بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
حدُّ الردَّة من الحدود الشرعية المهمَّة ، وقد قام الإجماع على ثبوته كما حكاه النووي [المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 12 / 413]
وغيره ، وثبت الأمر به وإقامته في أصحِّ الكتب الحديثية ، عند البخاري ومسلم وغيرهما في أكثر من حديث ، و إن حدث خلافٌ بين الفقهاء في تفاصيل هذا الحدّ – كمشروعية الاستتابة قبله وقدرها وسريانه على المرأة من عدمه – إلا أنّه لم يُعهد منكر له منهم ، سوى في هذا العصر المتأخر ، حيث ظهر تحت وطأة الثقافة الغربية و مبدأ حرية التدين ، من يريد إلغاء هذا الحدّ الشرعي ، وتشذيب الإسلام بما يجعله متلائماً مع ما عند القوم الكافرين ، ولا يخفى ما في هذا الموقف وأشباهه من خطرٍ على الدين ، مما يوجب الوقوف بحزم في مواجهة ذلك الاتجاه الشاذ ، والردّ على أصحابه ومتبنيه .
وقد ظهر لهؤلاء المنهزمين من القول الجريء في نفي هذا الحد ، ما فيه تلبيس على ذوي البضاعة المزجاة من العلم ، ولم تسلم أقوالهم من ردود الصادقين ، غير أنَّ مطولات الكتابات من الأبحاث والمؤلفات ، لا تفي بالغرض في حماية صغار القراء ، كروادّ المنتديات ، وقد وُجد لأهل الشبهة والهوى مقالات تنشر في الشبكة ، وبعض المتأثرين بهم صاروا كالأسفنج ، ينضحون بشبههم في المنتديات ، وقد صار لي مع بعضهم مواقف اضطرتني لبحث المسألة ، والكتابة فيها ، مناقشاً الشبهة ، عقلاً ونقلاً ، ودونكم خلاصة ما وقفتُ عليه من شبهات ، مع الجواب عليها :
* قالوا : ( لقد ورد ذكر الردة في القرآن مراراً ، ولم يُرتب عليها حد ، بل اكتفي بذكر العقاب الأخروي ، والتوعد بالنار ، فدل على أن مجرد الردة لا حد فيها ، بل القتل الوارد في السنة يُراد به من انضم لعسكر الكفار ، وخان المسلمين لا مجرد تبديل الدين وهو معنى مفارقة الجماعة الوارد في الحديث ، ولم يثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل مرتد لمجرد الردة )
والجواب :
أنَّ السنة النبوية من مصادر التشريع ، وقد تستقل بأحكام لا توجد في القرآن ، وهي حجة ، ومنكرها كافر بإجماع المسلمين ، و لا تنافي بين ذكر العقوبة الأخروية للردة في القرآن ، وذكر التشريع الدنيوي لها في السنة ، وذلك كالخمر ، التي حُرمت في القرآن ولم يذكر فيه حدّها ، بل جاءت به السنة !
أما قصر الأمر بقتل المرتد على المرتد المحارب فهو باطل من وجوه :
أ – أنَّ المحارب يُقتل بغض النظر عن حال دينه ، فإذ خُصص ذكر ترك الدين عُلم من ذلك أنَّه المراد بذاته .
ب – أنه مخالف لعموم ( من بدّل دينه فاقتلوه ) .
ج – أنه قد ثبت قتل المرتد غير المحارب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – الذي رواه البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن ، ثم أتبعه معاذ بن جبل ، فلما قدم عليه إذا عنده رجل موثق ، فقال : ما هذا ؟ قال : كان يهودياً فأسلم ثم تهود ، ثم قال لمعاذ : اجلس . فقال : لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ( ثلاث مرات ) فأمر به فقتل . رواه البخاري ( 6923 ) ومسلم (1733) وأبو داود ( 3579 ) وغيرهما.
