تقرير / ناظر المدرسة اللبناني الذي صار مليارديراً... وعاد فقيراً مديوناً
صلاح عزّ الدين... الرجل الذي أفلس الطائفة !
|بيروت - من محمد بركات|
بدأت قصة صلاح عز الدين، التاجر اللبناني الشيعي، ابن بلدة معروب ( قضاء صور في الجنوب)، الذي أعلن إفلاسه قبل أسبوع، في خبر سرّبته مصادر خاصة الى صحيفة «السفير» اللبنانية القريبة من «حزب الله».
واكتفت الصحيفة اللبنانية، في خبرها الأولي صباح الواحد والثلاثين من اغسطس الماضي، بالقول انّ «عز الدين موقوف حالياً لدى المباحث المركزية التي باشرت في التحقيق معه تحت إشراف القاضي سعيد ميرزا»، وأنّ «مصدرا مطلعا على وقائع هذه القضية كشف أنّ الملف بات بحوزة القضاء وهو الذي سيحدد إذا كان إفلاس عز الدين احتيالياً أم تقنياً».
بعد ساعات أذاعت محطة تلفزيون لبنانية أنّ «حزب الله» اعتقل عزّ الدين قبل أسبوع من تاريخ نشر الخبر، وحقق معه، قبل أن يسلّمه إلى السلطات القضائية في لبنان. ونُشر في أكثر من وسيلة إعلامية لبنانية وعربية أنّ عزّ الدين اعتُقل في المطار، حين كان يهمّ بمغادرة الأراضي اللبنانية، هرباً من إفلاسه، أو ربما ليلحق بالأموال التي نقلها من حسابات آلاف المستثمرين، إلى حسابات خاصة به في دول غربية. لكنّ لم تتأكد صحة هذه المعلومات من أيّ مصدر قضائي علنيّ، سوى «المصادر القضائية الخاصة»، وهي لعبة تلجأ إليها بعض الصحف اللبنانية لتمويه اشاعات وأحيانا لنشر «أخبار» حقيقية، لكن مأخوذة عن عاملين في الجسم القضائي، يسمعون ما يدور في أروقة التحقيقات، من دون معلومات أكيدة.
جريدة «الأخبار» الأكثر قرباً من «حزب الله»، نشرت بعد يومين من إعلان الخبر تحقيقاً سريعا ذهبت كاتبته إلى أن «لا تاريخ دقيقاً يقدّم لبدء عمل عزّ الدين في استثمار أموال الآخرين، لكنه يعود لبضع سنوات فقط إلى الوراء. ويقال إن الحاج صلاح لم يكن يوافق على استثمار الأموال من أيّ كان، بل كان الأمر يحتاج إلى واسطة أحياناً، خصوصاً أنه يتعامل بمبالغ كبيرة».
ونقلت «الأخبار» عن تاجر على اطلاع على بعض أعمال عز الدين، تقديره بأن «يكون ما حصل ضربة كبيرة ناجمة عن سوء تقدير لأرباح مشروع معين. لكنه يستبعد الرقم الذي ذكر في وسائل الإعلام: لا أعتقد أن الرقم يتجاوز الـ650 مليون دولار».
ولم تذهب كاتبة التحقيق أبعد من «دار الهادي» للطباعة والنشر، الذي يملكه عزّ الدين في الضاحية الجنوبية لبيروت، ولا اتصلت بمسؤولين في «حزب الله» وردت أسماؤهم في وسائل الإعلام على أنّهم استثمروا مدّخراتهم الخاصة، بمبالغ خيالية أحيانا، لدى الموقوف. ومن هؤلاء النائب في كتلة «حزب الله» حسين الحاج حسن، الذي كان أوّل من تقدم بدعوى جزائية، بواسطة وكيله المحامي أشرف الموسوي، بجرم «شيك بلا رصيد واحتيال»، وكُتب في أكثر من مكان أنّه استثمر أكثر من مئتي ألف دولار، الأمر الذي لم ينفه حتى الساعة.
