يغدو ( وهذا ابسط ما يمكننا قوله) في حاجة إلى شيء ما من أجل اكتماله.
إذن، بمجرد تعريفه، يغدو الله موجودا: والتفكير في الله (إدراكه ككائن عظيم، مطلق ولامتناهي...)لا يعني غير التفكير فيه كموجود. ذلك أنّ الموجود، على حدّ تأكيد ديكارت "لا يمكنه أبدا أن يوجد منفصلا عن ماهية الله، تماما مثلما لا يمكن لماهية المثلّث أن توجد دون أن يكون مجموع قياس زواياه الثلاث مساويا لمجموع قياس زاويتين قائمتين، بل ومثلما كذلك، لا يمكن لفكرة الجبل أن توجد منفصلة عن فكرة الوادي، بحيث أنّ بشاعة تصوّرنا لإله ( وهو الكائن مطلق السيادة) مسلوب الوجود (أي اله ليس تامّ الكمال) هي تماما بمثل بشاعة تصوّرنا للجبل دونما واد".
سوف نعارض بالقول، بأنّ كلّ ذلك، ليس يدلّ بالضرورة على وجود الجبال والوديان... بالتأكيد، يردّ ديكارت، لكن مثلما الجبال والوديان لا تنفصل عن بعضها البعض، فكذلك الأمر، بالنسبة لله: إنّ وجوده لا ينفصل عن ماهيته، كما عنه هو ذاته، ومن ثمّة فهو موجود بالضرورة. إنّ مفهوم الله يكتب هيجل "ينطوي في ذاته على وجوده": فالله هو الكائن الوحيد الموجود كماهية.
من الوضوح بمكان أنّ البرهان الأنطولوجي نفسه، يكاد لا يبرهن على أيّ شيء: لذلك لم يبق أمامنا سوى أن نغدو إما مؤمنين، وهو أمر تكفي التجربة لدحضه، وإما جهّالا / أغبياء، وهو أمر ليس بيد أيّ تجربة أن تثبته أو تؤكده.
لكن علاوة عن هذا وذاك، كيف بوسع تعريف معيّن أن يثبت وجود شيء ما ؟
فهل يكفينا مثلا، اعتمادا على تعريفنا للثراء أن نزعم أننا أثرياء.. وعلى حدّ ملاحظة كانط، ولئن كانت مئة فرنكات حقيقية تكاد لا تزيد عن مئة فرنكات ممكنة / متصورة، فإني ثريّ بمئة فرنكات حقيقية أكثر منه بمجرد تصوّرها أو احتمالية حيازتي لها. فلا يكفي تعريف/تحديد مبلغ ماليّ لامتلاكه. لا يكفي بالمثل تعريف الله لإثبات وجوده.
بله من ناحية أخرى، كيف يمكننا إثبات كينونة ما، حدّ المصادقة على وجودها، بناء على مجرد تمثلات/تصوّرات؟ وعلى ما يبدو، فالكون هو أفضل برهان ( ليس القبليّ إطلاقا إنما البعديّ) وهذا هو ما يدعى بالبرهان الكوسمولوجي.