وبهذا الحديث يبطل زعمهم أنه لم يؤثر قتل مرتدٍ في عهد النبي لمجرد ارتداده .
ويحسنُ - في جواب هذه الشبهة - الاعتضاد بكلام عمر رضي الله عنه في البخاري ومسلم : (إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ) والتلبيس الذي قد يقوله من ينكر حد الرجم : أنه يجد الجلد في القرآن ولا يجد الرجم ، وهو أقوى من تلبيس منكري حد الردة ، رغم أن الاثنين ضعيفان و باطلان بقوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ) والله أعلم
* ومن حجتهم : ( الطعن في صحة الأحاديث الواردة في حد الردة ، أو ردها لكونها من أحاديث الآحاد )
والجواب :
أنَّ التشكيك في صحة أحاديث حد الردة محض عبث وباطل ، فقد وردت في أصح الكتب كما سبق ، كما أنَّ ردها بزعم أنها من الآحاد هو من صنيع المبتدعة الذين يلحدون في شرع الله عزّ وجل ، ويتحايلون عليه إذا خالف هواهم ، والآحاد حجة عند أهل السنة بالإجماع ، من الصحابة والتابعين وأئمة السلف ومن قفى أثرهم ، وإنما رَدَّه المعتزلة في أبواب العقيدة إذا خالف عقولهم ، وردُّه في أبواب الأحكام يفضي إلى تعطيل الشريعة والكفر بها ، إذ أنَّ كثير من الأحكام ثابت بالآحاد ، وقد بسطت الأدلة والحجج على وجوب الأخذ بالآحاد واعتقاده والعمل به إن في العقائد وإن في غيرها في كتب أهل السنة ، ومنها كتب أصول الفقه ، ومن الردود على منكريها : كتاب ( قدوم كتائب الجهاد لغزو أهل الزندقة والإلحاد القائلين بعدم الأخذ بحديث الآحاد في مسائل الاعتقاد ) للشيخ : عبدالعزيز بن فيصل الراجحي .
* قالوا : ( إنَّ الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب قد عارضوا حرب المرتدين ، ولو كان حداً شرعياً لما عارضه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم )
والجواب :
أنه لا حجة لهم في معارضة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وبعض الصحابة لأبي بكر ، لأن موضع هذه المعارضة : قتال القوم الذين امتنعوا عن شعيرة من شعائر الإسلام كالأذان أو الزكاة ... وذلك أنَّ من قاتلهم أبو بكر – كما ذكره ابن حجر في فتح الباري – كانوا ثلاثة أصناف :
1- صنف ارتد عن الإسلام بالكلية وعاد مشركاً.
2- وصنف تبع المتنبئين ( مسيلمة والأسود العنسي وسجاح ).
3- وصنف بقي على إسلامه وامتنع عن أداء الزكاة لظنه أنها خاصة برسول الله لا تدفع للولاة من بعده .
ومعارضة عمر إنما كانت لقتال الصنف الأخير فقط ، يدل عليه قوله لأبي بكر – كما في البخاري - : " كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم ؟ " .
فالحديث هنا عن قوم ظاهرهم الإسلام وليسوا من المرتدين ، وقد أجابه أبو بكر رضي الله عنه بقوله : " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه "
ولا شك أن موقف أبي بكر هو الأصوب ، وقد تراجع الصحابة – وعلى رأسهم عمر – عن معارضتهم ، وأجمعوا على أن الحق فيما فعله أبي بكر ، قال عمر رضي الله عنه: " فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق " [ البخاري 6925]
و بالنظر : فإن الصحابة قد بايعوا الرسول على الجهاد وقتال المشركين فكيف يتركونه بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
لا شك أن هذا من أبعد ما يكون عند من عرف صحابة محمد صلى الله عليه ، ورضي الله عنهم.
