مساء الفل، على رأي ألبير!
هذه قراءتي الخاصة لخطاب أوباما. يمكن الوصول إلى نسخة أكثر مرونة على موقعي هنا:
http://arabia.ne.jp/analysis/
بالطبع سيكون هناك أبديت عندما ينتهي هيكل من
حديثه إلى الشروق.
ـــ
لهذه الأسباب هنروح النار
8 حزيران/يونيو 2009
كنت أنوي نشر هذه القراءة بعد استماعي للخطاب مباشرة لكن عطلني الانشغال، وهو أمر جاء للحظ لأني اطلعت في الأيام التالية على ردود أفعال تثير العجب من أشخاص منهم من يُفترض أنهم يفهمون قواعد اللعبة. هكذا أعدت كتابة المشوار برمته.
حالة مثيرة للدهشة تلك التي انتابتي حين قرأت العديد مما كُتب هجوماً وتأييداً لخطاب أوباما، بالذات ما كتبه إبراهيم عيسى ويكتبه في الدستور. وأقصد دهشة دهشة، حدَّ فتح الأفواه يعني. فيما يلي قراءتي للخطاب.[1]
* 1.
تعددت تأويلات وتفسيرات سبب اختيار جامعتي الأزهر والقاهرة بالذات لرعاية الزيارة. أحد التفسيرات الرائجة يقول بأن الأمر بديهي طالما يريد أوباما مخاطبة، أو خطب ود أو شراء [اختر حسب درجة مؤامراتيَّتك] العالم الإسلامي. هذا التفسير قد يبرر اختيار الأزهر، لكنه يفشل تماماً في تبرير اختيار جامعة القاهرة.
كل هذا تجاهل أن الخطاب يقول صراحة سبب هذا الاختيار المميز من أول فقرة:
اقتباس:
For over a thousand years, Al-Azhar has stood as a beacon of Islamic learning; and for over a century, Cairo University has been a source of Egypt's advancement.
لأكثر من ألف سنة مثَّل الأزهر منارةً للتعليم الإسلامي؛ ولأكثر من قرن كانت جامعة القاهرة نبعاً لتقدم مصر.
لماذا استخدم أوباما هذه الصيغة "منارة لـ’التعليم‘ الإسلامي" عوضاً عن ’منارة للعالم الإسلامي‘ مثلاً؟ الجواب ببساطة أنه يريد تحديد الشريحة التي يتوجه إليها بالخطاب في ’المتعلمين‘ أو المتنوِّرين أو المثقفين في مصر ومنها إلى العالم الإسلامي، وهو ما يفسر سبب إضافته في نفس المقطع بالذات "جامعة القاهرة نبع لتقدم مصر."
لقد جاء باراك أوباما متوقعاً أن يكون جمهوره هو طلاب الجامعتين بالأساس، لا كوادر الحزب الحاكم والمعارضة، ولا الشعب المصري بمجموعه، ومن خلال طلاب الجامعتين يتوجه بالخطاب إلى شريحة المتعلمين في العالم الإسلامي، وهم من عليهم نقل رسالته إلى بقية شرائح العالم الإسلامي. يجب النظر إلى الخطاب من هذا المنظور قدر الإمكان للابتعاد عن التشتيت.
* 2.
في الفقرات من الثانية إلى الرابعة يطرح أوباما تفسيره لأسباب صعود التطرف الإسلامي على هذا النحو:
o هناك مخزون تاريخي يمكن الاعتماد عليه لإزكاء الكراهية متمثلاً في الحروب الدينية.
o الاستعمار لحرمانه الدول الإسلامية من التقدم.
o الحرب الباردة التي عاملت الدول كمجرد أدوات في الصراع من دون النظر إلى احتياجاتها.
ثم يقدم 11/9 حداً فاصلاً في التاريخ جعل العالم ينظر إلى الإسلام ككل باعتباره "عدائي حتماً ليس فقط لأمِريكا والغرب، بل لحقوق الإنسان أيضاً." هذه العبارة هي الأطروحة thesis التي يعمل أوباما على نفيها في بقية الخطاب كما سيتضح.
أود الإشارة إلى ثلاث نقاط سريعة هنا.
1. لأول مرة، على حد علمي، يقوم رئيس الولايات المتحدة بالاعتراف صراحة بعدم عدالة الاستعمار. هذه الإشارة قد لا تعني الكثير في التاريخ السياسي الأمريكي، بعكس ما لو كان غوردون براون هو من قالها مثلاً، إلا أن بُعدها ليس مهماً تاريخياً بقدر ما هو مهم ليحدد لنا عقيدة الإدارة الأمريكية الجديدة.
التواجد الأمريكي في العراق تصنيفه ـ سياسياً ـ هو استعمار لا احتلال، بالتالي فهذه الإشارة تعني أن إدارة أوباما ترى أن الاستعمار الأمريكي للعراق غير عادل، وبالتالي فهي تضع حول عنقها قيداً أخلاقياً طواعية يلزمها بإلحاح تصفية هذه المفارقة. في نفس الوقت تؤرق هذه النبرة حكومة نتنياهو لأنها تستميت في إقناع أوباما بالقبول بطلبها ألا يتم إنشاء دولة فلسطينية ويُستعاض عنها بمنح الضفة والقطاع حكماً ذاتياً وكفى. في مقال رأي نُشر يوم الخطاب في يديعوت أحرونوت تم تناول نقطة مهاجمة الاستعمار والتنديد بإنكار أوباما، أو اعتذاره، لتاريخ الغرب السياسي الحديث باعتباره تصرفاً لا يليق برئيس أمريكي.
2. لأول مرة، على حد علمي، يطرح رئيس الولايات المتحدة الحرب الباردة باعتبارها شيئاً تسبب في تعاسة الدول الأخرى. هذه العبارة لو قيلت في أمِريكا لثارت ثائرة الجمهوريين والديموقراطيين ولهبُّوا مدافعين عن إرث رونالد ريغان تحديداً. كذلك ربما، ولو أنها ضربة بعيدة، يشير ذلك إلى أن الصراع العربي الإسرائيلي كان مجرد فصل في الحرب الباردة، وبالتالي فلو تبدلت رؤية السياسة الأمريكية فسيكون الأمر طبيعياً، خاصة والمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط مربحة باستثناء إسرائيل التي أصبحت ’واقفة عليها بالخسارة.‘
3. منطق أوباما التحليلي هنا يكاد يكون نسخة كاربونية من المنطق الذي استخدمه أثناء حملته الانتخابية في سان فرانسيسكو، والذي جلب عليه الوبال حينها، حين قال، وسأورد السياق مع الاقتباس:
اقتباس:
(...) Here’s how it is: in a lot of these communities in big industrial states like Ohio and Pennsylvania, people have been beaten down so long, and they feel so betrayed by government (...) You go into some of these small towns in Pennsylvania, and like a lot of small towns in the Midwest, the jobs have been gone now for 25 years and nothing’s replaced them. And they fell through the Clinton administration, and the Bush administration, and each successive administration has said that somehow these communities are gonna regenerate and they have not. So it’s not surprising then that they get bitter, they cling to guns or religion or antipathy to people who aren’t like them or anti-immigrant sentiment or anti-trade sentiment as a way to explain their frustrations.