بماذا يتعلق الأمر يا ترى؟ يتعلق بتطبيق مبدأ العلّة الكافية 1 على الكون ذاته. فليس ثمة من شيء محتمل 2 contingent ، على حدّ تأكيد ليبنتز، " يمكنه أن يكون واقعيا أو موجودا، ولا تلفّظ يمكنه أن يكون حقيقيا، دونما وجود علّة كافية تجعله يكون على هذا النحو دون ذاك " مما يعني أنّ كلّ ما هو موجود، ينبغي ولو بشكل مباشر، تفسيره، حتى عندما نكون واقعيا، عاجزين عن ذلك. لكن الكون، والحالة هاته، موجود، بل ودونما قدرته على البرهنة على ذاته ( فهو حادث * contingent : كان بوسعه أن لا يكون). وينبغي، إذن، تفسيرا لوجوده، أن نعزوه إلى علّة ما. لكن حالما كانت هذه العلة، بدورها، حادثة/ احتمال، فينبغي أن تفسّر هي الأخرى بعلّة ثانية، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، بحيث ستبقى سلسلة العلل كلّها – أي الكون – غير مفسّرة. فهل ينبغي كذلك، من أجل تفسير كلّية الكائنات الحادثة/المحتملة أن نفترض وجود كائن ضروريّ إطلاقا (الله)؟ إنّ العلّة الأخيرة لكلّ الأشياء، يضيف ليبنتز، "ينبغي أن نعثر عليها بداخل جوهر ضروريّ، حيث مجمل التغيرات لا تطرأ إلا لغاية الاكتمال، كما الشأن عند كلّ أصل/مصدر، وهذا ما نسمّيه الله " مما يفيد بتعبير آخر أنه: إذا ما كان وجود الكون، يدلّ على وجود الله، فالحال أنّ الكون موجود، إذن فالله موجود.
إن هذا البرهان، أقصد برهان حدوث الكون a contingentia mundi كما بلوره "ليبنتز" (لكن كذلك توماس الاكويني، ومن قبله، على نحو ما، أرسطو) ليعتبر بالنسبة لي البرهان الأقوى، والأكثر إثارة، بل الوحيد الذي يربكني أحيانا. فالحدوث سراب غالبا ما يعرضنا للتيهان. لكن كيف بوسع هذا السراب أن يقوم بدون أساس، بدون علّة وبدون منطق؟
لعل البرهان الكوسمولوجي أشبه ما يكون بمبدإ العلة. لكن كيف يمكن لمبدإ في مثل هذه السياقات، أن يثبت أيا كان؟ ذلك أنّ إثبات وجود الله بواسطة مبدإ حدوث الكون، يعني دوما، الانتقال من مستوى التمثل/التصوّر(تمثّل العلّة الضرورية) إلى مستوى وجوديّ ( وجود الله ). ولهذا السبب كما لاحظ كانط، ينتهي البرهان الكوسمولوجي إلى اختزال نفسه، في البرهان الانطولوجي، لكن كيف يصح اعتماد عقلنا كمعيار وجوديّ *؟ كيف نضحى موقنين من جدارته كما من قوته ورجحانه؟ ذلك أنّ الإله من حيث هو إله، هو وحده الضامن لأحقية تلك اليقينيات والكفاءات العقلية. مما يمنعنا بالتالي من كلّ مسعى يرمي إلى البرهنة العقلية على وجوده (أي الله): مادامت كلّ ضمانة تكفل يقين براهيننا تستند سلفا إلى وجود هذا الله ذاته، الذي نرمي جاهدين إلى إثبات وجوده. إننا نكاد لا ننفلت من السراب حتى نسقط في مطبّ دائريّ: وهذا ما يجعلنا ننتقل في دوامة، من إحراج إلى آخر.
