Array
[center]حواشي المسيحي ابن المحرومة على كتاب اليهودي ابن كمونة نموذج لرحابة صدر البيئة البغدادية في القرن السابع
د.محي الدين اللاذقاني
[/center]
تقاتل العالم في سبيل التوابل الى ان كاد يفني بعضه، وان كنت لا تصدق، فهذه ولاية «كجرات» الهندية، حيث مرابط قوارب البحار العربي احمد بن ماجد شاهدة على ان الحروب هناك بدأت للاستيلاء على طرق التوابل، ثم جاءت الاحقاد العرقية والدينية والطائفية التي يخبو أوارها لكن جمرتها لا تموت، فهذا الاسبوع وحده سقط في الشرق الاوسط والهند خمسمائة قتيل في آخر موجة من حروب الهندوس واليهود والمسلمين.
هذا في الشرق اما على الجانب الغربي من العالم فقد كانت الاحقاد مطعمة بالقهوة والهيل، فنصف معارك القرون الوسطى كانت بين الاتراك والايطاليين والشعبان يصنعان أفضل قهوة في العالم ونصفها الثاني قادته القوات الاسبانية في اميركا اللاتينية، حيث فنزويلا والبرازيل تنتجان افضل انواع البن.
ولا تصلح طرق التجارة وبضائعها كوقود للحروب إلا بعد ان تطعمها ببعض الافكار والاطماع المؤدلجة. فالناس بعد المرحلة البدائية الصريحة صاروا يخجلون من القول انهم يغزون للسلب والنهب والسبي، والتمتع بالقهوة والتوابل، فاخترعوا بعض المعادلات لتبرير عدوانيتهم وجشعهم، وكانت العقيدة على الدوام السبب الجاهز لتحرك الجيوش والاساطيل وهذه تتحرك فارغة او ببعض الغواني والبحارة لتعود محملة بالذهب والتوابل والعاج والبن والعبيد.
ان هذه الافكار وامثالها لا بد ان تلح الحاحا مريبا على كل من يزور كنيسة القديس مارك (سان ماركو) في فينيسيا، فالذهب هناك في كل مكان وعلى السقف والحيطان ثروة ذهبية وفنية لا تقدر بثمن، ومعظم الثروات باستثناء لوحات عصر النهضة أتت من خارج ايطاليا، وعادت بها الاساطيل من بلاد الآخرين، فمأثرة فينيسيا انها حيدت حروبها الداخلية، وقضت على فتنها، وواجهت العالم بشكل مهيب ومتماسك، فلما جاء عصر النهضة كانت مع روما العاصمة المثالية لاحتضان بذور التحول، ولاستيعاب الجدل الفكري الذي بدأ حامي الوطيس ثم هدأ حين اكتشف البشر في حلبات الصراع في روما وفينيسيا وقرطاج ان العضلات ليست الوسيلة الوحيدة لتسوية الخلافات.
* ملاحظات محقق
* ومع جدل الافكار ينشط حوار الأديان، فالدول الواثقة من نفسها تسمح بحرية العقائد، وممارستها وتدرك ـ إلا في ما ندر ـ استحالة الدفاع عن لون واحد للتوحيد، وبشكل موحد «يونفورم» من اشكال الحياة.. هكذا كان الحال في الاندلس في عصر ازدهار الحضارة العربية الاسلامية وكذلك كان في فينيسيا في أوج قوتها، وتزيد الحضارة الاندلسية على مثيلاتها في انها اعطت في حواراتها وحياتها الفكرية والفنية مكانا لليهود في حين عجزت فينيسيا عن ذلك وظل شايلوك اوروبيا حتى العصر النازي والفاشي على ايام هتلر وموسوليني هو النموذج الامثل لليهودي الجشع الذي لا يهمه الا مراكمة الذهب تاركا للآخرين القهوة والتوابل والحوار.
ودعك من فينيسيا وروما والاندلس، واسمح لي ان اذكرك على سبيل التداعيات ـ وما اكثرها تحت سقف القديس مارك ـ ان بغداد التي تئن من وطأة الصوت الواحد منذ قرون كانت في فترة من الفترات عاصمة مثالية للجدل الفكري، وحوار الأديان وقد بدأ ذلك في عصر المأمون واستمر بعده عدة قرون، وحين جاء المغول لتلك العاصمة العربية ساهموا عن غير قصد في اثراء حوار الاديان لانهم لم يتبنوا قبل اسلام «إلخاناتهم» أية عقيدة فأحس المجتمع العلمي لذلك العصر بالراحة لذلك الموقف وكثرت جدالاته وسجالاته الشجاعة، فحين يكون الحاكم على دين الحكومة وحدها يسهل على الآخرين التعبير عن مكنوناتهم دون خوف من قمع او فقدان مصالح وامتيازات.
ومن سجالات تلك الفترة البغدادية اخترت لكم كتابا نادرا صدر عن سلسلة التراث العربي المسيحي في عز اشتعال الحرب الاهلية اللبنانية، وكان صدوره ـ آنذاك ـ تذكيرا ضمنيا بحسنات الحوار باللسان بدلا من حوار الكلاشينكوفات لكن أين من يسمع ومن ينتبه حين يتراجع العقل، وتصبح الغرائز العدوانية سيدة الموقف والقرار بين النخبة والرعاع على حد سواء.