فمعارضة عمر ليست لحرب المرتدين ، كما أن معارضة الصحابة بالكلية لا احتجاج بها لأنهم رجعوا عنها ووافقوا أبا بكر عن بكرة أبيهم ، وما وقعوا فيه من المعارضة كان سببه النظر في المصلحة حيث يريدون تأخير القتال حتى يعود جيش أسامة ، كما أنهم خشوا من مواجهة العرب بدونه ، إلا أن الله قد حمى أمة الإسلام بعقل كعقل أبي بكر ، الذي قال الرسول فيه : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " وقال : " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر"
* قالوا : ( فُطر كل البشر على التوحيد ، فاعتناق أي إنسان لدين غير الإسلام يُعتبر ردة عن هذه الفطرة ، فيلزم أن يطبق حد الردة على كل من لا يدين بالإسلام )
والجواب :
أنَّ هذه سفسطة لا قيمة لها ، فالفطرة على التوحيد لا تعني وجود التوحيد ، لأن وجوده مرهون بزوال التنصير أو التهويد أو غير ذلك من أديان الشرك .
ثم إن تنصر الطفل عند النصارى ليس رجوعاً عن توحيد حقيقي كان موجوداً ، بل عن توحيد اعتباري كان مفترضاً أن يكون موجوداً لولا نشوء المانع .
ثم إن الاعتبار بالعمل يكون بعد التكليف ، والكافر الأصلي يأتيه التكليف وهو كافر !
ثم إن من لم يظهر إسلامه وارتد لا يقام عليه حد الردة ، لأن الحكم لا يكون إلا بالظاهر ، فمن لم يظهر توحيده من باب أولى!
* قالوا : (الكفر سواء ، كفر بعد إسلام أو كفر بالعادة و التربية أو الاختيار العقلي ؛ فكيف يحكم الإسلام بقتل بعض الكفار عقاباً على كفرهم و يترك بعضهم لا يحكم بقتلهم؟ هذا ينافي كمال العدل الإلهي)
والجواب :
أنّ معنى تساوي الكفر : أن أنواعه في مآلها سواء ، وليس معناه أن الكفار متساوون في كيدهم للإسلام وخطرهم عليه وقربهم أو بعدهم منه، أو في أحكامهم، فهنا يوجد فرق وإن كان واضحاً يعرفه كل مسلم!
فاليهودي والنصراني ليسا كمثل المشرك في الحكم ، ولا شك أن الكافر بعد إسلامه أشد كفراً من الكافر الذي لا يعرف الإسلام ولم يدخل فيه ، وهذا الحكم معروف بالعقل وبالشرع ، والعدل الإلهي أبعد الناس عن فهمه من لم يقرأ القرآن والسنة وجعل عقله حاكماً على العدل الإلهي ، والعقل لا يدرك تفاصيل العدل الإنساني حتى يعرف ما يكون عدلاً في حق الإله من غيره !
* قالوا : (من أسلم خوفاً من القتل و قلبه يكفر بالإسلام ،والمجبور على الإسلام ، لا يقبل إسلامهم فشرط الإسلام الإيمان و التصديق ، فما فائدة حد الردة ؟)
والجواب :
حد الردة جاء للحفاظ على الجماعة ، يدل على ذلك وصف النبي للمرتد أنه مفارق الجماعة في قوله : " التارك لدينه المفارق للجماعة " وهذا الوصف يدل على أن ترك الدين مفارقة للجماعة ، ولو كانت مفارقة الجماعة هنا تعني شيئاً غير ترك الدين لما أنيط الحكم بترك الدين ، ولجاء العقاب بترك الجماعة على الكافر والمسلم يستويان فيه لا يختص به التارك لدينه ، ثم إن فيه أيضاً فائدة للمرتد ، حيث ينقطع عن أسباب الهدى بردته الصريحة ، ولا ينقطع عنها – في الظاهر – بردته الباطنة فربما أدى ذلك لزوال الردة والدخول في الإسلام ،ومن المعلوم أن من أساليب المحاربين للإسلام والمشككين فيه أن يدخلوا فيه ثم يخرجوا منه بحجة أنه ليس فيه شيء ، وهذه طريقة يهودية قديمة ، قال تعالى : " وقالت طائفة منهم آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون"
وإن كانت حقيقة الإسلام لا يضرها مثل هذا الصنيع إلا أن فيه ضرراً على الجهلة والعامة الذين لا يعلمون ، وجلباً للشبهات لا ينكره إلا مكابر ، وقد جاء الإسلام بما يحفظ على الناس دينهم ، ويجعله منهم قريباً ويجعل الكفر عنهم بعيداً. ولحد الردة فوائد عدة .
