"I stand at the window and see a house, trees, sky. Theoretically I might say there were 327 brightnesses and nuances of colour. Do I have "327"? No. I have sky, house, and trees." --Max Wertheimer
الوعي شئ لايمكن ان يقاس او يوزن، ومع ذلك يلاحقه الباحثين لتفسير جوهره. هذه الملاحقة اعطت، حتى الان، القليل من الاجابات ولكن الكثير من التساؤلات. اهم التساؤلات هي:
اين موضع الوعي؟
هل الوعي غير مرتبط بالجسم؟
هل يمكن للحيوان والمكائن ان يمتلكان الوعي؟
صورة البدر التي نراها في السماء لاعلاقة لها بحقيقة القمر الفعلية. ان هذه الصورة موجودة فقط في وعينا، تماما كما ان الرائحة تصبح رائحة فقط عندما تصل الجزيئات المتطايرة الى احدى المستقبلات في انفنا فتتفاعل معها وتطلق " وهم محدد" نعايشه في الوعي.
قبل 2500 سنة قام الفيلسوف ديموقريطس بالمراهنة على العلاقة بين الحواس والفهم العقلي لهم. الاب اوغسطينوس Augustinus of Hippo, وضع المعضلة، عام 400، بالشكل التالي: " عندما شئ مادي يُنظر اليه من خلال عين العقل، ينتهي عن ان يكون شئ ويصبح انعكاس له، مفهوم، وهذه الوحدة المفهومية (المفهوم المخزون في الجسد) ليست لا مادة من الجسد ولا انعكاس لشئ مادي". هذا الفرق بين جسم مادي، قادر على فهم العالم، وبين اللامادة العقلية او اللامادة الروحية، التي تشكل مضمون الفهم او الوعي في رابطه الى البيئة، في الفلسفة يطلق عليه تعبير: دواليزم، dualism.
]
الفيلسوف والرياضي الفرنسي René Descartes قام بتطوير الصورة السابقة في كتابه المسمى" Meditationes de prima philosophia" من عام 1641, حيث وصف الروح على انه "وسيلة تفكير" غير جسدي، تقدم جوهر الذات وتقف خلف جميع الافكار، والامال، والشك ومجمل الايمان. حسب طرح ديسكارت يمكن للروح ان توجد بدون علاقة بالجسد، ولكنهم قادرين على التأثير على بعض. من هنا نلاحظ ان مفهوم الروح نشأ وتطور، من تصور الاولين، وهو يحمل مواصفات واسعة تشمل المواصفات التي نحملها اليوم للوعي، ولذلك، فإننا نرى ، في حقيقة الامر، رحلة خلق مفهوم الوعي وانفصال مضمونه عن الروح، لينتج الوضع الذي نتعاطى معهم اليوم..
ديسكارت حاول بنشاط البحث عن " مكان" وجود الروح في الجسد. على العكس من بقية الفلاسفة الذين كانوا يعتقدون ان الروح تسبح بحرية بل وحتى اعتقدوا انها تقف بجانبنا، في حين اصر ديسكارت على انها تتموضع في الدماغ، واضعا الاساس لظهور مفهوم الوعي. لقد كان يعلم ان الدماغ مبني على التناظر وان اغلب البنى منقسمة بين النصف الايمن والنصف الايسر. لكون الروح/الوعي يشكل نواة الشخص، لايمكن للمرء امتلاك الا روح/وعي واحد. لهذا السبب يجب ات تكون موجودة في منطقة دماغية يوجد منها نسخة واحدة. ديسكارت اعتبر المكان المناسب هو غدة تسمى pineal gland. اليوم نعلم ان وظيفة هذه الغدة هي انتاج هرمونات الميلاتونين، الحاسمة في تحقيق انسجام الساعة اليومية. وعلى الرغم من ان هناك الكثير من الحركات الروحية تعطي لهذه الغدة وظيفة مركزية في الوعي، الا ان الحقل العلمي لايقدم اي دليل يدعم هذه الادعاءات.
