عنوان الكتاب: A New Earth
المؤلف: Eckhart Tolle

الفصل الأول
إزدهار الوعى البشــرى
إستنهاض
كوكب الأرض، قبل 114 مليون سنة،
فى إحدى الصباحات قبيل شروق الشمس، تتفتق أول زهــرة على ظهر الكوكب لتستقبل أشعة الشمس. فى الفترة التى سبقت هذا الحدث الكبير، والذى كان تحــولا تطــوريا فى حياة النباتات، كان الكوكب مكسوا بالخضــرة لملايين السنين. ومن المحتمل جدا أن الزهــرة الأولى لم تعمّــر طويلا، ولم تكن الأزهار سوى ظــواهر معزولة حيث أن الظروف لم تكن مهيأة بعد لإنتشارها بصــورة واســعة. وفى يوم ما تحققت الذروة المنشــودة، ثمّ تبعها إنفجار من العطــر والألوان على ظهر الكوكب بكامله، ولكن، بشرط وجود "وعىٌ متلقَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّى"، لكى يشهد على ذلك التحوّل.
بعد ذلك بكثير، كانت تلك الكائنات الدقيقة والعطرة والتى تعرف بالأزهار، مُعدّةً لتلعب دورا أساسيا فى تطور الوعى لفصيلة أخرى من الكائنات. وبشكل متزايد، سيبدأ البشــر فى الإنجذب إليها والإفتتان بها. وبينما بدأ الوعى الإنســانى فى التطــور، كانت الأزهار من أول الأشياء التى نالت التقدير من الإنسان، ولكنه تقدير بلا دوافع منفعية، حيث لم تكن الأزهار ترتبط بغريزة البقاء لدى الإنسان. لقد كانت الأزهار مصدرا للإلهام لعدد لا يحصى من الفنّانين والشعراء والنسّــاك. فقد أخبرَنا المســيح بأن نتأمل الأزهار ونتعلم منها كيف نحيا. ويروى أن "البوذا" أقام قداسا صامتا وفى أثناء ذلك أمسك بزهــرة وحملق فيها كثيرا. وبعد برهة بدأ أحد الحاضرين ويدعى الراهب "ماهاكاسيبا" قى الإبتسام، ويقال أنّ ذلك الراهب البوذى، هو الشخص الوحيد الذى فهم ذلك القداس. وبحسب الأســطورة، فإن تلك الإبتسامة "الناجمة عن الإدراك"، قد توورثت لثمان وعشرين راهباً من الرهبان المتتالين، وأصبحت لاحقا أساسا لعقيدة “Zen” .
إن "إدراك الجمال" فى الزهــرة قد ينبه البشــر - ولو مؤقتا- للجمال الذى هو مكوّنٌ أساسى لكيانهم الداخلى، و لطبيعتهم الحقيقية.
إن "إدراك الجمال" كان أحد أهم الأحداث فى عملية تطور الوعى البشــرى. فالإحساس بالبهجة والحب مرتبطان بشكل جوهرى بذلك الإدراك. وبدون إنتباه كامل منّا، أصبحت الأزهار بالنسبة لنا تعبيرا "بالشكل" عن كيان سامق ومقدّس، ولكنّه "لاشكلى" بداخل كلّ واحد منّا.
الأزهار، تلك الأكثر تنوعاً ولطفاً، والأشد حساسية من سابقاتها من النباتات كانت بمثابة الرسل من عالم آخــر. فقد كانت بمثابة الجسـر بين العالمين "الفيزيائى" و"الميتافيزيائى". فالأزهار لا تملك فقط تلك الرائحة اللطيفة والباعثة على البهجة لدى الإنسان، ولكنها أيضا تحمل العطر من عالم "الروح". وإن جاز لنا أن نستخدم عبارة "أســتنارة" بشكل أوسع مما هو متفق عليه حاليا، فبإمكاننا النظــر للأزهار بإعتبارها "إستنارة" فى عالم النبات، أى "إستنارة النباتات".
إن أى شكل من أشكال الحياة فى أى من العوالم "المعادن، النباتات، الحيوان، الإنسان" يمكن إعتباره قابلا "للإستنارة". وبرغم أن "الإستنارة" عملية غاية الندرة فى الحدوث حيث أنها ليست مجرد عملية "تطورية" بل هى بالإضافة إلى ذلك تعنى إنقطاعا فى عملية التطور الطبيعيّة، وقفزة إلى مستوى مختلف تماماً من "الكينونة" يتميز وبشكل أهم ب"التخفيف من المادية".
ماذا يمكن أن يكون أكثر وزنا وصعوبة على الإختراق من الصخــور، تلك الأشكال الأشد كثافة فى عالمنا؟. ولكن، وبالرغم من ذلك فإن تغيّرات جزيئية فى البعض منها تؤدّى لتحولها إلى صخور بلورية شفافة تسمح للضـوء بالمرور من خلالها. كما أن بعض المواد الكربونية يمكنها تحت ظروف الضغط والحرارة الشديدتين أن تتحول ألى "الماس"، وكذلك تتحوّل بعض المعادن الثقيلة ألى أحجار كريمة.
إن معظم الزواحف – أشد المخلوقات إرتباطا بالأرض – ظلت دون تغيير يذكر لملايين السنين. أما البعض منها فقد تمكن من تحدى الجاذبية الأرضية التى حبسته طويلا وذلك بفضل بروز الريش والأجنحة لديه. وهذه لم تمر بمراحل الحبو ثمّ المشى بل تخطتهما بشكل كامل إلى الطيران.
منذ وقت طويل لا تسعه الذاكرة، ظلت الأزهار والبلور والأحجار الكريمة والطيور تحمل مغزى خاصا لدى الروح الإنسانية. ومثل كل أشكال الحياه، فقد شكّلت دلالات عابرة على حياة كامنة واحــدة، وعلى وعى واحد. إن المغزى الخاص والسبب فى إفتتان الإنسان وتعلقه بتلك الأشياء يعود إلى خاصيتها الأثيرية، أى خاصيّتها "اللطيفة".
