الرئيس مجدداً: الثّلث لي أو لا حكومة
برّي وجنبلاط و«وصل ما انقطع» (أرشيف)
صراع الأصوات المبعثرة القائم هدفه أن يحصل أيّ من فريقي المعارضة أو الموالاة على صوت إضافي. كثيرون باتوا يدرسون من الآن شكل الحكومة المقبلة. وثمة من يدرس المكان ليأخذ المبادرة في 8 حزيران.
وأبرز هؤلاء رئيس الجمهورية الذي لا يزال يتسرّع في الحسابات فيحصد المزيد من الخيبات
إبراهيم الأمين
عشية بدء المعركة الانتخابية، قبل نحو ستة أشهر، استقبل الرئيس ميشال سليمان شخصية من إحدى دوائر جبل لبنان. كان الرجل يزور بعبدا ليتشاور في أمور سياسية محلية وإقليمية، ويقترح ما يمكن وضعه في خانة النصح. لكن الرئيس سارع إلى سؤاله: هل تريد أن تترشح للانتخابات المقبلة؟ رد الرجل بالنفي. فسأله الرئيس مجدداً: لماذا؟ فرد الأخير بأنه في وضع سياسي وشخصي لا يدفعه إلى خطوة من هذا النوع، وأنه يعتقد بأن الأمور يجب أن تسير بطريقة مختلفة في الدوائر المسيحية، مشيراً إلى أهمية تعزيز موقع العماد ميشال عون.
ومع أن الرئيس أبدى علامات التعجب، إلا أن الضيف صارحه: «حسن أنك أثرت الموضوع، وأنا هنا أحمل إليك توصية بأن تبتعد عن ملف الانتخابات. ما زلت في بداية عهدك، وولاية المجلس المقبل أقصر من ولايتك. وبالتالي، يمكنك بعد عام آخر أن تدرس الأمر، وأن تبحث عن المصلحة قبل أن تأخذ قراراً، فإذا قررت العمل على تأليف كتلة نيابية، تبدأ العمل وتأخذ وقتك. أما الآن، فأنت تعرف يا فخامة الرئيس أن الجميع اختاروك رئيساً بالتوافق، وأنت تعرف أنه لولا أحداث السابع من أيار، لما كان بإمكانك الوصول إلى بعبدا، ومن قام بهذه الخطوة هو المعارضة، التي ارتضت بك رئيساً توافقياً. لكن الزعامة السياسية للمسيحيين معقودة على نتائج مواجهة قاسية بين فريقي المعارضة و14 آذار، والعماد عون يمثل رأس الحربة وهو لا يحتل موقعه هذا منافساً لك».
استمع الرئيس إلى الكلام، وبدل أن يعلق مباشرة عاد إلى الحديث عن الانتخابات، وأفاض في الشرح حول دائرتي كسروان وجبيل، مضيفاً ما أمكنه من مقاعد وحسابات في بعبدا والمتن الشمالي، وربما في دوائر أخرى. ودخل في تفاصيل يمكن تلمّس متابعته لها الآن في مجال دعم مرشحين ينافسون لوائح العماد عون، وينافسون لوائح المعارضة، ويتعاونون مع قوى 14 آذار. ولم يهتم الرئيس بالملاحظة ـــــ التحذير، من أن يكون قد غادر موقعه التوافقي وانتقل إلى ضفة بوجه ضفة أخرى.
■ ماكينة في القصر
لم يمر وقت طويل حتى كان الفريق القريب من الرئيس، مستشارون وأقارب وأصدقاء ورجالات العهود، قد احتلوا مقاعدهم، يعطون الآراء في الملف الانتخابي. وأمكن أحد المتابعين عن قرب جمع جمل ومفردات كافية لإضاعة الرجل أو لإرباكه على الأقل، منها «أنت القوي والكل ضعفاء»، و«أنت الذي لا تحتاج إلى أحد والكل يحتاج إليك»، و«أنت الشخصية التي ستحلّ أزمة الانقسام المسيحي وتوحّد الأكثرية الصامتة خلفك»، و«أنت الذي تحظى بثقة بكركي، وبالتالي ثقة الجمهور عموماً»، و«أنت الذي تحتاج إليه 14 آذار لمواجهة نفوذ العماد عون مسيحياً»، و«أنت الذي سيضطر عون إلى مراضاتك حتى لا تنهي حياته السياسية»، و«أنت الحكم الذي يستطيع أن يطلب قوة تمكّنه من أداء دور الحكم في مجلس الوزراء»، و«أنت الذي تحتاج إليه 14 آذار لإدارة البلاد إن فازت بالأكثرية»، و«أنت الذي سوف تضطر المعارضة إلى كسب ودّك لمواجهة الحصار الذي سيفرض على لبنان إن فازت بالانتخابات»، و«أنت الوحيد الذي بمقدوره أن يعيد إلى المسيحيين ثقتهم بأنفسهم لأنك تمثل نقطة التقاطع بين المواقع الأهم لهم، من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية إلى بكركي، ولا ينقصك سوى حضور حقيقي في المجلس النيابي».