من اوائل التحديات الي واجهت ديسكارت ومفهومه " الدواليزمي" كان تفسير كيف امكن للروح اللاجسدي الالتحام التفاعلي مع الجزء الجسدي للغدة ومن خلالها بالجسم كله، بالرغم من ان كلا منهما مؤلفان من طبيعة مختلفة. ديكارت لم يتمكن ابدا من ايجاد حل للمعضلة، والعديد من تلامذته برروا الامر بأن الله وحده الذي يمكن ان يكون الرابط (الجسر) بين الجسم والروح.
حتى اليوم لازال اتباع جميع فروع مبدأ الدواليزم لاتستطيع تفسير طبيعة العلاقة بين الجسد والروح وهذا الامر فتح الطريق لتوجه فلسفي جديد: المادية. هذا التوجه يقول ان الروح الواعية (الوعي) والعقل الفيزيائي هما شئ واحد، وان الانسان (او اي كائن واعي) لاتملك اعضاء غير جسدية (روح). النواة الرئيسية في المادية هو مفهوم "neural correlate", والمقصود انه لكل جزء من اجزاء الوعي يوجد وضع عصبي خاص به يفسر نشوئه. عند الكثير من علماء الاعصاب يعني ذلك ان الوعي والمشاعر الانسانية تملك منشأها في التفاعلات البيوكيميائية الجارية في الدماغ.
في نفس الوقت ، من الصعب للغاية التعرف على الموجات العصبية المرتبطة بالوعي، وبالتالي البرهنة على ذلك. الوضع المثالي هو القيام بالتصوير الاشعاعي للدماغ والتعرف على مايدور في الوعي، تماما كما نفعل من اجل التعرف على الخلايا العصبية المشاركة في عملية تجريك اليد. من اجل التعرف على المناطق المسؤولة عن حركة اليد، يجري تصوير الدماغ قبل الحركة وخلالها، ومن ثم تحليل الصور لمعرفة المناطق التي تغيرت اثناء الحركة. مثل هذه الطريق البسيط لايمكن اتباعه في البحث عن الوعي، إذ انه في الاوضاع الطبيعية، دائما يحدث شئ ما فيها.
تماما كما هو الامر مع الدواليزم، توجد للمادية العديد من الفروع، ولكنهم في الاصل كانوا في اغلبيتهم من اتباع نظرية ان الروح "التي، وحسب تعريفهم، هي فيزيائية ونابعة من الجسد" تملك موضعها في مكان خلفي من الدماغ، تقريبا كتقدير ديسكارت في شأن التموضع. وفي مسيار تطور قدرات العلم، في فترة التسعينات من القرن الماضي، اصبحت هذه الرؤية تملك مشاكلها.
في عام 1912 قام عالم النفس التشيكي Max Wertheimer بتجربة اسماها " ظاهرة في"، phi-fenomen, والتي اصبحت في نسختها الاخيرة متطورة جدا. للاشخاص المشاركين في التجربة، يجري اظهار صورتين بتتابع سريع. في الصورة دائرة زرقاء في الزاوية العليا اليسرى، ودائرة حمراء في الزواية السفلى. لقد ظهرانه عند وقت تبديل محدد، يبدأ الناظر في فهم الصورتين على انهم صورة واحدة حية، حيث الدوائر تتحرك من زاوية الى اخرى وفي الوسط (نقطة الالتقاء) يتبدل اللون من الازرق الى الاحمر. بمعنى اخر فإن " النظرة الاخيرة" تؤثر، بشكل من الاشكال، على مافهمه الوعي من النظرة الاولى، بحيث ان تبدل اللون يتخذ الوعي قرارا بشأنه قبل ان يكون شخص التجربة نفسه قد اصبح واعيا للصورة الثانية.