هكذا تعاطى الإعلام القريب من «حزب الله» كأنّ الأزمة عابرة. هي التي قال أحد وزرائه بأنّ تداعياتها ستكون أشدّ وقعا وأكثر تدميرا من تداعيات الحرب الاسرائيلية على لبنان، وتحديدا على الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب اللبناني في العام 2006.
تعامل هذا الإعلام بحذر كبير، يدلّ على حجم «التقاطع» و«التداخل» الكبيرين بين الحزب والموقوف المتهم بالإفلاس الاحتيالي والإفلاس التقصيري وإعطاء شيكات بلا رصيد. إفلاس قد لا يكلّفه أكثر من ثلاث سنوات في السجن، وسبع سنوات كحدّ أقصى.
ولم يشأ «حزب الله» عبر اتصالنا بالجهات الاعلامية فيه، التعليق على هذه القضية وتفاصيلها، رافضاً توضيح ما لدينا من معلومات او الرد على ما يكتب يومياً عن علاقة الحزب بهذا الموضوع.
هذا الرفض، إلى جانب الرغبة الحزبية في الابتعاد عن الموضوع وعدم الخوض فيه في شكل مباشر، وترك الأخبار تهبّ على ألسنة الثرثارين ومطلقي الاشاعات، يلقي المزيد من الضوء على الموضوع في الشارع اللبناني، والشيعي في شكل خاصّ، من دون اغفال أن الخبر تصدّر نشرات أخبار الفضائيات العربية، إلى حدّ استقبال ضيوف ومحللين على شاشات كبيرة، مثل «الجزيرة» و«العربية»، حتى ان «الحدث» وصل إلى الصحافة البريطانية التي اهتمت بالموضوع في شكل خاصّ.
واهتمام الصحافة الغربية والاسرائيلية بهذا الخبر يؤشر إلى عمق المشكلة وإلى آثارها الكبيرة المنتظرة. وهي آثار خطيرة يراهن عليها «العدوّ»، ويتخوّف منها «المحب»ّ.
ويروي أقرباء مقرّبون جداً من عزّ الدين، وأحدهم كان يعمل معه في شكل مباشر ويومي، إنّ الموقوف كان قريباً جداً من قيادييه في الحزب، الأمر الذي كان يثير غيرة مسؤولين كبار ومعروفين في الحزب، والكلام للقريب عائليا ووظيفياً.
ويكشف هذا القريب أنّ «القياديين حين علموا بضائقة عز الدين الكبيرة، قبل اسابيع من توقيفه طلبوا من القياديين التوجه بالدعاء إلى الله ليفرج همّه ويهوّن عليه مصائبه».
ويكشف هذا القريب أنّ عدداً من قيادات الصف الأول في «حزب الله» وصلت بهم «الغيرة» من عزّ الدين إلى «الفرح» الكبير بـ«سقوطه». رغم أن العشرات، وربما المئات، من هذه القيادات، وظفت ملايين الدولارات في شركاته، من نواب ووزراء وصولا إلى الأفراد العاديين.
ويضيف أنّ قياديين في الحزب قالوا لزوّار قصدوهم طالبين «فهم» ما جرى، و«التوّسط» لقريبهم الذي كان يغمرهم بلطفه وأمواله وعطاءاته ان «القضية قضيته الشخصية». لكن حين سئلوا عن إمكان تعويض الحزب على من أفلسوا، كما عوّض على من دمّرت بيوتهم وأرزاقهم في حرب يوليو 2006، فهم سعاة الخير أنّ «لا إمكان لطلب أموال من إيران هذه الأيام، بسبب الظروف السياسية الصعبة التي يمرّ بها النظام الإيراني نتيجة الخلافات في الشارع بين المحافظين والإصلاحيين».
