{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
... رحيل «الحاج مدبولي» أشهر ناشر في العالم العربي
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #1
... رحيل «الحاج مدبولي» أشهر ناشر في العالم العربي
اعتمد على الكتب الممنوعة والمشاكسة ليبني أسطورته ... رحيل «الحاج مدبولي» أشهر ناشر في العالم العربي
القاهرة - سيد محمود الحياة - 07/12/08//

في الدورة الاخيرة لمعرض بيروت للكتاب، تساءل الناشرون والقراء عن سر عدم حضور الناشر المصري الشهير محمد مدبولي الى العاصمة اللبنانية التي طالما أمدته بـ «الكتب الممنوعة» التي صنعت شهرته. لكن الجواب لم يأت إلا مساء أول من أمس عندما أعلن الأطباء في أحد مستشفيات القاهرة رحيل «وزير الثقافة الشعبي» عن عمر ناهز ثمانين عاما، قضى اكثر من نصفها في نشر الكتب وتوزيعها.
خبر الوفاة جاء مفاجئاً لأن الرجل أخفى اصابته بمرض سرطان الكبد عن اقرب القريبين اليه. وشيع أمس جثمان مدبولي من مستشفى القوات المسلحة في ضاحية المعادي (جنوب القاهرة)، وهو المستشفى الذي قضى فيه الرئيس انور السادات وسيدة الغناء العربي ام كلثوم.
ولد مدبولي في الجيزة (جنوب غربي القاهرة) العام 1938. وبدأ رحلته المهنية في السادسة كبائع صحف متجول، بصحبة والده وشقيقه أحمد الذي شاركه سنوات تألقه في عالم نشر الكتب حتى بنى لنفسه حياة أقرب الى الأسطورة. فالناشر الشهير الذي نشر ووزع ملايين الكتب لم يتلق تعليماً نظامياً في طفولته بسبب الفقر، لكنه تعلم الابجدية العربية عن طريق كتاب اولي لتعليم الاطفال، ثم تعلم مفردات من لغات اجنبية عدة بفضل التواصل مع رواد مكتبته من الاجانب.
في ستينات القرن الماضي بدأ مدبولي خطواته الاولى مع النشر، مع نقل «كشكه» لبيع الصحف الى ميدان طلعت حرب، وسط القاهرة، ليكون قريبا من النخبة الجديدة التي كان رموزها يجتمعون في المقاهي القريبة، وشكلوا النواة الاولى لجيل الستينيات الأدبي، وهو الجيل الذي أظهر شغفا بكتب الماركسية والفلسفة الوجودية ومسرح العبث، والتي كانت الاكثر مبيعا في تلك الفترة. ما دفع مدبولي الى تكليف احد زبائنه، وهو الدكتور عبدالمنعم الحنفي، لتأليف كتاب عن «مسرح العبث»، هو أول كتاب في مسيرته كناشر. كما كان مدبولي الناشر الاول لأعمال يوسف القعيد وجمال الغيطاني وصلاح عيسى ومحمد عفيفي مطر وغيرهم من رموز هذا الجيل.
ومن اللافت ان مدبولي الذي اعتبر نفسه «ناصرياً» هو من نشر الكتاب الذي وجه اشد الانتقادات للتجربة الناصرية، وهو كتاب «تحطيم الآلهة» للمؤرخ الراحل عبدالعظيم رمضان. ورغم ان مدبولي اعتبر لاحقا ان نشره هذا الكتاب «غلطة عمر»، لم يمتنع عن توزيع معظم الكتب التي نالت من الناصرية حفاظاً على حق القارئ في المعرفة، كما كان يقول، وللحفاظ أيضا على أرباح طائلة حققها من وراء الكتب التي قام مؤلفوها بهجاء عبدالناصر بعد هزيمة 1967.
ومن رصيف مكتبته الشهير أطلق مدبولي أشعار أحمد فؤاد نجم الغاضبة التي كانت وقود الحركة الطلابية التي عجلت بحرب تشرين الأول (اكتوبر) 1973، كما وزع معظم الكتب التي نالت من استقرار نظام السادات بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد. وهو لم يكن بعيدا، خلال تلك السنوات الساخنة، عن اعين اجهزة الامن التي استغلت رفوف مكتبته كمنصة دائمة لإطلاق الاتهامات بمنع كتب او للترويج لكتب أخرى.
ونشر مدبولي ووزع كتب نصر حامد ابوزيد، فاعتبره المتشددون ناشراً علمانياً. لكنه في الوقت نفسه أثار دهشة كبيرة حين قرر اتلاف كتابين للكاتبة نوال السعداوي، لأنه «يخاف من غضب الله»، كما قال. ما كشف تحولاً مهماً في مسيرة الناشر الذي بنى سمعته كلها على تجارة الكتب الممنوعة والعداء للرقابة.

12-07-2008, 02:24 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #2
... رحيل «الحاج مدبولي» أشهر ناشر في العالم العربي
عن مدبولي والناشرين العرب

GMT 2:00:00 2008 الإثنين 8 ديسمبر

عكاظ السعودية



--------------------------------------------------------------------------------


خلف الحربي
رحم الله الحاج محمد مدبولي أحد أشهر الناشرين العرب والرجل العصامي غير المتعلم الذي بدأ رحلته مع النشر في السادسة من عمره حيث عمل بائعا للصحف ليواصل رحلة الكفاح التي توجها بمكتبة مدبولي الشهيرة في وسط البلد، وبرغم أن هذا الرجل لم يتلق تعليما نظاميا إلا أنه يعد من أكثر الشخصيات تأثيرا في الحركة الثقافية العربية خلال نصف قرن، بل إن ما قدمه هذا العجوز الذي يرتدي جلابية رصاصية مفتوحة الأزرار يفوق بكثير ما قدمته المؤسسات الثقافية العربية الكبرى من المحيط إلى الخليج. شخصية الحاج مدبولي تدفعنا بشكل لا ارادي نحو تأمل شخصية الناشر العربي بشكل عام، فناشر الكتب- في هذه المنطقة المعادية للكتاب- يكتسب معالم شديدة الغرابة فهو رجل لا يغيب عن أعين الأجهزة الأمنية وضيف شبه دائم على مراكز التحقيق، ولكن هذه الحال الصعبة لا تشفع له أمام المثقفين الذين يطبع كتبهم فهم يتهمونه بأكل حقوقهم والمتاجرة بأفكارهم والصعود على أكتافهم، وقد تميز العديد من الناشرين العرب بمهارات خاصة في عبور الممر الضيق بين اتهامات السلطة واتهامات المثقفين للوصول إلى القطاع العريض من القراء، كما تميزوا بقدرتهم العجيبة على تمرير الكتب الممنوعة عبر المنافذ وإخفائها عن أعين الرقابة، بل إنهم رغم علاقتهم الشرسة بالرقيب إلا أنهم على استعداد دائم لبناء علاقة انسانية جيدة معه.
وفي غالب الأحوال يكون الناشر العربي رجلا مسيسا من رأسه حتى أخمص قدميه وهو مستعد دائما للنقاش السياسي الطويل، وغالبا ما يكون مقر عمله ملتقى للمثقفين والسياسيين المتقاعدين، ويتحول الناشر العربي مع مرور الأيام إلى شخصية غريبة جدا فهو مثقف لا يكتب وسياسي لا يعمل وتاجر لا علاقة له بالسوق. وإذا كان جميع التجار في العالم يحتاجون في تجارتهم للترويج لبضائعهم والادعاء بأنهم أكتسحوا السوق، فإن تجارة الناشر العربي تقوم على التذمر من تجارته والشكوى من كساد بضاعته, وبهذا يتخلص من إلحاح المؤلفين الذين قد يطالبون بقيمة أعلى لحقوق التأليف ويكسب تعاطف القراء الذين يشترون بضاعته، وعلاقة الناشر العربي مع جيرانه من تجار الملابس والمأكولات والعطور هي علاقة طريفة جدا حيث إنه يحتقر تجارتهم ولكنه في الوقت ذاته ينظر إليهم بعين الحسد لأنهم لم يتورطوا مثله ويدخلوا عالم الكتاب المنحوس، وعادة ما يتوج الناشر العربي مسيرته الثقافية بتأليف كتاب لا يقرأه أحد. وبالعودة إلى الحاج مدبولي رحمه الله فإن أهم كتاب يمكن أن تصدره مكتبته الشهيرة بعد رحيله هو كتاب يتناول سيرته العجيبة المليئة بالقصص والمواقف المثيرة التي يمكن أن تلخص الأحوال الثقافية في العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين وتقاطعاتها مع الأحوال السياسية، أما أسوأ ما يمكن أن يحدث لهذه السيرة فهو تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني رمضاني حيث تعيش الدراما العربية هذه الأيام هوسا غريبا يتجسد في استعدادها لإنتاج أعمال تلفزيونية عن أي شخصية تفارق الحياة من أجل عرضها في شهر رمضان المبارك.
12-08-2008, 03:25 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #3
... رحيل «الحاج مدبولي» أشهر ناشر في العالم العربي
الحاج محمد الناشر الجريء