* قالوا : (حد الردة يؤدي لزيادة وجود المنافقين الذين قد ينقلبون على المسلمين ، وهذا يشكل خطراً على الدولة الإسلامية )
والجواب :
أن هذا على فرض زيادة المرتدين ، وهو فرض بعيد لا يليق أن تبنى هذه السفسطة عليه ، ثم إنه لا زيادة أقوى من ارتداد قبائل كما حدث في عصر الصديق و صار الإجماع على قتالهم ، ثم إنه على التسليم بأن المنافقين يشكلون خطراً على أمن الدولة الإسلامية فلن يزول هذا الخطر بالردة بل يزيد ، ولن يكون المرتد ذا ولاء للإسلام دون المنافق ، فضلاً عن أن الدين الذي نتحدث عنه قد جاء فيه شرع لهذا وشرع لهذا ، ففيه ما يتنبه معه إلى خطر المنافقين و الحذر منهم .
* قالوا : (عقلياً لا تدفع المضرة بحكم يجلب مضرة أكبر منها ؛ فلا يدفع الكفر بحكم يجلب النفاق)
والجواب :
بالتسليم بوجود ضرر على المرتد – حيث يصير منافقاً مع وجود الحج وكافراً صريحاً بدونه - فإنَّ للردة ضرر على المجتمع ، وعقلياً : دفع الضرر عن المجتمع أولى من دفعه عن الفرد ، ثم إنه على صعيد الفرد : فربطه بأسباب الهدى ظاهراً أحسن وأولى من خلعه منها ظاهراً وباطناً .
* قالوا : (كيف ندعوا الناس للخروج من أديانهم و الدخول في الإسلام بالعقل و البرهان ، و في نفس الوقت نرفض أن يخرج المسلم من ديننا بالعقل و البرهان)
والجواب :
التشريع الوارد في الكتاب والسنة مبني على ما يوافق الواقع ، وهو أنه حق خالص وما يضاده باطل خالص ، ولا يبنى التشريع على ما يظهر في عقول الناس فضلاً عن آحادهم .
* قالوا : (إن العقل الإنساني بطبعه جوهر قابل للتطور بالتجربة و العلم ، و في خلال رحلته التفكرية قابل للإيمان بالمبادئ و التخلي عنها ؛ فقد تشكل على أي إنسان قضية عقلية يكفر بسببها ثم يستوعب هذه القضية مع اتساع تجربته و علمه العقلي فيؤمن و يكون إيمانه و إسلامه عن عقل و إقتناع)
والجواب :
لن يكون التصريح بالكفر شرطاً لجلب الإيمان عن اقتناع ، وكم من عالم و مفكر طافت بهم عواصف الزيغ والضلال ولم يعلم بضلالهم عالم ، حتى وصلوا لليقين ، لا أحد يمنعه من التفكير والبحث ، ولكنه يُمنع من التصريح بالكفر بعد الإسلام لأنه يطعن في الإسلام ويحمله خطأ فهمه ، ويوهم الناس أن فيه ضلال .. إلى غير ذلك من المفاسد ، وبحد الردة نجمع بين مصلحة الفرد والجماعة.