من أين لكم كلّ هذا؟
أما في الشارع الشيعي فإنّ «الخبر» تدرّج صعودا في تراتبية الاهتمامات اليومية ومازال. وفي حين قُدّرت الخسائر الإجمالية بأكثر من مليار دولار في نهاية اغسطس الماضي، مع تقدير عدد المتضررين بأكثر من عشرة آلاف عائلة، فإنّ هذه الأرقام بدأت تتراجع مع تقدّم سير التحقيقات، لترسو على أقلّ من 500 اسم... حتى الآن، خسرت ما يوازي نصف مليار دولار.
وغالبية المتضررين هم من قيادات «حزب الله» ومن مسؤوليه، والباقون من القريبين منه أو من أنصاره، على ما يقول مقرّبون من عزّ الدين، ما يؤشّر إلى أزمة عميقة قد يعانيها الحزب في الأيام الآتية: «الحزب مفلّس مثل عزّ الدين هاليومين»، يقول قريب الموقوف.
ولأنّ الأمور على هذا المنوال، فإنّ انتشار الخبر وتفاعله يحتّل حيّزه الأكبر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي بعض قرى الجنوب التي تحتوي على نسب أعلى ممن وظّفوا أموالهم لدى عزّ الدين. وهو «حديث الساعة» في معظم منازل الضاحية والجنوب. إذ تكاد لا تخلو قرية من مستثمر أمواله لديه.
وكانت ردّات الفعل الأولى بدأت بالنكران، اذ رفض كثيرون تصديق أنّ عزّ الدين، الذي سمّاه البعض «حريري الشيعة»، يمكن أن يفلس هو الذي لا يمرّ يوم من دون أن يسمع المطّلعون على أخباره وعطاءاته أنّه ساعد هذا المحتاج أو أطعم ذلك الفقير، أو كسا هذا المسكين، أو داوى ذاك المريض.
وبعد أيام، وعقب انتشار الاشاعات كالنار في الهشيم، بدأ البعض يتحدثون عن إمكان أن يكون «الحاج صلاح» محتالا سرق أموالهم كما فعل كثيرون من قبله. لكن المقرّبين منه ظلّوا «متأكدين» من أنّه «رجل صادق وإفلاسه ليس احتياليا».
ولاحقاً، بدأ عدد كبير من الشيعة يتساءلون: «من أين للنواب والوزراء والقيادات في حزب الله كلّ هذه الأموال؟» ومن الأسئلة أيضاً: «كيف لنائب لا يتعدّى راتبه سبعة آلاف دولار شهريا أن يوظّف مئات آلاف الدولارات غير ما احتفظ به وغير أملاكه غير المنقولة من بيوت في الضاحية والجنوب ومن سيارات وغيرها؟».
طبقة جديدة... تبخّرت
أسئلة كثيرة فتحها إفلاس عزّ الدين، الذي يقال إنّه كان وراء إحداث «نقلة نوعية» في «اللايفستايل» في الضاحية تحديدا. فقريبون منه يؤكدون أنّه لم يبدأ في استثمار أموال من آخرين غير شركائه إلا قبل سنوات: «ربما قبل حرب يوليو أو بعدها».
فقبل العام 2006 كان عزّ الدين قد لاح في سماء الطائفة الشيعية اللبنانية رجلا أثرى بطريقة شبه مجهولة. واللازمة التي تتردّد على ألسنة المحيطين به والمستثمرين لديه أنّه كان «يتاجر بالحديد والنفط والألماس والذهب» وأنّ « الأزمة العالمية وانخفاض أسعار الحديد والنفط ساهما في إفلاسه». لكن لا شيء واضحا.
المؤكّد أنّ العائدات التي كان يوزّعها على المستثمرين لديه ساهمت في نشوء «طبقة جديدة» من الأغنياء، أو ربما «طبقة وسطى جديدة»، في أوساط الشيعة. وهي طبقة بدأت ترتاد المطاعم والمقاهي بدل السهر في المنازل، وصارت السيارات الحديثة الطراز شغلها الشاغل، وبات لكلّ أسرة أكثر من سيارة و«رانج»، يقودها الأولاد والوالدة وليس الوالد فقط. كما انها طبقة صار ينظر إليها عدد كبير من أبناء الضاحية نظرة: «من أين لك هذا؟».