بعد أن اكتمل، لا أذكره إلا همساً، حضوره، تطلعه صوبي. سواء باح بالقليل أو الكثير، بالسهل أو الصعب، فلم أعرف من غيره تلك الطبقة النادرة من الهمس الواضح، والتي لم أعرفها إلا منه على مدى نصف قرن لم أتوقف خلالها عن التواصل معه حتى وإن تباعدت بيننا المسافة بسبب السفر، سفر أيّ منا.

هو نفسه، لا يمكنني أن أستعيده في أطوار مختلفة، فهو لم يتغير عبر رحلته معي، وخلال رحلتي معه. مازلت أرى لقاءنا اليومي تقريباً في نهاية الخمسينيات، لكن لا يمكن تحديد لقاء بعينه، وكأن علاقتي به لا بداية لها، وبالتالي لا نهاية لها، فهو يسري في معارفي وأيامي. كان ذلك في وسط المدينة، بالتحديد فوق الرصيف الذي يقع أمام مطبعته الآن، كان الرصيف أضيق من المساحة الحالية، وكان الحاج قد ورث عن والده مكان «الفرشة» المخصصة للوالد الذي كان يوزع الصحف والمجلات لزبائن وسط المدينة. كان المكان حتى منتصف السبعينيات أوربي الطابع، معظم السكان من الأجانب، لم يجرِ تمصيره إلا بعد التأميمات الكبرى، لم يكن الحاج يوزع الصحف المصرية فقط، إنما الأجنبية أيضاً، الإنجليزية والفرنسية، وفيما بعد لغات أخرى.

غير أنه لم يوزع الصحف العبرية أبداً، موقف مبدئي من مواقف عدة تتفق مع محبته لعبدالناصر، ولثورة يوليو، لم أتعامل معه كموزع صحف، إنما كموزع كتب، عندما عرفته، كان ممكناً العثور لديه على الكتب التي يصعب وجودها في المكتبات الأخرى، خاصة الكتب الصادرة عن بيروت. كان الحصول على الكتب الماركسية صعباً، وكان وجود بعض العناوين عند المشتبه بهم قد يدفع بهم إلى المحاكمة. أذكر من العناوين الخطيرة أعمال لينين الكاملة، بالطبع «رأس المال» لكارل ماركس، «تاريخ الحزب الشيوعي» المكتوب في الحقبة الستالينية. فيما بعد أصبح معظم هذه العناوين متاحاً من خلال مكتبة الشرق التي تخصصت في بيع الكتب السوفييتية، وكان من أهم إصداراتها سلسلة «مطبوعات الشرق» التي قدمت ترجمات رائعة للأدب الروسي الرفيع، وترجمات رصينة للأدب السوفييتي الدعائي، وكان يدير المكتبة أحد أفراد الأسرة الأباظية وهي من أشهر الأسر الإقطاعية، وأعرقها في الريف المصري. كانت الكتب المحظورة، خاصة ما يعبّر عن الرؤى اليسارية منها يمكن أن توجد في أربعة مراكز: الأول: الحاج محمد مدبولي، الثاني: كشك في ميدان الأوبرا على مقربة من مقهى صفية حلمي الذي كانت تعقد به ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية، وكان مخصصاً للصحف والكتب، صاحبه اسمه إسماعيل، أذكر ملامحه بالكاد، ولا أعرف إلا اسمه الأول، وسرى همس بين رواد الندوة الأسبوعية لمحفوظ أنه يعمل سراً مع المباحث العامة، أولاً لتوفير الكتب من مصادرها الطبيعية لأجهزة الأمن، وثانياً: لمعرفة مَن يشتريها لإدراج الأسماء في كشوف المشبوهين، الثالث: مكتبة صغيرة أنشأها الدكتور عبدالمنعم الحفني الذي قدم ترجمات عدة للأعمال الوجودية، وكانت تقع إلى جوار الهيئة العامة للاستعلامات بشارع طلعت حرب، وأخيراً مكتبة في أول شارع محمد علي عمل بها شخص يساري اسمه سعد الزناري، وكان ممكناً وجود بعض العناوين غير المتاحة بها. تلك هي النقاط التي كان ممكناً وجود الكتب المحظورة بها. بالطبع لم يستمر منها غير الحاج محمد. حضور الرجل ودماثته وشخصيته جعلت منه روحاً لوسط البلد لميدان طلعت حرب، كانت لديه قدرة على اكتساب ثقة الناس ومودتهم، وكان يبيع بالأجل لبعض كبار المثقفين الذين يعانون رقة الحال. كان يتحلى بصفات من نصفه بابن البلد الذي لم يحصل على قدر كاف من التعليم، وأهمها التمسك بالخصال الأصيلة، وأولها عدم التنكّر للأهل، وتمثل هذا في تعلقه بالجلباب والعمة رداءً له. كل من يمت إلى أسرة مدبولي غيّروا الهندام (بما في ذلك شقيقه الحاج أحمد، رحمه الله)، لكنه ظل إلى آخر يوم في حياته متمسكاً بالجلباب الذي صار علامة له. كان يتحلى أيضاً بذكاء دافق، ينظر إلى الزبون فيدرك غرضه بالنظر، ولأن أذنه كانت مع الطريق الحافل بالحركه تكوّنت عنده حواس استشعار يصعب تكوين مثلها عند مؤسسات كبرى مزوّدة بأدق الحواس الآلية. كان يعرف ما يمكن أن يروّج، وما يمكن أن يركن من كتب. لم أعرف مثل ذاكرته، حفلت بآلاف العناوين وأسماء المؤلفين. أحتاج أحياناً إلى كتاب فيدركه على الفور ويطلب مني المهلة التي قد تمتد أياماً، وقد تصل إلى سنوات، غير أنه لا ينسى، كما يقولون «كان يجيب التايهة..». في تقديري أنه كابن بلد ظل مخلصاً لمهنته الأصلية كموزع صحف، عقليته الأساسية موزع صحف، ومن دون جدال، كان أهم موزع للصحف، خاصة الأجنبية. بعض الصحف لم يكن يوجد إلا عنده، وأحياناً كان يمر بمصاعب مع مؤسسات كبرى فيعاقبها بعدم توزيع صحفها!

