هذا الموضوع هو ملخص للدراسة التي تجدها كاملة في مدونة هذا النادي على هذا الرابط:
http://www.nadyelfikr.net/index.php?showto...9&st=0&
نزول القرآن على سبعة أحرف هو خبر متواتر ورد عن 21 صحابياً (1) (انظر الإتقان للسيوطي 1/129)، نموذج من صحيح البخاري:
2419 - ... سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقْرَأَنِيهَا ، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا ، فَقَالَ لِى « أَرْسِلْهُ » . ثُمَّ قَالَ لَهُ « اقْرَأْ » . فَقَرَأَ . قَالَ « هَكَذَا أُنْزِلَتْ » . ثُمَّ قَالَ لِى « اقْرَأْ » . فَقَرَأْتُ فَقَالَ « هَكَذَا أُنْزِلَتْ . إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ » .
وقد اختلف العلماء في المراد من الأحرف السبعة حتى وصلت إلى أربعين قولاً، نكتفي بعرض أبرز اثنين منها:
أنها سبعة من الوجوه التي يرجع إليها اختلاف القراءات، كالزياة والنقصان (جنات تجري تحتها الأنهار) وبقراءة ابن كثير (تجري من تحتها الأنهار)، وإبدال كلمة بأخرى ترادفها، والتغير في نقط الحروف، أو تغير صيغة الفعل بين الماضي والمضارع وغير ذلك.
وقد اُعترض على هذا التأويل بما لخصه أبو شهبة (المدخل لدراسة القرآن الكريم ص194) في ثلاثة أمور:
1- أن استقراءهم لأوجه الخلاف ناقص بدليل الاختلاف في بعض هذه الأوجه بين من حصروها، فمنهم من يذكر وجهاً لا يذكره البقية، ومنهم من يذكر عدة أوجه هى مجموعة في وجه واحد فقط عند آخر، ما يدل على أن هذه الوجوه يمكن أن يتداخل بعضها في بعض وأن تعيينها إنما هو بطريق الاتفاق لا الاستقراء الصحيح.
2- أن تأويلهم لا تنطبق عليه الغاية من نزول الأحرف السبعة وهى التيسير على الأمة كما في قول النبي (2) (صحيح مسلم رقم 1941) يقول النبي لأبي بن كعب:
((يَا أُبَىُّ أُرْسِلَ إِلَىَّ أَنِ اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِى. فَرَدَّ إِلَىَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ.
فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِى. فَرَدَّ إِلَىَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا. فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِى. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِى. وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَىَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ -صلى الله عليه وسلم- )).اهـ
فتغيير الفعل من الماضي إلى المضارع أو من البناء للمعلوم إلى البناء للمجهول أو العكس، ليس فيه مشقة حتى يسأل النبي منها المعافاة، وأن أمته لا تطيق ذلك، ويراجع جبريل مراراً، ويطلب التيسير فيُجاب بإبدال حركة بأخرى، أو تقديم كلمة وتأخيرها.
3- أنهم خلطوا بين القراءات والأحرف، فالقراءات غير الأحرف وإن كانت مندرجة تحتها.
التأويل الآخر للأحرف السبعة والذي حاز على تأييد الأكثرية فهو كما يقول أبو شهبة ص176:
((سبع لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة، تختلف فيها الألفاظ والمباني مع اتفاق المعاني، أو تقاربها، وعدم اختلافها وتناقضها، وذلك مثل: هلم، وأقبل، وتعال، وإليَّ، ونحوي، وقصدي، وقُربي، فإن هذه ألفاظ سبعة مختلفة يعبر بها عن معنى واحد، وهو طلب الإقبال. وليس معنى هذا أن كل كلمة كانت تقرأ بسبعة ألفاظ من سبع لغات، بل المراد: أن غاية ما ينتهي إليه الاختلاف في تأدية المعنى هو سبع، فالمعنى هو سبع، فالمعنى الذي تتفق فيه اللغات في التعبير عنه بلفظ واحد يُعبر عنه بهذا اللفظ فحسب، والذي يختلف التعبير عنه بلفظين، وتدعو الضرورة إلى التوسعة يعبر عنه بلفظين، وهكذا إلى سبع.