وتعليقاً على هذه الظاهرة الجديدة التي بدأت تشهدها شوارع الضاحية بعد حرب يوليو، كتب المحلل السياسي الأقرب إلى «حزب الله»، في جريدة «الأخبار»، ابرهيم الأمين، أنّ «أبناء المنظومة الاجتماعية للحزب واجهوا اختباراً قاسياً بعد حرب يوليو، وهو اختبار رافق فوضى التعويضات عن آثار الحرب المدمرة، حيث اختفت فجأة وفي يوم واحد، كل الحسابات المنطقية والواقعية، وكل أنواع التواضع في الحياة ومتطلباتها، وغادر كثيرون موقع المضحّي بالحياة الدنيا الفانية، وصاروا يتطلبون نمطاً من الحياة، ونمطاً من الاستهلاك لا يتوافق أبداً مع واقعهم، ولا مع مستوى تطورهم الثقافي والاجتماعي، ويتناقض مع كل الطقوس التي تسيطر على حياتهم الاجتماعية، وعلى فنونهم واهتماماتهم، وصاروا يريدون التمظهر بطريقة لا يمكن القول إنها غير مشروعة، بل هي حق لكل من يرغب، ولكنها في حقيقة الأمر تتناقض ومبدأ التضحية والزهد من أجل قضية تتطلب التضحية بالدم والبشر قبل الحجر».
وتحدّث الأمين عن «التناقض لدى أنصار حزب الله أو ما سمّاه «بيئته الاجتماعية، التي ترفض التعامل مع المصارف لأنّ الفائدة محرّمة، في حين تقبل بفوائد تزيد على خمسين في المئة من دون السؤال عن مصدرها»، وقال: «المثير للاستغراب أن ترفض بيئة متديّنة ومتمسكة بالأصول والشرائع، لعبة القطاع المصرفي التي تخالف القواعد الشرعية من خلال منطق الفوائد الحرام، ثم تلجأ البيئة نفسها لتبرّر حصولها على أرباح وصلت إلى حدود 40 في المئة عن أشغال مجهولة يقوم بها الرجل، ليتبيّن أنها من جملة الأشغال التي تأثرت بالأزمة العالمية الأخيرة، وهذه الأزمة قامت أصلاً في لعبة البورصة ومتفرعاتها، أي إنه في نهاية المطاف، فإن من رفض منطق الفائدة وفق التعريف المصرفي، قبل بها وفق منطق آخر، ولكن بالآليات نفسها».
على أيّ حال، فإنّ هذه «الطبقة الجديدة» في البيئة الاجتماعية لـ «حزب الله» أثرت من تعويضات حرب يوليو، تلك التعويضات التي يبدو أنّ جزءا كبيرا منها ذهب إلى شركات عزّ الدين. والطبقة هذه انكمشت في الأيام الأخيرة. فقد بدأ كثيرون ببيع سياراتهم الباهظة الثمن، والكلفة أيضا، من حيث «مصروف البنزين». والمقاهي والمطاعم التي بنيت لاستيعابهم، خصوصا بعد إقفال الوسط التجاري ذات «الشبهة الحريرية»، باتت شبه خالية، رغم أن سيرتها السهر حتى الصباح في شهر رمضان المبارك.
قصص وروايات
أحد المستثمرين من أبناء مدينة صور كشف أنّ «معظم المستثمرين من بلدات يارون والعباسية ومعروب ودير قانون النهر وطورا ومن سكان الضاحية الجنوبية». وفي هذا الإطار اعلن مستثمر آخر أنّ عزّ الدين كان «يعطي المستثمرين قبل حرب يوليو2006 فوائد لا تتعدى نسبتها 25 في المئة من الأرباح، لكنّ هذه الفوائد ارتفت ووصلت إلى أكثر من 70 في المئة في العامين 2006 و2007 مع ارتفاع أسعار النفط والحديد. ثم تراجعت هذه النسبة إلى أقل من 50 في المئة في العام 2008 بعد الأزمة المالية العالمية».