خبرته التوزيعية الهائلة نقلها إلى مجال الكتب، في منتصف الستينيات تقريباً حصل على كشك من نقابة الصحفيين، أصبحت الفرشة التي كان يبسطها أول النهار، ويلمها آخر الليل مقراً دائماً ثابتاً، تم تركيب هاتف داخل الكشك، ويبدو أنه تمكن من عقد اتفاق مع العمارة المواجهة ليستخدم المنطقة تحت السلم لتكون مخزناً لكتبه، أصبح الكشك بؤرة حيوية، حوله يلتقي المثقفون ويدور الجدل، إذا مررت ولو دقائق فيجب أن تلتقي بمَن تعرفه، سواء من مصر أو من البلدان العربية أو الأجنبية، خلال هذه الفترة دخل مجال النشر، نلاحظ خبرته النادرة في اختيار العناوين الثقيلة التي خشيت مؤسسات كبرى من الإقدام عليها. يكفي أنه صاحب القاموس الوحيد، فارسي/عربي، تأليف الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، كما نشر عدة موسوعات كبرى في العمارة والفن. ومن الطريف أنه وضع أفكاراً للعديد من الكتب التي نشرها كان يطلب من بعض الكتاب ذوي المهارات الخاصة أن يضعوا له كتباً معينة، مثل «القبلة في الأدب العربي» وما شابه، وقد عرفت أحدهم، كان زميلا فاضلا في أخبار اليوم، وقد وضع عشرات الكتب بعضها بمبادرات منه، وبعضها الآخر من اقتراح الحاج محمد، وقد أصدر سلسلة لتاريخ مصر، أعاد من خلالها إصدار مؤلفات عديدة نفدت وأصبح الحصول عليها صعباً، إلى جانب رسائل الدكتوراه والأبحاث التي كان ممكناً أن تظل فوق أرفف الجامعات مهملة. كان يقول ببساطة: «عشان الناس تعرف تاريخها».

لدقته وحرصه اكتسب ثقة الموزعين العرب، خاصة اللبنانيين، وأصبح اسمه نموذجاً يحتذى، في بغداد سمعت من يصف مكتبة المتنبي بأنها «مدبولي العراق»، وفي اليمن أيضاً وفي الدار البيضاء، وفي تونس، ومعذرة لأنني نسيت الأسماء، كثيرون من هؤلاء تعاملوا معه من دون عقود موقعة، فقط بالكلمة الموقعة شفاهة منه بهمسه بإيماءته، بنظرته، معظم الناشرين العرب في معرض الكتاب يتركون لديه ما لم يبيعوه، وفي يناير التالي يتوافدون عليه ليحصلوا على حقوقهم، في الغالب الأعم كان يدفع نقداً، يدخل يده إلى الجيب العميق للجلباب والذي نسميه السيالة، ويخرج الآلاف، وفي الغالب يكون ذلك من العائد اليومي للبيع، سواء زمن الفرشة أوالكشك و المكتبة.

عندما أصدرت مع رفيق الدرب يوسف القعيد كتابي الأول «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، سلمناه نصف الكمية (ألف نسخة)، وزع الكتاب بحماس، وكان سعيداً بما أحدثه من صدى، وحدث الأمر نفسه مع رواية (الحداد) ليوسف. بالنسبة لنا تميزت علاقتنا معه، كان عمادها الثقة والمحبة، نشرنا عنده بعض أعمالنا، لم نحرر عقداً، ولم نتفق على مبالغ واضحة، إنما كان يخبرنا تقريباً بالمستحق ونحصل به على كتب أي تعاملنا بالمقايضة، كثيراً ما كان يستطلع رأيي أو رأي يوسف في أمور تهمه.

وعندما تعرض الكشك لخطر الإزالة في منتصف السبعينيات قبل استقراره في المكتبة، خضنا المعركة كتابة وحركة، وتصدى كبار الكتاب للدفاع عنه أذكر منهم أنيس منصور وأحمد بهجت ومحمد عودة وغيرهم. في السبعينيات اشترى مكتبة في مواجهة مقهى ريش، باعها بعد ذلك إلى وزارة الثقافة العراقية لينتقل إلى المكتبة الحالية، والتي أصبحت مركزاً ثقافياً عالمياً، فمن لم يشتر الكتاب من مدبولي تصبح نسخته ناقصة وكأن الحاج محمد قد أصبح جزءاً من كل نص أسهم في وصوله إلى القراء، هذا هو!.


جمال الغيطاني
http://www.alarabimag.net/arabi/Data/200..._87808.XML
05-04-2009, 05:14 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #4
... رحيل «الحاج مدبولي» أشهر ناشر في العالم العربي
صداقة 40 عاماً مع صاحب المكتبة «الأثر»!


منذ حوالي سنة ونصف السنة، طرحت على الزميل الصديق «الدكتور سليمان العسكري» رئيس تحرير هذه المجلة تقديم رسم بالكلمات «بورتريه» عن أعلام النشر، والصحافة، والأدب وغيرهم من الأقطار العربية كافة. قال: سأفكر في المشروع، ومن ثم أحيطك علماً بقراري.

وفوجئت به يشترط موافقته بأن يكون أول شخصية أقدّمها هي: الحاج محمد مدبولي - رحمه الله - ولا حاجة بي إلى القول أني رحّبت في الاختيار، لأني أزور «بو محمود» وأتواصل معه بصورة دائمة كل أسبوع على الأقل، سيما أني أقطن قريباً منه، واعتدت ساعة العصاري على زيارته يومي الإثنين والخميس. وهو الآخر: يزورني ليلاً حين أكون بمعية مولانا الشيخ إمام عيسى الموسيقي المغني الوطني الشهير، والشاعر أحمد فؤاد نجم، ورفيق مسيرتهما الفنان التشكيلي القطري «محمد علي» ضابط الإيقاع في جوقة «حوش آدم» بحي الغورية، فضلاً عن سهرات عازف الكمان والموسيقي العالمي الأستاذ «عبده داغر». والجميل في العم «مدبولي» أن الصيت الحسن، والنجاح الذي صنعه بعبقرية «الصعايدة» الفطرية، فضلا عن حظوته بالشهرة الناشئة عن الفعل والإنجاز وإتقان أسرار مهمة الناشر، بالتراكم المتواتر، عبر خبرة تترى، وصبر عنيد، وسائر مناقبه التي سترد في السياق لاحقاً، كل ذلك مكّنه من تجاوز كل العقبات والعراقيل اللتين استهدفتا تحجيم مؤسسته الثقافية، سعياً لاحتوائه، بل إزالته من فضاء النشر والتوزيع بجرة «فرمان همايوني» من أحد المسئولين بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان! اللهم إلاسلطان محاربة الناجحين!

إن السيرة الذاتية لـ«مدبولي» باتت معروفة لجل الأدباء والمبدعين في شتى مناحي الإبداع، فضلاً عن المثقفين العرب من الخليج إلى المحيط. من هنا أحس أن ذكرياتي معه، قد «تضيء» سيرته الذاتية، وتضيف إليها تفاصيل بسيطة، تتبدى فيها شخصيته العصامية بامتياز. حين نشر الروائي «علاء الأسواني» روايته البكر «عمارة يعقوبيان» الطبعة الأولى من خلال «دار ميريت للنشر» لم تلق الشهرة المدوية التي حظيت بها لاحقاً لأسباب لا مجال لذكرها في هذا السياق، لكنها حين أعيدت طباعتها ثانية، بواسطة «مكتبة مدبولي»، لقيت رواجاً مدهشاً لم تحظ به رواية لمبدع ينشر عمله الروائي الأول! ذلك أنه ليس ناشراً ناجحاً فحسب، بل إنه يجيد توزيع ماينشره وإشهاره وانتشاره! فحين أخبره أحد المستشارين الذين يستعين بهم لتقييم أي مصنّف إبداعي يأتيه مخطوطاً، أو منشوراً يستأهل طباعته ثانية، بأن «عمارة يعقوبيان» رواية جذابة مصوغة بتقنية سردية تستهوي عامة القرّاء، وربما خاصتهم، بادر على الفور بالتعاقد مع المؤلف على الطبعة الثانية من الرواية. وبحسه الفطري المردوف بخبرة السنين: طبع منها خمسة آلاف نسخة. وهو رقم سخي ينطوي على مغامرة ومقامرة في المجهول! ذلك أن روايات مولى «نوبل» بجلالة قدره، لا يجرؤ ناشره على أن يطبع منها أزيد من ثلاثة آلاف نسخة فقط لاغير. الشاهد أن هذا الإنسان «البلدي» الذي يظنه الرائي إليه أنه مجرد «فاعل» أو عامل، أو صاحب أي حرفة يدوية بسيطة يكسب منها قوته قد استطاع بزيّه البلدي الصعيدي أن يصبح علامة النجاح والعصامية، والمحافظة على النجاح والشهرة.

