هل يكفي لنهضتنا وجود مارتن لوثر، عربي ؟

يعتبر بعض المفكرين ، ان اوروبا ما كانت لتصل الى هذه الدرجة المتقدمة، من الوعي، و العقلانية ، و الديموقراطية الشعبية ، لولا الدور العظيم الذي قامت به البروتستانتية ، الاصلاحية ، في الدين المسيحي و المجتمع الغربي ، على مدى عشرات السنين . و لكي نفهم اهمية ذلك الدور الاصلاحي ، و علاقته بما نعانيه كعرب ، من تسلط المؤسسة الدينية في شؤون الناس، و حرمانهم من أية امكانية للتغيير، و اصلاح المجتمع ، و الرقي به الى مصاف الدول التي سبقتنا ، علينا ان نفهم الظروف الموضوعية التي سمحت للبروتستانتية أن تقوم بما قامت من اصلاح ! و لماذا نجحت، فيما فشلت فيه حركات اسلامية عربية اصلاحية ، بذلت اقصى طاقاتها دون جدوى!
فلنتحدث عن الظروف الموضوعية التي مر بها المجتمع الاوروبي . فقد مر المجتمع الاوروبي بتحولات سياسية ، و اجتماعية ، و اقتصادية ، و ثقافية ، كبيرة جدا . و كانت الحركة البروتستانتية بمثابة تتويج لكل تلك العوامل، التي أدت الى انتقال اوروبا الى العصر الحديث ، الذي لم نلجه نحن العرب بعد ! و قد حدثت هذه التحولات في النصف الثاني من القرن الخامس عشر .

ما كان حال المجتمع الالماني، في عصر رجل الايمان الديني المتطرف ، مارتن لوثر ، مختلفا عن حال مجتمعنا العربي حاليا ، الا بالشيء اليسير ، و يعود ذلك الاختلاف ، الى مرور 500 سنة ، تقريبا ، على التمرد الشهير، الذي قام به مارتن لوثر ، ضد خداع العقل ، الذي كانت تقوم به الكنيسة البابوية ، ممثلة بالبابا ليـو العاشر ، في ذلك الوقت ، و عام 1517 ميلادية ، تحديدا . فدرجة الامية كانت مرتفعة في اوروبا ، تماما كما في مجتمعنا العربي اليوم ! و رجال الدين يهيمنون على مختلف شؤون الحياة - باعتبارهم رجال دين ، و فلاسفة في القانون ، و كونهم كانوا يحرِّمون على العامة تعلم القراءة - يتآمرون من خلف جدران الكنيسة ، مع الملوك و الامراء من رجال السياسة ، لكسب ودهم ، و جني المزيد من الاموال لصالح الكنيسة . و للحفاظ على رفعة الكرسي الرسولي ، و دوام احترام الملوك و النبلاء الاوروبيين ، للسلطة السياسية للبابا . مما جعل الكنيسة تقدم كثيرا من التنازلات ، على حساب العقل ، و على حساب مصلحة الشعوب الاوروبية ، لصالح اولئك الملوك و النبلاء . كما و تعمل على تجييش الناس ، و ارسالهم في حملات عسكرية صليبية ، تجاه الشرق ( وهو ما يسمى اليوم بالشرق الاوسيط ، اضافة الى تركيا ) ، و أيضا الى مناطق داخل اوروبا ، من اجل الغزو و النهب . و احتلال الأراضي التي وعدوا الناس بانها " تفيض باللبن، و العسل" !