هذا الكلام يؤكده مستثمر آخر، يروي أنّ عزّ الدين «تأخر خلال العام الماضي أكثر من مرة في سداد الفوائد، وكان التأخير الأكبر الشهر الماضي، وحينها بدأت الهمس يتحوّل إلى كلام»، وهو في طريقه ليتحوّل إلى صراخ في الآتي من الأيام مع تسارع وتيرة التحقيقات القضائية.
وبات القاصي والداني يعلمان أن بلدة يارون الجنوبية هي الأكثر تضررا، ويمكن تشبيهها بـ«بنت جبيل» في حرب يوليو 2006 إذ «عادت أكثر من 100 سنة إلى الوراء»، على ما يقول أهلها. هم الذين تقدّر خسائرهم الإجمالية بأكثر من 150 مليون دولار. والمعروف أن أبناء هذه القرية هم من أغنى أغنياء الجنوب كون الجزء الأكبر منهم من المغتربين الناجحين في أعمالهم في الخارج.
ويتداول أهل الجنوب حكاية مزارعة ستينية أودعت قبل أسبوعين «تحويشة عمرها» لدى أحد مكاتب عزّ الدين، لتكتشف بعد أيام أنّه أعلن إفلاسه، فضاع «شقى العمر» بين ليلة وضحاها.
لكنّ معظم المستثمرين حصّلوا، من الأرباح، أكثر من نصف ما دفعوه. وبالتالي عدد كبير ممن خسروا مئة ألف دولار على سبيل المثال، حصلوا على خمسين أو ستين ألفا من الأرباح، فتكون خسائرهم أقلّ بكثير مما يدّعون.
وتذهب تقديرات بعض العارفين بـ«حجم» أعمال عزّ الدين إلى أنّ تداعيات إفلاسه أصابت نحو ثلاثين في المئة من شيعة لبنان. والإصابات البالغة هذه تزيد أضرارها عن أضرار حرب يوليو، لجهة الكمّ والنوع. فهي أعطاب غير قابلة للإصلاح، حيث أنّ لا من يعوّض ولا من يحزنون.
كيف صار رجل المليار؟
لا أحد يعرف أين بدأ عز الدين وكيف بدأ، وكيف تحوّل ناظر المدرسة إلى ملياردير. الرواية التي انتشرت تفيد أنّه بدأ في نهاية الثمانينات من القرن الماضي في إدارة حملة للحج والعمرة، ثم انفصل عن شريكه وأسس حملة مستقلة، هي «حملة باب السلام»، التي بلغت نجاحا كبيراً.
قبلها كان «الحاج صلاح»، المولود العام 1962 مجرّد ناظر مدرسة، هو الذي يحمل إجازة في العلوم السياسية، والذي نشأ كأيّ شاب شيعي نموذجيّ عاش السبعينات والثمانينات، فكان قريباً من حركة «أمل» ومن أجواء «حزب الله». بعدها ترك المدرسة وتفرّغ لأعماله التي راحت تكبر وتزدهر.
ثم راح يفتتح مصانع للحديد في أوروبا، ويتاجر بالألماس والذهب عبر أفريقيا، ويفتتح مكاتب للمضاربة بالبورصة في عواصم أساسية، وغيرها من المشاريع المجهولة، لكن تلك التي تزيد أرباحها بقدر ما تزيد إمكانات الخسارة فيها.
لم يثرِ عزّ الدين قبل العام 2000 يمعنى أنّ ثروته لم «تطف» على من حوله قبل هذا العام. فبعد تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي بدأ صيته يذيع كفاعل خير وحاتم طيّ.
ولم يبدأ في استثمار أموال الآخرين إلا قبيل حرب يوليو2006 وفي حدود ذلك التاريخ صار يوزع المساعدات الغذائية والمالية على المرضى في قريته وبدأ في تأمين فرص عمل للشبان العاطلين عن العمل وراح يوزع الأموال... إذ تعيش عشرات العائلات على مساعداته الشهرية في معروب.