وبمجرد توفر درجة معينة من الحضور، ومن الإنتباه السـاكن المتحـفّز فى أجهزة الإستقبال لدى الكائنات البشـرية، فإنّ تلك الكائنات بإمكانها استشعار جوهر الحياة الربانية، والمتمثّلة فى الروح أو الوعى الساكن بداخل كل كائن منها، وبداخل كل شكل من أشكال الحياة الأخرى، وإدراكها كحياة واحدة متحدة مع جــوهر الكائن البشرى، ويحبونها بالتالى كما يحبّون أنفسهم. وحتى يحدث ذلك، فإن معظم البشـر لا يرون سوى الأشكال الخارجية للأشياء، عير منتبهين للجوهر الداخلى لتلك الأشياء، تماماً مثلما أنّهم غير منتبهين لجوهرهم الداخلى أنفسهم، و لايعتبرون أنفسهم سوى أشكال فيزيائية ونفسانية لا غير.
وبالعودة إلى أمثلة الزهرة، والبلورة، والحجر الكريم أو الطير فإن أقل الناس "حضـورا" يمكنه أحيانا الشعور بأن هنالك بعدا أكبر لهذه الأشكال من مجرد وجودها الفيزيائى الظاهر دون أن يدرك أن هذا البعد هو السبب الحقيقى وراء إنجذابه إليها وتعلقه بها. ونسبة للطبيعة الأثيرية الطاغية لتلك الأشياء، فإن أشكالها الظاهرة لم تنجح فى إخفاء الروح الساكنة فيها بالقدر ذاته الذى نجحت فيه أشكال حياة أخرى أشد كثافة فى حجب تلك الروح. إنّ كل أشكال الحياة الوليدة كالأطفال، والجراء، والقطط الصغيرة، والحملان تتميز بالضعف والهشاشة ولم تتعمّق بعد جذورها بعد فى المادية. لذلك، فإن براءة وحلاوة وجمالا مما ليس معهودا فى هذا العالم تواصل الإشعاع من خلالها، وبمقدورها لذلك إثارة الشعور بالبهجة حتى فى أقل البشــر حساسية.
فعندما تكون متيقظا وتبدأ التأمّل فى إحدى الأزهار، أو البلورات، أو الطيور، من دون السماح لتفكيرك بتسميتها، فإنها تصبح بمثابة نافذة لك إلى عالم "اللا أشكال"، وربّما كان بها منفذ داخلى دقيق إالى عالم الروح. وهذا هو السبب فى كون أشكال الحياة الثلاثة هذى لعبت دورا مهما فى تطور الوعى البشرى منذ أقدم العصـور.
فعلى سبيل المثال، لماذا تعتبر الجوهرة فى زهرة اللوتس رمزا مركزيا فى البـوذية؟ ولماذا اعتُبر الطائر الأبيض "الحمام" رمزا للروح القدس فى المسيحية؟.
لقد برزت أشكال الحياة هذه فى طـور تحضير الأرض لمستوى من وعى كوكبى أكثر عمقا كان لا بُدّ منه للجنس البشـرى.
تلك هى "الصحوة الروحية" التى نشــهدها الآن.

الهــدف من هذا الكتاب
هل البشــرية مستعدة لتحــوّل فى الوعى ولعمليّة إزدهار داخلى جذرى وعميق جدا إلى الدرجة التى تُصبح بجانبها عمليّة إزدهار النباتات مهما كان جمالها، ليست سوى إنعكاس باهت؟.
هل بإمكان الكائنات البشـرية التخلى عن الكثافة التى يتميز بها بناؤها العقلى المُكيـَّف مُسبقاً بحيث تصبح مثل البلُّور أو الأحجار الكريمة فى شفافيّتها للضوء الصادر عن الوعى؟.
هل بإمكانها تحدى قوة جذب المادة والمادية والإرتفاع فوق التبعية للأشكال المادية، تلك التبعية التى ساعدت "الأنا" البشريّة على البقاء، وحكمت على الكائن البشرى بالسجن داخل أسوار "شخصيته"؟.
إن الرسالة الأساسية لتعاليم حكماء البشـرية العظماء كانت مؤشّراً على إمكانية مثل هذا التحــول. فالرسـل مثل بوذا والمسيح وآخرين كانوا بمثابة الأزهار الأولى التى تفتّقت فى عُمر البشـرية. لقد كانوا هم المقدِّمات، وكانوا بمثابة كائنات نادرة ونفيسة. إنّما لم يكن بالإمكان فى ذلك الوقت إنتشار الإزدهار بشكل واسع، وذلك لكون رسالاتهم إمّا لم تُفهم، أو أنها تعرضت للتشويه الكبير إلى الدرجة التى لم تُفلح معها فى إحداث تحــوّل حقيقى فى السلوك البشــرى سوى فى قلة قليلة من البشر.
هل البشـرية اليوم أكثر إسـتعدادا لتحوّل فى وعيها مما كانت عليه فى زمان المعلمين الأوائل؟ ولماذا هذا هو الواقع فعلاً؟
مالذى يمكنك فعله لإحداث ذلك التحــول الداخلى أو التسريع من وتيرته ؟
ما هى مميزات حالة الوعى "الأنوى" القديم، و ما هى علامات "الوعى الجديد" اليادئ فى الظهور؟
هذه الأسئله وغيرها من الأسئله الجوهرية الأخرى سيتم تناولها فى هذا الكتاب. والأهم من ذلك أن هذا الكتاب هو بمثابة أداة "تحويلية" ناجمة عن "الوعى الجديد" ،والذى بدأت شمسه فى الإشراق.
إن الأفكار والمفاهيم المطروحة فى هذا الكتاب وإن كانت مهمّة، إلا أنّ أهمّيتها ثانوية. فهى ليست سـوى "علامات طريق" للدلالة على إتّجاه تلك "الصحوة". وبينما تبدأ بالإستغراق فى قراءته، فإن "تحولاً" سوف يبدأ فى الحدوث فى داخلك.