والكتاب المشار اليه هو حواشي ابن المحرومة على كتاب تنقيح الابحاث للملل الثلاث لابن كمونة «وقد حققه وضبط حواشيه المطران حبيب باشا عن مخطوط نادر من القرن الرابع عشر تحتفظ به مكتبة الانجيليكا في روما».
اما مؤلف الكتاب فهو ابو الحسن ابن المحرومة وانظر كيف تتداخل الاسماء الاسلامية والمسيحية منذ تلك العصور السحيقة، وابن المحرومة كاتب نصراني من ماردين التي كانت بحكم قربها من انطاكية تعتبر نفسها مسؤولة عن حماية التراث المسيحي المشرقي منذ قرارات مجمع خلقدونيا. وغير هذه المخطوطة لا نعرف له مساهمات سجالية أخرى، وهو باعتراف المحقق ليس قمة فكرية بين كتاب المسيحية الشرقية، ولا يقاس بابن قرة وابن عدي، وبولس الانطاكي وغيرهم من فرسان حلبات الحوار بين العقائد والاديان، وفرسان المعارك الفكرية والادبية.
ويأخذ المطران حبيب باشا على ابن المحرومة اسلوبه التهكمي التهجمي الذي لا يكتفي بنقد الافكار، بل يصل الى نقد المؤلف ليصفه بالاعمى والسكران والمصاب بالجنون والانفصام وهو أسلوب ابعد ما يكون عن الذوق، وآخر ما يحتاجه من يبحث عن مناخ صحي لحوار العقائد والاديان.
ان الشرط الاول للحوار كما ينص على ذلك القدماء هو «الأهبة للصمت والاصغاء الى الغير من حيث هو غير» وهو شرط لم يتحقق عند ابن المحرومة المسيحي لكنه تحقق عند ابن كمونة اليهودي ابن البيئة البغدادية الذي صار كتابه عن الملل الثلاث باعتراف المطران حبيب «من اندر ملتقيات الفكر الديني التليد، استطاعت فيه الديانات التوحيدية الثلاث الافصاح عن هويتها والنطق بلسان حالها كل بموجب عبقريتها واساليبها الخاصة»، وهذا غيض من فيض مما شهدته البيئة البغدادية ـ تصوروا ـ من رحابة صدر وتسامح.
وقد كان الفيلسوف اليهودي سعد بن منصور بن كمونة تلميذا لابن سينا والطوسي وله عشرات المصنفات الفلسفية منها رسالة في العقليات، ورسالة في بقاء النفس و«الكافي الكبير في الكحل» و«التنقيحات في شرح التلويحات»، وهو شرح لكتاب السهروردي المقتول بقلعة حلب وكتابه الاصلي باسم «تلويحات في المنطق، والحكمة» وقد اكتشفت من خلال ما كتبه يوسف رزق الله غنيمة عن يهود العراق وجود تلخيص لفلسفة ابن كمونة في مخطوط لمحمد رضا الشبيبي عنوانه «فلاسفة اليهود في الاسلام» نصح مؤلف كتاب «نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق» بنشره، ولا اعرف ان كانت هذه الرغبة قد تحققت ام لا يزال المخطوط يرقد متململا في الادراج عند ورثة الشبيبي.
* خبر ابن الفوطي
* وكتاب «التنقيح» وهو اختصار للاسم المطول «تنقيح الابحاث للملل الثلاث» من الكتب التي يمكن ان تصف اصحابها ـ رغم عدم موافقتهم الرأي ـ بالشجاعة، فليس سهلا ان تكتب عن اليهودية والمسيحية والاسلام وتنجو من التهم العظام، وهذا عين ما حصل مع ابن كمونة، ففي كتاب «الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المئة السابعة» لابن الفوطي نقرأ في اخبار سنة 683 هجرية ما يلي:
«وفيها اشتهر في بغداد ان عز الدولة بن كمونة اليهودي صنف كتابا سماه «الابحاث عن الملل الثلاث» تعرض فيه بذكر النبوات، فثار العوام، وهاجوا، واجتمعوا لكبس داره وقتله فركب الامير تمسكاي شحنة العراق، ومجد الدين بن الأثير وجماعة الحكام الى المستنصرية، واستدعوا قاضي القضاة والمدرسين لتحقيق هذا، وطلبوا ابن كمونة فاختفى واتفق ذلك اليوم يوم جمعة، فركب قاضي القضاة للصلاة، فمنعه العوام فعاد الى المستنصرية، فخرج ابن الاثير ليسكن العوام، فاسمعوه قبيح الكلام، ونسبوه الى التعصب لابن كمونة والذب عنه، فأمر الشحنة بالنداء في بغداد بالمباكرة في غد الى ظاهر السور لاحراق ابن كمونة، فسكن العوام، ولم يتجدد بعد ذلك له ذكر، واما ابن كمونة فإنه وضع في صندوق مجلد وحمل الى الحلة وكان ولده كاتبا بها فاقام اياما وتوفي هناك...».