ولئن كان هذا البرهان الكوسمولوجي لا يثبت في أحسن الأحوال، غير وجود كائن ضروريّ، فما الذي يؤكد لنا بأنّ هذا الكائن، بتعبيرنا البسيط هو الله؟ فقد يكون طبيعة، كما أراده سبينوزا *، أي بعبارة أخرى، كائن أزليّ لامتناه، ودونما أيّ تميز ذاتيّ أو شخصيّ: لكن من ذا الذي سيرضى بكائن مثله، بلاوعي ولا إرادة ولا حبّ، فيتّخذه إلها له؟ ما الجدوى كذلك من الصلاة له، مادام لا يسمعنا؟ وما الجدوى من الخضوع لأوامره مادام أصلا لا يأمرنا بفعل أيّ شيء؟ بله ما الجدوى من حبّه مادام لا يحبّنا؟
بناء على ما سلف، لننتقل الآن إلى ثالث برهان، وهو من بين البراهين التقليدية الكبرى المعتمدة لإثبات وجود الله: إنّه البرهان الفزيائيّ– التيولوجيّ الذي أفضّل تسميته بالبرهان الفزيائيّ – الغائيّ physico – téleologique )تفيد لفظة télos الإغريقية : الغاية والهدف). وبحسبه، فمن غير الممكن وضع تفسير لهذا الكون الأكثر انتظاما واتساقا، بل وواضح الغاية، دونما افتراض أنّ وراءه أصلا، عقلا مدبّرا ومنظما. إذ كيف بوسع الصدفة أن تخلق كونا بمثل هذا الجمال؟ كيف لها أن تسعفنا على فهم ظهور الحياة، بتعقداتها العجيبة ومنحاها الغائيّ الواضح؟ لو تمّ العثور، مثلا، على ساعة في أحد الكواكب، فلا أحد سيثق من أجل فهم آليات اشتغالها، في القوانين الطبيعية وحدها: كلّ واحد سيستنتج أنها نتاج فعل عقلانيّ وواع. والحال، أنّ أبسط الكائنات الحيّة أعقد ما يكون من الساعة متقنة الصنع. فكيف بوسع الصدفة العاجزة عن تفسير ميكانيزم اشتغال الساعة أن تفيدنا في تفسير ميكانيزم الكائن الحيّ؟
قد يصل العلماء يوما ما إلى الجواب عن هذا الإشكال. لكنّ المدهش، إنما هو اندحار هذا البرهان اليوم، وتلاشي مصداقيته، بعد أن ظلّ لزمن طويل هو الأكثر شعبية وإقناعا (ُمثل فيما قبل ببرهان شيشرون cicéron ، ليغدو فيما بعد هو برهان فولتير وروسو). فالواقع أنّ كلّ تناغم بدال أوجه – حيث لا حصر لصدف الكون مثلما لا حصر لكوارثه – وماعدا ذلك فهو قابل للتفسير سواء بواسطة القوانين الطبيعية أو الصدفة والضرورة أو التطور وانتقاء الأجناس أو بواسطة العقلانية المحايثة لكلّ شيء...
ليس هنالك من ساعة دونما ساعاتي كان يردّد كلّ من فولتير وروسو. لكن هل ثمة من ساعة أردأ من تلك التي تهتزّ بالزلازل الأرضية، وتحفّها الفيضانات كما يصيبها الجفاف لا بل وتحوي حشودا من الحيوانات المفترسة والأمراض اللامعدودة – ناهيك عن الإنسان! تبدو الطبيعة إذن، قاسية وجائرة وغير مبالية. فهل يمكننا افتراض تدخّل الله في كلّ ذلك؟ وهذا ما كان يدعى قديما بمسألة الشرّ. والإبقاء على هذا الأخير كسر ( بكسر السين) مثلما يفعل كل المؤمنين، يعني الاعتراف الضمنيّ بعجزنا على التخلّص منه. منذئذ يفقد البرهان الفزيائيّ – التيولوجيّ كلّ مصداقيته على اعتبار أنّ ثمّة الكثير من الآلام ( وعلى كل حال فذلك شأن الحياة حتى قبل ظهور الإنسان: حيث كانت حتى الحيوانات تتألم) المجازر والجرائم.
فهل تكون الحياة نظاما غريبا؟ أكيد. لكنها أيضا ركام رهيب من المآسي والأحزان كما أسلفنا. ومع ذلك، فإن كانت الملايين من الأجناس الحيوانية تلتهم وتتغذى بملايين من الأجناس الأخرى، فإنّ ذلك هو ما يؤسس بيئيا لنوع من التوازن.