ومن أمثلة ذلك من القرآن قوله تعالى: ((إن كانت إلا صيحة واحدة))، وقد قرأ ابن مسعود ((إن كانت إلا زقية واحدة)) يس/29، وقوله: ((فاسعوا إلى ذكر الله)) ، فقد قرأ عمر بن الخطاب ((فامضوا إلى ذكر الله)). )) اهـ.
والعلماء الذين قالوا بذلك لم يقصدوا أن التغيير في اللفظ على ما يوافق المعنى هو من عند القاريء، بل الأوجه المختلفة كلها صادرة من النبي، أي أنه تنزل عليه الآية بحرف، ثم تنزل عليه مرة أخرى بحرف آخر.
والذين ذهبوا إلى التأويل الأول قالوا بأن القرآن اليوم مشتمل على الأحرف السبعة، أما أصحاب القول الثاني فقالوا بأن القرآن يشتمل على حرف واحد فقط هو حرف قريش، وأن القراءات العشر تنتمي جميعها إلى حرف واحد فقط، وهذا ما خلق معضلات جمة أمام تأويلهم تناولها العلماء بالنقد، وكان من أشدهم الزرقاني في (مناهل العرفان في علوم القرآن) ص123-125
ويمكن تلخيص الدلائل على بطلان التأويل الثاني للأحرف السبعة بما يلي:
1- وردت روايات كثيرة بين فيها النبي أن تبديل (سميع عليم) بـ (عزيز حكيم) هو من الأحرف السبعة ، ما يناقض تأويلهم للأحرف السبعة بأنها التغير في الألفاظ مع اتفاق المعنى. كما في قول النبي عن الأحرف السبعة ((قَالَ لَيْسَ مِنْهَا إِلاَّ شَافٍ كَافٍ إِنْ قُلْتَ سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ)). (سنن أبي داود رقم 1479 صححه الألباني)
2- احتواء القرآن على كلمات غير قرشية على الرغم من زعمهم بأن القرآن اليوم على حرف قريش فقط.
3- وجود كلمات قرشية لها قراءة بلغة أخرى على الرغم من زعمهم انتماء القراءات العشر إلى حرف قريش فقط. مثال: البقرة/265 (بِرَبْوَةٍ) قرأها عاصم وابن عامر بالفتح وهى لغة بني تميم، بينما قرأها الباقون بضم الراء (رُبوة) وهى لغة قريش.
4- التناقض في جعل القراءات العشر منتمية إلى الأحرف السبعة دون أن تنطبق عليها الغاية من نزول الأحرف السبعة.
5- زعم إجماع الأمة على إسقاط ستة أحرف من القرآن يتناقض مع واقع اختلاف المسلمين في معنى الأحرف السبعة.
6- القراءات العشر تحوي اختلافات ترادف على الرغم من انتماءها إلى حرف واحد بزعمهم، أي أنها تحوي وجوه اختلاف مطابقة لتأويلهم لوجوه اختلاف الأحرف السبعة. مثال: الأحزاب/68 (رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَثِيرًا) قرأها عاصم (كَبِيرًا).
وبذلك يتبين فشل أبرز تأويلين للأحرف السبعة، وكذلك حال التأويلات الأخرى التي ما عليك سوى مطالعة ما كتبه المسلمون أنفسهم في نقضها، كمثال انظر كتاب (المدخل لدراسة القرآن الكريم) لأبي شهبة حيث تعرض بالنقد لأبرز التأويلات الأخرى ص174-200. لتحميل الكتاب:
http://www.waqfeya.net/book.php?bid=1082
والتأويل الصحيح للأحرف السبعة هو القراءة بالمعنى، أي السماح للقارئ بأن يغيّر في النص إلى أوجه مختلفة من المعاني أقصاها سبعة، بشرط ألا يحدث تناقض.
وهذا التأويل واضح وظاهر جداً من الروايات، ولكن المسلمين بسبب رفضهم المسبق للقراءة بالمعنى والمنزلة الخيالية التي جعلوها لنص القرآن، وأيضاً بسبب إعتقادهم بإعجاز القرآن اللغوي، كل ذلك كان سبباً أدى إلى رفضهم لأخذ النصوص على ظاهرها، ما أدى بهم إلى أربعين قولاً في تأويلها. أما إعجاز القرآن اللغوي فلم يكن معروفاً أصلاً في عهد النبي، والتحدي كان مداره على الهدي، وهذا ما سأتناوله في دراسة مستقلة، ويكفي أن تعلم الآن أن القراءة بالمعنى هى من أبرز الدلائل على ذلك.