ويقال إنّه كان، في حال وفاة فقير في القرية، يتكفل بنفقات الدفن والعزاء. وقد بنى ملعبا لكرة القدم في معروب بمواصفات حديثة قبل عامين، وحسينية قبل أربعة اعوام. وكان يساعد من يقصدونه، حتى قيل إنه يحمل حقيبة مليئة بالأموال يوزع منها المال على المحتاجين يومياً...
كلّ ذلك إلى أن سمّاه بعض الظرفاء بـ «ميدوف اللبناني»، نسبة الى رجل الاعمال اليهودي الاميركي الذي قام باكبر عملية نصب وخداع في تاريخ البشرية.
يبقى أنّ عزّ الدين متزوّج من ابنة شقيقة القيادي في «حزب الله» هاشم صفي الدين، القريب من الأمين العام لـ «حزب الله» على ما يقول أقرباؤه من دون تأكيد من الحزب، علماً ان صفيّ الدين يوصف بأنه أقوى المرشّحين لخلافة نصر الله.
وكان صفيّ الدين أطلق الموقف الأكثر قساوة تجاه عز الدين قبل يومين، حين قال إنّ «حزب الله تعرّض للخداع من قبله طوال25 عاماً»، كلام فسّره البعض بأنّه «تبرّؤ» من عزّ الدين، حتى لا ينصب جام الغضب الشعبي على «حزب الله».
«الراي» في معروب مسقط الملياردير... المنكوب:
الضحايا تحولوا «هيئة محلفين» دفاعاً عنه
جنوب لبنان - من كامل جابر:
تخيم هيبة الانتظار على العديد من القرى الجنوبية التي دخلت أسماؤها في قضية صلاح عز الدين، من خلال استثمار العديد من أبنائها، من أصحاب الرساميل الضخمة أو حتى المتدنية في المشاريع التجارية «المبهمة» للملياردير الشيعي، والتي يبدو أنها ذهبت «هباء منثوراً» في قضية إفلاس الرجل ومؤسساته. وكأن من «تورط» في هذه التجارة ذات الارباح الطائلة التي وصلت إلى حدود الأربعين في المئة ينتظر «غيثاً» ما، ربما يعوّل فيه على تدخل «حزب الله» الجهة التي يحسب عليها رجل الأعمال عز الدين، لإعادة ما خسروه أو تعويض أجزاء منه.
لكن اللافت في الأمر، أن غالبية المتضررين ورغم خسائرهم المعلنة أو غير المعلنة، لم يقرروا حتى الآن أن يدخلوا في أي مواجهة معلنة مع الرجل، إن من خلال القضاء والمحاكم، أو حتى من خلال التفوه بأدنى كلام قد يسيء إلى سمعته أو بالحد الأدنى، اتهامه بالاختلاس أو التقصير أو حتى المغامرة بأموالهم. بل ما زالوا يصرون على ثقتهم فيه والتحدث مطولاً عن مزاياه «الإنسانية وألأخلاقية» و«تسويق» قضيته وكأنه وقع ضحية مؤامرة ما قد يكون لـ «الموساد» الإسرائيلي ضلع فيها.
في معروب، مسقط صلاح عز الدين، التي نعمت بالكثير من «عطاءاته» في تقديمات اجتماعية ومساهمات في بناء الملاعب والمكتبات ودور العبادة، وكذلك في مخصصات مالية للعديد من المعوزين والفقراء، يبدو جميع الناس هناك كـ «هيئة محلفين» مدافعين، وليسوا كضحايا، وهذا ينسحب حتى على من له في ذمة الرجل مبالغ جنى العمر ومخصصات تعويض نهاية الخدمة وأملاك باعوها ليستثمروا فرادى وجماعات، (إذ ان المبلغ الأدنى للدخول في لعبة تشغيل الأموال لقاء نسب عالية، لا يتدنى عن مئة ألف دولار كوحدة أولى)، ما جعل العديد من أصحاب المبالغ المتدنية يشكلون وحدة مالية من مئة ألف دولار يديرها واحد يوزع هو نسب الأرباح حسب قيمة المشاركة.