لكن ألا ينمّ ذلك بالنسبة للأحياء عن الكثير من الفظاعة؟ إذ يعيش الأقوياء بينما ينقرض الآخرون. قد نقبل القول بأن هذا إنما هو نوع من الانتقاء، فيما يخص الأجناس، لكن ألا يكلّف الأفراد الكثير من الآلام والجرائم؟ إنّ التاريخ الطبيعيّ ليس قط عادلا، بل وكذلك التاريخ البشري. فأيّ إله نقرّه بعدما طرأ مع داروين ؟ وأيّ إله يصلح بعد واقعة auschwitz ؟
تعتبر البراهين الثلاثة، أقصد الانطولوجي والكوسمولوجي والفيزيائي – التيولوجي ... بمثابة البراهين التقليدية الكبرى، التي حاولت إثبات وجود الله، لذلك أجدني مضطرا للتطرق إليها في هذا النصّ. والحال، رغم ذلك، أنها براهين تكاد لا تثبت أيّ شيء، كما سبق " لكانط " أن بيّن، وكذلك باسكال من قبله. لكن ذلك لم يحل دونما انتهاء هذين العبقريين معا إلى الإيمان بالله. لكنّ لإيمانهما طابعا خاصا: فهو إيمان لا معرفة، رجاء لا نظرية. إنهما كانا أكثر اعتقادا بالله حدّ تخلّيهما عن كلّ مسعى للبرهنة على وجوده. وبقدر ما كان إيمانهما محسوسا وذاتيا بقدر ما كان غير قابل لأيّ استدلال موضوعيّ.
وتلكم هي القاعدة العامة اليوم. إذ ليس ثمّة من فيلسوف معاصر يهتمّ بهذه البراهين ولا من مؤمن يثق بها، وذلك طبعا لأسباب تفوق الأسباب التاريخية. لكن ما حاجتنا إلى الإيمان إن كانت هناك حقّا براهين؟ والله الذي بمقدرتنا البرهنة على وجوده هل سيظل إلها؟
لعل ذلك لا يعفينا من التفكير وفحص هذه البراهين بل وإبداع أخرى. فبوسعنا مثلا تبني البرهان الحلولي * panthéiste ( تفيذ لفظة pan الإغريقية : الكل) لتفسير وجود الله. فنسمّي الله هذا الكلّ l’ensemble الذي يحتوي كلّ ما هو موجود " إذن وبناء على هذا التعريف، فالله موجود ( فهذا الكلّ 'كلية ' الشامل لكل ما يوجد، موجود بالضرورة). لكن ما جدوى مثل هذا التعريف ما دام لا يسعفنا لا على معرفة هذا الإله ولا على تحديد مرتبته. ولعل الكون لن يفرز لنا إلها مستساغا إلا إذا كان هو، على الأقل، قادرا على الإيمان به. لكن هل هذا هو حالنا هنا؟ "إن الله يقول لي صديقي مارك فيتزل، هو الشعور الذاتيّ المميز للكلية conscience de soi du tout قد يصحّ قوله هذا، لكن ما الذي يؤكد لنا بأنّ لهذه الكلية le tout وعي / شعور؟
إنّ القاسم المشترك مابين كل هذه البراهين يكمن في كون إثباتاتها هي في نفس الآن، خاطئة وصحيحة. فحيثما تفلح في البرهنة على وجود شيء ما، ضروري ومطلق وأزليّ ولامتناه ... الخ، تفشل في إثبات أنّ هذا الشيء هو الله، بالمعنى الذي تفرده له سائر الأديان: إذ الله ليس فحسب كائنا أو واقعة أو شيئا بل هو أكثر من ذلك ، شخص وذات وأحد quelqu’un – فهو ليس مبدأ فقط بل أبٌ un père هنا تكمن كذلك مشكلة النزعة اللاهوتية déisme، التي هي إيمان دونما عقيدة ولا مذاهب. كتبت لي إحدى قارئاتي تقول: "إنني أؤمن بالله، لكن إلهي ليس هو إله الأديان التي هي مجرّد أديان بشرية. فالله الحقيقي غير قابل للإدراك ..." أكيد. لكننا إن كنا نجهله بالمرة، فكيف لنا أن نعرف بأنه هو الله؟
إن الإيمان بالله يكاد لا يستوي دونما معرفة – دراية به ولو قليلة، لكن هذه المعرفة تستحيل دونما العقل والوحي والرجاء. إلا أنّ العقل لا يفتأ يبدو من حين لآخر، قاصرا. مما يخلي المكان للوحي والرجاء: أي الدين ... لكن أيّ دين؟ لا يهمّ مادامت الفلسفة لا وسيلة لها للتمييز مابين الأديان. فإله الفلاسفة أقلّ شأنا بالنسبة لمعظمنا من إله الرسل والمتصوفة وباقي المتدينين. لقد سبق ل باسكال وكيركجور أن عبّرا عن هذا الأمر أفضل مما فعل ديكارت وليبنتز: فالله موضوع/مسألة إيمان أكثر منه مسألة فكر، أو قل بالأحرى إنه ليس بموضوع قط بل ذات، أقصد ذات مطلقة لا نتلمسها إلا عبر الالتقاء والحبّ. هذا ما ظن باسكال أنه عاشه في عزّ ليلة قمرية: "( لقد أدركت) إله إبراهيم، وإله إسحاق بل إله يعقوب، لا إله الفلاسفة والعلماء. (لقد أدركت) اليقين، الحبّ، الفرح والسلم. أما إله عيسى المسيح ... فهو الفرح، الفرح، الفرح، ودموع الفرح "ليس هذا الكلام استدلالا، بل ولا استدلال دونما هذه التجربة قد يشفي غليل إيماننا.