(...) إليكم الوضع: الناس يعانون الأمرين لردح طويل في العديد من المجتمعات في الولايات الصناعية الكبيرة مثل أوهايو وبنسيلفاِنيا، وهم يشعرون جداً بأنهم قد غُدر بهم من قِبل الحكومة (...) حين تذهب إلى هذه البلدات الصغيرة في بنسيلفاِنيا، مثلما هو الحال في الكثير من البلدات الصغيرة في الميدويست، و[تجد] أن الوظائف التي اختفت لها خمس وعشرين سنة ولم يتم إحلالها [بأخرى جديدة.] وتناقصت [الوظائف] في [عهد] إدارة كلينتون وإدارة بوش، وكل الإدارات المتعاقبة قالت بأن هذه المجتمعات سوف تنتعش ولم تفعل. لذا فمن غير المفاجئ أن [الناس في هذه المجتمعات] يغدون أكثر مرارة، يتشبثون بالسلاح أو الدين أو البغضاء لمن لا يماثلونهم أو المشاعر المعادية للمهاجرين أو المشاعر المعادية للتجارة [العالمية] كسبيل للتعبير عن إحباطهم.[2]
إذاً فرؤية أوباما التي يقدمها للعنف الديني ليست نوعاً من العلاقات العامة أو الضحك على الذقون يسوقه للعالم الإسلامي؛ بل هي قائمة على رؤية واضحة معتمدة على نموذج محلي مُصغَّر في الولايات المتحدة نفسها، وهو ما يعني بدوره ثلاثة أشياء:
1. في سياق هذا الخطاب يشير ذلك إلى وعي وتمييز بين العوامل التي توفر بيئة لنمو التطرف من جهة، وقادة التطرف من جهة، ومن يستغلونهم من الناس والشباب من جهة.
2. هناك نماذج محلية يمكننا من خلالها المقارنة بين مقاربة إدارة أوباما في علاجها ومقاربتها في علاج مشكلات العالم المشابهة.
3. أرجحية فهم الإدارة الأمريكية لمنطق المقاومة، الفلسطينية مثلاً، ومشروعيتها المشروطة كما سيتضح في الخطاب لاحقاً.
هذه الأشياء مثيرة للاهتمام؛ لأنه لو وضعناها معاً وطبقناها على فلسطين مثلاً فسيعني ذلك إدانة إسرائيل وحماس مع الاعتراف بحق الفلسطينيين في الحراك.
* 3.
في الفقرة الخامسة يمد أوباما يده، على الطريقة الساداتية، عارضاً السلام. لكن الفارق هنا أن أوباما يعرض علاقة "مصالح مشتركة" و"احترام متبادل" بين الإسلام/الدول الإسلامية والولايات المتحدة في لهجة عملية بعيدة عن شاعرية السادات في الكنيست، وهو ما تؤكده أكثر الفقرة التالية حين يتحدث عن أن "التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها" وأن "خطاباً واحداً ليس من شأنه إحداث التغيير."
* 4.
في نفس الفقرة، السادسة، يضع أوباما علانية ما يتغافل عنه المعلقون من مزدرئي الخطاب هنا فيتحدث عن الاعتراف recognition بالآخر. الحقيقة أن هذا المصطلح السياسي هو السبب الرئيسي الذي يجعلني أقول بأننا سندخل النار. لنقل أني فتاة مثلية أعاني الأمرين لأني فتاة ولأني مثلية، وفي يوم جاءني مسؤول كبير وأعلن على العلن أنه يعي قضيتي في المطالبة بالمساواة مع الرجل في العمل وكذلك التمتع بزواج رسمي يضمن حقوقي وحياة مستقرة. في هذا المثال فإن ما قام به المسؤول هو ’الاعتراف‘ بي كمواطن، وبالتالي الاعتراف بحقوقي كفتاة مثلية. حين يتم ذلك فإنه يكون لزاماً على جميع الهيئات التي تخضع لهذا المسؤول أن تلتزم بهذا الاعتراف لأنه يتحول إلى سياسة قابلة للمساءلة accountable policy.
لماذا بقى سندخل النار؟ هل يذكرك هذا الكلام بشيء؟ عدم حضور فهمي هويدي للقاء الصحفي مع أوباما لأن صحفياً إسرائيلياً سوف يحضره؟[3] قول فاروق حسني أنه سيحرق أي كتاب إسرائيلي في البلد؟ ثم تراجعه عن كلامه لاحقاً؟
بينغو! نحن نرفض التطبيع لأنه اعتراف بدولة إسرائيل، ونحن لا نريد الاعتراف بدولة إسرائيل! الحقيقة أنني في ذهول: هل نعي حقاً قوة الاعتراف بالكيانات/الحقوق السياسية وما يتبعها من مسؤوليات وإلزامات، أم أننا نعتبر الأمر مجرد كلام جرائد مثلما يقول منتقدو خطاب أوباما؟ ولو كنا نعتبر الأمر كلام جرائد فلماذا نرفض التطبيع والاعتراف بدولة إسرائيل إذاً!؟ يعني هل منتقدو خطاب أوباما منافقون حين يقولون بكل ثقة أن ’ياما جاب الغراب لأمه‘ أم أنهم يجهلون؟ أم هل يرفضون التطبيع على سبيل الثغاء ويرفضون أوباما على سبيل المأمأة؟
* 5.
في الفقرات من السابعة إلى العاشرة يحاول أوباما التأكيد أنه حين يتحدث عن الإسلام فإنه يقصد وجهه الحضاري المتسامح، مستشهداً بتجربته الشخصية وسرد تاريخي موجز عام، إلى جانب التأكيد على أن العالم مدين لهذا الإسلام وحضارته، مع تطعيم بمثال اعتراف المغرب بالولايات المتحدة (كانت أول دولة تفعل ذلك) وموافقة الكونغرس على اعتماد قسم النائب كيث إيليسون على المصحف.