في مطلع عقد الستينيات، كنت أقطن قاهرة المعز للدراسة الجامعية. وكانت ومازالت «مكتبة مدبولي» تبعد عن مسكني قرابة نصف كيلومتر، الأمر الذي مكنني من الاختلاف إلى المكتبة الذائعة الصيت، والتعرف إلى صاحبها «الحاج محمد مدبولي» الذي أفضى بتواتر الزيارة، إلى صداقة حميمة، دامت قرابة أربعين سنة «بالصلاة على النبي!»، كما يقولها إخوتنا «المصاروة» درءاً للعين والحسد! ولست بدعاً في صداقتي «لأبي محمود - رحمه الله - ذلك أن جل الطلبة العرب «في النصف الثاني من القرن العشرين والمنعوتين بـ«دودة» الكتب، المريدين للكتاب والقراءة، يتسمون بعلاقة صداقة حميمة معه. أما علاقته بالمبدعين المصريين والعرب، فكانت هي الأخرى عضوية بالضرورة، موصولة بحبل صرة المودة والتقدير طوال سني حياته الزاخرة بنشر وتوزيع المصنفات الثقافية المصرية والعربية، في شتى مناحي المعرفة.

وأحسب جازماً بأن السيرة الذاتية للحاج «مدبولي» باتت معروفة للقاصي والداني، سيما أن وسائل الإعلام العربية كافة: كرّست صفحات تتحدث عن «مدبولي» الإنسان ابن البلد العصامي، الذي شارك والده في صباه، مهمة توزيع الصحف الأجنبية في أربعينيات القرن العشرين، حين كانت منطقة وسط البلد مكرّسة لسكنى الأجانب «الخواجات» كما ينعتهم المصريون!

من هنا فإن شهادتي ستتكئ على مقتطفات من ذكرياتي الشخصية معه - رحمه الله -.

في أواخر شهر أبريل 1991م إثر تحرير دولة الكويت من الاحتلال «الصدّامي» إياه، امتطيت الطائرة الميممة صوب القاهرة، وأنا أتأبط مخطوط التقارير الصحفية السرية التي أرسلتها من الكويت المحتلة إلى وكالة الأنباء الكويتية، عبر الفاكس السري، في العاصمة السعودية الرياض. كانت المخطوطة - في ظني - تشكّل مشروع كتاب أسميته «شاهد على زمن الاحتلال». كنت أتلظّى على «حديدة» العوز، ولم يكن بحوزتي سوى مبلغ متواضع يكفي - بالكاد - لعيشتي الحياتية اليومية، المعتمدة على الفول والطعمية، ولله الحمد! الشاهد أني حالما وصلت القاهرة: هتفت لأخي في الله، وفي الكتاب، فضلاً عن «الكوارع» ولحمة الرأس، و«الممبار والنيفة» وغيرها من أطايب الأطعمة الشعبية المصرية، أعني الصديق الأديب الروائي «محمد مستجاب» - رحمه الله - وأحد الكتّاب الأزليين في هذه المجلة، إذ سلمته المخطوطة ليتولى مهمة نشرها، وانشغلت بمرض سيدي الوالد - رحمه الله -. وفوجئت بعد مرور يوم واحد باتصال هاتفي من الحاج «محمد مدبولي» معاتباً إياي لكوني لم أتصل به مباشرة، مؤكداً بألا أفكر أبداً بمسألة تكلفة نشر الكتاب!

وقال لي كلمته المعهودة التي طالما سمعتها منه: «الدفع حين ميسرة»، وأردف قائلاً: ازاي يبقى الأستاذ «مستجاب» وسيطاً بيننا، الذي لمّح لي «مدبولي» بعتابه لأن مستجاب كان في سبيله إلى أن ينشره ضمن سلسلة كتاب الهلال التي تصدر عن مجلة الهلال العريقة، أو في الهيئة العامة للكتاب. وختم كلامه قائلا: الكتاب صار عندي، وسلّمته إلى الأستاذ «إبراهيم عويس» مستشار الدار لإبداء الرأي، ومن ثم إلى المطبعة! وبعد أسبوع كان الكتاب في الأسواق! ونفدت الخمسة آلاف نسخة في أسبوعين! فبادر بحسّه الفطري، وخبرة السنين المتراكمة، بطباعة عشرين ألف نسخة..! وطلبت منه مثلها للكويت وأقطار الخليج العربي، وعلى الرغم من مضي ثمانية عشر عاماً على إصدار كتابي إياه، إلا أنه ما برح يتربع أحد رفوف المكتبة، ويرد عنوانه في سياق فهرس منشورات الدار. والكتاب أتاح لي معايشة طريقته في عملية نشر أي مصنف أدبي. بداية هو يتسم بحاسّة شم فطرية تجاه الكتاب الذي يحدس انتشاره وإقبال القرّاء على اقتنائه. فحين سلّمته إياه، ظننت أن ألفي نسخة تكفي وتفي بالغرض المنشود، لاعتقادي بأن عامة القرّاء يعزفون عن مطالعة كتاب يتمحور متنه حول الاحتلال وعربدته الإجرامية.. إلخ.

الشاهد أن الكتاب بلغت مبيعاته عشرات الألوف، منها عشرون ألف نسخة في ديار الخليج العربي.

وحين يؤرخ لحركة ومسار النشر، في البلاد العربية، فإن الباحث سيتوقف كثيراً أمام تجربة «مدبولي» - رحمه الله - في عمليتي النشر والتوزيع.

ولأن الكاتب مولّع بالسماع والطرب العربي الأصيل، غناء وموسيقى، فإن منزله المجاور لمكتبة «مدبولي» كان يحضن العديد من الأصدقاء المبدعين في الغناء والتأليف الموسيقي والعزف المتقن المطرب للآلات الموسيقية.

ففي عقد السبعينيات والذي يليه، كانت سهرتنا «صبّاحي» مع «الصهبجية».

و«عم مدبولي» كان حاضراً جل هذه السهرات المقامة أسبوعياً على أقل تقدير، لحضور الشيخ إمام عيسى، والشاعر أحمد فؤاد نجم، وبمعيتهما الفنان التشكيلي القطري «محمد علي» ضابط الإيقاع للإثنين معاً بالطبلة والدف حينا، أو أي وسيلة إيقاعية، كان «بو محمود» يصيخ السمع باحتشاد لافت، لكنه هادئ، يمج السيجارة تلو الأخرى، ويلعلع بعبارات الاستحسان كلما طرب لمعنى أو مغنى! وقد أفضت زياراته المتواترة إلى المنزل، حيث مولانا الشيخ إمام وعمنا «أبو النجوم» حاضران دوماً كل أسبوع، إلى علاقة حميمة بينه وبين الشاعر «نجم» طال عمره زمنيا وإبداعياً.