الحملات الصليبية التي شنها البابوات بالتسلسل عبر مئات السنين ، ضد المشرق ، منذ الحرب الصليبية الاولى،التي أطلقها البابا أوربانوس الثاني سنة 1095 ، لتخليص القدس، و عموم الأرض المقدسة من يد المسلمين ، و حتى الثامنة . بأمر الهي ، و بايعاز من البابا ، و بتنفيذ أهم ملوك اوروبا ، و نبلاءها ، طمعا بخيرات الشرق ، و تسترا خلف تحرير بيت المقدس ، من الكفار المسلمين ، و كان أغلبها فاشلا ، و مدمرا للاقتصاد ، و المعنويات الاوروبية ، في مواجهة خصومهم المشرقيين . مما وسم وجه الكنيسة بلون داكن .
ثم كانت هناك حركة الكشوف الجغرافية التي أسفرت عن نتائج عديدة، كان لها آثار بالغة الأهمية ، في حياة أوروبا والعالم في ، العصر الحديث، فقد ساعد الاتصال بين أوروبا والعالم الجديد، على تقدُّم المعارف والعلوم . و اهم تلك الكشوفات كانت :

1. في مطلع القرن الخامس عشر، الملاحون البرتغاليون يكتشفون سواحل أفريقيا الغربية، و يحققون أرباحا طائلة من وراء نقل الأفارقة الاسرى إلى أوروبا، وبيعهم في أسواق العبيد. ثم يتمكنون من بلوغ "رأس الرجاء الصالح" في أقصى جنوب أفريقيا عام 1488. ثم تمكنوا من
الوصول إلى البرازيل، و بعدها بخمس سنوات يكتشف البرتغاليون أمريكا الجنوبية.

2. الأسبان في عام 1453 ، و بواسطة "كريستوفر كولمبس " ، يكتشفون شواطىء امريكا ، ثم جزر الفلبين.
3. الفرنسيون يكتشفون كندا ، في 1497 و يؤسسون مدينتي "كويبك" ، و "مونتريال".
4. الانكليز يدخلون الى عمق امريكا الشمالية ، و الوسطى ، و أسست شركة الهند - الشرقية عام 1600 .