كل هذا من شأنه التأكيد على لفظ التطرف من جهة، والتمهيد للفقرة التالية الأكثر أهمية من جهة.
في الفقرات من الحادية عشرة إلى الرابعة عشرة يطلب أوباما أن ينظر للولايات المتحدة بالمثل، باعتبارها تنادي بنفس المبادئ التي نشأت عليها الحضارة الإسلامية، موضحاً ذلك بشكل تاريخي مختصر أيضاً، ربما لتسهيل للمقارنة، وكذلك لانتخابه هو شخصياً باعتباره دليل على احتواء الثقافة الأمريكية لجميع الأطياف، مشيراً إلى وجود سبعة ملايين أمريكي مسلم يتمتعون بحياة كريمة وحرية ممارسة الشعائر، وأن "الإسلام جزء من أمِريكا."
ثم يختتم بإيجاز في الفقرة الخامسة عشرة لعرض ما يريده مما سبق: الاعتراف بالآخر كأول خطوة على الطريق.
طبعاً سقط كل هذا الكلام على آذان صماء لابن عيسى، الذي مكث يهري الدستور ’لسوعةً‘ في أوباما، ساخراً من هذا المقطع تحديداً،[4] وتبعه في ذلك كثيرون للأسف ممن نظروا للأمر وكأنه موضوع تعبير يجب ملؤه بالآيات ومعلومات التريفيا، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء فهم محور الخطاب عن الاعتراف بالآخر وقبوله. عموماً لا بأس؛ الخطاب موجه إلى المتعلمين كما أسلفت.
* 6.
في الفقرتين السادسة عشرة والسابعة عشرة يطرح أوباما فكرة ملخصها أن أي حراك يحاول إقامة سيادة على أساس الدولة أو القومية الواحدة بهدف سيادة الدول أو القوميات الأخرى أو العالم مصيره إلى الزوال. هذا الطرح الذي ربما ينتمي إلى العقلانية التاريخية يدلعلى شيئين:
1. إعلان الانفصال عن عقيدة بوش والمحافظين الجدد في فهم النيوليبرالية كذريعة لشن الحروب وإلحاق الدول بهذا التيار ’الـcrusadeـي‘[5] من الليبرالية.
2. هجوم ضمني على فكرة دولة الخلافة العالمية التي تروج لها القاعدة وأتباعها.
من جديد كل هذا في إطار نفس الفكرة الخاصة بالاعتراف بالآخر؛ قبوله والتعايش معه كضرورة لاستمرار الحياة.
* 7.
في الفقرات التالية يدخل أوباما في تفصيلات مشكلة التطرف الإسلامي المسلح، مستعرضاً الوضع في أفغانستان. تجدر الإشارة هنا إلى أن أوباما يؤيد الحرب على طالبان والقاعدة في أفغانستان على طول الخط، ويراها المكان الأصح لمحاربة الإرهاب الديني الدولي. في الفقرتين الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين يتناول الحرب على العراق، ويقر بأنها غير مبررة وكان أفضل أن يتم تجنبها لأنها، على عكس أفغانستان، لم تكن حرباً مفروضة على الولايات المتحدة؛ فلم يعلن صدام حسين مثلاً مسؤوليته عن 11/9 مثلما هو الحال مع القاعدة. كذلك يؤكد أن الولايات المتحدة مُلزمة بإصلاح هذا الخطأ، الذي اعترف به ضمناً، بأن تساعد العراقيين إلى أن يكتمل الانسحاب الأمريكي من العراق في 2012.
في الفقرتين السابعة والعشرين والثامنة والعشرين يعود أوباما ليطلب أن يتفهم الجميع وضع أمِريكا بعد 11/9، في مقارنة ضمنية مع نموذج البنسيلفانيين البائسين وكذلك نشأة التطرف، في فكرة مفادها أن التطرف خلق رد فعل متطرف. هو تبرير لا أراه عقلانياً، وهو نفس ما تداركه خطاب أوباما حين تحدث عن أنه تصرُّف "خالف مُثُلهم" وأنهم "يتخذون خطوات راسخة لتغيير المسار."
اقتباس:
Unlike Afghanistan, Iraq was a war of choice that provoked strong differences in my country and around the world. Although I believe that the Iraqi people are ultimately better off without the tyranny of Saddam Hussein, I also believe that events in Iraq have reminded America of the need to use diplomacy and build international consensus to resolve our problems whenever possible.
كانت [حرب] العراق، عكس أفغانستان، حرباً اختيارية [كان لنا فيها القرار] أثارت خلافات قوية في بلدي وحول العالم. وعلى الرغم من أني أومن بأن حال الشعب العراقي في النهاية أفضل من دون نظام حكم الطاغية [الذي مارسه] صدام حسين، إلا أنني أيضاً أومن بأن الأحداث في العراق قد ذكَّرت أمِريكا بالحاجة إلى استخدام الدبلوماسية وبناء إجماع دولي من أجل حل مشكلاتنا متى أمكن ذلك.
(...)
Today, America has a dual responsibility: to help Iraq forge a better future -- and to leave Iraq to Iraqis. And I have made it clear to the Iraqi people that we pursue no bases, and no claim on their territory or resources. Iraq's sovereignty is its own. And that's why I ordered the removal of our combat brigades by next August. That is why we will honor our agreement with Iraq's democratically elected government to remove combat troops from Iraqi cities by July, and to remove all of our troops from Iraq by 2012. We will help Iraq train its security forces and develop its economy. But we will support a secure and united Iraq as a partner, and never as a patron.
على أمِريكا اليوم مسؤولية مزدوجة: أن تساعد العراق في صنع مستقبل أفضل -- وأن تترك العراق للعراقيين. ولقد أوضحت للشعب العراقي أننا لا ننشد [إقامة] قواعد [عسكرية]، ولا دعاوي [لانتزاع] أرضهم أو مواردهم. إن سيادة العراق سيادته هو. ولهذا فقد أمرت بإزالة ألويتنا المقاتلة بحلول أغسطس المقبل. لهذا سوف نفي باتفاقنا مع حكومة العراق المنتخبة ديموقراطياً بأن نزيل القوات المقاتلة من المدن العراقية بحلول يوليو، وإزالة جميع قواتنا من العراق بحلول 2012. سوف نساعد العراق في تدريب قواته الأمنية وتنمية اقتصاده. لكننا سوف نساعد [لإقامة] عراق آمن وموحَّد كشريك، لا كسيد.