أما حين تكون السهرة الليلية مع الموسيقي وعازف الكمان الفذ: عبده داغر وفرقته الموسيقية، فإنه يكون أول الحاضرين لكونه مغرماً بموسيقى وعزف الأستاذ «داغر» فضلاً عن مجاورة منزلي لمكتبته، كما نوّهت بذلك آنفاً.

وإذا شرع الأستاذ «عبده» في العزف المنفرد المتفرّد المدهش: استجاب له صاحبنا - رحمه الله - بالإصغاء التام، علّ ذلك يريحه من عناء الشغل، من التاسعة صباحاً حتى التاسعة ليلاً!

ويتواتر حضور «بومحمود» للسهرات المموسقة إلى حين مرضه الأخير الذي أفضى إلى وفاته - رحمه الله -.

وقد اشتهر الحاج «مدبولي» بين الطلبة الذين تعاقبوا على القاهرة والإسكندرية للدراسة في معاهدها العالية وجامعاتها، بقدرته على جلب أي كتاب مصادر وممنوع! حسب الطالب المريد للقراءة أن يذكر له اسم المؤلف، وعنوان المصنف المطلوب ليكون بين يديه خلال مدة، قد تطول أو تقصر.

وحين تحضر الكتب المطلوبة الممنوعة يتم تسليمها جهاراً نهاراً حيناً، وتحت «الترابيزة»، أحيناً أخرى.

ولعل هذه «الشهرة» الرائجة بين الطلبة «الشرقيين» وغيرها وسيلة خفية وإعلان غير منشور للترويج للمكتبة بين أوساط عامة القراء الذين لا يقرأون سوى الكتب الممنوعة فعلاً، وتلك التي يزعم مولاها ومؤلفها بأنها كذلك. الشاهد أن أخانا «مدبولي» جابه طوال سني حياته في مجال النشر والتوزيع تحديات رقابية وإدارية «بيروقراطية» استجاب لها بإرادة صلبة صعيدية لا تلين، متكئاً على مؤازرة المثقفين بمصر، ووقوفهم في صفه بداهة.

ولعله من نافل القول التنويه بأن هذه المؤسسة الثقافية الشعبية الذائعة الصيت باتت من معالم القاهرة الحضارية، التي يحرص عامة القراء وخاصتهم على الاختلاف إليها في كل مرة يزورون فيها العاصمة المصرية. ذلك أن الزيارة تعد ناقصة ومثلومة إذا خلت من الإطلالة على المكتبة!

فالزائر يشاهد «أبو الهول والأهرامات» وغيرهما من الآثار والمعالم السياحية مرة واحدة، لكن زيارته لمكتبة مدبولي متواترة ودائمة!

والحق أن المكتبة ليست مجرد فضاء يحضن وينشر المصنفات، بتجلياتها الإبداعية كافة فحسب، بل إنها جامعة للعرب المريدين «لخير جليس».

فكثيراً ما التقيت فيها ساسة وأكاديميين ومفكرين من المشرق والمغرب العربيين على حد سواء. والأعلام العرب في السياسة والإدارة.. إلخ كانوا يخبرونه منذ أن كانوا طلاباً في النصف الثاني من القرن العشرين.

والمؤسف أن عام 2008 يعتبر بحق عام الحداد والحزن الثقافي العربي، كما نعته الأستاذ «عيد عبدالحليم» في مجلة «أدب ونقد» لشهر سبتمبر 2008. حسبنا تأكيداً إلى ما ذهبنا إليه: استدعاء رحيل الكوكبة من المبدعين المصريين والعرب الذين غيّبهم الموت في هذا العام: الأديب الناقد الأستاذ رجاء النقاش، الأستاذ حامد العويضي الفنان التشكيلي والخطاط، والمؤرخ اليساري الدكتور رءوف عباس، والمفكر الأكاديمي الدكتور عبدالوهاب المسيري، والمخرج يوسف شاهين، والشاعر محمود درويش ومن ثم الحاج مدبولي الذي اكتملت برحيله الفجيعة القومية.


سليمان الفهد


ملف: الحاج مدبولي


في لقائي الأخير مع الحاج مدبولي في مكتبته الشهيرة في قلب الوسط التجاري للقاهرة؛ ميدان طلعت حرب، كنت قررت زيارة المكتبة، ولم أكن متأكدا من وجوده. اقتحمت مكتبه الصغير المحشور بين الكتب، فتأملني لوهلة. حملت عيناه تعبيرا ما بين المفاجأة، والدهشة، فتصورت أنه لم يتعرف عليّ. لكني سرعان ما فوجئت به يقفز من مكانه مرحباً وصارخاً: «سليمان الكويتي؟»، وبدأ فاصلاً من الترحيب، ثم قال: «تعرف إني متابع أخبارك أولاً بأول؟ وأعرف أنك تأتي للقاهرة كثيرا، ولكنك تبخل عليّ بالزيارة..».

أخجلني، ولم أجد ما أجيبه به على عتبه هذا سوى التعلل بضيق الوقت، وكثرة المشاغل، في مقابل قصر الرحلات التي أزور خلالها القاهرة، والتي غالبا ما تكون مخصصة لمهمة محددة، والتأكيد بأن تولي مسئولية إدارة مجلة مثل «العربي» يمنعني من التغيب طويلاً عن مكتبي، لأنه عمل يقتضي تفرغاً كلياً، وإلا..!

ومثلما فعل عندما وجدني أمامه وجهاً لوجه في العام 1991، في جناح مكتبته بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، راح يصرخ وهو يحتضنني: «ده الراجل صاحب الفضل في اللي انا وصلت له!».

في ذاك اليوم كان يصرخ بأعلى صوته «الله ياخدك يا صدام على اللي عملته في الكويت، وأهل الكويت..». قبل ان يضيف بنفس الحماس: «يا سليمان، كل ما أملكه الآن تحت تصرفك وتصرف أهل الكويت». ثم عاد ليردد على مسمعي ومسامع العاملين في المكتبة، ما أخجلني، عما يسميه فضلاً عليه، رحمه الله.

والحكاية هي أننا كنا أربعة طلاب من الكويت قد التحقنا بالدراسة في القاهرة أول الستينيات، وكنا نسكن قريباً من جامعة القاهرة، وبالتحديد في 2 شارع الدقي، بالطابق السابع.

آنذاك كان هناك فتى صغير يزودنا بالصحف يوميا في ذلك السكن، وعرفنا أن اسمه محمد، حيث كان ووالده وإخوته يملكون كشكا للسجائر والصحف في ميدان الدقي. وفي ذلك الوقت وبسبب قرب الكشك من ميدان الدقي، عادة ما كان يتعامل بانتظام مع رواد مقاهي الميدان وأشهرها مقهى بردي الذي يرتاده أغلبية الطلبة العرب من الدارسين في القاهرة.

كان قد بدأ يكسب ثقة هؤلاء الطلبة بأخلاقه، ونشاطه، وحركته الدءوبة ليل نهار. في ذلك الوقت في مطلع الستينيات من القرن العشرين، كنت أتلقى اسبوعيا كمية من مجلة «الحرية» البيروتية لأقوم بتوزيعها على الطلبة العرب في محيط علاقاتي بهم. وصادف وجوده في إحدى زياراته لنا في السكن ان شاهد نسخاً من المجلة فسألني عنها. أخبرته عنها، وأنها إحدى المجلات القومية التي تدعم الرئيس عبد الناصر وسياساته، فسألني: لماذا لا تعطيني هذه الأعداد لأقوم ببيعها لك في كشكنا؟ ورحبت بالعرض على الفور وسلمته كل أعداد المجلة ليوزعها، وبطبيعة الحال لم أطالبه بثمنها، لأنني لم أهتم إلا بأن يتم توزيعها بأفضل شكل ممكن.