والله أعلم
http://www.lojainiat.com/index.php?a...wMaqal&id=8976
لقد قرأت التقرير الذي أورده ملحق الرسالة في عدد التاسع من شعبان، والذي حرره محرر الرسالة، وكان موضوعه الردة وعقوبتها في الإسلام ، من خلال رأي الدكتور : محمد بشاري رئيس معهد ابن سينا للعلوم الإنسانية وأمين عام المؤتمر الإسلامي الأوروبي .. وفيه من المغالطات ما دعاني لكتابة هذا التعقيب ، فأقول وبالله التوفيق :
إنَّ حرية المعتقد بالتنظير الذي جاءت به مفاهيم الغرب المعاصرة ، لم تكن معروفة عند أهل الإسلام ، فضلاً عن دعوة القرآن لها بصورة لا تحتمل التأويل كما زعم الدكتور ، فهل غابت هذه الدعوة القرآنية – المزعومة – عن خير المسلمين تمسكاً بالقرآن وفهماً له من الصحابة والسلف ثم أدركها بعض المتأخرين بعد أن فتح بها الغرب عليهم؟!
منشأ اللبس الذي وقع فيه الدكتور وغيره من نفاة حد الردة : خلطهم بين تشريع حرية المعتقد ، وبين تقدير هذه الحرية وتكوينها ، فإن كانوا يقولون إن القرآن يشرع الحرية فهم بهذا يهدمون أصل الإسلام ، وإن كانوا يقرون أن الحرية في القرآن قدرية ومعناها : مسؤولية المرء عما يعتقد ومجازاته عليه ، فلا يسوغ لهم بعد ذلك معارضة حد الردة بهذه الحرية القدرية ، لأن هذا من قبيل معارضة الشرع بالقدر .
إنّ القرآن لم يأت بتشريع حرية المعتقد ، بل من بدهيات الإسلام أنه جاء واجباً على كل الناس ، وأن من لا يؤمن به يستحق العقاب ، ولكنه تحدث عن الحرية التي خلقها الله للإنسان باعتبارها نعمة كما في سورة البلد ( وهديناه النجدين ) وباعتبارها مناط المسؤولية ، فما نتج عن هذه الحرية من اختيار يحاسب المرء بناء عليه ، ولا يحاسب على ما أكره عليه ، كما يقول تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً ) ومن يتأمل الآية ، يجد أن التشريع فيها هو في تحريم الكفر وترتيب العقوبة عليه ، أما الحديث عن المشيئة فهو مواكبة للطبيعة الإنسانية التي تعد المشيئة والاختيار إحدى مكوناتها .
ثم إن من يزعم أن القرآن يثبت حرية المعتقد بالمعنى التشريعي ، يناقض نفسه من خلال إقراره بعقوبة الكافر في الآخرة ، فمبدأ العقاب على الاختيار ينفي زعم تجويز حرية الاختيار ، وإذا انتفى التجويز وبقي من الحرية المعنى الثاني القدري ، فقد بطلت معارضتهم لحد الردة ، لأنه لا مستمسك لهم من الشرع في هذه المعارضة .
يقول الدكتور : ( القرآن لا يشتمل على حد للردة العقدية أو عقوبة دنيوية على اقترافها ) وأقول : عدم اشتماله لا يعني عدمها ، إلا إذا كان الدكتور من جماعة القرآنيين الذين لا يرون حجية السنة ، وإذا كان القرآن قد أثبت عقوبة أخروية فما المانع أن تأتي السنة وتثبت عقوبة دنيوية خاصة وأن مبدأ العقاب واحد ؟
والحقيقة أن هذا الفهم من الدكتور يفتح المجال لغيره ممن يرى أن الكفر جائز بدعوى أن القرآن جاء بالحرية ، فلا عقوبة أخروية مع هذه الحرية ، كما فهم الدكتور أنه لا عقوبة دنيوية مع هذه الحرية ، أو يفتح المجال لمن يزعم التناقض بين الحرية التي جاء بها القرآن ، وبين العقوبات الدنيوية والأخروية ، وهذا كله باطل حينما نفرق بين حرية تشريعية وبين أخرى قدرية كما سبق بيانه .