And finally, just as America can never tolerate violence by extremists, we must never alter or forget our principles. Nine-eleven was an enormous trauma to our country. The fear and anger that it provoked was understandable, but in some cases, it led us to act contrary to our traditions and our ideals. We are taking concrete actions to change course. I have unequivocally prohibited the use of torture by the United States, and I have ordered the prison at Guantanamo Bay closed by early next year.
وأخيراً فكما لا تتسامح أمِريكا مع عنف المتطرفين، فإننا لا يجب أن نغير أو ننسى مبادئنا. كان الحادي عشر من سبتمبر صدمة هائلة لبلدنا. كان الخوف والغضب اللذان أثارتهما مفهوماً، لكنه قادنا، في بعض الحالات، لأن نتصرف [بشكل] يخالف تقاليدنا ومُثُلنا. إننا نتحرك بثبات لتغيير المسار. لقد قمت بوضوح بحظر استخدام التغير من قِبَل الولايات المتحدة، ولقد أمرت بإغلاق السجن في خليج غوانتانامو مع حلول بدايات العام القادم.
هذا إعلان رسمي من رئيس الولايات المتحدة أن غزو العراق كان خطأ، والتعذيب كان خطأ، مع اعتذار ضمني، وتعهد بإصلاح الخطأ وإعادة البلد لأصحابه بحلول 2012 طبقاً للاتفاقية الموقعة بين البلدين.
لكن من تحدِّث؟ ابن عيسى ومن والاه يصرون على العكس، وأن أوباما ـ "المتنصِّر"[6] ـ يبرر للحرب[7] وأنه حتى لا يريد تعريف الإرهاب[8] وكأنه لم يسمع الخطاب أو لأنه لا يفهم الانكليزية ربما.
* 8.
ابتداءً من الفقرة التاسعة والعشرين يتناول الخطاب "الوضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعالم العربي،" وبنفس أسلوب الثنائيات يسوق المنطق وراء دعم بقاء دولة إسرائيل يتبعه بمنطق قيام دولة فلسطينية، وأنه من الخطأ إنكار معاناة هؤلاء وهؤلاء. أوباما يدرك أن أكثر من سيتابع خطابه بانتباه هم المحللون في إسرائيل بالطبع، خاصة وأنه يأتي بُعيْد زيارة نتنياهو غير الناجحة تماماً إلى واشنطن البلد، وإبان تصاعد الضغط الأمريكي لتطويع موقف حكومته المتشدد.[9] ربما يكون هذا السبب وراء تقديم الطرف الإسرائيلي في الطرح، ولو أنه يجازف بذلك بفقدان ربما القسم الأكبر من تعاطف/تأييد المتلقي العربي/الإسلامي قبل أن يدخل في النقطة التالية. هكذا دخل أوباما المستنقع ’متلفتاً خلفه‘ كما يصر حجاج عبد العظيم في تلك الحلقة من الموسم الثاني لتامر وشوقية، وسط تربُّص وتوتر المتلقي العربي/الإسلامي الجالس أمامه.
قد تكون الفقرة الثالثة والثلاثون الأهم في إطار التمهيد هنا؛ إذ توضح باختصار كيف ينظر الأمريكي إلى المسألة اختزالاً في حق العودة من جهة، والأمن الإسرائيلي من جهة، وأن الحل الوحيد لضمان مصالح كل الأطراف هو قيام الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل كما نصت خارطة الطريق. أضع هنا خطاً تحت ’مصالح؛‘ فأوباما يريد تمرير هذا الطرح البراغماتي الواقعي بكل الطرق الممكنة من حيث أن طبيعة التقارب بين طرفين يجب أن تُبنى على المصالح المتبادلة، ولهذا فهو يبتعد تماماً عن ترويسة ’السلام العادل والشامل.‘
في الفقرات التالية يصوغ أوباما مقاربةً لتحقيق المصالح المتبادلة عن طريق تقديم تنازلات وضمانات من كل طرف للآخر؛ فعلى الفلسطينيين التخلي عن العنف والتركيز على تعمير أرضهم وركائز حكمهم. المثير للاهتمام هنا هو ثلاثة أشياء:
1. تأكيداً للفكرة التي طرحتها في النقطة 2، يرفض أوباما المقاومة القائمة على العنف، لكنه يميزها عن المقاومة السلمية، وبالتالي فهو اعتراف وإقرار بمشروعية المقاومة الفلسطينية مع رفض مقاربة حماس. هذا الطرح هو النظير الفلسطيني الكامل لترويسة "الولايات المتحدة تتفهم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها،" وعلى حد علمي هي أول مرة يقوم فيها رئيس أمريكي بتقديم هكذا نظير بهذا الوضوح.
2. استخدام أوباما لتاريخ الحراك المدني للأمريكيين من أصول أفريقية كان سلاحاً مزدوجاً؛ فبالرغم من القوة والنبرة المنتقدة لسياسة إسرائيل في عقد مقارنة مع، وأنا هنا أقتبس، "معاناة السود في أمِريكا لعقود من سوط العبودية ومهانة الفصل العنصري،" مع كل ما يحمل ذلك من هجوم غير مسبوق على الاضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين بتشبيهه بالاستعباد وبالتالي نزع واحدة من أهم عناصر إضفاء الشرعية على نظام ديموقراطي، إلا أن هذا الطرح فقد قوته عندما وصل إلى المتلقي العربي بالذات لعدة أسباب من ضمنها عدم وجود ثقافة مدنية حقوقية تاريخية أو أي ذكر لأي نموذج لها في مناهج التعليم الأساسي؛ وكذلك أن السطح ـ وأعني هنا حقيقة أن باراك أوباما أمريكي من أصول أفريقية ـ قد طغى على الطرح فأزال عنه قوته حتى وإن أتبعه بأبارتهايد جنوب أفريقيا، مع أنه واحد من النماذج التي يحب الخطاب العربي إعادة تدويرها في هذا الصدد.
كذلك، وحسبما أرى، فإن النموذج الأمِريكي الذي يحب الإنسان العربي/الإسلامي سوقه حين يبني معادلاً للمعاناة الفلسطينية ليس الحراك المدني للأمريكيين من أصول أفريقية، بل الإبادة والتهجير للأمريكيين الأصليين منذ قرنين. هذا النموذج المفضل يسير في إطار العداء غير المشروط للولايات المتحدة والغرب، ولا أظن اعتراف أوباما بالأثر السلبي للاستعمار والحرب الباردة يكفي لتبديل الأوراق.