ومن قبل أن يظهر حديث الأحرف السبعة كان النبي لا يهمه شكل النص بل يهمه المضمون، ولدينا حادثتان تجلى فيهما ذلك بوضوح، وذلك مع كاتبين من كتبة القرآن ارتدا عن الإسلام، الأول: نصراني من بني النجار، أسلم، وكان شأنه في القرآن كبيراً عند الصحابة، وحين كان النبي يمله عليه القرآن فيكتب الآية وحين يصل إلى خاتمتها يستفهم من النبي هل يضع (غفور رحيم) أم (عليم حكيم) فيجيبه النبي ((اكْتُبِ اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ))، فارتد عن الإسلام ولحق بقومه وقال لهم بأنه كتب القرآن كيف يشاء. الحادثة الثانية مع عبد الله بن أبي السرح وهى مثل السابقة وكان يجيبه النبي (الله كذلك)، أي ضع الخاتمة التي تشاء سميع عليم أو عزيز حكيم لأن الله كذلك. وارتد عبد الله وعاد إلى مكة، ثم أسلم يوم فتح مكة مضطراً. وهاتان الحادثتان تكتسبان أهميتهما الخاصة في أنهما لا مكان للرخصة والتيسير فيهما كما هو الحال مع الأحرف السبعة، بل على العكس تماماً النبي هنا يدون القرآن أي الصيغة النهائية والرسمية له، ومع ذلك لا يمانع أن يبدل الكاتب بين خواتم الآي، ما يدل دلالة قاطعة على أن النبي كان لا يهمه شكل النص بل روحه ومضمونه، وكل هذا قبل ظهور الأحرف السبعة.
تمكن الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه (تاريخ القرآن) ص80-81 من تحديد الوقت الذي قيل فيه حديث الأحرف السبعة، وذلك اعتماداً على اختلاف عمر وهشام بن حكيم في القراءة ثم تحاكمهما إلى النبي فعلم عمر لأول مرة بأمر الأحرف السبعة، ما يعني بأن ظهور الأحرف السبعة قد جصل بعد إسلام هشام بن حكيم في فتح مكة لأنه لا يمكن أن يخفى مثل هذا الأمر على من هو مثل عمر ولفترة طويلة.
أي أن الحديث قد قيل لأول مرة خلال السنة التاسعة للهجرة، وهى السنة التي شهدت اندفاع العرب من كل أنحاء شبه الجزيرة نحو المدينة، يعلنون إسلامهم.
وهذا يوضح لك حقيقة الأمور: فمنذ البدء كان النبي لا يهتم بشكل النص، ولكن لم يكن بعد قد جعل من ذلك قانوناً يجهر به ، فلم يمارسه إلا على نطاق ضيق جداً، ومن ضمن هذا النطاق ما حصل مع الصحابيين المرتدين،
وبعد غزو مكة وهزيمة ثقيف، توالت الوفود على النبي، وحصلت طفرة في أعداد الداخلين في الإسلام حتى نزلت سورة النصر وفيها: (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) ، وحين رأى النبي الطفرة في أعداد الداخلين وتنوع مناطقهم وألسنتهم المختلفة عن اللسان القرشي، اجتمع ذلك مع أمية عموم العرب وتعويلهم على الذاكرة وصعوبة الالتزام بحرفية نص طويل وواجب التلاوة على كل مسلم, وأن العديدين يفدون على المدينة ثم يعودون لمدنهم ولا يملكون إلا صدورهم حافظاً للقرآن، بسبب كل ذلك رأى النبي أنه قد حان الوقت لتحويل ما في نفسه إلى تشريع يجهر به ويبلّغ كل الناس أن العبرة بالروح ولا بأس أن يغير المرء في ألفاظ القرآن طالما لم يمس التغيير روح النص، فقال محمد بأن القرآن أُنزل على ((سبعة أحرف ليس منها الا شاف كاف ان قلت غفورا رحيما أو قلت سميعا عليما أو عليما سميعا فالله كذلك ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب)) (مسند أحمد رقم 21187 ، تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين)
وقد أشارت رواية إلى دور أمية العرب في إقرار الأحرف السبعة كما جاء في أحد أحاديثها على لسان النبي وهو يطلب التيسير على أمته: « يَا جِبْرِيلُ إِنِّى بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِى لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ » (الترمذي 3196)