ولم تكن حواشي ابن المحرومة على كتاب التنقيح لابن كمونة بشجاعة الاصل، فقد عرف ما جرى لمؤلف الكتاب الاصلي وكان يعيش في ماردين التي يحكمها بنو أرتق وهم شديدو التعصب وربما كانت مخاوفه في مكانها فبعد حواشيه بثلاثين عاما ألف مواطنه دانيال ابن الخطاب المارديني كتابا في الجدل الديني بعنوان «في اصول الدين» فاستدعاه الطاهر الأرتقي والي ماردين وأمر بجلده، وجره في الشوارع بطريقة لا تليق باللصوص فما بالك بالمفكرين.
ومن آيات نقص الشجاعة عند ابن المحرومة انه قصر حواشيه على اليهودية والمسيحية وتناسى الفصل الاساسي في كتاب ابن كمونة وهو الاسلام، وفي تلك العصور، وغيرها يجب ان تجد للمفكرين اعذارهم فهم بين مطرقة الدول التي تعاملهم سلفا كخارجين على القانون وسندان العامة التي لا تفهم افكارهم، وترد عليهم بديماغوجية فظة وجاهلة. دون ان تفهم الكثير مما عنه يتحاورون، ويتشاجرون.
وكي نتعرف على اسلوب ابن المحرومة الحاد في الرد والنقاش وهو ما اخذه عليه كما اسلفنا محقق الكتاب المطران حبيب باشا سنكتفي بمثال واحد، فالمؤلف، وبعد ان ينتقد فهم اليهود للشكليات وتحريمهم بطبخ اللحم باللبن في حين ان النص الموسوي في التوراة الاصلية لم يحرم غير طبخ الجدي بلبن امه ينتقل الى الجوهريات لينتقد نسخ اليهود للفرائض على السماع، وهي مرحلة وصل اليها بعد ان نفى عن كتاب اليهود بعد مرحلة بختنصر والسبي البابلي صفة التواتر ليصل الى القول بأن اسفار العهد القديم الحالية المتداولة بين الناس على مختلف دياناتهم هي غير التي اتى بها نبي الله موسى، وهو بذلك يرد الطعنة لابن كمونة الذي اثبت في كتابه امكانية النحل والتبديل في بعض الاناجيل التي نقلت شفاها عن الحواريين.
يقول ابن المحرومة في معرض النسخ العقائدي غير المنصوص عليه كتابة: «ولا ينفع النسخ ابدا إلا في الفرائض السمعية لا غير وحيث قد لزم اليهود نسخ بعض فرائض التوراة السمعية لزمهم نسخ شريعتهم حتما لأن العقل السليم يحكم بأن انتفاء البعض يستلزم انتفاء الكل، ومثال ذلك ان العشرة اذا انتفى منها واحد انتفت عشريتها قطعا، والصادق اذا كذب مرة واحدة انتفى صدقه، والعفيف اذا زنى مرة واحدة انتفت عفته والثقة اذا سرق مرة واحدة انتفت ثقته وامثال ذلك كثيرة، واذ قد ثبت نسخ بعض الشريعة الموسوية ثبت بواسطة ذلك نسخها لزوما، فبطل قول من يجحد نسخها، وصح قول من يدعي نسخها».
ولن ندخل في مسألة الناسخ والمنسوخ فهي من اعقد الابحاث في تاريخ الديانات كلها، ومعظم الذين يخطئون في فهم الاسلام يشكل عليهم استيعاب ناسخه من منسوخه والمشكلة ذاتها في الموسوية والعيسوية وهذا ما اعاق حوار الاديان والتقريب بين المذاهب في جميع البلدان والعصور، وعند مختلف الاجيال التي اشتغلت على علوم اللاهوت.
ان حروب القهوة والتوابل سهلة المقدمات ومعروفة النتائج، وقصيرة الاجل، فابعادها النهائية تتوضح مع بروز قوة مسيطرة تشرب قهوتها وتبهر طعامها المسروق وهي تمد اقدامها بارتياح، وهذا نادرا ما يحدث في حروب العقائد والاديان التي تستمر دهورا ثم تكمن انتظارا لجولة جديدة دون ان يكون فيها منتصر، او مهزوم، وفي النتيجة فالكل مهزومون ما لم تلتق ديانات التوحيد على كلمة سواء، وتتمهد امام اتباعها سبل الحوار بدل الحروب والنزاعات المسلحة، فالحب خير من الحرب، والدين لله، والارض لجميع الشعوب، وبإمكانهم ان يصنعوا عليها جنات ارضية تسعدهم جميعا اذا اقتنعت روما الجديدة بذات ما اقتنعت به روما القديمة، وهو ان من اخذ بالسيف بالسيوف يؤخذ، وان البشرية لا تتقدم إلا بتكريس مبادئ المحبة والحوار واحترام جماليات التعدد والاختلاف كي تصبح حياة البشر كقوس قزح او كزهور الطبيعة، اسماء عديدة، ونكهات، وصفات غزيرة، وما لا يحصى من الروائح والطعوم، والألوان. [/quote]