إن الهدف الأساسى من هذا الكتاب ليس إضافة معلومات جديدة أو معتقدات إلى عقلك أو محاولة إقناعك بأى شئ، إنّما الهدف منه هو إحداث تحـوّل فى وعيك فى إتّجاه "الصحوة". وبهذا المفهوم فإن هذا الكتاب ليس كتاباً "مثيرا للإهتمام" إذا كانت تلك العبارة تعنى إستطاعة القارئ أن يحتفظ بمسافته الخاصة، وأن يتلاعب بالأفكار والمفاهيم فى عقله بحيث يتّفق معها أو لا يتّفق. فهذا الكتاب هو عنك أنت بالذات، وسوف يُحدث تغييرا فى حالة الوعى لديك، وإلا أصبح كتاباً بلا معنى.
إنّ هذا الكتاب بإمكانه "إحداث الصحوة" فقط عند أولئك "المهيّأين" لها، وليس عند كل الناس. ومع "صحوة" كل شخص واحد، فإنّ زخم الوعى الجماعى سوف ينمو، مما سيجعل الأمر أكثر سهولة على الآخرين.
إذا كنت لا تعلم المقصود من عبارة "الصحوة" تلك، فعليك بمواصلة القراءة. وعندما تحدث فيك تلك الصحوة، فإنك عندها سوف تدرك المعنى الصحيح للعبارة. أن مجرد لمحة واحدة تكفى لبدء عملية "الصحوة"، وهى عملية غير قابلة للعكس أو للتراجع. تلك اللمحة قد تأتى للبعض فى أثناء قراءتهم لهذالكتاب، أما بالنسبة للعديد من الأشخاص الآخرين، فإن عملية "الصحوة" قد سبق وأن بدأت لديهم على الرغم من عدم إدراكهم لها ،. وهذا الكتاب سوف يساعدهم فى إدراكها.
إن "الصحوة" ربما تبدأ عند البعض من خلال حالات الفقدان أو المعاناه، وقد تبدأ عند البعض الآخر من خلال الإتصال بمرشد روحانى أو قراءة إرشادات روحانية أو قراءة كتاب "قوة الآن" أو أىّ كتاب آخر من الكتب الحية روحانيا والقادرة على إحداث تحــوّل فى الوعى، أو من خلال قراءة أى توليفة من الكتب المذكورة آنفا.
إذا كانت عملية "الصحوة" قد بدأت فيك مسبقا، فإن هذا الكتاب سيعجل من وتيرتها ويزيد من كثافتها.
إن جزأ جوهريا من "الصحوة" يتمثل فى تعرّفك على الجانب "الغير مُستيقظ" في داخلك، ذلك الجانب هو "الأنا"، والتى تفكر، وتتكلم، وتفعل بالنيابة عنك. وكذلك التعرف على عمليات التفكير التى سبقت برمجتها بشكل جماعى، والتى تؤدى لإطالة حالة إنعدام الصحـو. إنّ هذا لهو السبب فى كون هذا الكتاب يتعرّض للمظاهر الأساسية "للأنا" وكيف تفعل فعلها فى الفرد وفى الجماعة، وأهمية ذلك التعرّض تعود لسببين مترابطين:
السبب الأول: ما لم تتعرّف على الآليات التى تعتمد عليها "الأنا" فى عملها، فإنك لن تتمكن من إدراك الأنا خاصّتك، مما سيمكّنها من خداعك وجعلك تعتقد بأنّها -أى الأنا- هى ذاتك الحقيقيّة. إنّ هذا يعنى أن "الأنا" ستُسيطـر عليك بشكل تام، وستكون بمثابة "دّجال" ينتحل حقيقتك.
السبب الثانى: أن التعرف على "الأنا" يُعد أحدى الطرق المؤدّية للصحو. فعندما تُدرك جانب " اللا صحو" فى داخلك، فإن الوعى البادئ فى الإشراق لديك هو ما جعل ذلك الإدراك ممكناً، إنّ ذلك الإدراك هو "الصحوة" بذاتها.
إنك لا تستطيع كسب حرب ضد "الأنا" تماماً كما أنك لا تستطيع كسب حرب ضد الظلام. إن كل ما هو مطلوب لذلك هو الضوء الصادر عن الوعى، وذلك الضوء هو أنت ذاتك ليس إلاّ.

الخلل البشــرى المتوارث
إذا نظرنا بعمق أكثر فى الأديان والمعتقدات الروحانية البشرية الضاربة فى القدم، فسوف نجد أنه وبرغم الإخنلافات السطحية بينها، أن معظمها يتفق فى مفهومين جوهريين. وعلى الرغم من إختلاف الكلمات المستخدمة فى وصف هذين المفهومين، إلا أنهما يشيران إلى حقيقة جوهرية واحدة ذات شقين:
الشق الأول لهذه الحقيقة هو الإعتراف بأن العقل فى وضعه الطبيعى لدى معظم البشر يحتوى على عنصر قوِىّ يمكن تسميته ب"الخلل" أو حتى بِ"الجنون". فبعض التعاليم فى صميم الهندوسية تكاد تنظر نحو ذلك الخلل على اعتباره شكلا من أشكال الداء العقلى الجماعى، فتطلق عليه إسم "مايا" وتعنى "حجاب الخداع". أمّا "راما ماهارشى"، أحد علماء الهند الأفذاذ، فقد أطلق عبارة مفادها أن العقل هو "حجاب الخداع".
البوذيون يستخدمون تعبيرات مختلفة. وبحسب "البوذا" فإن العقل البشرى فى حالته الطبيعية ينتج ما يُعرف بِ “دوكا” أى البؤس والشقاء، ممّا يُعتبر من مميزات الوضع البشرى. فأينما تذهب، ومهما تفعل - كما يقول البوذا –فسوف تجد البؤس والشقاء، وسيتجلّى لك ذلك فى كل الأوضاع إن عاجلا أم آجلا.
وبحسب التعاليم المسيحية، فإن الوضع الجماعى الطبيعى للبشرية هو ما يُعرف بحالة "الخطيئة".