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من تأويل الأحرف السبعة ما ورد عن أكابر علماء القرون الأولى في سياق الخلاف حول جواز رواية الحديث النبوي بالمعنى، حيث تشدد في ذلك قوم ومنعوا رواية الحديث إلا بتمام ألفاظه دون تغييرها، بينما ذهب الأكثرية إلى جواز ذلك، ووما استدلوا به على ذلك أن القراءة بالمعنى تجوز في القرآن فكيف هو الحال مع الحديث؟
جاء في "قواعد التحديث" للقاسمي ص221 في حديثه عن رواية الحديث بالمعنى:
((وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه فقال له يحيى يا هذا ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد)) اهـ
وجاء فيه:
((وقد ورد في المسألة حديث مرفوع رواه ابن منده في ((معرفة الصحابة)) والطبراني في ((الكبيرة)) من حديث عبد الله بن سليمان بن أكثم الليثي قال قلت يا رسول الله إني إذا سمعت منك الحديث لا أستطيع أن أرويه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفاً فقال ((إذا لم تحلوا حراماً ولم يحرموا حلالاً وأصبتم المعنى فلا بأس)) فذكرت ذلك للحسن فقال ((لولا هذا ما حدثنا)) وقد استدل الشافعي لذلك بحديث ((أنزل القرآن على سبعة أحرف)) اهـ
قلت: ومن أوضح ما جاء في هذا الباب شهادة مهمة من التابعي الكبير ابن شهاب الزهري القرشي الذي وُلد عام 58هـ والذي هو أول من جمع الحديث، ورأى عشرة من الصحابة، وله عدد كبير من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما، و ((قيل للزهري زعموا أنك لا تحدث عن الموالي؟ فقال: إني لأحدث عنهم، ولكن إذا وجدت أبناء المهاجرين والأنصار أتكيء عليهم فما أصنع بغيرهم؟)) طبقات ابن سعد2/388)
قلت: جاء في صحيح مسلم:
1939 -... عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَقْرَأَنِى جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ فَيَزِيدُنِى حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ بَلَغَنِى أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الأَحْرُفَ إِنَّمَا هِىَ فِى الأَمْرِ الَّذِى يَكُونُ وَاحِدًا لاَ يَخْتَلِفُ فِى حَلاَلٍ وَلاَ حَرَامٍ. اهـ
ويوضح الزهري ذلك جيداً فيما نقله عنه القاسمي في سياق حديثه عن رواية الحديث بالمعنى ص222: ((وأسند عن أويس قال ((سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث وإذا أصيب معنى الحديث فلم يحل به حراما ولم يحرم حلالا فلا بأس)) . اهـ
وقد اعترف أبو بكر الباقلاني في (الانتصار للقرآن) 1/370-372 بأن السماح للقارئ بأن يقرأ بالمعنى كان موجوداً في حياة النبي، إلا أنه نُسخ ومُنع بعد ذلك كما يزعم.
تجد الإشارة هنا إلى أن أخبار تبديل خواتم الآي هى أخبار متواترة وردت عن سبعة من الصحابة.
وقد مارس النبي القراءة بالمعنى في مواضع عديدة، منها على سبيل المثال قول النبي:
((إذا أتاكم من ترضون خلقه و دينه فانكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض و فساد عريض)) (المستدرك على الصحيحن للحاكم وغيره)
فالجزء الأخير من قول النبي هو مأخوذ من هذه الآية: الأنفال/73 (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ).
لاحظ كيف أبدل النبي آخر كلمة من الآية بكلمة أخرى توافقها في المعنى حيث قال (وفساد عريض).
