نقلت هذا المقال بيدي كتابة من مجلة النيوزويك لأهميته.
هناك من يشجعون نموذج الإسلام التركي في الصحافة على أساس انه نموذج مستنير ويمكنه أن يتعايش مع الآخر. وهذا المقال يتجه إلى نفي هذا الكلام تماماً عن طريق رصده لتحركات الإسلام السياسي في تركيا حالياً.
==================================
بقلم سونر كاغابتاي - مجلة نيوزويك
29 September
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أدركت السلطنة العثمانية بعدما ألحقت بها أوروبا هزائم عسكرية، أنه يمكنها أن تضاهي أعداءها إن هي أصبحت أيضاً مجتمعاً أوروبياً.
فشرعت تنفذ برنامجاً واسعا من الإصلاحات أنشأ في إطاره السلطان عبد العزيز عام 1863 مدرسة دروسفاقة وهي أول ثانوية في السلطنة درست برنامجاً غربياً علمانياً بالتركية. وفي مطلع القرن العشرين، سار مصطفى كمال أتاتورك على خطى عبد العزيز عندما جعل من تركيا دولة علمانية، وراحت المؤسسات الشبيهة بمدرسة دروسفاقة، التي ارتدتها أنا، تزدهر.
أما الآن فالوضع مختلف تماماً إذ قرر حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا فتح معهد إعداد للأئمة والدعاة في حرم مدرسة دروسفاقة السابق وهو بمنزلة رمز وطني عمره 130 عاماً أخلته المدرسة عام 1994 للانتقال إلى حرم جديد. ولم يكن قرار كهذا واردا في تركيا حتى زمن ليس بالبعيد، لكن اتخاذه اليوم دليل قاطع على أن عهد مصطفى كمال وعبد العزيز يشرف على نهايته.
فقد قام حزب العدالة والتنمية الإسلامي، منذ توليه الحكم عام 2002، بتغيير تركيا تغييرا جذريا إذ بات البيروقراطيون في أنقرة مجبرين على المشاركة في الصلاة وإلا أضاعوا فرصهم بالحصول على ترقية. كما أصبح أداء الفرائض الدينية ضرورة لكل من يسعى إلى نيل وظيفة حكومية أو عقود مربحة مع الدولة. ويحكم الحزب قبضته على السلطتين التنفيذية والتشريعية فضلا عن أنه يوسع نفوذه عبر تعيين قضاة وعمداء جامعة ورؤساء للمنظمات الأهلية الكبيرة متعاطفين معه. وقد استغل الحزب الثغرات القانونية لزيادة حصة رجال الأعمال المقربين منه في وسائل الإعلام التركية من 20 إلى 50 بالمائة.
والمسئول الأول عن انهيار النخبة العلمانية التي تزداد تهميشا في البلاد هو هذه النخبة نفسها. فبعد أن أصبحت تركيا عام 1946 نظاما ديمقراطيا يحترم التعددية الحزبية، تركت البلاد لتدير نفسها. وهكذا ضعفت المؤسسة العلمانية التركية ولم تعد تبذل الجهد اللازم للمحافظة على دعمها الشعبي. وبعد انهيار الشيوعية، تخلت الطبقة العاملة والطبقة الوسطى الدنيا بأكثريتها الساحقة عن اليسار. لكن بدلا من محاكاة الشعب، انتظرت الأحزاب العلمانية أن يأتي إليها، في الوقت الذي مد حزب العدالة والتنمية يده إليه منشأة شبكة واسعة شبيهة بجمعية تاماني الأمريكية، فوزع الوظائف والمنافع بينما كان يروج للقيم الإسلامية التقليدية. وكانت النتيجة فوزه الساحق بالإنتخابات عام 2002 .
علاوة على ذلك لم يعر أتباع مصطفى كمال المؤسسات الأساسية أهمية. فلنأخذ مثال مدرسة دروسفاقة. فبعد أن انتقلت إلى حرم جديد في الضواحي عام 1994 ، تركت النخبة مبانيها الخلابة العائدة إلى القرن التاسع عشر والمطلة على مضيق البوسفور شاغرة خلال 15 سنة ولم تكترث بها أي شركة أو منظمة غير حكومية أو جامعة.
ولنأخذ أيضاً مثال وسائل الإعلام. فبينما لا يزال الأتراك العلمانيون والليبراليون يعتمدون على الصحف- أي وسائل الإعلام القديمة- لإيصال آرائهم، استحوذ الإسلاميون على وسائل الإعلام الجديدة إذ باتوا يسيطرون على الإنترنت ويستعملون عدداً متزايداً من المواقع لترويج أخبار ذات نكهة معادية للغرب ومؤيدة لحزب العدالة والتنمية. وهذا ما يساهم في تكوين مواقف الأتراك العاديين. على سبيل المثال، عندما انهار الإقتصاد العالمي عام 2008 ، عزت هذه المواقع الأزمة إلى تحويل مصرفي بقيمة 40 مليار دولار ادعت أن الإخوة لومان قاموا به لمصلحة إسرائيل. كما اضطلعت المواقع الإسلامية بدور أساسي في توجيه الجدل الذي دار حول قضية إرجنكون، لاسيما عندما وصفت شخصيات ليبرالية وعلمانية معارضة "بالإرهابيين" مدعية أنهم دعموا انقلاباً داخل الحكومة التي يرأسها الحزب الإسلامي ومارست ضغوطاً على البعض للإعتراف بذلك.
يبدو أن القوى العلمانية التركية لا تعتبر السياسة مجرد عمل ليس من الضروري أن تكرس له كل وقتها فحسب، بل إنها تفتقر أيضاً إلى رؤية إيجابية. أما حزب العدالة والتنمية فيعمل على مدار الساعة ومع أنه قد يحاول المس بالإصلاحات التي قام بها مصطفى كمال، لا يمكن لأحد أن يتهمه بأنه يفتقر إلى رؤية شاملة.
لكن هذا لا يعني أن على الأتراك العلمانيين أن يستسلموا أمام الأمر الواقع لا بل عليهم أن يتعلموا من منافسيهم. وهذا يعني إعادة ممارسة العمل السياسي القائم على التعاطي مع الناس، وهو عمل يبدأ بالتقرب من القاعدة وينتهي بمرافقة الناخبين إلى صناديق الإقتراع مروراً بالحملات الإنتخابية لحشد أصواتهم.
كما أن على الأتراك العلمانيين أن يفرضوا رؤية إيجابية لمستقبل البلاد. فقط اعتبر السلاطين، ومصطفى كمال من بعدهم، أوروبا مثلا أعلى. والآن على الأتراك العلمانيين أن يجددوا رؤيتهم ويرسموا معالم تركيا القرن الحادي عشر الليبرالية. كما يجب أن تكون رؤيتهم أكثر جاذبية من رؤية الحزب الإسلامي وإلا اختار الشعب الإسلاميين. وكيف عسانا نلومه في هذه الحالة؟
................
كاغابتاي مدير أبحاث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى وصاحب كتاب
Islam, Secularism and Nationalism in Modern Turkey
( الإسلام والعلمانية والقومية في تركيا الحديثة ).