ولا يكتفي الزجّالون بهذا القدر، بل ينطلقون في تقويم اتجاهات الشارع المسيحي، فيبدأون بعرض دراسات وأرقام مجهولة المصدر، تتحدث عن تراجع حاد في شعبية العماد عون، وعن انكفاء مريدين إلى مكان وسطي، وأن هؤلاء لا يجدون ملاذهم إلا عند الرئيس. ثم يتحدثون عن العائلات التي تريد حماية نفسها من هجوم الأحزاب، وأن هذه العائلات مستعدة لأن تكون في خدمة الرئيس. ثم تنطلق الحسابات المباشرة: ندير تحالفاً بين مستقلين ونكسب أصوات خصوم عون في كسروان. أما في جبيل، فمن المستحيل أن تسقط لائحة يدعمها الرئيس. وفي المتن، فإن خروج ميشال المر من كتلة عون سوف يجعله يفوز بثلاثة مقاعد على الأقل. وهذا أمر سينسحب على بعبدا وبيروت... إلى آخر المعزوفة.
ولا يبدو أن الرئيس تجاهل هذا الكلام، وهو الذي يفترض به أن يعرف الأرض، بل على العكس فقد تحمّس، وصار القصر يستقبل دائماً مرشحي «الوسطية» من منصور غانم البون وفرقة كسروان إلى ناظم الخوري وفارس سعيد وإميل نوفل في جبيل، من دون أن يغيب آل المر عن بعبدا، وهم الذين لا يستطيعون على فراقه بمعزل عن قاطنه. وبالطبع، فقد ترك الرئيس ملف المتنين الشمالي والجنوبي إلى «أبو الياس»، فهو الأكثر خبرة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل جال وسطاء وموفدون باتجاه الرابية وبنشعي وحارة حريك وحتى دمشق، بحثاً عن تفاهمات تعطي الرئيس الكتلة التي يحتاج إليها من دون معارك أو ما يحزنون.. واستمر الأمر على هذا المنوال حتى أعلنت اللوائح، فبدأ الرئيس يعمل على تنظيم الاختلافات القائمة ودعوة هذا إلى الانسحاب وإقناع ذاك بالهدوء وخلافه. وصار الرئيس يحاول إقناع فلان بالانسحاب لمصلحة فلان، أو اقتراح تعاون بين لوائح غير مقفلة لعدم إحراج الناخب الشيعي في جبيل، وإبعاد «القوات اللبنانية» عن الجدال الانتخابي في كسروان حتى لا ينعكس الأمر سلباً على المستقلين، فيما يتولى آخرون من قلب العائلة إدارة أمور على الأرض مع المخاتير ورؤساء البلديات. وإذا ما سأل أحد عن موقف الرئيس، يصدر الناطق العبقري بياناً منسوباً إلى «زوار القصر الذين سمعوا الرئيس يشدد أمامهم على أنه غير معنيّ بما يجري وأنه لا يتدخل في الانتخابات وأنه ـــــ طبعاً ـــــ على مسافة واحدة من الجميع، وأن من ينطق باسمه أو يستخدمه فهو يفعل ذلك من دون طلب من الرئيس».