و تنبع اهمية تلك الكشوفات - وما تلاها من عمليات نهب مستمر للمناطق الجديدة - انها ساعدت على ظهور طبقة غنية ، هي البرجوازية التجارية مستقلة عن الطبقة الاقطاعية .استقلت عنها في تعاملاتها مع الدول و المناطق الجديدة ، و حققت ، ربحا هائلا ، مكنها من تحقيق ذاتها ، و نشر أفكارها ، و دعم حركات الاصلاح الديني في اوروبا ، و قامت بعض العائلات اللارستقراطية - التي سايرت الحياة الجديدة ، بتبديل اسلوب حياتها ، و علاقاتها الاقطاعية القديمة ، و تحالفت مع البرجوازية ، ولم تقصر بصرف المال الوفير على الثقافة ، و الفن ، والعمارة. و بذلك كان للبرجوازية التجارية وجها ايجابيا في تغيير معالم اوروبا ثقافيا ، و بداية تكوين العقل الحديث ، و نقل أوروبا من مرحلة العصور الوسطى الى عصور النهضة . و لن ننسى ان عصر النهضة ، بدأ بسقوط القسطنطينية ، عام 1453ميلادية ، و نزوح علماء القسطنطينية ، إلى إيطاليا ،حاملين معهم تراث اليونان والرومان ، و من ثم انتشاره في مجمل اوروبا !
و كان لتدفق الثرروات الناتجة عن الكشوف الجغرافية ، و استغلال مناجم الذهب، و الفضة ، في قارة امريكا ، دورا كبيرا في حصول البرجوازية التجارية على قوة متعاظمة ، مكنتها من دعم بعض الملوك لصالح اسقاط الاقطاع ، و تكوين رأي عام ، و ظهور الروح القومية ، مما ادى فيما بعد الى ظهور الدولة القومية .
وسط هذه المتغيرات الكبرى ظهرت مبادرة مارتن لوثر الاصلاحية . فقد كان رجلا ذكيا .و كان يؤمن ان افعال الانسان لا تعوض عن ايمانه . تخرج من الجامعة ثم انتسب لسلك الرهبنة . و بعد سنة أصبح استاذا للفلسفة في جامعة و يتنبرغ . ثم حصل على شهادة دكتوراه في اللاهوت، وتم تعيينه أستاذاً للعلوم الدينية في الجامعة نفسها . و لذكائه المتميز ، أصبح لديه عدد لا يحصى من الطلاب الذين آمنوا بافكاره و تفاسيره للكتاب المقدس . وعنما بلغ شاوا كبيرا في صيته ، بدا يتطاول على الكهنة و رجال الدين الخطاة – كما كان يراهم - خاصة اولئك الذين كانوا يستخدمون صكوكا ، يبيعونها للعامة من الناس على انها تغفر لهم ما تقدم من ذنوب ارتكبوها . و بما ان البابا كان على علم بتلك الصكوك ، فلم يهتم رجال الدين لنقد مارتن لوثر لهم ، بل تجاهلوه . و في عام 1517 - كان مارتن لوثر في الخامسة و الثلاثين من عمره – كان البابا في حاجة ماسة للاموال ، فقام باصدار صكوك سماها "صكوك الغفران " حيث يتحول ريع تلك الصكوك لصالح الكنيسة ، بحجة بناء كاتدرائية كبرى في روما . و كانت فرصة للشهرة لدى مارتن لوثر ، فانتقد تلك الممارسات البابوية ، و نظريا ، ثم حول انتقاده الى تطبيق فعلي بأن علق لوحات بمثابة منشورات - تضم 95 نقطة ينتقد بها موقف البابا – على باب اكبر كنيسة في مدينة و يتنبرغ . و قام طلابه بتوزيع تلك المنشورات في كل انحار اوروبا ، و تحولت تلك المنشورات ، الى ضربات زلزالية بحق البابا. و تم استدعائه الى هيئة عليا تضم نبلاء و امراء و رجال دين ، وطلبوا منه العودة عن آراءه فكان جوابه :
<< "لا يمكنني العدول أو التراجع عن كل ما كتبته أو قلته إلا بشرط واحد هو أن يبين لي أحدكم أن أقوالي وكتاباتي تناقض الكتب المقدسة أو تناهض مبادئ العقل والضمير، أو تثبتوا لي بأنها غير سليمة أو غير مستقيمة." >>
لولا عمق علاقات مارتن لوثر بالطبقة السائدة لقضي عليه ، لكن صديقا له انقذه ، باختطافه سرا ، من المكان الذي يعيش فيه ، و تم نقله الى مكان آمن لمدة سنة تقريبا ، قضاها في ترجمة الكتاب المقدس من اليونانية - التي ما كان يتقنها سوى رجال الدين – الى الالمانية ، كي تصبح قراءة الكتاب المقدس ، في متناول الجميع . بعد ذلك عاد الى كنيسته يبلور فكره الجديد و ينشره . و في عام 1858 أمر الإمبراطور فريدريك وليام الرابع ، باستبدال أبواب الكنيسة القديمة ، بأبواب برونزية جديدة تحمل آراء لوثر. و هكذا انتشرت البروتستانتية ، و هي تعني "الاحتجاج" .

اذا ، نصل الى ان دور البروتستانتية كان محدودا جدا في عملية خلق العقل الاوروبي الحديث . بل كان الدور الحقيقي، ناتجا عن تململ الناس من مساوىء الحروب التي تدبرها المؤسسة الدينية ، و عن الكشوف الجغرافية ، و تدفق الاموال ، و تراكم الراسمال ، و ظهور الطبقة الجديدة التي اصبح اسمها ، فيما بعد ، البرجوازية ، و التي دعمت رجال السياسة ، و رجال العلم ، و الفن ، و الادب ، و خلقت النهضة ! فالبرجوازية كانت الحامل الرئيسي للنهضة الاوروبية. ولولاها لما سقط الاقطاع ، ولما حدثت الكشوفات الجغرافية ، و لما تطورت الفنون ، و الآداب ، و العلوم ، بتلك السرعة في اوروبا و جعلتها تتصدر الحضارة العالمية حتى اليوم !