و"الخطيئة" كلمة أسئ فهمُها وتُرجم معناها بشكل خاطئ. وبترجمتها حرفيا من اللغة اليونانية القديمة التى كتبت بها وثيقة "العهد الجديد"، فأن "إرتكاب خطيئة" يعنى أن "الإخطاء فى إصابة الهدف من الوجود الإنسانى”. إنها تعنى الحياة بدون مهارة وبدون رؤية، ممّا يؤدّى لأن يتسبّب الإنسان فى حدوث الشقاء لنفسه ولغيره. ومرة أخرى، فعبارة "الخطيئة"بعد تجريدها من محتواها الثقافى، وبعد سوء الفهم الذى لازمها، تظل تشير إلى "الخلل" المتوارث فى الوضع الإنسانى.
إن الإنجازات التى حققتها البشريه تثير الإعجاب بدرجة لا يمكن إنكارها. لفد حقّقنا نحن البشر آمالا سامية فى الموسيقى والأدب والتلوين والمعمار والنحت. ومؤخرا أدخلت العلوم والتكنولوجيا تغييرات جذرية فى حياتنا ومكنتنا من إنتاج أشياء كانت تُعتبر - حتى قبل مائتى سنة فقط.- من "المعجزات"
لا شك فى أن العقل البشــرى شديد الذكاء، ولكنه ذكاء يتسم بالجنون. لقد ضخمت العلوم والتكنولوجيا من القدرة التدميرية الناتجة عن خلل العقل البشرى وتأثيرها على كوكب الأرض وأشكال الحياة الأخرى وعلى البشر أنفسهم. وهذا هو عين السبب فى أن تاريخ القرن العشرين هو الحيز الأنسب للتعرف على حقيقة ذلك الخلل، وذلك الجنون الجماعى.
وهنالك عامل آخر يتمثل فى أن الخلل البشرى هذا آخذٌ فى التنامى والتسارُع.
لقد بدأت الحرب العالمية الأولى فى عام 1914. كما أنّ حروبا مدمرة وقاسية دافعها الخوف والجشع والرغبة فى السيطرة، كانت من الأعمال الشائعة خلال التاريخ البشرى، تماما كما كان الإستعباد والتعذيب والعنف متفشيا بسبب المعتقدات الدينية والآيديولوجية.
لقد عانى البشر على أيدى بعضهم أكثر مما عانوا جراء الكوارث الطبيعية. وبحلول العام 1914 لم يتمكن العقل البشرى -شديد الذكاء- فقط من إختراع ماكينة الإحتراق الداخلى، ولكنه بالإضافة إلى ذلك، أوجد القنابل والبنادق الآلية والغواصات وقاذفات اللهب والغازات السامة. إنه ذكاء فى خدمة الجنون!.
ففى حرب التحصينات فى فرنسا وبلجيكا دفع الملايين من الرجال حياتهم ثمنا مقابل بضع أميال من التُربة. وعند إنتهاء الحرب فى 1918 أصيب الناجون بالرعب وعدم القدرة على استيعاب حجم الدمار الذى خلفته الحرب. فقد قُتل عشرة ملايين من البشر وأصيب عدد أكبر بالتشوهات والعاهات. لفد كان الجنون البشرى مدمِّرا بشكل من الوضوح غير مسبوق. ولكن القليلين فقط كانوا يدركون أن كل ذلك لم يكن سوى البداية.
وبنهاية القرن، بلغ عدد من لقوا حتفهم من البشر بشكل عنيف على أيدى رصفائهم من نفس الجنس أكثر من مائة مليون. لم يلق هؤلاء حتفهم فقط بسبب الحروب بين الأمم، ولكن بالإضافة إلى ذلك، بسبب القتل والإبادة الجماعية مثلما كان يحدث مع من كانوا يُعتبرون من "أعداء الطبقة، والجواسيس، والخونة" فى الإتحاد السوفيتى فى عهد ستالين أو فى أحداث "الهلوكوست" المروعة فى ألمانيا النازية. لقد تم قتل البشر بأعداد لا حصر لها فى نزاعات داخلية كما فى الحرب الأهلية فى إسبانيا أو أثناء حكم "الخمير الحمر" فى كمبوديا، ذلك الذى قضى على ربع عدد السكان فى ذلك البلد.
إن كل ما نحتاجه لنستدل على أن الجنون البشرى لم تتضاءل حدته بعد، ولكنّه يتواصل حتى فى القرن الحادى والعشرين، هو مشاهدة الأخبار اليومية على التلفاز.
والشاهد الآخر على الخلل البشرى الجماعى هو العنف اللامسبوق الذى يمارسه البشر على أنواع الحياة الأخرى وعلى كوكب الأرض ذاته، مثل تدمير الغابات المنتجه للأوكسجين وتدمير أشكال حياة أخرى على الكوكب، وسوء معاملة الحيوان فى المزارع التابعة للمصانع، وتسميم الأنهار والمحيطات والهواء. وبدوافع من الجشع، والجهل بحقيقة الإرتباط بما هو كُلّى وشامل، فإن البشر يمارسون نوعا من السلوك سيؤدى إذا تواصل دون إنتباه منهم، إلى تدميرهم لأنفسهم.
لقد قامت المظاهر الكلية للجنون الكامن فى صميم الحالة البشرية بتشكيل الجزء الأكبر من التاريخ البشرى، والذى يمكن اعتباره إلى حد بعيد، تاريخاً للجنون. ولو أن تارخ البشرية هو التاريخ الطبى الإكلينيكى لشخص ما، لكان التشخيص بلا أدنى شك هو: "أوهام الإرتياب المزمن، مع نزعة مرضية للقتل وإرتكاب أعمال تتسم بالعنف الفظيع والقسوة ضد من يعتقد هذا الشخص بأنهم أعداءه". وهم –أى الأعداء- ليسوا سوى "لاوعيه" الشخصى ولكن يتمّ إسقاطه نحو الخارج ".
إنه جنون إجرامى متّصل، تتخلله فترات قصيرة من الإفاقة.