عند هذا الحدّ تتوقف الفلسفة في نظري. إذ ما جدوى إثبات كلّ ما نصادفه؟ وكيف نثبت كلّ ما لم نصادفه؟ إن الكائن l’être ليس بصفة، وقد كان كانط في هذا السياق على حقّ، لذلك كان هيوم قبله، يقول بأننا لا نستطيع إثبات كينونة ما une existence ولا نكرانها إذ الوجود إحساس أكثر مما هو موضوع استدلال، انه ينكشف أكثر مما يكشف عنه.
لنقل إذن بأنّ التجربة هي المحكّ لكن هيهات، مادامت التجربة وحالتنا هاته، غير قابلة للتكرار ولا للتمحيص ولا للقياس ولا حتى لتبليغها للآخرين.
ولعلّ التجربة بدورها لا تثبت أيّ شيء سيما وأن ثمّة تجارب خاطئة وواهية. فهل نعتبرها من قبيل الرؤى؟ أم ضربا من ضروب الانتشاء؟ لا يهمّ، إذ، كل ذلك نحصل عليه كذلك بفضل المخدرات. فهل تسعفنا المخدرات للتحقّق مما نحن بصدده؟ فالذي يرى الله، كيف نتأكّد من أنه يراه بالفعل أو يتوهّمه؟ والذي يسمعه، ما حجّتنا في كونه يسمع صوت الله لا صوته هو؟ والذي يحسّ وجود الله، بل وحبّه ورأفته، ما دليلنا في كونه يشعر بتلك الأشياء بالفعل أو يتوهّمها؟ إنني لا أعرف مؤمنا موقنا أيما تيقن من حقيقة إيمانه مثلما لست بدوري موقنا من كل ما يجري بخلدي من أحلام عندما أنام. مما يعني أنّ كلّ حقيقة ليست تثبت أيّ شيء طالما بقيت محض ذاتية. وهذا ما ندعوه بالإيمان: "اعتقاد محض ذاتيّ" على حدّ تعبير كانط. وجراء ذلك فهو غير قابل للبرهنة عليه – لا نظريا ولا عمليا – أمام الآخرين.