3. حَوَتْ الفقرة السابعة والثلاثون اعترافاً صريحاً بحماس ككيان سياسي، مع مطالبته بتحمل مسؤوليات تأييد قسم من الفلسطينيين له والتخلي عن العنف والاعتراف بالاتفاقيات وحق إسرائيل في الوجود. وأحسب أن هذا الاعتراف من الرئيس الأمِريكي قد أتى فائقاً لطموحات أكثر الحمساويين تفاؤلاً بالخطاب، وربما ساهم في قبول حماس المشاركة في مباحثات طارئة جديدة في مصر لمعالجة الأوضاع المتشنجة في الضفة.
بعد ذلك يبدأ أوباما في طرح ما هو مطلوب من إسرائيل في المقابل لتحقيق المصالح المتبادلة، وهنا يظهر موقف إدارة أوباما من حكومة نتنياهو.
1. يجب على إسرائيل الاعتراف بحق الفلسطينيين في الوجود واعتماد حل الدولتين، وهذه صفعة مباشرة لمحاولات نتنياهو المستميتة تقديم حل الحكم الذاتي بديلاً عن الدولة الفلسطينية.[10]
2. يجب على إسرائيل وقف سياسة الاستيطان. هذه الفقرة ـ الثامنة والثلاثين ـ حَوَتْ واحدةً من أعنف الهجمات على سياسة إسرائيل الاستيطانية.
اقتباس:
(...) The United States does not accept the legitimacy of continued Israeli settlements. This construction violates previous agreements and undermines efforts to achieve peace. It is time for these settlements to stop.
(...) إن الولايات المتحدة لا تعترف بشرعية [البناء] المستمر للمستوطنات الإسرائيلية. هذا البناء [للمستوطنات] يخالف الاتفاقات السابقة ويقوض جهود إحلال السلام. يجب على [بناء] المستوطنات هذا أن يتوقف.
3. يجب على إسرائيل ضمان عيش الفلسطينيين وتطوير مجتمعهم. بعبارة أخرى ’ضمان أمن الفلسطينيين.‘ هذه العبارة تحتمل الكثير من التأويل؛ فمن ناحية هي دعوة لالتزام إسرائيل بمسؤوليتها حيال الضفة والقطاع كأراضٍ لا تزال تخضع لسلطتها بشكل أو بآخر، وذلك عن طريق التنسيق الأمني مع حكومة السلطة الفلسطينية؛ ومن ناحية قد تكون ذريعة شكلية لتدخل إسرائيلي مباشر لفرض الأمن داخل الأراضي الفلسطينية. هكذا عبارات تمثل حقلاً خصباً لخيال السياسيين والمشرعين في إسرائيل.
بعد الخطاب صرح مقربون من نتنياهو، بشأن خطابه المزمع للرد على خطاب أوباما، أن "رئيس الوزراء عاقد العزم على التوضيح للإسرائيليين وللعالم أن إسرائيل ليست ضد السلام، وأنها تعتزم تبني مبادئ رؤية أوباما، محافظةً على مصالح إسرائيل الأمنية."[11]
وحقيقة الأمر أن مسألة المستوطنات هي الكارثة التي تنتظر الوقوع على رأس حكومة نتنياهو؛[12] فالمساس بالمستوطنات خط أحمر لجميع التيارات اليمينية في إسرائيل، ونتنياهو ملتزم بذلك وإلا فقد شركاء حكومته وقسماً لا بأس به من تأييد حزبه لو أذعن لأوباما.
خطاب أوباما، الذي يراه إبراهيم عيسى ورهطه مجرد موضوع تعبير يكتبه طالب مدرسة، قد يكون المسمار الأول في نعش الحكومة الإسرائيلية بالفعل؛ فالصدام مع الولايات المتحدة قد يُكسب رئيس الوزراء شعبية، مثلما كان حين رفض بيغن خطة ريغان عام 1982 التي تقضي بالانسحاب من الضفة والقطاع رامياً المظروف الرسمي في وجه السفير الأمِريكي مستخدماً عبارته الشهيرة: "إسرائيل ليست جمهورية موز!"[13] لكن المشهد السياسي الأمِريكي اليوم حالة استثنائية؛ فالرئيس أستاذ جامعة سابق، يستخدم المنطق في طرحه، ويتمتع بنسبة قبول مرتفعة جداً. في نفس الوقت أحكم الديموقراطيون سيطرتهم على الكونغرس بغرفتيه مع إعلان السيناتور الجمهوري آرلين سبيكتر انتقاله إلى صفوفهم، وطار ثلث ’المقاوحة‘ filibustering من الجمهوريين. كذلك فإن من يقود السياسة الخارجية الآن هما هيلاري كلينتون وجو بايدن، يضاف إليهما جورج ميتشيل في الملف الإسرائيلي-الفلسطيني، وهو فريق يمتلك خبرة وحنكة يندر اجتماعها. أوباما يملك تأييداً قوياً جداً من أصحاب نفوذ في الحزب مثل تيد كينيدي ودونا برازيل وغيرهما، ويملك إلى جانبه فريق قوي ومخلص يقوده العبقري رام إيمانويل. كل هذا يجعل من المستحيل على إسرائيل أن تمارس أي ضغط على إدارة أوباما، وهي النتيجة التي عاد بها نتنياهو من رحلته إلى واشنطن حين لم يستطع الالتفاف على أوباما باستخدام أعضاء الكونغرس المؤيدين لإسرائيل أو حتى نفوذ لوبي الإيباك.
لكن الأهم من كل هذا أن أوضاع اللعبة قد اختلفت عما كانته قبل سبع وعشرين سنة؛ فالولايات المتحدة تملك قيادة عسكرية إقليمية في قطر وتواجداً عسكرياً في الكويت والسعودية، وهناك ربع مليون جندي أمِريكي في العراق وأفغانستان، كل هؤلاء يعملون لتحقيق مصالح بلدهم بشكل مباشر، وبالتالي لم تعد الولايات المتحدة بحاجة لـ’وسطاء أيام الحرب الباردة‘ من أجل تحقيق تلك الأهداف، خاصة لو كانت حكومة هذا الوسيط يمينية متشددة تهدد حملة تحسين علاقات الولايات المتحدة بالمجتمع الدولي والعالم وإزالة آثار بوش-تشيني. هكذا حكومة ستشكل عبئاً زائداً dead weight غير محمود العواقب أبداً في هذه الفترة الحساسة من بداية إدارة أوباما.