■ .. والعين على الحكومة
وسط هذا الجدال، يتلقى الرئيس برقيات عن رغبة مسؤولين أميركيين بزيارة بيروت على عجل. يعود الزجّالون ليقنعوه بأن الزيارات هدفها دعمه هو، وحماية الرئيس وموقع الرئاسة. لكنه يرتبك في إعداد بيانه العام، لأنه يريد أن يظهر توازناً عاماً، وهو يعرف أن نائب الرئيس الأميركي ووزيرة خارجية الولايات المتحدة إنما حضرا بناءً على توصيات متكررة من جانب العاملين في الإدارة الأميركية على ضرورة توفير عناصر دعم لفريق 14 آذار خشية خسارة الانتخابات. ومع ذلك، فهو يسر بسماع المتنافسين في الانتخابات يتبارون في الكلام عن صلاحيات رئاسة الجمهورية وموقعها، علماً بأنه لو طلب التدقيق في ما يقال لكان قد ميّز بين مواقف فريق 14 آذار الذي يقوم بـ«دعم الرئاسة بوجه عون والمعارضة»، بينما يتحدّاهم التيار الوطني الحر بإعلان التعهد بالعمل على تعديلات دستورية تعيد إلى الرئيس بعض الصلاحيات، علماً بأن الرئيس عمر كرامي سهّل عليه الأمر حين قال إن أي تعديل في الصلاحيات يعني معركة جديدة وطائفاً جديداً ودستوراً جديداً وهو أمر يتطلب الكثير.
لكن الرئيس يهتم أكثر بما يصدر عن النائب وليد جنبلاط، الذي يتحدث صراحة عن ضرورة التوجّه صوب الرئاسة لدعمها تعزيزاً لموقع الرئيس كحكم بين الفرقاء. لكن موقف جنبلاط لا يتصل بسليمان نفسه أو حتى بالرئاسة. بل إن جنبلاط قد يكون الوحيد بين جميع الفرقاء الذي يحتاج إلى صياغة موقع جديد له، سواء ربحت المعارضة الانتخابات أو ربحها فريق 14 آذار. وجنبلاط الذي يواجه انطلاقاً من موقعه الطائفي أكثر الأزمات تعقيداً في تاريخ البيت الجنبلاطي، فهو بات يعرف أن المعادلات والوقائع الخارجية وحتى المحلية لم تعد تتيح تجديد روح فريق 14 آذار، وأن فريق المعارضة يحتاج إلى شركاء كي ينجح في إدارة أرجحيته في الدولة، وهو لذلك يرسم لنفسه موقعاً مصوغاً بدقة: إعلان الاستعداد، ولو من طرف واحد، لاستئناف الودّ والحب مع سوريا وحزب الله، وإعلان الاستعداد للقبول بـ«الحالة العونية التي تسكن كل مسيحي في داخله»، واحتفاظه بعلاقة قوية مع تيار «المستقبل» ومن خلفه السعودية مع استعادة خطاب اجتماعي واقتصادي نقدي، والاتكال على الرئيس نبيه بري في وصل ما انقطع مع الآخرين من الشيعة. لكن جنبلاط يحتاج إلى مكان له فيه حق المبادرة والقدرة على ذلك، وهو يعرف أنه لا يوجد بين المواقع الحالية أو بين اللاعبين سوى القصر الجمهوري والرئيس سليمان، لذلك بادر إلى إرسال أكبر قدر من الرسائل التي تحجز له مكاناً متقدماً ومرغوباً، لأن الرئيس سليمان سوف يكون كمن استجيب له دعاء ليلة القدر، إن توافرت له فرصة أن يكون وليد جنبلاط ناطقاً باسم الرئاسة. وهو سوف يستعيد روح الفلاحين في جبل لبنان الذين يتعاملون مع الزعامة الجنبلاطية الدائمة والأبدية، وهي الروح نفسها التي تخفي دونية مضمرة تفسر هذا الصمت عن الإهانة الجماعية التي توجّه بها جنبلاط إلى أبناء «الجنس العاطل».
■ تفسير جديد للطائف
ولأن الرئيس بات يتلمّس قواعد اللعبة الجديدة، فهو «اخترع» تفسيراً جديداً لاتفاق الطائف، يقول بأن الثلث المعطل يجب أن يكون من حصة رئيس الجمهورية في أي حكومة، وأن الرئيس يحتاج إلى هذه القوة حتى يتمكّن من أداء دور أساسي في مجلس الوزراء، وأنه لن يقدر على منع النزاعات والتعطيل والخلافات بين فريقين إلا من خلال الإمساك بهذا الثلث. وهو ذهب بعيداً في هذا التفسير إلى حدود القول: «لن أوقّع على مرسوم تأليف أي حكومة لا يكون لي فيها الثلث المعطل»!