وطبعاً لم يتقصر الأمر على النبي فقط، فقد جاء مثل ذلك عن الصحابة، ومن أهم هذه الأمثلة:
((أن ابن مسعود ، أقرأ رجلا إن شجرة الزقوم طعام الأثيم فقال الرجل : ( طعام اليتيم ) فرددها عليه ، فلم يستقم به لسانه . فقال : « أتستطيع أن تقول ( طعام الفاجر ) ؟ » قال : نعم . قال : « فافعل » (فضائل القرآن لأبي عبيد رقم 555)
وكذلك ((أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية : ( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا ) ، فقال له رجل : إنما نقرؤها ( وأقوم قيلا (1) ) ، فقال : « إن أقوم ، وأصوب ، وأهيأ ، وأشباه هذا واحد » اهـ (مسند أبي يعلى رقم 3913)
ولقوة الروايتين الأخيرتين، أقر الإمام في النحو ابن جني والإمام في التفسير واللغة الزمخشري أقرا بأن الصحابة قد قرأوا بالمعنى، قال ابن جني بعد أن أورد الرواية عن أنس بن مالك:
((قال أبو الفتح: هذا يؤنس بأن القوم كانوا يعتبرون المعاني، ويخلدون إليها، فإذا حصلوها وحصنوها سامحوا أنفسهم في العبارات عنها.)) المحتسب 2/336
وقال الزمخشري بعد أن أورد الخبر السابق عن ابن مسعود ((وبهذا يستدل على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها)) (تفسير الكشاف الرحمن/44)
وفي كثير من القراءات التي وردت عن الصحابة نجد أثر القراءة بالمعنى جلياً فيها، كما في الأمثلة التالية من قراءة ابن مسعود: (كتاب المصاحف لابن أبي داود ص302-339
البقرة/36 (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا) | (فوسوس)
البقرة/48 (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) | (ولا يُؤخذ)
البقرة/85 (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) | (وإن يُؤخذوا تُفادوهم)
ومثل ذلك قراءة عمر بن الخطاب وصحابة آخرين للآية الأخيرة من سورة الفاتحة بإبدال "الذين" بـ "من" وإبدال "ولا" بـ "وغير"، جاء في كتاب المصاحف لابن أبي داود ص284:
... عن الأسود، عن عمر، أنه كا يقول: (مالك يوم الدين) ، وكان يقرأ: (صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين).
... عن الأسود وعلقمة أنهما صلَّيا خلف عمر فقرأ بهذا. اهـ
و مع أبي حنيفة، تصل القراءة بالمعنى إلى أوجها حين يرى جواز أن يقرأ الفارسي القرآن في صلاته باللغة الفارسية! المبسوط للسرخسي1/98 (من موقع الإسلام ترقيم غير موافق للمطبوع) :
وأخيراً نجد التابعي أبا مجلز يقول: (يرحم الله عثمان لو لم يجمع الناس على قراءة واحدة لقرأ الناس القرآن بالشعر) كتاب المصاحف لابن أبي داود ص178-179 والبغوي في شرح السنة/525
فأبو مجلز هنا على ما رأى وسمع عن القراءة بالمعنى ونشوء القراءات الجديدة وتغيير النص القرآني، بناء على ذلك توقع بأنه لولا حمل عثمان الناسَ على مصحف واحد، لجاء زمان تكون آيات القرآن فيه قد تحولت إلى أبيات شعرية.
وختاماً أقول: بعد كل ما سبق أخي الكريم فإنه ثمة أمر لا شك فيه وهو أن القراءة بالمعنى لم تعد من "تخرصات المستشرقين" كما اعتدت أن تسمع، ولا من "أراجيف أعداء الدين" كما أرادوا أن يقنعوك، بل هو قول إسلامي أصيل ذهب إليه أئمة كبار ودلت عليه الآثار الكثيرة الثابتة والصحيحة الصريحة.
إن من ينظر في الروايات والحقائق بعقلية منفتحة متحررة من الاعتقادات المسبقة متقبلة لنتائج التفكير العلمي والمنطقي، يجد القراءة بالمعنى هى التفسير الظاهر والأبسط والأكثر خلواً من التعقديات والأقل اعتماداً على التأويلات وعلى الخروج عن الظاهر، والأكثر ملائمة لمختلف الروايات، ولتتأكد من ذلك ما عليك سوى أن تنظر إلى حال الرافضين للقراءة بالمعنى: أربعين قولاً في تفسير الأحرف السبعة، تخبطات وتأويلات وتناقضات ، حتى أعلن بعضهم أن الاحرف السبعة من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وإلى هذا اليوم ما يزالون مختلفين يردون على بعضهم ، وإلى هذا اليوم لا يزالون يضعون النظريات في المراد بالأحرف السبعة.
لماذا وقعوا في كل ذلك؟، لأنهم رفضوا التفسير الأوضح والأبسط، وذلك بسبب اعتقاداتهم المسبقة التي تجعل لنص القرآن قدسية حرفية خيالية المستوى لم تخطر على بال صحابي ولا تابعي.