في الصورة اعلاه نرى نموذجا اخر للخداع البصري، حيث الفتاة ترقص دائرة حول نفسها من اليسار الى اليمين. مع الاستمرار بالتحديق نجد انها تغير اتجاه دورانها. مثل هذه الامثلة اصبح لدينا منها العديد.
معطيات تجربة ماكس ويرزمير فسرها الفيلسوف الامريكي Daniel Dennett, بعد بضعة عشرة سنة لاحقة، على ان الوعي لم يفهم الحدث بتواتره الموضوعي. لو كان الوعي موجود في مكان محدد من الدماغ لكانت الاشارات العصبية من العين الى مكان الوعي، وصلت بذات التتابع، بحيث ان اشخاص التجربة، في كلا الرؤيتين الغير مرتبطتين ببعض، فهموا انهم يرون حدثين منفصلين، حيث الدائرة في الاولى كانت حمراء وفي الثانية كانت زرقاء. لهذا السبب استنتج ان الوعي ليس مكان محدد بمنطقة واحدة وانما لابد انه متوزع على عدة مواضع تتعاون فيما بينها.
في ذات الوقت تقريبا، لاحظ الاطباء ان الحوادث التي تنتهي بضرر في الدماغ، تقريبا دائما، تؤدي الى تغييرات في شخصية المصاب. هذا الامر يعزز ان الوعي ليس موجود في منطقة محددة وانما موزع على العديد من مناطق الدماغ. في عام 1991 حاول دانيل دينيت البرهنة نهائيا على خطأ نظرية دواليزم ديسكارت، التي سادت لفترة طويلة.
دينيت يقدم نظريته "the multiple drafts", " تعدد قوى التأثير". حسب هذه النظرية يمكن لكل انطباع فردي قادم من الحواس ، ان يُعالج معزولا، ونحصل منه على معايشة واعية معينة، او يمكن تركيبه مع انطباع احساسي ، من حاسة اخرى، من المحتمل انه جرى تلقيها سابقا، ومن المحتمل انها لم تصبح واعية، وفي النتيجة يندمجان ويصبحان مُعايشة مشتركة واحدة. كما يُفهم من اسم النظرية، نفهم نحن العالم من خلال قطع متفرقة صغيرة ومعزولة، يمكن تشبيهها بالكتابة السريعة، حيث الاحرف الصغيرة اللامعنى لها تنضم الى بعضها البعض في المكان الصحيح لتلتصق وتخلق كلمات ومن ثم رواية. بذات الشكل تلتصق مشاعر صغيرة مع بعضها لتصبح مع بعضها كبيرة قادرة على خلق انطباع ( مُعايشة) واعي.
حسب نظرية تعدد التأثيرات، يمكن القول بوجود الوعي فقط طالما لديه تحكم بالاحداث، وفيما عدا ذلك فلامعنى للقول بوجود الوعي. هذا الفهم يعطي القدرة على طرح العديد من الاطياف للوعي، بمعنى اخر تعدد مستويات الوعي، عند الحيوان والانسان وحتى المكائن. ان اكون واعي، لايعني امتلاك كل الوعي او لاشئ على الاطلاق، ولهذا السبب لايوجد جواب واحد حاسم فيما إذا كانت الحيوانات والمكائن قادرة ان تكون واعية ام لا.
وتماما كبقية اغلب النظريات لاتقدم نظرية تعدد التأثيرات جوابا محددا على سؤال عن موضع تموضع الوعي في الدماغ. بين علماء الاعصاب يوجد دعم كبير لمفاهيم دانييل دينيت الاساسية من ان الوعي يملك شكلا فيزيائيا ومرتبط بأكثر من موضع في الدماغ. احد هؤلاء العلماء من الذين وصل به الامر الى اقتراح مكانا محددا للوعي هو عالم الكيمياء البيلوجية وبيلوجيا الاعصاب البريطاني Francis Crick, والذي حصل عام 1962 على جائزة نوبل في حقل البيلوجيا. هذا العالم مات عام 2005 قبل ان ينتهي من نظريته ولكن زميله Christof Koch تابع العمل ونشر نتائج النظريةعام 2005.