إنَّ السنة النبوية من مصادر التشريع ، وقد تستقل بأحكام لا توجد في القرآن ، وهي حجة ، ومنكرها كافر بإجماع المسلمين ، و لا تنافي بين ذكر العقوبة الأخروية للردة في القرآن ، وذكر التشريع الدنيوي لها في السنة ، وذلك كالخمر ، التي حُرمت في القرآن ولم يذكر فيه حدّها ، بل جاءت به السنة ، ويحسنُ الاعتضاد بكلام عمر رضي الله عنه في البخاري ومسلم : (إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ) والتلبيس الذي قد يقوله من ينكر حد الرجم : أنه يجد الجلد في القرآن ولا يجد الرجم ، وهو أقوى من تلبيس منكري حد الردة ، رغم أن الاثنين ضعيفان و باطلان بقوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه )
أما قول الدكتور : ( إن الرسول لم يقتل مرتداً ردة عقدية طيلة حياته ) فهو من أضعف القول ، فأمر الرسول كاف لقتل المرتد ، وليس شرطاً أن يباشر القتل بنفسه ، وهذا ما فهمه أصحابه رضوان الله عليهم ، فعند البخاري ( 6923 ) ومسلم (1733) وأبي داوود (3579) من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن ، ثم أتبعه معاذ بن جبل ، فلما قدم عليه إذا عنده رجل موثق ، فقال : ما هذا ؟ قال : كان يهودياً فأسلم ثم تهود ، ثم قال لمعاذ : اجلس . فقال : لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ( ثلاث مرات ) فأمر به فقتل .
وكذلك حربهم للمرتدين ، وقد زعم الدكتور أن المرتدين كانوا من الصنف الذي أشهر سلاحه في وجه النظام ، وهذا الزعم باطل ، فإن أبا بكر قاتلهم لمجرد ردتهم ، ولو كانوا هم من بدأ القتال لما عارض بعض الصحابة أبا بكر في القتال ، ثم إن إناطة الأمر بالقتل في الحديث النبوي وردت في تبديل الدين أو الرجوع عن الإسلام ، كما في الصحيحين : ( من بدل دينه فاقتلوه ) وفي حديث معاذ لما أرسله النبي إلى اليمن قال له : (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه ، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها ) قال ابن حجر : وسنده حسن ويجب المصير إليه ( فتح الباري 12 / 284 ) فلا يصح بعد ذلك أن يُقال : إن حكم القتل مناط بالمرتد الذي يشهر السلاح أو يسب الإسلام ، فهذان حكمهما واحد ولو لم يرتدا ، أما وقد ورد الأمر بقتل المبدل والراجع عن دينه فالمراد مجرد الردة .
بقي في أمر الردة : الإشارة إلى أنها موضع إجماع بين العلماء ، وإن اختلفوا في بعض تفاصيلها كقتل المرأة ، وقدر الاستتابة ومشروعيتها ... وقد حكى الإجماع النووي في شرحه لمسلم وغيره من العلماء .
و ما ورد في آخر التقرير من الإشارة لسبب البراء : هل هو الكفر أم الاعتداء ، فهي قضية من الوضوح شرعاً بحيث نستغني عن الآراء فيها ، فمن المعلوم أن الولاء للمؤمنين والبراء للكافرين ، ولم يقع في تأريخ الإسلام أن يكون الولاء للمسالمين والبراء للمحاربين – القلبيين – ثم إن آية المجادلة : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم ) .. الآية ، صريحة في أن سبب البراء الكفر ، حيث إن هؤلاء مع ما تهيأ لهم من أسباب القرابة والألفة والمسالمة هم أحق الناس بالبراء لو كفروا ، ولا يتسع المقام لبسط الكلام في هذه القضية ، عوضاً عن كونها واضحة لا تحتاجه أصلاً .
عبدالوهاب آل غظيف
http://www.al-madina.com/node/171701/risala