إن الله بتعبير آخر، سرّ أكثر منه تصوّرا، سؤال أكثر منه واقعة، رهان أكثر منه تجربة، رجاء أكثر منه فكرة. إنه ما يصلح افتراضه، للانفلات من قبضة اليأس (وتلكم أيضا هي وظيفة مسلّمات العقل العمليّ عند كانط)، لذلك كان الرجاء كالإيمان فضيلة إلهية – مادام موضوعه هو الله ليس إلا. كتب كيرجور : " إن الإيمان نقيض اليأس": فالله هو الكائن الوحيد القادر على تلبية أمانينا. ولئن كان كل هذا، مرة أخرى، لا يثبت أيّ شيء، فذلك ما ينبغي علينا معرفته، لنختم ما نحن طيّ الحديث عنه: لكنّ الرجاء ليس برهانا البتة، مادام على حدّ قول رينان بإمكان الحقيقة/البرهان أن تكون محزنة. لكن ما قيمة البراهين التي لا تدع مجالا للرجاء؟ فما الذي نرجوه؟ أن يغدو الحبّ أقوى من نزوة الموت كما تنشد الأناشيد، أن يغدو أقوى من الحقد بل أقوى من العنف. أن يغدو أقوى من كلّ شيء وهذا هو الله في الحقيقة: الحبّ القادر على كلّ شيء le tout puissant ، الحبّ المنقذ هو وحده الله – لأنه سيضحى شاملا، محبّا – الذي سيكون محبوبا على الإطلاق. وهذا هو اله القديسين والمتصوفة: " إنّ الله محبّة ، يكتب برغسون، وموضوع محبّة: هنا كذلك لبّ الصوفية. وعن هذا الحبّ المزدوج يسترسل المتصوّفة دونما توقّف في الوصف. وكلّ وصف له يبقى ناقصا مادام الشيء الموصوف متعذّر بيانه*.
لكن ما ينمّ عنه هذا الشيء بوضوح، إنما هو كون هذا الحبّ القدسيّ ليس ينتسب في شيء إلى الله: بل هو الله نفسه "
سوف نعترض عن هذا الطرح بالقول بأنّ هذا الله يبدو كقيمة valeur ( موضوع رغبة) أكثر منه حقيقة( موضوع معرفة). بلا شكّ لكنّ الإيمان به، يعني الإيمان بأنّ هذه القيمة العظمى (الحبّ) هي أيضا الحقيقة العظمى (الله).
إن الأمر الذي نحن بصدده غير قابل للبرهنة مثلما لا يمكن تفنيده لكن يمكن مع ذلك التفكير فيه والثقة به والإيمان أو الاعتقاد فيه. فالله كحقيقة معيار لكل شيء – فاصل مابين الخير والشرّ – وبالتالي فهو معيار كلّ الحقائق. يكاد الحسّيّ والعقليّ عند هذا الحدّ، أن يتطابقا بتعبير أرسطو، وهذا التطابق إذا ما كان موجودا فهو الله. كيف يغدو إذن وحده القادر على إغنائنا وشفاء غليلنا؟ " فالله وحده يستطيع أن ينقدنا " يقرّ هيدجر وليس أمامنا إذن غير الإيمان به أو فقدان الأمل في كلّ خلاص. من ثمة فالله هو من يخلق المعنى ويزوّدنا به : أولا، لأنّ كلّ معنى بدونه سيأتي مدعما لبلاهة الموت، ثانيا لأنه لا معنى إلا لذات ولا معنى مطلق إلا لذات مطلقة. فالله هو معنى كلّ معنى وبالتالي فهو نقيض العبث واليأس.
فهل هو موجود؟ أمر لا نستطيع معرفته. لكنّ الله سيكون هو الجواب لا على سؤال الوجود فحسب بل كذلك على سؤال الحقيقة والخير. وكلّ هذه الأجوبة الثلاثة – أو الشخوص الثلاثة ... – لا تشكل مجتمعة غير جواب واحد.
لكنّ الوجود لا يجيب: وهذا ما نسميه بالكون
لكنّ الحقيقة لا تجيب: وهذا ما نسمّيه بالفكر.
أمّا الخير؟ فلا جواب له بعد، وهذا ما أسميناه بالرجاء.
الشواهد:
* ان صفة الازل المنسوبة لله هنا هي ذاتها ما يؤسس لماهيته ، أي لوجوده المنفلت من كل حصر زماني . يعرف سبينوزا ، الأزل في كتابه علم الأخلاق كالتالي : الأزل ( Aeternitas ) عين ماهية الله بوصفها تنطوي على الوجود الضروري " ( أنظر ، برهان القضية 30 ، الجزء الخامس من علم الأخلاق ، ترجمة جلال الدين سعيد ، دار الجنوب للنشر تونس ) والأزل كما لاحظ جلال الدين سعيد ليس يعني الخلود مادام الخلود استمرار في الزمان ، بينما المقصود بالأزلية هو ما لا يسري عليه الزمان ولا يوجد فيه لا قبل ولا بعد.