الخوف، الجشع، والرغبة فى النفوذ، هى القوى المحركة ليس فقط للحروب بين الأمم والقبائل والأديان والآيديولوجيات، ولكنها أيضا السبب فى الصدام المستمر فى العلاقات بين الأشخاص. وهذه العوامل من شأنها أن تنقل لك صوراً مشوهة عن نفسك وعن الآخرين، ومن خلالها ستقوم بتفسير أى موقف تفسيرا خاطئا ما يؤدى بك للقيام بعمل غير سليم يهدف إلى إبعاد الخوف عنك وإشباع رغبتك فى المزيد، وهذه الأخيرة عبارة عن حفرة لا قاع لها ويستحيل إمتلاؤها.
إن من المهم الإدراك بان الخوف، والجشع، والرغبة فى النفوذ، ليست بذات "الخلل" الذى نتحدث عنه، ولكنّها نتاج لذلك الخلل، وهو عبارة عن "وهم جماعى" مدفون عميقا داخل عقل كل كائن بشرى. وهنالك عدد من التعاليم الروحانية التى تطالبنا بالتخلص من الخوف والرغبة، ولكن تلك الممارسات الروحانية غالبا ما يجانبها التوفبق، ذلك لكونها لم تتجه نحو جذور المشكل. فالخوف، والجشع والرغبة فى النفوذ ليست هى العوامل المسببة للخلل فى حد ذاتها.
أن تحاول أن تكون شخصاً صالحا أو كائنا بشريا أفضل، يبدو عملاً عقلانيا يستحق الثناء، ومع ذلك فهو اجتهاد لن يكتب له التوفيق مالم يكن مصحوبا بتحوُّل فى الوعى فيك، ذلك أن المحاولة فى حد ذاتها ليست إلاّ جزءاً من ذات الخلل، وشكلاً غير ملحوظ من أشكال ترويج الذات والرغبة فى المزيد وتقوية الشخصية المتوهَّمَة والصورة عن النفس.
فأن تكون صالحا لن يتأتَّى بأن "تحاول" أن تكون صالحا، وإنّما بالعثور على "الصلاح" الموجود مسبقا فى داخلك، ومن ثمّ السماح لذلك الصلاح بالبروز نحو السطح، وذلك لن يتأتَّى إلا بتغيير جذرى فى "حالة الوعى لديك".
لفد أبان تاريخ "الشيوعية" –والتى هى فى الأساس نتاج من وحى مثاليات نبيلة- وبصورة واضحة ما يحدث عندما يحاول الناس تغيير مظاهرهم الخارجية -أى خلق أرض جديدة- دون تغيير مسبق فى واقعهم الداخلى -أى فى حالة الوعى لديهم-. إنهم يضعون الخطط دون إنتباه لخارطة البناء التى يقوم عليها الخلل الكامن فى داخل كل كائن بشرى، وتلك الخارطة هى "الأنا" البشرية.
إن هنالك نظرة مشتركة بين معظم الأديان القديمة والتقاليد الروحانية تعتبر الوضع "الطبيعى" لعقولنا مشوباً بخلل أساسى، ولكن من خلال هذه النظرة –والتى يمكن إعتبارها خبراً سيئاً- فى طبيعة الوضع الإنسانى، تنبثف نظرة أخرى يمكن اعتبارها "خبراً جيداً" تتمثّل فى إحتمال التحول الجذرى فى الوعى الإنسانى. هذا التحول الجذرى يُطلق عليه فى الهندوسية وأحيانا فى البوذية إسم: الإستنارة. أمّا فى تعاليم المسيح فيعرف ب"الخلاص". وفى البوذية يُعرف بِ "نهاية المعاناة". وتستخدم عبارات مثل "التحرر" و "الصحوة"أحياناً لوصف هذا التحول.
إن الإنجاز الأضخم للبشرية لا يتمثل فى الأعمال الفنية والعلوم والتكنولوجبا، وإنما يتمثّل فى إدراك البشر للعيب الكامن فيهم وفى إدراكهم لجنونهم أنفسهم. وفى الماضى البعيد، توصل القليل من البشر لذلك الإدراك. فقد كان هنالك رجل يدعى "جوتاما سيدارتا" والذى عاش قبل 2600 عام فى الهند والذى ربما كان أول من توصل إلى ذلك الإدراك بشكل قاطع. وفى ما بعد، أطلق لقب "البوذا" على ذلك الرجل، وهذا اللقب "بوذا" يعنى "المتيقّظ". وفى نفس الوقت تقريباً، كان أحد أوائل معلمى البشرية "المتيقظين"قد بدأ فى الظهور فى الصين واسمه "لاو تسو"، وقد خلف سجلا من تعاليمه فى شكل أحد أكثر كتب الروحانيات تأثيرا بعنوان " تاو تى تشينغ".
إن الإدراك الذاتى للخلل العقلى هو بداية إشراقة العقل السليم، وبداية الإستشفاء وتحقيق التفوق. إنّ هنالك بعداً جديد للوعى بدأ فى الظهور على كوكب الأرض، إنه بمثابة "التفتّق" التجريبى الأول. لقد تحدث أولئك الأشخاص النادرون الأوائل لمعاصريهم. تحدثوا عن الخطيئة وعن المعاناة وعن الوهم فقالوا لهم:" أنظروا كيف تعيشون، شاهدوا ماذا تفعلون، وما تتسبّبون به من معاناة"، ثم أشاروا لإحتمالية الإستيقاظ من ذلك الكابوس الجماعى المرتبط بالحالة "الطبيعية" للبشر . لقد أشاروا إلى طريق الخلاص.
لم يكن العالم مستعدا بعد لهؤلاء القلائل، على الرغم من كونهم جزأ حيويا وضروريا من عملية الصحــو البشرى. وكانت النتيجة الحتمية أن أسئ فهمهم من قِبَل أولئك الذين عاصروهم وكذلك من قِبَل الأجيال اللآحقة. وتعرضت تعاليمهم التى تميزت بالبساطة والقوة فى آن واحد، تعرضت للتشــويه والتحريف الذى كان يحدث أحيانا أثناء تسجيلها كتابةً بواسطة أتباعهم. وعبر القرون، أضيف الكثير مما لم يكن ذو علاقة بالتعاليم الأصلية، وإنما كان إنعكاساً لسـوء فهم عميق لتلك التعاليم. لقد تعرض بعض أولئك المعلمين للإستهزاء والشتم وأحيانا القتل. أما بعضهم فقد رفع إلى درجة التقديس والتأليه.