ومع أن لا أحد قال هذا، إلا أنه يمكن العودة إلى أولى الحكومات التي قامت بعد توقف الحرب ونزع سلاح الميليشيات، عندما طرح قائد «القوات» سمير جعجع، متضامناً مع رئيس الكتائب في حينه جورج سعادة، ضرورة أن يحصل «المسيحيون الحقيقيون» على الثلث لضمان مشاركتهم في الحكومة، رافضين أي تمثيل مسيحي مبالغ وغير حقيقي يكون من حصة الرئيس الراحل الياس الهراوي، علماً بأن الرئيس الراحل رفيق الحريري كان قد قبل، ومعه الرئيس نبيه بري، باختراع عبد الحليم خدام، أن تكون الترويكا صيغة بديلة من التوازن في التمثيل الوزاري، وهو الأمر الذي اعترض عليه جنبلاط، فكان له حق الفيتو ولو عن بعد. لكن الرئيس بري لجأ إلى فكرة المثالثة في التمثيل الحكومي قبل 7 أيار واتفاق الدوحة، ويومها اقترح تأليف حكومة يكون فيها عشرة وزراء لرئيس الجمهورية وعشرة للمعارضة وعشرة للموالاة، وهو الأمر الذي رفضه فريق 14 آذار لأسباب مختلفة.
وإذا ما تعزر تفاهم بين المعارضة والموالاة الحالية على تأليف حكومة جديدة، فإن بين قيادات 14 آذار، وخصوصاً المسلمين منهم، من يدعم نقل الثلث إلى يد الرئيس، وهؤلاء يهدفون إلى الآتي:
أولاً: كسب الرئيس سليمان إلى صفّهم في المرحلة المقبلة.
ثانياً: دفعه لتولي معركة الحصول على الثلث. وما دام مسيحياً فسوف يحصل على تمثيل مسيحي كبير يأخذ من حصة مسيحيي المعارضة، ولا سيما العماد عون والوزيران سليمان فرنجية وإيلي سكاف وحزب الطاشناق.
ثالثاً: تكليف سليمان اعتماد الرئاسة مظلّة يحتمي بها كل مسيحيي 14 آذار من الذين يفوزون أو يخسرون الانتخابات، وأن يُضغَط على جعجع للتنازل عن طموحه ترؤّس كتلة نيابية مسيحية لمصلحة سليمان.
--------------------------------------------------------------------------------
فوز المعارضة وعودة الاغتيالات
في آخر زيارة له إلى دمشق، تحدث مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان عن الوضع في لبنان بلهجة دفعت ضيوفه إلى الضحك طويلاً: يجب أن نمتنع جميعاً عن التدخل في الانتخابات النيابية اللبنانية. وهو بالطبع لا يرى أن في زيارتَي جوزف بايدن وهيلاري كلينتون أي تدخل. لكن فيلتمان يتحدث بإسهاب عن مخاطر فوز المعارضة في الانتخابات المقبلة. وقبل أن يهم بالمغادرة، همس فيلتمان في أذن مسؤول سوري: هناك خطر من فوز المعارضة، وأنا أخشى أنه في حالة فوز حزب الله ستعود الاغتيالات إلى لبنان!
--------------------------------------------------------------------------------
وزارة مقابل أصوات
تولى أحد المفاتيح الانتخابية في دائرة كسروان رشوة إحدى الشخصيات التي لها تأثير على عدد من الناخبين، بأنه إذا وقفت إلى جانب اللائحة المدعومة من قبل الرئيس فسوف يجري العمل على إقناعه بتعيين هذه الشخصية وزيراً في الحكومة المقبلة بحيث لا يدخل إلى الحكومة أي وزير من كتلة عون الكسروانية. لكن الشخصية المعنية سألت: لماذا لم يثر الرئيس نفسه هذا الأمر خلال الاجتماعات الطويلة التي عقدت معه؟
الرئيس و«الأخبار»
بينما يلتزم القصر الجمهوري الصمت، ويتولى المسؤولون فيه إبعاد مندوب «الأخبار»، يتولى أفراد من عائلة الرئيس ميشال سليمان الرد على «الأخبار» عبر مواقع منتشرة على الـ«فايس بوك»، مع استخدام عبارات يفترض أنها لا تليق بمقام الرئاسة. في هذا الوقت، يتولى أقرباء للرئيس في منطقة جبيل شنّ حملات على «الأخبار» وحثّ الناس على تجاهلها واعتبار المكتبات التي تبيع هذه الصحيفة بأنها تقف ضد الرئيس.
عدد الاربعاء ٣ حزيران ٢٠٠٩