و ان عبارات من مثل يلزمنا مارتن لوثر عربي، قوي ، ليحررنا من مؤسستنا الدينية التي تعبث بثقافتنا و تعيق تطورها . او يلزمنا "صلاح الدين" معاصر، لينقذنا من الهجمة "الامبريالية " . او يلزمنا " لينين " معاصر ليحقق لنا الاشتراكية ...الخ ، ما هي الا اوهام يقظة ، و تعابير قاصرة ، تعبر عن فكر سطحي، و ثقافة ضحلة . فللنهضة شروط عديدة لتتحق ، ولا يمكن لرجل فرد ، او لثلة حاكمة ، او لحزب ثوروي ، ان يحققها . ولا بد من حامل لتلك النهضة يتمثل بطبقة معينة لها ، ذات بعد جماهيري ، و مؤهلة ثقافيا، ولها القدرة المادية ، المناسبة لخلق شروط النهضة ! تحياتي.

فيصل آورفــاي

:Asmurf:

نبيل حاجي نائف · 12-03-2008, 10:12 AM

تحياتي استاذي العزيز أوارفي . أرجو أن تكون في أحسن حال .
ما ذكرته عالي الموضوعية والدقة , نعم لا يكفينا مارتن لوثر

" ان عبارات من مثل يلزمنا مارتن لوثر عربي، قوي ، ليحررنا من مؤسستنا الدينية التي تعبث بثقافتنا و تعيق تطورها . او يلزمنا "صلاح الدين" معاصر، لينقذنا من الهجمة "الامبريالية " . او يلزمنا " لينين " معاصر ليحقق لنا الاشتراكية ...الخ ، ما هي الا اوهام يقظة ، و تعابير قاصرة ، تعبر عن فكر سطحي، و ثقافة ضحلة . فللنهضة شروط عديدة لتتحق ، ولا يمكن لرجل فرد ، او لثلة حاكمة ، او لحزب ثوروي ، ان يحققها . ولا بد من حامل لتلك النهضة يتمثل بطبقة معينة لها ، ذات بعد جماهيري ، و مؤهلة ثقافيا، ولها القدرة المادية ، المناسبة لخلق شروط النهضة ! تحياتي. "

هذا الكلام في منتهى الدقة والموضوعية

تحياتي ومودتي لكم

Awarfie · 12-03-2008, 04:06 PM

" ان عبارات من مثل يلزمنا مارتن لوثر عربي، قوي ، ليحررنا من مؤسستنا الدينية التي تعبث بثقافتنا و تعيق تطورها . او يلزمنا "صلاح الدين" معاصر، لينقذنا من الهجمة "الامبريالية " . او يلزمنا " لينين " معاصر ليحقق لنا الاشتراكية ...الخ ، ما هي الا اوهام يقظة ، و تعابير قاصرة ، تعبر عن فكر سطحي، و ثقافة ضحلة . فللنهضة شروط عديدة لتتحق ، ولا يمكن لرجل فرد ، او لثلة حاكمة ، او لحزب ثوروي ، ان يحققها . ولا بد من حامل لتلك النهضة يتمثل بطبقة معينة لها ، ذات بعد جماهيري ، و مؤهلة ثقافيا، ولها القدرة المادية ، المناسبة لخلق شروط النهضة ! تحياتي. "

هذا الكلام في منتهى الدقة والموضوعية

تحياتي ومودتي لكم
[/quote]

مسرور لسماع رأيك استاذ نبيل .
شكرا لمرورك الطيب .(f)

[size=4]

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	الهوية و الاختلاف عند مارتن هيدغر	مصطفى قشوح	0	2,199	11-10-2012, 10:01 PM آخر رد: مصطفى قشوح
	هل ان وجود الكون دليل على وجود الله؟	طريف سردست	3	2,263	04-22-2012, 12:31 AM آخر رد: Free Man
	هل هناك ما يكفي من المبررات للتمسك بالحياة؟	4025	69	17,252	06-23-2007, 03:59 PM آخر رد: 4025