واستمر يتسلم المجلة مني بشكل أسبوعي، حتى طالبت إدارة المجلة في بيروت أن يقوموا بإرسال المجلة له بشكل مباشر. وأظن أن تلك المرحلة كانت بداية علاقته بالمطبوعات البيروتية، والتي استثمرها لتوثيق علاقاته بالصحفيين والكتاب العرب وتوسيعها، وفي مقدمتهم الكتاب اللبنانيون.

هذه هي حكايتي مع الحاج مدبولي، رحمه الله، التي ارتأيت أن أفتتح بها هذه المقدمة للملف الذي لبى دعوتي للكتابة فيه، مشكورين، وبسرعة، كل من الإخوة: سليمان صالح الفهد (الكويتي المتمصر)، والأديبين الروائيين جمال الغيطاني ويوسف القعيد. وقد كان القصد منها هو تأكيدي للقاريء بأننا في هذا الملف لا نرثي فقيدا، بقدر ما نحيي اثرا، وأن نؤكد على أن الوطنية والنجاح ليسا ملكاً لأحد، بقدر ما أنهما ملك لكل إنسان جاد وشجاع وطموح وملتزم بوطنه وأهل بلده.

فالحاج محمد مدبولي يستحق كل الدعاء له بالرحمة، وبأن يسكنه مولاه فسيح جناته. لكن الأصل أن نتذكر أنه بنى صرحاً من لاشيء، سوى الدأب. لا سلطة ولا مال كانا وراء هذا البنيان الذي اصبح أثراً عربياً لا يستغني عن زيارته والاستفادة منه أي مثقف مصري، أو زائر عربي، قارئاً كان أو كاتباً أو أديباً أو صاحب دار نشر لاكتشاف كل جديد في عالم الكتاب والنشر.

فالمكان كان دائماً، ولا يزال، يعج بالأدباء ورجال السياسة والفنانين والشعراء وأساتذة الجامعات والقراء من كل الاتجاهات، وهذا ما يستحق منا أن ندعمه ونحميه لكي يبقى هذا الأثر (مكتبة الحاج مدبولي) مركزاً يرفد الثقافة والعلم.

وأكرر شكري وعرفاني وامتناني لكل الإخوة الذين استجابوا فورا لدعوتي لهم بالكتابة عن مدبولي ومكتبته.


د. سليمان إبراهيم العسكري


مدبولي: عبقرية المجهود


أجلس في صباح مبكر للكتابة عن الحاج محمد مدبولي. وأنا لا أصدق نفسي. منذ أيام وفي صباح يوم السبت. حيث تخلو الشوارع من الناس. وتأخذ القاهرة إجازة من القاهرة. وأنا لا أستريح نفسيا لإجازة السبت. لأننا نحصل عليها في اليوم الذي يحصل عليها فيه عدونا الرئيسي والجوهري. لكن ما باليد حيلة. كنت في طريقي إلى مسجد السيدة نفيسة. لحضور جنازة الحاج محمد مدبولي. وأنا أفضل الجنازات عن العزاءات. سرادق العزاء فيه من الواجب الاجتماعي العام أكثر من الوداع الحميم لمن مات. كلا الأمرين محزن، فالموت هو الموت في النهاية ونحن أبناء مصر ربما لا نلتقي لفترات طويلة إلا في طوابير الجنازات، أو سرادقات العزاء. نلتقي ثم نفترق. نتذكر آخر لقاء، فنكتشف في لحظة الذكرى أنه كان بمناسبة موت عزيز، ونفترق على موعد جديد، لكن هذا الموعد يتأجل ويتأجل إلى أن يتم ويأتي الاكتشاف المؤلم، أنه موت جديد، ولا حياة بين الموتين. ليس هذا بغريب على شعب يقدس الموت أكثر من حبه للحياة. أنا أذكر 28 سبتمبر سنة 70 باعتباره يوم وفاة عبد الناصر، وأذكر 28 أكتوبر سنة 73 باعتباره ذكرى وفاة طه حسين، وأذكر 28 أكتوبر سنة 1995 باعتباره تاريخ وفاة أبي. لكن لو سألتني عن تاريخ ميلاد كل منهم تتوه مني الأرقام. وتهرب مني الذكرى، مع أن الميلاد حياة، والموت نهاية، لكننا نتشبث بالنهايات بعد أن تاهت منا البدايات. يكتب هذا الكلام مصري مازالت أهم آثار بلاده ثلاثة من الأهرامات، كانت من العجائب السبع للعالم القديم. إنها الأهرامات التي تقاوم النسيان، وتتحدى الفناء، وهي قبل النهاية وبعد البداية مجرد قبور، وليست قلاعاً لتحدي الزمن، بل بنيت أساساً ليدفن بداخل كل منها فرعون.

مايو 69

كنا قد طبعنا كتبنا الأولى على نفقتنا الخاصة، لأن كاتباً جسوراً، هو سمير أحمد ندا قادنا في هذا الطريق، وأصبحت لديَّ نسخ روايتي الأولى «الحداد». وكان من الطبيعي - بعد طباعتها - أن أبدأ رحلتي، من أجل توزيعها، من خلال كشك الحاج مدبولي. وهكذا عرفت طريقي إليه مبكراً جداً، ذهبت إليه يوم الجمعة، قبل التوجه للقاء نجيب محفوظ. في مقهى ريش الكائن بشارع طلعت حرب، الذي مازلنا نسميه سليمان باشا، مع أن طلعت حرب أحد الذين أسسوا اقتصاد مصر الحديث، وهو مصري أباً عن جد، لكن سليمان باشا الفرنساوي. كان أحد الأجانب الذين التحقوا بخدمة الأسرة العلوية، وشاركوا في تدريبات الجيش المصري. يبدو أن الأسماء القديمة مازالت لها قوة وجاذبية لدى الجمهور العادي أكثر من الأسماء الجديدة. أصل المشكلة وجوهرها أن القديم مرتبط بمصر المحتلة، والجديد جزء من محاولة النهوض المصري في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن مرض الحنين للماضي يشد العامة إلى الماضي البعيد، ويبعدهم عن الماضي القريب.

رحب بي الحاج محمد مدبولي، أخذ نسخ الرواية من يدي، وضعها في مكان مميز على الفرشة. لم تكن هناك مكتبة، مجرد كشك في ميدان سليمان باشا. كان موزع كتب وصحف فقط، لم يكن يفكر أن يكون ناشراً. كان يرى أن الاكتفاء بالتوزيع لا يقل أهمية عن الكتابة والطباعة والنشر، لأن المرحلة الأخيرة هي التي تحمل الكتاب للقارئ وتوصله إليه، وهذا الكشك كان كل عالمه. يضع فوق أحد أرففه الداخلية: أجندة فيها تليفونات المثقفين المصريين والعرب الذين يتعامل معهم. وإيصالات وفواتير.

ومن كثرة الكتب والعمل وسط الكتب، بدأت «تناغشه» فكرة النشر، مع أنه كان حذراً، مثل سلوك كل أبناء حضارة الزراعة، حيث تتراجع القدرة على المغامرة. كان يرى أن التوزيع يضمن له عائداً مضموناً، وأن النشر ربما كان مغامرة، غير مأمونة العواقب، فضلاً عن تركيزه المستمر على أن الموزع ربما كان أهم حلقات إنتاج الكتاب. لكن الحاج محمد مدبولي بعد ذلك تحول للنشر، أصبح ناشراً.