فقد تم تشويه تلك التعاليم التى هدفت للدلالة على الطريق إلى خارج الخلل العقلى البشرى، وإلى خارج الجنون الجماعى، بحيث أصبحت نفسها جزأ من ذلك الجنون.
وكذلك، فقد أصبحت الأديان إلى حد بعيد، أدوات للتقسيم بدلا من أن تكون قوى للتوحيد. وبدلا من أن تضع نهاية للعنف والكراهية من خلال التأكيد على وحدة الحياة بشكل أساسى، جلبت الأديان المزيد من العنف والكراهية، والمزيد من الإنقسام بين البشر وكذلك بين الأديان المختلفة، بل داخل كل دين عل حدة.
لقد تحولت الأديان إلى أيديولوجيات وإلى أنظمة عقدية يتعرِف الناس على أنفسهم من خلالها وبالتالى يستخدمونها لتحسين شعورهم الزائف بذواتهم. فعن طريقها يستطيعون الشعور بكونهم على "صواب" بينما يبقى "الآخرون" على "خطأ"، وبالتالى يسعون لتكوين هويتهم عبر من يعتبرونهم أعداء لهم، أى عبر أولئك الآخرين "الكافرين" أو "من ليسو على صحيح الإعتقاد". وليس نادراً أن يروا فى قتلهم عدلاً. إنه "الإله" الذى خلقة الإنسان بعقله ووفق تصوره.
أما ذلك الخالد الذى لاحدود له والذى لا يمكن تسميته، فقد تم اختصاره إلى "صنم عقلى" يتوجب الإعتقاد فيه وعبادته على أساس مثل "إلَهى" أو "إلَهُنا".
ومع ذلك .. وعلى الرغم من كل تلك الأفعال غير المتعقِّلة التى ارتكبت بإسم الدين، فالحقيقة التى تشير إليها تلك الأفعال لا تزال تومض فى صميم ذات الأفعال. إنّ الحقيقة لا تنفك تضئ ولو بشكل خافت عبر طبقات وطبفات من التشويه والتحريف. ولكن من غير المحتمل أن تتمكن أنت من إدراكها هناك ما لم تكن بصُرتَ بلمحة من تلك الحقيقة فى صميمك ذاتك.
وعبر التاريخ كان هنالك دائما أشخاص قلائل مروا بتجربة "التحول فى الوعى"، وأدركوا فى قرارة أنفسهم ما تشير إليه جميع الأديان. ولكنّهم لكى يصفوا تلك الحقيقة للآخرين -وهى حقيقة أعلى من مستوى القكر-، فقد لجأوا لإستخدام قوالب "فكرية" لأديانهم.
لقد تطورت عبر هؤلاء الرجال والنساء "مدارس" أو حركات داخل جميع الديانات الرئيسية لم تكن تمثل مجرّد إعادة إكتشاف، ولكنّها مثلت فى بعض الحالات تكثيفا لضوء التعاليم الأصلية، وتلك هى الطريقة التى دخلت بها "الغنوستية" و"الروحانية" إلى حيز الوجود فى المسيحية الباكرة وفى القرون الوسطى، و"الصوفية" فى المنطقة الإسلامية، و"الكابالا" و"الهاسيديزم" فى اليهودية، و"الأدفيتا فيدانتا" فى الهندوسية، و"الزِن" و"الزوقشين" فى البوذية. وكانت غالبية هذه المدارس مدارس"متمردة" أطاحت بطبقات وطبقات من الأبنية العقائدية والمفاهيم المميتة، ولذلك تمّ النظر لمعظمها بعين الريبة والعداوة من قبل مؤسسات الهرم الديني القائمة آنذاك. وخلافا للتيار الدينى العام، فقد أكدت تعاليم تلك المدارس على مسألة تحقيق الذات والتحول الداخلى. وبفضل تلك الحركان والمدارس الباطنية، تمكنت الأديان الرئيسية من إستعادة القوى التحويلية لتعاليمها الأصلية، على الرغم من أن ذلك لم يكن متاحا إلاّ لأقلّيّة فى معظم الحالات، وهى أقليّة لم تكن أعدادها تكفى لإحداث تأثير مهم فى حالة اللاوعى الجماعى العميقة لدى غالبية الناس. وبمرور .الوقت تحولت بعض هذه المدارس ذاتها إلى أنماط ومفاهيم متصلبة إلى درجةٍ أعاقت فاعليتها

الروحانية والدين
ماهو دور الأديان القائمة الآن فى بروز الوعى الجدبد؟
إن العديد من الأشخاص يدركون مسبقا الفرق بين الروحانية والدين. لقد تأكّد لهم أنّ الإنتماء لمنظومة معتقدات -أى مجموعة من الأفكار على اعتبارها الحقيقة المطلقة- لا يجعل منك روحانيا بغض النظر عن طبيعة هذه المعتقدات. والحق يفال أنه كلما ما مثّلَت معتقداتك "هويّة" بالنسبة لك، كلما أزداد البعد بينك وبين البعد الروحانى فى داخلك. لقد علق الكثير من "المتدينين" فى هذا المستوى لكونهم يساوون بين الحقيقة والفكرة. وبينما هم لا يرون هويتهم إلا من خلال أفكارهم (أى عقولهم)، فإنّهم يدّعون بأنهم هم الوحيدون المالكون للحقيقة فى محاولة لا واعية منهم لحماية هويتهم. إنهم لا يدركون محدودية الأفكار. وطالما أنك لا تعتقد (أو تفكر) تماما كما يفعلون، فأنت فى اعتبارهم مخطئ. وحتى وقت قريب، كانوا سيجدون ذلك مبرراً لقتلك، والبعض منهم لا يزال يفعل حتى الآن.