ثمة حزن يخيم على معروب البلدة التي تعد نحو خمسة آلاف نسمة، ويشارك أكثر من 200 شخص أو «عائلة» منها، في تشغيل أموالهم مع صلاح عز الدين. وقلوب وعقول أهلها نصفان: نصف يتحسر على ما خسروه من أموال والنصف الآخر على «كارثة» صلاح عز الدين وما حلّ به من أزمة مالية ضخمة. ويقول علي عز الدين: «قلوبنا حزينة على ما حل بالحاج صلاح، فهو له أياد بيضاء في كل القرية وايام عدوان يوليو 2006 وقف إلى جانب أهله ووزع عليهم مبالغ تساعدهم في محنتهم وتخفف عنهم آلام التهجير والتدمير».
محمد جواد دبوق يضع صلاح عز الدين «في الصفوف الأولى من خلال تعامله في مختلف القضايا، خصوصاً في المسائل الاجتماعية والإنسانية وتعاطيه المتواضع مع أهله وأبناء بلدته».
دبوق كان يعمل في شركة «جلول» وقبض تعويض نهاية الخدمة ووضعه بين يدي ابنته وصهره من أجل تشغيله في مؤسسات عز الدين «أنا لو راح المبلغ عليّ، رغم حاجتي له، فلن أقول إلا: الله يسامحه. لهذا الرجل كثير فينا وبيننا، ولن نتخذ أي إجراء قد يضر به حتى لو خسرنا أموالنا». لدبوق نحو 15 مليون ليرة (نحو 10 آلاف دولار) ولابنته أكثر من عشرين مليوناً. أما صهره فرج موسى فله لوحده 25 ألف دولار «يقول صهري: لو راح المبلغ كله لن يقوم بأي تحرك قد يضر بالحاج صلاح أو يسيء إليه وسيسامحه بهم».
يتحدث أبناء معروب عن العديد من أبناء البلدة والجوار الذين كانوا يشغلون أموالهم في مؤسسات عز الدين، عن أنهم خلال الاعوام التي وصلت إلى حدود العشر، حصلوا على أرباح تتفوق على المبالغ التي كانوا يستثمرونها «واحد من أبناء صور كان يشغل مئة وخمسين ألف دولار مع الحاج، وما ربحه حتى ألآن يفوق مئة وسبعين ألف دولار أميركي»، على ما يقول «أبو وسام» وهو أحد أبناء معروب الذي يؤكد أن «من المستحيل أن يشتكي أحد على الحاج صلاح، في معروب ومن خارج معروب».
ويطالب علي عز الدين بالإفراج عن الحاج صلاح «من أجل إتاحة الفرصة أمامه لحل هذه المشكلة»، ويقول: «أنا على يقين من أنه سيحلها، لأن من الله معه، لن يتخلى عنه».
ويبرر بعضهم لصلاح عز الدين أنه لم يكن يسعى من خلال كل التقديمات التي ساهمت في تعزيز القرية في الميادين الدينية والاجتماعية والرياضية «إلى منصب ما، بل كان زاهداً في المناصب، ولم يفكر أن يترشح للنيابة مع أنه كان مقتدراً وعلى علاقات واسعة مع المرجعيات العليا، مع السيد حسن نصرالله (أمين عام حزب الله) ومع الرئيس نبيه بري (رئيس مجلس النواب) ومع كل الناس». كما يقول دبوق.
ثمة كلام حذر يلخص به رئيس بلدية معروب المحامي حسين فنيش الوضع القائم في البلدة بعد إعلان قضية صلاح عز الدين «الوضع مبهم جداً ويلفه الغموض والناس حيارى، يتحسرون على أموالهم من جهة، وقلقون على الحاج صلاح من جهة ثانية. الناس يعانون من عذاب نفسي وفي الوقت نفسه لن يتجهوا نحو إدانة الحاج صلاح. وإذا كان الكلام عن تدخل محتمل لقيادة حزب الله من أجل حلّ الأزمة والمشاركة في التعويض على الناس، فهذا قد يخفف عنهم».