مساء 28 سبتمبر سنة 1970

كنت أقف معه بجوار الكشك، وكان يقف معنا شخص لم أكن أعرفه. كان يرتدي بدلة سوداء وقميصاً أبيض ونظارة بيضاء لا تراها - الزجاج والإطار معاً - عند النظرة الأولى، وكان الراديو المصري الذي كان سيد الأذن في ذلك الوقت - لم يكن التليفزيون قد أصبح منافساً له - وترتيل القرآن الكريم كان مستمراً. سمعت يومها تجليات تلاوة للشيخ محمد رفعت لقصار السور. يبدو أنه كان يرتلها في مسجد وحوله من يستمعون له، ويبدون إعجابهم بصوته ويطلبون منه الإعادة أكثر من مرة، وهو التراث الجميل للشيخ رفعت الذي لم نستمع له بعد هذه المناسبة. هذه التلاوة القرآنية في غير وقتها جعلت الناس تتساءل عن السبب. كان جرح النكسة ينزف. وكان قلب مصر حفرة مليئة بالدماء.

في لحظة خاطفة أعلن عن رحيل جمال عبد الناصر. حتى هذه اللحظة مازلت أسمع في أذني صوت ما فعله الحاج مدبولي كأنه يحدث الآن، ضرب جبهته بكلوة يده اليمنى، وأسند رأسه للكشك. لكن الأستاذ الذي كان واقفاً رفض سلوك مدبولي، وحزني الذي بلا حدود، وحاول «عقلنة» الموقف، عندما قال إن الموت علينا حق، وإن عبد الناصر بشر. كان هذا الأستاذ بعد أن تعرفت عليه هو الدكتور جمال حمدان، الذي لم يكن قد دخل شرنقة عزلته، ولم يكن قد خاصم المجتمع المصري. لكن رد فعل الحاج مدبولي، على الخبر «الصاعق» شكل بذرة صلة إنسانية بيني وبينه.

أحاول وضع الموقف في سياقه الإنساني، مدبولي يداوم على وصف نفسه من يومها بأنه واحد من «جنود جيش عبد الناصر». كان موقفه من عبد الناصر يلخصه على النحو التالي، إن عبد الناصر صعيدي، وهو صعيدي. إنهما جاءا من الصعيد، والصعيد عصبية مهمة في بلد مازالت الناس تصنف نفسها: «بحاروة أو صعايدة»، مع أن مدبولي مولود في الجيزة، ولكن والده كان من أبناء سوهاج. وعبد الناصر مولود في قرية الضهرية بغيط العنب، إحدي ضواحي الإسكندرية، ووالده ينتمي إلى قرية بني مر في صعيد مصر. ثم إن عبدالناصر، في نظر الحاج مدبولي رجل «شرب من ثدي أمه»، رفع رأس مصر عاليا، وأنه كان يشعر بالفقراء وآلامهم. كان إحساس مدبولي بفقراء المصريين يعلو على «التنظير»، ويسبق الفرز الطبقي. كانت مسألة طبيعية في وجدانه، وظل طول حياته يتناول وجبة الطعام الرئيسية، حوالي الساعة الخامسة بعد الظهر، وسط العاملين معه في المكتبة. يرسل في طلب الطعام لهم جميعاً، ويجلس معهم ويوزع عليهم الأكل ويطلب لهم الشاي، ومن يدخن يعزم عليه بالسجائر.

بعد ذلك سينشر مدبولي كتاباً يهاجم عبد الناصر، وسيندم كثيراً على هذه الفعلة التي ما كانت يجب أن تكون. أيضاً عندما عرض مسلسل عن الصعيد في التلفزيون المصري، كان الحاج مدبولي يستأذن ويدخل إلى المخزن ليشاهده، لأنه كانت هناك «لزمة» تتردد بين كل مشهد وآخر. ومع الأسف ضاعت من ذاكرتي بيانات هذا المسلسل، لكن «اللزمة» كانت من كلمتين: «هراس جاي». طبعاً الحاج مدبولي لم يقرأ مسرحية كاتب العبث واللامعقول صامويل بيكيت: «في انتظار جودو». ولكنه كان ينظر لمجئ هراس كأنه المخلص. إنه مرة أخرى المخلص الذي يمكن أن يأتي من الجنوب. من صعيد مصر تحديداً. كان الدكتور لويس عوض، وهو صعيدي من إحدى قرى المنيا، يقول لي دائماً وأبداً. إن صعيد مصر هو مخزن الرجولة، وإن هذا الصعيد يمثل المجتمع الواقي الذي حفظ روح مصر وضميرها وعاداتها وتقاليدها في مواجهة كل الغزاة والمحتلين الذين حاولوا احتلال مصر. كان لديه يقين أن أي احتلال أجنبي لمصر. توقف عند الدلتا، ولم يصل إلى الصعيد. بل لم يكن يعترف بحملة ديزييه، التي وصلت إلى مشارف قنا، في زمن الحملة الفرنسية على مصر. عندما كنت أتكلم عن هذه الحملة معه، كان يقول لي لا تردد فولكلور المؤرخين.

كانوا ثلاثة

في فترة الكشك كانوا ثلاثة من الأشقاء، محمد وأحمد وسيد، أحمد تولى إدارة مكتبة لندن التي لم تعمر طويلاً، ثم مرض وتوفاه الله مبكراً، وأولاده أسسوا مكتبة مدبولي الصغير. خلال فترة مكتبة مدبولي فرع لندن فكر الحاج مدبولي - لأول وآخر مرة - أن يستبدل جلبابه ببدلة. وسألني عن المحل الذي أشترى منه بدلى «السفاري» وعندما عرفت سبب السؤال، نصحته بالإبقاء على الجلباب الذي أصبح جزءاً من شخصيته أيامها. خلال تردده على لندن، أكد لي سلوكه قدرة المصري على مواجهة الصعاب وقهرها. كان مدبولي يحضر أوراق التأشيرات من السفارة البريطانية، وتكتب له بالإنجليزية ويضعها في قلب الجواز قبل التوجه إلى المطار. أما سيد أصغرهم، فقد كان «غاوي فن» يحب التمثيل، وكان له صديق فنان توقف عن التمثيل أيضاً، هو حمدي حافظ. وقد ظهر سيد في فيلم أو فيلمين، وسبق الحاج محمد في الموت، وأصبح أولاده يمتلكون مكتبة مدبولي بالمهندسين، القريبة من مقهى العمدة وفندق أطلس. وأذكر أن سيد تزوج من ابنة شقيقة الفنان فريد شوقي. وفي يوم الزفاف طلب مني الحاج مدبولي أن أذهب معهم، وعندما قلت له إنني لا أحب هذه المناسبات الاجتماعية، قال لي أنت عزوة بالنسبة لنا، ثم إن فريد شوقي «راجل مثقف»، ولابد وأن نذهب إليه «متسلحين» بالثقافة. كانت فيللا فريد شوقي أمام مسجد، أصر فريد شوقي أن يسميه مسجد فريد شوقي.

الكشك

بجوار كشك مدبولي، رأيت مثقفي مصر والوطن العربي، لم أر نجيب محفوظ الذي كان يحضر مبكراً جداً، لكن مدبولي قال لي إن نجيب محفوظ كان يأخذ منه كل الصحف والمجلات الصادرة دون تمييز. عرفت من نجيب محفوظ أنه كان يترك الصحف في مقهى ريش بعد قراءتها، لأنه لم يكن من ضمن اهتماماته الاحتفاظ بالصحف. أما الكتب التي كان يحصل عليها فقد كانت في معظمها مترجمة، لتلك الأسماء التي سادت في بعض الفترات. لكني رأيت عند كشك مدبولي يوسف إدريس ولويس عوض وعصمت سيف الدولة. كان ينتحي جانباً بالضيف وتجري بينهما معاملات. قال لي مدبولي شارحاً الأمر بعد ذلك: «إنهم ينشرون كتبهم في بيروت. كانت «كامب ديفيد» على الأبواب، وقد حدثت بوادر هجرة الأقلام والمؤلفات إلى بيروت. كان لويس عوض يأتي ماشياً على قدميه برابطة عنقه المبرومة في إهمال. ها هو لويس عوض صاحب مقولة: «أن القاهرة تكتب، وبيروت تنشر وبغداد تقرأ» يأتي إلى هنا. ينزل من تاكسي في الميدان. أما يوسف إدريس فقد كان يركن سيارته المرسيدس الصفراء، في قلب الميدان، ويتشاجر مع رجال المرور ويفرض عليهم ما يريده. أما الدكتور عصمت سيف الدولة، فلم يحضر وحده أبداً، دائماً حوله التلاميذ والأصدقاء.