إن الروحانية الجديدة –أى عملية تحوّل الوعى- تبدأ فى الظهور إلى حد كبير خارج أطر المؤسسية الدينية القائمة. لقد كانت هنالك دائما جيوب من الروحانية حتى داخل تلك الديانات التى يسبطر عليها العقل، وذلك على الرغم من أن المؤسّسات الهرمية لتلك الديانات شعرت بالتهديد من قِبَل تلك الجيوب وكثيرا ما حاولت كبتها. إن إنفتاحا روحانيا كبيرا خارج المنظومات الدينية يُعتير تطورا جديدا كلية. ففى الماضى لم يكن ذلك مما يخطر على بال، خاصة فى الغرب حيث الثقافة التى يطغى عليها العقل وحيث كانت الكنيسة تملك الوكالة الإفتراضية على الروحانية. فلم يكن بإمكانك أن تقف لتُلقى حديثا روحانيا أو أن تنشر كتابا روحانيا ما لم تحصل على موافقة الكنيسة مسبقا. ومن دون ذلك فإنهم كانوا يقومون بإسكاتك بسرعة.
أما الآن، فإن علامات التغيير قد بدأت تلوح حتى فى داخل كنائس وديانات بعينها. إن ذلك ليريح القلب ويجعل الإنسان ممتنا حتى لأبسط علامات الإنفتاح مثل زيارة البابا جون بول الثانى لمسجد أو لدير يهودى.
ونتيجة للتعاليم الروحانية التى نشأت خارج أطر الديانات القائمة وكذلك لتدفق تعاليم الحكمة الشرقية القديمة، فقد تمكنت أعداد متزايدة من أتباع الديانات التقليدية من التخلص من الإرتباط بالأشكال والمسلمات ونظم العقيدة المتزمتة، وبالتالى تمكّنت من اكتشاف العمق الحقيقى الكامن فى داخل تقليدهم الروحى، فى نفس الوقت الذى إكتشفوا فيه العمق الكامن فى ذواتهم.
لقد عرف أولئك أنّ مدى كونك "روحانيا" لا علاقة له بمعتقداتك، ولكنه متعلق تماماً بحالة الوعى لديك. وهذا بدوره يحدد الكيفيّة التى تفعل بها وتتفاعل مع الآخرين فى هذا العالم.
إن غير القادرين على رؤية ما وراء الأشياء يصبحون أشد تمترسا فى معتقداتهم، أى "فى عقولهم".
إننا لا نشهد فقط تدفقا غير مسبوق للوعى فى هذا الوقت، ولكنّنا نشهد أيضاً تمترسا أشد وتعاظما أكبر للأنا البشريّة.
وبينما قد تكون هناك بعض المؤسسات الدينية مفتوحة للوعى الجديد، فإن البعض الآخر سيقوّى من وضعه العقائدى، ويصبح بالتالى جزأ من تلك الهياكل التى بناها الإنسان والتى ستدافع "الأنا البشريّة الجماعية" يواسطتها عن نفسها وتشن بها هجوما مضادا. إنّ هناك بعض الكنائس والطوائف والحركات الدينية التى هى فى أساسها كيانات ل"الأنا" الجماعية، وهى على درجة من التعصب لمواقفها الفكرية تماما كما يتعصب أتباع الأيديولوجيات السياسة المنغلقة أمام أى فهم مغاير للواقع.
ولكن "الأنا" مقدرٌ لها الذوبان مع جميع أبنيتها المتحجرة، سواء كانت أبنية دينية أو مؤسسات أخرى أو هيئات أو حكومات، و سوف تتداعى من الداخل مهما بدت تحصيناتها عميقة فى الظاهر. كما أنّ البناء الأكثر صلابة منها وإستعصاء على التغيير هو الذى سينهار أولا. لقد تحقق هذا فى حالة الشيوعية السوفيتية التى بقدرما تحصّنت عميقا ، وبقدرما بدت قوية وصلبة فى الظاهر، فإنها مع ذلك تداعت من الداخل فى غضون سنوات قليلة. إنّ أحداً لم يكن يتوقع ذلك، بل أنّ الجميع أصيبوا بالدهشة. وهنالك الكثير من مثل تلك المفاجآت ما يزال فى الإنتظار.

الحاجة الطارئة للتحــول
عندما تواجهنا مشاكل جذرية، وعندما تفشل الطرق القديمة فى مساعدتنا على أن "نكُون" فى هذا العالم وأن يتفاعل بعضنا مع الآخر ومع عالم الطبيعة، وعندما يكون بقاؤنا مهددا بمشاكل يبدو أنها مستعصية، فإن شكلا من أشكال الحياة –فرديّاً كان أم نوعيّاً- سيكون محكوماً عليه إما بالموت والإنقراض، أو بالإرتقاء فوق محدوديّته عبر قفزة تطورية.
ويُعتقد بأن أشكال الحياة على هذا الكوكب نشأت أولا فى البحر. فعندما لم تكن هناك حيوانات على اليابسة،كان البحر زاخرا بالحياة. ثم وفى نقطة ما، كان لا بد لأحد الكائنات البحرية من أن يغامر بالخروج إلى اليابسة. ربما بدأ ذلك الكائن بالزحف لمسافة بوصات قليلة، وعندما نال منه الإجهاد نتيجة لقوة الجاذبية الأرضية، عاد إلى الماء حيث تكاد تنعدم الجاذبية، وحيث يتمكن من العيش بسهولة أكبر بكثير. ومن ثم عاود المحاولة مرّة تلو الأخرى. وبعد بعد وقت طويل تمكن أخيرا من التكيف على الحياة على اليابسة، وتمكن من إنبات أقدام له بدلا من الزعانف، وتطوير رئه له بدلا من الخياشيم. ويبدو من غير المحتمل أن يجازف أى من الأنواع بالخروج إلى بيئة غريبة كهذه ويبدأ فى تحول تطورى ما لم يجبره على ذلك وضع كارثى حيث كان يعيش. فربما تعرضت مساحة كبيرة من البحر للإنقطاع عن المحيط الأم ثمّ بدأت المياه فى الإنحسار عنها تدريجيا وعلى مدى آلآف السنوات، مرغمة بذلك الأسماك على على مغادرة بيئتها الطبيعية والبدء فى التطور.