1- يؤكد " ليبنتز" مفسرا ما يعنيه بهذا المبدأ ، في مؤلفه المونادولوجيا ، أن براهينه تقوم على أساس مبدأين عظيمين هما : مبدأ التناقض ومبدأ العلة الكافية ثم يضيف في موضوع آخر : " إن ثمة مبدأين عليهما تقوم براهيننا : الأول هو مبدأ التناقض ، الذي يعني أن من بين افتراضين متناقضين لابد للواحد منهما إن يكون صحيحا بينما الآخر خاطئ . أما المبدأ الثاني فهو مبدأ العلة الحاسمة raison déterminante ( يسميها أيضا بالعلة الكافية raison suffisante ) .ذلك أنه لاشيء يحدث دونما وجود علة أو على الأقل علة حاسمة ، أي مابه يمكننا أن نبرر قبليا ، وجود هذا الشيء بدلا من عدم وجوده أنظر كتابة : essais de théodicée , 1er partie ph. 44. P :128
Garnier – flammarion
2- ترجمنا لفظة contingent بالمحتمل هنا أي le possible ، اعتبارا لمنطق العلة الكامن وراء هذا الشيء ، بحيث ثمة فرق بين الأشياء الحادثة والأشياء الممكنة كما يلح سبينوزا ، إذ بحسبه : " تكون الأشياء حادثة (( contingentes إذا ما اعتبرنا ماهيتها فحسب ، فلم نجد قط ما يثبت وجودها أو ينفيه بالضرورة بينما نقول عن الأشياء أنها أشياء ممكنة ( possibles) إذا ما اعتبرنا العلل المنتجة لها ولم نعلم ما إذا كان يتحتم على هذه العلل أن تنتجها أم لا ( أنظر ، علم الأخلاق ، مرجع مذكور ، ص 261)
* إننا وكما قد يبدو واضحا ، في سياق الترجمة ، ننتقل مابين اللفظين أي الحدوث و الإمكان وفق ما أدرجناه سالفا ، وعليه ، فالكون لا يمكنه أن يكون هنا إلا كحادث ، إلا أن سبونفيل على ما يبدو لايستحظر هذا التمييز السبينوزي . مما سيضطرنا إلى القبول بسياقاته .
* أي معيار ، ما أن يتقمص صفة الحقيقة حتى يضحى ما به نستطيع الحكم والفصل مابين الوجود والعدم .
* في تمهيده للجزء الرابع من كتابه علم الأخلاق يقول سبينوزا موضحا هذه الفكرة " أن الطبيعة لا تتصرف من أجل غاية ، وإن ذلك الكائن الأزلي واللانهائي الذي نسميه الله أو الطبيعة يفعل بنفس الضرورة التي يوجد بها ، إذ أن الضرورة الطبيعية التي يوجد بها هي عين الضرورة التي يفعل بها... فالسبب أو العلة التي تفسر إذن لماذا يفعل الله أو الطبيعة ، ولماذا يوجد ، هي علة واحدة وهي على الدوام . ولما كان الله لايوجد من أجل غاية فهو لا يفعل أيضا من أجل غاية ، وفعله لامبدأ له ولاغاية أيضا ، شأنه في ذلك شأن وجوده".
* برهان يحتكم إلى فكرة حلول الله في كل كائن على نحو وحدة ، مما يجعل القائلين به يناصرون مبدأ وحدة الوجود .
* يصف جلال الدين الرومي هذا النوع من الحب في رباعياته كالتالي : وللعاشق طواف حول كعبة العدم ، فطريق العشق سر ، لا ادعاء فيه
http://www.alawan.org/?page=articles&o...article_id=3112