لكن الكشك أصبح علامة، لدرجة أن المثقف الذي ربما وجد الكتاب الذي يريده بجوار بيته، لا يشتريه إلا من عند مدبولي. ومدبولي كان سعيداً بذلك، كان يقول لي إن الكتاب واحد ولكن الشراء من عندي «غية» عند الناس.

لكن الكشك أصبح معلمه الأول والأخير، منحه سر الصنعة، وقفته بجوار الكشك منذ السادسة صباحاً. كان حريصاً على هذا الموعد عندما كان يبيع الصحف. حتى الثانية بعد منتصف الليل، جعلته يدرك سر الأسرار في موقف الناس من الكتب. يعرف المطلوب من هذه الكتب، ومن هم الكتاب الذين تحدث حالة من الإقبال عليهم أكثر من غيرهم. إن إدراك ذائقة مستهلك الكتاب مسألة ليست سهلة، وقد عرفها بشكل مباشر، بعيداً عن قياسات الرأي العام. كثيراً ما قال لي سره: المكتبة لابد وأن تكون مفتوحة في أي وقت حتى لو كان الحضور خفيفاً. كما كان من عاداته، عندما يصله زبون يسأل عن كتاب غير موجود عنده. يحضر أحد العاملين، يطلب منه تدوين بيانات الكتاب ويرجو الزبون العودة بعد ساعة أو ساعتين، وخلالها يكون قد أحضر له طلبه، وجعل بيانات الكتاب ضمن أولوياته. وهذه الوقفة ميزته عن غيره من الناشرين، عندما تحول من بيع الكتب إلى نشرها. الناشرون غيره يتعاملون مع المجهول، لا يعرفون أي شيء عما يريد القارئ، ولكن مدبولي عرف ذلك بالوقفة في الشارع ساعات طويلة.

المكتبة

في أواخر السبعينيات كانت اتفاقية «كامب ديفيد» قد وقعت. وكان المطلب الإسرائيلي الأول بعد توقيعها، توزيع الصحف الإسرائيلية في الأسواق المصرية. كان معظمها صحفاً عبرية، وهي من اللغات نادرة الوجود في مصر، وصحيفة واحدة بالإنجليزية، وثلاث صحف بالعربية. وقد رفض الحاج مدبولي توزيعها، علاوة على رفضه نشر كتب بعينها. وهنا بدأت المضايقات من قبل الدولة، وفوجئ ذات صباح بقرار من محافظ القاهرة اللواء سعد مأمون برفع كشكه. كنت أعرف المحافظ منذ فترة خدمتي بالقوات المسلحة. ولذلك ذهبت مع الحاج مدبولي له. وأذكر أنه قال لمدبولي إنه يحلم ذات يوم أن يتكلم عمن تكلموا معه من أجل مدبولي. كان قد اتصل به كثيرون، أذكر منهم أنيس منصور. لم يقل لنا المحافظ يومها إن هناك تعليمات عليا برفع الكشك، ولكن «اللبيب بالإشارة يفهم» وليس كل ما يعرف يقال. ولكننا خرجنا من اللقاء ولدينا يقين، أن الكشك لن يعود لمكانه، والباقي تفاصيل صغيرة. يومها تصرف مدبولي باتجاه أن تكون له مكتبة. وهكذا انطبق عليه قول ابن اياس: «اشتدي يا أزمة تنفرجي». فقد تمكن مدبولي من شراء مكتبة بشارع طلعت حرب «سليمان باشا» مواجهة لمقهى ريش. لتشهد ميلاد مكتبة مدبولي. كان سعيداً أنه في مواجهة المقهى الذي يجتمع فيه المثقفون. ولكن عندما لاحت أمامه فرصة للعودة إلى ميدان سليمان باشا في مكتبة تتصدر الميدان وليس مجرد كشك. باع المكتبة المواجهة لريش لدار الكتاب العراقي. وأصبحت له مكتبة في الميدان. سرعان ما اشترى بدروم العمارة وحوله لمخزن. وشقة في الدور الأول بعد الأرضي، أصبحت مكتباً له واستراحة ومعرضا للكتب.

لقد حاول مدبولي ابتداء من منتصف تسعينيات القرن الماضي أن يحول مكتبته إلى مؤسسة، وأصبح لديه مسئول عن النشر. وقد رأيته أكثر من مرة عندما يحضر له المؤلفون وهو يشير إلى مدخل العمارة، ويطلب من المؤلف أن يتفاوض مع مسئول النشر في المكتبة. كان أول مسئول هو إبراهيم فريح ثم أصبح رءوف عشم. أيضاً يشير إلى المسئولين عن الكتب لمن يسأل عن كتاب، وأشهرهم: حسن، وحمدي، وإبراهيم، وعنتر. لقد ترك ثلاثة أبناء ذكور: محمود وعمرو وأحمد. وابنة رأيتها يوم الدفن منهارة، تبكي بحرقة حقيقية. والمهمة التي تنتظر الأبناء ثقيلة. لأن الاستمرار في ما بدأه مدبولي مسألة صعبة, ليست سهلة على الإطلاق, ولا أحب مصادرة المستقبل الذي لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى.

لم ننته بعد

كنت قد حذرت نفسي قبل البدء في الكتابة ألا أوهم نفسي أنني أكتب عن الحاج محمد مدبولي. وأنا في حقيقة الأمر إنما أكتب عن نفسي, ألا أقع في فخ نزيف «الأنا», هذا ما نمارسه بكل ضراوة, أن نجلس لنكتب عن الآخرين, ولكننا في حقيقة الأمر نكتب عن أنفسنا. نبهني لذلك الخطر أو تلك الغواية, المجلد الذي أصدرته هيئة الكتاب في زمن الدكتور سمير سرحان, عن يوسف إدريس بعد رحيله, وكانت مسئولة عنه اعتدال عثمان أعادها الله من غربتها, والناقد والباحث حسن سرور. كان المجلد الذي يقع في أكثر من ألف صفحة من القطع الكبير, وفيه مارسنا جميعاً تلك الجريمة, عندما أصبح يوسف إدريس شماعة للكتابة عن أنفسنا, والحكي عن ذواتنا, وإبراز فصائلنا, ووضع ورق التوت على عيوبنا.

ترى هل نجحت في مقاومة هذه الغواية أم فشلت؟! شرعية الإجابة عن هذا التساؤل لا يملكها غير القارئ, هذا إن قرأ.


يوسف القعيد
05-04-2009, 05:19 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  رحيل ابراهيم اصلان صاحب رواية "مالك الحزين" Rfik_kamel 8 2,890 01-10-2012, 12:06 PM
آخر رد: بهجت
  رحيل الروائي المصري عبد الستار خليف coco 1 1,519 02-19-2011, 12:35 PM
آخر رد: ديك الجن
  رحيل الكاتب السعودي غازي القصيبي بسام الخوري 27 7,094 12-16-2010, 10:04 AM
آخر رد: بسام الخوري
  رحيل "أب الرواية الجزائرية" الطاهر وطار بعد معاناة مع المرض بسام الخوري 11 3,024 08-24-2010, 05:57 PM
آخر رد: ديك الجن
  في ذكرى مرور نصف قرن على رحيل Albert CAMUS المروءة والشهامة 3 2,187 12-21-2009, 05:46 PM
آخر رد: ديك الجن

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS