الزملاء الأعزاء هالة .. علي نور الله .
تحية طيبة .
تابعت حواركما الخصب و هو بالقطع في صميم الموضوع المطروح و يثريه .
ليس سرا أني أتفق مع مداخلة الزميلة اللامعة هالة ، و لو كانت لي إضافة فهي إضافة عامة ، و لهذا سأستعرض في هذه المداخلة بعض إستخدامات نظرية التناقض المعرفي ، مركزا على موضوع الحوار بينكما .
من أهم مميزات نظرية التناقض المعرفي عموميتها ،و بالتالي قابليتها للتطبيق في مجالات متعددة ، و بهذه العمومية ظلت النظرية فعالة و مؤثرة في العلوم الإجتماعية حتى اليوم ، هذا لا يعني أنها لم تواجه بالنقد المعتاد الذي تواجهه كل النظريات العلمية ،و لكن هذا النقد أدى إلى تطوير النظرية حتى أصبحت القاعدة التي بني عليها كثير من النماذج التطبيقية ، فمن الجدير بالملاحظة أن النظرية لم تترك بحالتها العامة ، و لكنها كانت الأساس لصياغة عدد من النماذج القياسية ( البراديم . paradigm ) التي تستخدم لفهم و تفسير ظواهر معرفية و سلوكية في مجالات و أنشطة متعددة ، ومن أهم نماذج تطبيق النظرية التي خضعت للتجارب الميدانية قضايا هامة مثل :
1- صدمة عدم تحقق المعتقدات الأساسية ( كما هو الحال في الظاهرة التي يدور حولها مداخلة الأخ علي نور الله ) ، و هذا التناقض واضح للغاية في ثقافتنا العربية رغم أنه لا يحدث الصدمة المفترضة نتيجة حالة من التبلد المعرفي ، هناك زخم من حالات صارخة تعبر عن الظاهرة مثل تناقض صورة الكون في المعتقدات التراثية مع صورته التي تتكشف لنا من منظور العلوم الحديثة ، وهناك أيضا التناقض بين الواقع المتخلف و التعالي الأجوف على الآخرين و عقائدهم .
2- أيضا تستخدم النظرية في فهم ما يحدث عندما يتخذ الأفراد و الجماعات قرارات هامة ، مثال لذلك الإنتقال الفجائي من النظم الإشتراكية و الشمولية إلى نظم ديمقراطية ليبرالية ، في هذه الحالة سوف تتضخم أهمية المعتقدات التي تتناقض مع خياراتنا،و تنكمش المعتقدات المتوافقة مع تلك الخيارات!.
3- التعامل مع الجهود المبذولة في أنشطة حيوية و تقدير جدواها .
4- تفسير ما يحدث للأفراد و الجماعات التي تقوم بأنشطة مناقضة لمعتقداتها و إتجاهتها الأصلية ، و يمكننا ان نلاحظ ذلك في مجتمعنا أيضا ، فالتخبط سيصبح متجذرا في الممارسات الديمقراطية في المجتمعات الأصولية التي لا تؤمن بالحريات الشخصية ،و ذلك عندما تجبر هذه المجتمعات على تبني النسق الغربي الليبرالي ، فالغربي مثلا لن يفهم كيف يتخلى المصري طوعا عن حريته السياسية و يجيرها لصالح مرشد الإخوان أو أمير الجماعة الإسلامية أو آباء الكنيسة القبطية ، و لكن هذا النموذج سيلقى ضوءا عميقا في صميم تلك الممارسات الغير عقلانية .
خلال هذا الشريط سأعرض النموذج القياسي لعدم تحقق المعتقد ، تاركا النماذج الأخرى كي يدرسها من يريد التوسع في فهم النظرية ، مؤكدا أني أعرض تطبيقات النموذج وفقا لرؤيتي و فهمي للموضوع ،و ليس ترجمة للمواد المتوفرة في المراجع الأجنبية و التي تركز على كثير من القضايا الغريبة عن مجتمعاتنا .
النموذج القياسي ( البراديم ) لعدم تحقق المعتقد . belief-disconfirmation paradigm
يبرز التناقض بشكل كبير و ملموس في حالات بعينها ربما يكون أهمها ذلك الذي يحدث عندما يتعرض المؤمنون بعقيدة ما لمعلومات حاسمة تناقض معتقداتهم الأساسية ، في هذه الحالة سيكون من المنطقي أن يتخلى أولئك الناس عن معتقداتهم و بالتالي سيختفي التناقض و الإحساس بالتوتر والقلق الناتج عنه ،و لكن هذا لا يحدث عادة لأسباب متعددة ربما أهمها الحاجة إلى التوافق مع الجموع المغيبة ، عندئذ سيؤدي التمسك بالمعتقد الأصلي إلى سوء فهم أو سوء تفسير عفوي أو متعمد لكل المعلومات الجديدة و المتناقضة مع تلك المعتقدات الموروثة والأثيرة لدى الإنسان ، و لن يكون نادرا أن يرفض الإنسان المصدوم في معتقده كل الحقائق المناقضة لهذا المعتقد مهما كانت صدقيتها بل و ربما ينكرها كلية ، كما هو الحال مع رفض الأصولي المسلم لنظرية التطور البيولوجي ، و غالبا ما يصاحب ذلك كله طلب العون من أولئك الذين يتوافقون معه في معتقداته ، كذلك يحاول أولئك المصدمون إغراء الآخرين على إعتناق تلك المعتقدات التي تكشف زيفها أو حتى إجبارهم على ذلك !.
في الخمسينات من القرن الماضي كانت هناك تجربة شهيرة تابعها عدد من كبار علماء الإجتماع منهم فيستنجر صاحب النظرية و آخرون ، هذه التجربة تناولت متابعة أعضاء طائفة دينية في أمريكا تؤمن بنبوءة لإمرأة مشعوذة تقول بأن هناك فيضان قادم سيغمر أمريكا بسبب ذنوبها و في توقيت حددته ، بطبيعة الحال إنقضى التوقيت ولم يحدث شيء ، لاحظ العلماء أن أفراد الطائفة الذين كانوا منفردين استسلموا للحقيقة و تخلوا عن أفكارهم السابقة ،و لكن من كانوا مجتمعين رفضوا التسليم بالحقيقة ،و نشروا نبوءة جديدة لنفس السيدة المشعوذة تفيد أن الرب قد أجل عقابه بسبب وجود تلك الجماعة حسنة النية ،متزامنا مع تلك الدراسة لاحظ المراقبون أن الجماعة التي كانت تبشر proselytize بعقيدتها بشكل معتدل قبل عدم تحققها ، إندمجت في نشاط تبشيري محموم بعد ذلك عكس أي توقعات .
ربما كانت واقعة صلب السيد المسيح واحدة من أهم حوادث التاريخ و أشدها تأثيرا ،و على نفس المستوى كانت الواقعة من أبرز نماذج التناقض المعرفي في التاريخ كله ، كان التعذيب الوحشي و الألم الصاعق و الإحساس بالضياع السياسي ، مضافا إليه ما شعر به يسوع من الكراهية و العنف و الضعة التي يرسخ فيها البشر ، كل هذا إضافة إلى نبل يسوع و جلال مقاصده ، كان عاملا حاسما لتحول واقعة الصلب إلى زلزال عصف بالمشاعر الجياشة للبشرية كلها ، من جانب آخر سنجد أن تلك الواقعة تتناقض مع ما استقر من معتقدات منتسبي الأديان السامية الكبرى الثلاث . فاليهود الذين أدركوا ضعتهم و ضياعهم أمام طوفان المؤمنين بيسوع الناصري كمسيح منتظر ، لجأوا لكافة الحيل كي يتخلصوا من الجريمة ، فهم يشككون في كون يسوع الناصري هو نفسه المسيح الموعود ، متخذين من واقعة صلبه ذاتها دليلا على كذبه ، فهم يعتقدون أنه لو كان يسوع الناصري مسيحا ما قتل ، وتلك هي الحيلة الثانية وهي إضافة المزيد من المعتقدات المتوافقة ( الكذب و الهرطقة ) مما يفوق وزن المعتقدات المتناقضة ( قتل رجل أصبح إلها معبودا )، في المقابل رفض المسيحيون الأوائل فكرة صلب المسيح وموته كنهاية لمعبودهم الناصري ، وهكذا ظهرت نبوءة المسيح بعودته التي لم تتحقق ، فعندما نجح بطرس في إقناع يسوع الناصري أنه المسيح المنتظر ،و أن حتى الموت لن يقهره و أنه سيعود ليحكم العالم إلى الأبد ، كل ذلك مع عبادة أتباعه له، أدى إلى اقتناع يسوع برأي بطرس ، فأطلق نبوءته الشهيرة بأنه سيعود بينما سيكون هناك بعض معاصري صلبه أحياء ، و عندما مر 1000 عام دون ظهور المسيح ، انتظر الناس ال 1000 الثانية ،وهم الآن ينتظرون ال 1000 الثالثة بلا ملل ، و كلما مر الزمن بدون عودة المسيح زادت الثقة في عودته ، فهذا التناقض جزء من معضلة الإيمان و العقل البشري ، في المقابل كانت واقعة الصلب تحديا كبيرا لنظرية إنتصار الأنبياء في الإسلام الذي يعترف بيسوع كنبي و رسول ، كانت هزيمة المسيح و قتله مصلوبا الإستثناء الوحيد في القاعدة ، و واضح أنه سيكون هناك تناقض لا يمكن تجسيره بين الإنتصار الحتمي للأنبياء و هزيمة المسيح حتى رغم إنتصار رسالته ، وهنا يظهر الحل الثالث وهو تعديل المعتقدات المتناقضة حتى تصبح غير متناقضة ،و لهذا يقترح الإسلام حلا بديلا بل و يصر عليه كيقين و هو أنه رغم أن الصلب تم بالفعل و شاهده الناس ، و لكن لم يكن المسيح هو المصلوب بل شبه إلى القوم فقط أنهم صلبوه ، فهنا تدخل الله بقدرته و رفع المسيح إليه ، فالرب الذي أتى بالمسيح خلال المعجزة أنهى حياته بمعجزة أخرى !.
هناك مثال آخر لأزمة التناقض المعرفي واضحة في الحل الذي قدمه الأخ علي نور الله للكوارث الطبيعية كافيضانات و الزلازل و البراكين و غيرها ، فهو يتبنى الحل السحري بأن الرب يعاقب عبيده العصاة ،و لكنه لم يفسر لنا لماذا يختار الإله عادة الفقراء و الأطفال و المرضى و الضعاف ليعذبهم ،و هل لا يجيد الإله الرماية فلا يصيب بعذابه سوى من يحتاج إلى الرحمة ؟.
(08-27-2009, 06:53 AM)neutral كتب: حمدا للألهة على عودتك ياأستاذ بهجت.
الآلهة ترعى نادي الفكر دائما بوجودك و بكل أصدقائنا من لاعني الآلهة .

المجد للإنسان في حربه الأبدية ضد الصدفة العمياء و الأقدار الحمقاء .