ويلفت إلى أن «المودعين» من أبناء معروب في حالة ترقب وخوف، وتقدر المبالغ التي لهم بنحو خمسة ملايين دولار أميركي «وهم من المودعين الصغار، يسألني الناس عن الوضع وأجزم أن هناك تورطاً مالياً، وحجم المال هو الذي يصنف الورطة. التحقيق لم يزل في بدايته ولم تتأكد فرضية وجود إفلاس احتيالي أو تقصيري. الإفلاس المالي واقع، والرقم الأعلامي المتداول اي نحو مليار و290 مليون دولار أميركي، أما الرقم السياسي فيتردد أنه لا يتعدى 500 مليون دولار أميركي. فالأرقام التي تطرح تشمل مجموع الأعمال والمشاريع أو مجموعة الإيداعات، والغموض يعزز الاجتهادات والشائعات، وفي رأيي انه ما دامت التحقيقات في القضاء، فليترك له تحديد الأسباب».
ويعلل فنيش هذا الغموض «بالطابع السري للتحقيقات التي ليست أمام محكمة مدينة لتحديد الإفلاس، إنما في المباحث الجنائية ذات الطابع السري والإباحة فيها ممنوعة». ويضيف: «التحقيقات ستكشف ما سبب التعثر المالي وإذا كان مرده لسوء الإدارة أو للدخول بمشاريع من دون تقييم ارتداداتها، ومعرفة تاريخ بروز النكسة الأولى وإذا كان ثمة من توجه إلى الشروع في إفلاس تقني أو طبيعي، احتيالي أو تقصيري. ليس هناك من إفلاس قانوني، بل واقعي تتحدث عنه الصحف». ويؤكد أن «عدم توجه الناس للادعاء عليه مرده لأنهم يثقون به أكثر من أي شيء آخر».
ويشير فنيش إلى أن ممتلكات صلاح عز الدين الفعلية والعينية قد تسد ربع الخسائر «إذا لم تتفوق هذه الخسائر حدود المليار دولار». إلى معروب، تؤكد الأخبار أن المئات من أبناء العباسية وطورا ودير قانون النهر والقليلة ومجدل زون وغيرها من البلدات والقرى الجنوبية، خصوصاً في منطقة صور تورطت في إيداعات تبلغ مئات الملايين من الدولارات. وبات معلوماً أن العديد من رجالات السياسية القريبين من حزب الله، ومنهم نواب ووزراء، وأصحاب مؤسسات ضخمة، تورطوا بمبالغ كبيرة، إلى حد يصف العديد من أبناء الجنوب الوضع «بكارثة مالية كبرى أصابت الطائفة الشيعية، من كبيرها إلى صغيرها». لكن ثمة تساؤلاً يطفو على سطح الاستغراب في ظل الترقب والانتظار «كيف لهذه الجهات المؤمن معظمها بالعقيدة الدينية القائمة على «الشرعي» وغير «الشرعي» وتتداول قضايا الحلال والحرام، أن تتورط بهذا الشكل والكم والنوع في تشغيل أموالها بفوائد وأرباح مرتفعة من دون الوقوف على الطريقة التي تشغل بها هذه الأموال، وإذا كانت مشروعة أو غوغائية أو فوضوية؟».
في معروب لم يكن اسم صلاح عز الدين هو الوحيد من البلدة في هذه الأزمة التي أصابت الجنوبيين، فثمة أسماء أخرى قد تصل إلى عدد أصابع اليد، كانت قريبة جداً من عز الدين في مشاريعه وتجاراته ومؤسساته، على نحو حسن فنيش شقيق نائب «حزب الله» محمد فنيش، وصديقه رجل الأعمال يوسف فاعور الذي تؤكد بعض المصادر توقيفه على ذمة التحقيق، فيما لا يعرف مصير رفيقه وإذا كان خارج البلاد أم في داخلها.
http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=154534