نتنياهو كان يحاول استخدام ملف إيران لتسويق إسرائيل باعتبارها الوسيط proxy الوحيد القادر على كبح جماحها، لكن حتى هذا فشل لأن إدارة بوش شحنت دول الخليج بالفعل لهذه المهمة باعتبارها دفاعاً عن أمنها ـ أمن دول الخليج ـ الخاص في المقام الأول، وأغلب الظن أن هذا المحور كان أساس اللقاء بين الملك عبد الله وأوباما في الجنادرية قبل توجه الأخير إلى القاهرة.
إذاً تستطيع إدارة أوباما أن تضغط على حكومة نتنياهو بحرية، وهو ما ظهر حين أعلنت هيلاري كلينتون لنتنياهر عن رفض بلادها الكامل الاعتراف بأية اتفاقات أو تعهدات شهية كانت الإدارات الأمِريكية السابقة قد منحتها للمسؤولين الإسرائيليين فيما يخص التغاضي عن المستوطنات الجديدة والطبيعية بالذات.
في المقابل لن يكون لحكومة نتنياهو أن تضعف من هذا الموقف ولو بقدر ضئيل لتحقيق دعم شعبي، وبالتالي فلو تصلبت في الرأي فستكون عرضة لانفضاض المواطن الإسرائيلي من حولها ومن ثمَّ إسقاطها في الكنيست، وبعدها يضطر الإسرائيليون إلى تكليف تسيبي ليفني بتشكيل حكومة وطنية يكون لنتنياهو، الذي احترق، بشكل شخصي، حقيبة الأمن الداخلي أو الاقتصاد.
* 9.
في الفقرات من الثالثة والأربعين إلى السادسة والأربعين يعرض الخطاب للملف النووي الإيراني. يستخدم أوباما نفس الأسلوب من الاعتراف بأخطاء الماضي والإعراب عن الرغبة في التطلع إلى المستقبل إلخ. الشيء المهم في هذا المقطع القصير هو هذا الاقتباس:
اقتباس:
I understand those who protest that some countries have weapons that others do not. No single nation should pick and choose which nation holds nuclear weapons. And that's why I strongly reaffirmed America's commitment to seek a world in which no nations hold nuclear weapons. And any nation -- including Iran -- should have the right to access peaceful nuclear power if it complies with its responsibilities under the nuclear Non-Proliferation Treaty.
أتفهَّم من يحتجون على أن دولاً تملك أسلحة [نووية] وأخرى لا تملكها. لا يحق لأية دولة أن تنتقي أي الدول [لها أن] تحوز أسلحة نووية. ولهذا فأنا أعيد التأكيد بشدة على التزام أمِريكا بالسعي نحو عالم لا تحوز فيه أية دولة على أسلحة نووية. وأي دولة ـ بما في ذلك إيران ـ لها الحق في امتلاك [مصدر] طاقة نووية سلمي إذا ما امتثلت لالتزاماتها الواردة في معاهدة منع انتشار [الأسلحة النووية.]
ولي هنا ملاحظتان:
1. المقطع الخاص بإيران قصير جداً ومقتضب اللهجة على عكس بقية الخطاب، بالتالي فالملف الإيراني خارج الاهتمامات الأمِريكية-العربية التي تمر بمصر، والأرجح أنه مقصور على المصالح الأمِريكية-الروسية-الخليجية.
2. المنطق الذي ميزته في الاقتباس هو نفس المنطق الذي تستخدمه الدول العربية في موقفها المتردد إزاء حصول إيران على سلاح نووي يوازن إسرائيل. صحيح أن أوباما ليس أول من تناول هذا المنطق بالنقد، بل أذكر أن وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر قد صرح بشيء مماثل قبل سنوات، لكن المميز هنا هو أن أوباما يحاول قدر المستطاع أن يستخدم نفس تعبيرات ومعجم المصطلحات العربي ليصل إلى العقل العربي بشكل أسرع، مثلما حاول نابليون من قبل وفشل، لكن ما يجعل أوباما يختلف عن نابليون أنه يحمل صفة من أعراق كثيرة، بالتالي سيجد من يصدقه لو خطب في أمِريكا كما لو خطب في أفريقيا كما لو خطب في جنوب شرق آسيا، وشعبيته في شرق آسيا وطريقة معالجته القريبة من المدرسة الأوروبية يجعلانه مقبولاً في تلك الأماكن كلها. كل ما كان باقياً هو العالم الإسلامي، وقد حاول في هذا الخطاب أن يحقق اختراقاً ويمس العقل العربي من دون الحاجة لترجمة.
تقديري الشخصي أنه فشل، وسأعرض لذلك بشكل أكثر تفصيلاً في آخر نقطة.
* 10.
في الفقرات من السابعة والأربعين إلى الحادية والخمسين يقوم أوباما بتقديم تعريف لنظام الحكم الديموقراطي، منتقداً بشكل مبطَّن منطق... الإخوان المسلمين!
اقتباس:
(...) And we will welcome all elected, peaceful governments -- provided they govern with respect for all their people.
This last point is important because there are some who advocate for democracy only when they're out of power; once in power, they are ruthless in suppressing the rights of others(...)
(...) ونحن نرحب بجميع الحكومات المسالمة المنتخبة-- شريطة أن تحكم محتَرِمَةً كل شعبها.
إن هذه النقطة الأخيرة مهمة لأن هناك من يدعون إلى الديموقراطية فقط حينما يكونون خارج سدة الحكم؛ وحين يصلون إلى السلطة يقومون بقمع حقوق الآخرين بوحشية(...)
هذه الصورة هي الصورة التي يعتمدها خطاب الحزب الحاكم في مصر ويشاركه فيها جميع الأطياف العلمانية، مستشهدين بما حدث في غزة بعد وصول حماس للحكم؛ فما يبدو أن الدبلوماسية المصرية تمكنت من إقناع الإدارة الأمِريكية بأن الإخوان المسلمين، وفرعها في فلسطين الممثل في حماس، يستخدمون الديموقراطية وسيلة للحصول على الحكم ومن ثم يقتلونها. ويمكن أيضاً وصل الإشارة بالاستحقاق النيابي اللبناني الذي جرى بعد أيام قليلة على الخطاب ووضع حزب الله المميز الذي يملك خبرة كبيرة في اللعب بالآلية الديموقراطية من دون أن يكون عليه إثم.