والتحدى الذى تواجهه البشرية هو الإستجابة لمشكلة جذرية تهدد بقاءها ذاته. فالخلل الذى يتميز به العقل المدفوع بالأنا البشرية، والذى تم التعرف عليه قبل أكثر من 2500 عام بواسطة معلّمى الحكمة القدماء، وبواسطة العلوم والتكنولوجيا على نطاق أوسع فى الوقت الحالى، هذا الخلل بات يشكل وللمرة الأولى تهديدا حقيقيّاً للبقاء البشرى على ظهر الكوكب. وحتى وقت متأخر، فإنّ تحوّل الوعى البشرى الذى أشار إليه المعلمون القدماء، لم يكن سوى وضع تحقق لأناس قليلين ونادرين هنا وهناك.
وبغض النظر عن الخلفيّات الدينيّة والثقافيّة، فإنّ تفتّقاً واسعاً للوعى البشرى آنذاك لم يكن ليحدث حيث كان يفتقر للأولويّة.
إن جزأ مهما من سكان كوكب الأرض سوف يكتشف قريبا –إن لم يكن قد سبق له ذلك - أن البشرية مواجهة بخيار حاسم: إمّا أن تتطور، أو أن تفنى. وحتى الآن، فإن فئة قليلة نسبيا لكنها تتنامى بسرعة، بدأت تدرك فى أعماقها أُفولاً لأنماط العقل الأنوى القديم، وبروزاً لبعد جديد للوعى.
إن ما يبدأ فى الظهور الآن ليس بنظام عقائدي جديد، كما أنّه ليس بديانة جديدة أو أيديولوجيا أو أساطير روحانية. إننا الآن ندخل ليس فقط نهاية عصر الأساطير، ولكنّنا ندخل أيضا نهاية عصر الأيديولوجيا والمنظومات العقائدية. إن التغيير يمضى إلى ما هو أعمق من محتويات العقل، وما هو أبعد من الأفكار. وفى الحقيقة فإن جوهر الوعى الجديد يتمثل فى تجاوز الفكر, وفى المقدرة على الإرتفاع فوق الفكر -تلك المقدرة التى تمّ اكتشافها حديثاً- وفى تحقيق البعد الداخلى للفرد، وهو بُعد أكبر بدرجة لامتناهية من الفكر. وعندها سوف لن تعتمد فى الحصول على هويتك أو على إحساسك بذاتك، على ذلك التيار اللامنقطع من تفكيرك اللاواعى والذى كثيراً ما تماهيتَ معه وفقاً لمنظومة الوعى القديم.
ما أروعه من تحرر عندما أتحقق من كونى لست بذلك "الصوت الدائر فى رأسى".
فمن أكون إذن؟
إنّنى الكيان الذى "يشهد" على ذلك الصوت، وذلك "الإدراك"السابق للتفكير، و"الفضاء" ذاته الذى تدور فيه عملية التفكير .
أمّا "الأنا" فليست سوى تماهياً مع الأشكال، بمافى ذلك "الأشكال الفكريّة".
فإذا كان "للشر" وجود واقعى -وهو كذلك، ولكنّه وجود نسبي وليس وجود مطلق- فإنّ هذا يندرج تحت تعريف "الأنا" من حيث التماهى مع الأشكال سواء كانت أشكالاً فيزيائية أو فكرية أو عاطفية، ممّا ينجم عنه غياب كامل لإدراك إرتباط الفرد ب"الكل"، ولإدراكه لوحدته بشكل جوهري مع "الآخر" ومع "المصدر" الواحد. وغياب الإدراك هذا -أى "النسيان"- هو الخطيئة الأساس، وهو مصدر المعاناة، كما أنه منبع الوهم ، وهو وهم بالإنفصال التام.
فعندما يُحدّد هذا الوهم معالم فكرى وقولى و فعلى ويتحكم بها، فكيف سيكون شكل العالَم الذى أقوم ببنائه؟
ولكى تحصل على الإجابة على هذا التساؤل، ما عليك سوى ملاحظة الطريقة التى يتعامل بها البشر مع بعضهم، أو اقرأ كتابا للتاريخ، أو شاهد الأخبار على التلفاز هذه الليلة.
وإذا استمرّت تركيبات العقل البشرى على ما هى عليه دون تغيير، فسوف ينتهى الأمر بنا دوماً إلى إعادة إنتاج العالم ذاته، والشرور ذاتها، والخلل ذاته.
سماء جديدة .. وأرض جديدة
عنوان هذا الكتاب مستوحى من نبوءة فى الإنجيل يبدو أنها أصبحت قابلة للتطبيق فى الوقت الحالى أكثر من أى وقت مضى فى تاريخ البشرية. لقد ورد ذكرها فى كل من كتابى العهد القديم والعهد الجديد. وهى تتحدث عن إنهيار النظام العالمى الحالى وظهور "سماء جديدة وأرض جديدة". ونود أن نفهم هنا أن "السماء" ليست مكانا بعينه وإنما إشارة لعالم الوعى الكامن فى الداخل. هذا هو المعنى الباطن للكلمة، وهو ذات المعنى الوارد فى تعاليم المسيح. و على الجانب الآخر فكلمة "الأرض" إنّما تشير نحو "التجلّى الشكلى الظاهر"، وهو دائما دليل على ما فى الداخل.
إنّ الوعى الجماعى البشرى من جهة، والحياة على كوكبنا من جهة أخرى، مرتبطان بشكل جوهرى.
"السماء الجديدة" هى بروز الوعى البشرى المتحوّل، و"الأرض الجديدة" هى انعكاس لذلك الوعى على الوجود بشكله الفيزيائى.
وبما أن الحياة البشرية والوعى البشرى متحدان جوهريا مع الحياة على ظهر هذا الكوكب فى وقت يشهد تلاشى "الوعى القديم"، فإنّ من المحتوم حدوث هزات جغرافية ومناخية طبيعية متزامنة فى مناطق عديدة على كوكب الأرض، وهذا بالتحديد ما نشهد بعضا منه الآن.

مشككككككككووووووووووووووووووووورررررررررررررررررررررر