لقد توصلوا الى ان وعينا عبارة عن انطباع عن شئ تقريبا دائما يتحول الى معايشة موحدة. الصورة والرائحة والالوان لوردة يلتصقان الى بعضهم مع مشاعرنا المفاهيمية ليظهر رمز الحب. نحن نعلم ان معايشات انطباعية منفردة تتحد مع المشاعر ويجري معالجتها في مواقع مختلفة من الدماغ، ولهذا السبب يجب على العديد من المناطق المحددة موضعيا في الدماغ التعاون بإنسجام من اجل خلق المُعايشة الواعية.
لهذا السبب بدء هذين العالمين بدراسة الدماغ تشريحيا في محاولة للتحديد بنية لها إمكانية على القيام بوظيفة التحكم المنسجم. البحث اشار الى منطقة تحت القسم المركزي من اللحاء الدماغي موجودة في كلا النصفين. لقد عثروا على طبقة من خلايا دماغية، تصل ثخانتها الى اقل من ميليمتر واحد اطلق عليها اسم claustrum, وتعني المختفية. على الرغم من ان المنطقة موجودة لدى جميع الحيوانات الا اننا، والى حد بعيد، لانعلم عن وظيفتها شئ. وعلى كل حال اكتشف العلماء ان الخلايا الدماغية في هذه المنطقة تملك روابط مع، تقريبا، جميع مناطق اللحاء الدماغي، حيث الوظائف الدماغية العليا، مثل اللغة، يجري تشكيلهم وحيث يوجد مركز الاحاسيس. إضافة الى ذلك فإن الروابط العصبية ثنائية المسارات، بحيث ان كل خلية في المنطقة المختفية قادرة على تلقي الاشارات القادمة من مركز اللحاء الدماغي وارسال الاشارات، في ذات الوقت. وايضا تملك المنطقة " المختفية" روابط عصبية مع المنطقة الواقعة في عمق الدماغ، basala ganglierna, وهي المنطقة المسؤولة عن تنظيم الحركة حيث منظومة إعادة ربط التوجيه وتحسين الانسجام بين الاوامر القادمة من مختلف مناطق الدماغ.
بمعنى اخر فالمنطقة " المختفية" تظهر وكأنها المحطة التي تربط اكثر اقسام الدماغ مع بعض. حتى الان لازالت هذه النظرية غير مجربة، ولكن يجري تجهيز العديد من الابحاث للتأكد من الدور الذي يلعبه " المختفية" في الوعي. احدى هذه التجارب التي يجري الاعداد لها هو زرع اليكترود في دماغ شخص التجربة لتنشيط الخلايا الدماغية من خلال موجات كهربائية ضعيفة. إذا حصل الشخص على افكار او انطباعات او مشاعر ومُعايشات كالتي نعايشها في وعينا، دل ذلك على ان نظرية فرانسيس وكريستوف صحيحة.
على الرغم من انقضاء عشرات السنين في البحث عن الوعي لازال العلماء لايملكون الا بضعة نظريات والقليل من المعلومات الحقلية. بالتأكيد سيحتاج الامر الى المزيد من الوقت قبل الوصول الى كشف سر الوعي بشكل حاسم ومؤكد، لنتمكن من تفسير كيف تتمكن الموجة الكهربائية في رحلتها القادمة من البصر الى الدماغ ان تتحول الى مُعايشة من مختلف المقاييس، منها مايجعل المرء مدهوشا من المتعة ومنها مايحمل القهر والالم. فهل نحن على ابواب خلق الجنة والنار، بطريقة اكثر فعالية واسرع وارخص مما تصفه الكتب السماوية؟
مصادر:
Tallkottkörteln
wikipedia
Understanding Psychotics' Speech
Laws of Organization in Perceptual Forms