والحقيقة أن هذه النقطة قد شغلت الخارجية الأمِريكية بشكل خاص في الآونة الأخيرة لدرجة أن استدعت زيارة من ذراع السياسة الخارجية ممثلاً في نائب الرئيس جو بايدن وقبله بفترة قصيرة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، وعبرت عنها كلمة مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، جيفري فيلتمان، حين دعا إلى ضرورة ألا يتدخل أي طرف خارجي بالتأثير في العملية الانتخابية، وما تسرَّب عنه حين أعرب عن خشيته "أن يؤدي فوز 8 آذار إلى عودة الاغتيالات وعدم الاستقرار إلى لبنان،" في نفس الوقت الذي كان فيه حزب الله يعلن في برنامجه الانتخابي أن إيران مستعدة لتسليح الجيش اللبناني لو انتصرت المعارضة مقابل تصريحات بايدن بأن حجم دعم الولايات المتحدة متوقف على ما سيفضي إليه الاستحقاق،[14] وكانت جميع التحليلات تشير إلى فوز مريح لـ8 آذار يمنحها على الأقل ستين مقعداً.[15]
الملف اللبناني يطول، وهو ليس موضوعنا الأساسي على أية حال.
* 11.
في الفقرات من الثانية والخمسين وحتى الستين يتناول الخطاب حرية العقيدة وحرية المرأة بشكل متاخم، ومرة أخرى يستخدم أوباما التعبيرات والمنطق الإسلامي والعربي حين يؤكد بأن ارتداء غطاء الرأس من عدمه يجب أن يكون حرية شخصية، وأن الدولة التي تفرض على المرأة المسلمة زياً معيناً، وضمناً إزالة غطاء الرأس، كشرط لحصولها على التعليم تمارس نوعاً من عدم المساواة. كذلك يكرر أوباما استخدام المعجم الإسلامي والعربي حين يقول بأننا "يجب ألا نغلف العداء تجاه أي دين بادعاء التحرر."
الشيء الوحيد الذي أراه مهماً في هذا المقطع، والشيء الوحيد الذي أراه قد غادر الطابع الخـَطابي فيه، هو الدعوة إلى البحث عن أهداف مشترك ’غير دينية‘ يكون من شأنها توحيد الشعوب من العقائد المختلفة، مثل مكافحة الملاريا أو غوث الكوارث أو تعليم الفتيات أو تمويل المشروعات الصغيرة. هذا الطرح هو الشيء الوحيد العملي والقابل للتنفيذ فوراً مما تم طرحه في الخطاب ككل، وكنت أتمنى أن يُنظر إليه بتركيز أفضل بدلاً مما فعلته الخارجية المصرية[16] من إصدار بيان تنديد بوصف أوباما للأقباط بأنهم أقلية. وبصرف النظر عن أنهم كذلك بالفعل، إلا لو كانت نسبة 10~15% ليست ’أقلية‘ في مجتمع أكثر من ثمانية أعشاره مسلمين، فإن الجملة في نص الخطاب الأصلي تقول بالحرف:
اقتباس:
The richness of religious diversity must be upheld -- whether it is for Maronites in Lebanon or the Copts in Egypt.
يجب الحفاظ على غنى التنوع الديني-- سواء [كان ذلك في] الموارنة في لبنان أو الأقباط في مصر.
ولم يقل ’أقليات دينية‘ ’religious minorities‘، وشتان بين الكلمتين، بالرغم من أنه أتبع ذلك بالحديث عن السنة والشيعة في العراق، وهو ما كان ليفهم منه من يريد أن يفهم أنه يقصد التنوع/التعدد لا الكثرة. لكن ما يظهر أن الخارجية المصرية كانت بحاجة لبعض العلاقات العامة مع الطائفة القبطية، خاصة مع الأخبار التي ترددت عن استياء الكنيسة، بالرغم من أنها نفت ذلك وأعلنت عبر العديد من المتحدثين أنها تفهم طرح أوباما بخصوص هذه النقطة.[17] وفي هذا الزحام ضاعت الفكرة الوحيدة العملية، وضاع معها حتى الكلام الخـَطابي الآخر.
* 12.
في الفقرات من الحادية والستين إلى السابعة والستين يخوض أوباما في وضع علاج للفكرة التي طرحها في بداية الخطاب، لمن لم يكن قد نسي، عن ضرورة التقارب والاعتراف بالآخر من خلال العمل على المصالح المشتركة، والتخلي عن العداء المسبق ورفض الآخر القائم على صراعات تاريخية، وكذلك أن دخول الحداثة والاقتصاد العالمي لا يعني فقدان الهوية. في هذا الصدد يتناول الاقتصاد والتعليم، داعماً طرحه باستعراض لخطوات عملية أقرتها الإدارة الأمِريكية بالتنسيق مع الدول والمنظمات المختلفة، منها على سبيل المثال:
o دعم التعليم بزيادة المنح وبرامج التبادل والتدريب من أمِريكا إلى الدول الإسلامية والعكس [التدريب في أمِريكا.]
o الاستثمار في التعليم الافتراضي online learning للمدرسين والأطفال.
o افتتاح مراكز للتفوق العلمي في أفريقيا والشرق الأوسط، ودعم الإبداع وإيصاله إلى السوق، وكذلك دعم أبحاث الطاقة البديلة.
o شراكة مع منظمة المؤتمر الإسلامي للقضاء على مرض شلل الأطفال.
والحقيقة أن تقديم هذا العرض نموذجاً لحراك عملي على أرض الواقع أمر جيد، لكنه يؤكد تفسيري في النقطة 1 من أن الخطاب موجه إلى شريحة معينة هي المتعلمين/المثقفين؛ فهذه الهموم جميعها من حديث عن صراع الحضارات والحفاظ على الهوية من جهة، والناشطية activism والحراك على مستوى الأفراد والمشروعات الصغيرة من جهة، ودعم البحث العلمي بهدف التنمية الاقتصادية من جهة، كلها تصب خارج وعاء المواطن المصري البسيط، وربما العربي والإسلامي أيضاً، ببساطة لأن عبء التنمية في العالم الثالث يثقله أكثر ما يثقله توفير الحاجات الأساسية لحياة كريمة، وليس الـoptimisation لأدوات وعمليات الإنتاج الحالية.
لكن مهمة الشريحة المتعلمة/المثقفة هي تمرير هذه العقلية إلى المواطن البسيط من خلال قيامها بالتحرك بحسب ما يتيحه الوضع، وألا يستسلموا للإحباط، وهذا ما يتناوله أوباما في الفقرات التالية إلى نهاية جسد الخطاب في دفعة معنوية، مع التركيز على التخلي عن العقلية المتشككة أو افتراض سوء النية، وتحمل المسؤولية لا إلقاء اللوم على الآخرين كحافز للحراك، مع قسم خـَطابي ديني يؤكد على مبادئ مشتركة بين الأديان الثلاثة.
وأعود إلى لماذا هنروح النار.
لأننا نرفع من قيمة الاعتراف بالآخر مع إسرائيل لحد جعله الحافز الأساسي الذي من شأنه إسالة لعابها مقابل إنهاء الصراع مع الفلسطينيين، وفي نفس الوقت حين يتحدث غيرنا عن قيمة الاعتراف بالآخر نسخر منه.
لأننا نترك لأمثال إبراهيم عيسى المجال كي لا يقرؤوا شيئاً ومع ذلك يثرثرون عما لا يفقهون فيه لمجرد أن معهم قلم أو كيبورد وصحيفة، ولا نفرض عليهم أن يحترموا مهنتهم الهامة أو موقعهم الوظيفي كي يراجعوا كل حرف يكتبونه ويطابقوه على معايير الصحافة الصارمة، سواء صحافة الرأي أو الأخبار، لا أن يطابقوه على ضمائرهم المتفاوتة في السعة. بسببنا نحن تحول هؤلاء إلى أوثان وتماثيل لم يعد قذفها بشيء يؤلم لها وعياً أو ضميراً، وبسببنا نحن طفت أناس عقولها كبركة مغلقة تتزاوج فيها البكتيريا من بعضها البعض فلا تعرف جديداً ولا تبقي وافداً.
ولأننا لا نريد العمل على استخلاص النقاط الإيجابية من أي تصريح أو إعلان سياسي، وليس بالضرورة هذا الخطاب بعينه بالرغم من ندرته وأهميته ومنصب من ألقاه، ونفضل الإمساك بتلابيب التفاهات من طراز ما فعلته وزارة الخارجية المصرية، أو الحديث عن أن أوباما كان والده مسلماً وتنصَّر مثلما فعل، ويفعل، نموذجي المفضل للغوغائية الساخرة إبراهيم عيسى، الشغوف ببتر الجمل من سياقها ليضعها في ’إفيه‘ حلو.
لأننا لا نحب أن نتعب قليلاً ونضع كل جملة في سياقها الذي نراه أكثر دقة قبل أن نعلق عليها. ولأننا بكل ما سبق نمارس بغضنا لأنفسنا حد الانتحار العقلي.
هذه محاولة متواضعة للفهم وتسليط الضوء. فلنقل أني أحاول اتقاء النار، أو أنظر بشزر إلى ابن عيسى الذي لا يؤثر فيه لوم لائم!
وعلى أية حال فهناك مختصون في مجالي النقد والتحليل يسكنون الـthink tanks المزودة بمراكز المعلومات يقومون بما هو أفضل في هذا الصدد.
ـــ
[روابط المصادر على الموقع]
[1] The White House - Press Office: Remarks by the President at Cairo University, 6-04-09.
[2] Republican Ranting: Barack Obama: Bitter Pennsylvanians “Cling to Guns or Religion.”
[3] مصراوي: فهمي هويدي يكتب عن أسباب رفضه حضور لقاء أوباما.
[4] الدستور - إبراهيم عيسى: أسمرنا أجمل من أسمرهم!
[5] لم أستخدم ’صليبي‘ لأني لا أقصد الحروب الصليبية، بل الحروب لأجل نشر عقيدة وطمس ما سواها.
[6] الدستور - إبراهيم عيسى: وعليكم السلام.
[7] الدستور - إبراهيم عيسى: أسمرنا أجمل من أسمرهم!
[8] الدستور - إبراهيم عيسى: وعليكم السلام.
[9] Haaretz - Aluf Benn: For Netanyahu, settlements are harder than Palestinian state.
[10] Ibid.
[11] Ynetnews - Roni Sofer: Netanyahu 'determined to show world he is not against peace'
[12] هناك الكثير عن هذا الموضوع في الإعلام الإسرائيلي، وكذلك حديث صائب عريقات إلى قناة العربية في السابع من حزيران/يونيو 2009.
كذلك من هاآرتس: [1|2|3]
ومقالات يورام إتينغر في يديعوت أحرونوت مؤخراً كلها تقريباً، مثل هذا.
وأيضاً من يديعوت أحرونوت: [1|2|3|4]
وجزء من هذا المقال الطريف لسايمون تيسدالي في الغارديان، أقتبس منه:
اقتباس:خفة دعم أعضاء الكونغرس المؤيدين لإسرائيل، والذين اقتنعوا بحجة أوباما بأن إنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في الصالح الأمني الأمِريكي، جعل نتنياهو يترنح، بحسب مراقبين. "باحثاً عن ثغرات واتفاقات خفية [من تلك] العديدة التي كانت مع واشنطن، يتوه نتنياهو في الموقف الموحد غير المعتاد [للخطاب السياسي الأمِريكي حيال المستوطنات.] (...) توجه نتنياهو حانقاً إلى أحد زملائه قائلاً: "ماذا يريدون مني بحق الجحيم؟"
[13] The Ettinger Report - Yoram Ettinger: Israel Is Not A Banana Republic.
[14] العربية.نت: نصر الله: إيران مستعدة لتسليح الجيش اللبناني بالطائرات والصواريخ.
النشرة (عن الأخبار): فيلتمان لمسؤول سوري: أخشى بحال فوز حزب الله عودة الاغتيالات إلى لبنان
سي إن إن بالعربية: بايدن: فوز حزب الله قد يعني خفض المساعدات للبنان.
[15] في النهاية أثر طرح حزب الله الانتخابي على الناخب الماروني الذي يتخوف من جر لبنان إلى حرب جديدة فآثر الابتعاد عن حليف حزب الله ميشيل عون، الذي فاز تياره بعشرين مقعداً ربعها نالها بالصوت الشيعي في الجنوب والصوت الأرمني، وهو ما توافق وتقديرات حلفاء عون التي توقعت له الفوز بستة عشر مقعداً فقط بجهوده الذاتية.
[16] قناة النيل للمعلومات: الخارجية تنتقد وصف أوباما للأقباط في مصر بـ (الأقلية)
الأقباط الأحرار: وزارة الخارجية المصرية : تعرف الهايف منين قالك ييجى فى الهايفة ويتصدر.
[17] نفس المصدر + مصراوي: الكنيسة المصرية تحتج على وصف أوباما للأقباط بالأقلية.
وتكذيب الخبر: المصري اليوم: الأنبا مرقس: لم أعترض على وصف أوباما للأقباط بـ«الأقلية».. ونصلى لله أن يحقق ما تضمنه خطابه.