عزيزي القاريء؛
هل سمعت باسم "سعيد فريحة" قبل الآن؟
لو كنت مواطناً عربياً قارئاً للصحف في فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فإن اسم "سعيد فريحة" لن يكون مجهولاً بالنسبة لك. فالرجل واحد من أعمدة الصحافة اللبنانية والعربية على الإطلاق وآثاره التي ما تزال تعيش بيننا تدلنا على أن "سعيد فريحة" لم يمت؛ بل ترك ما يحفظ اسمه ويخلده ويعطيه دائماً مرتبة يستحقها بين المشهورين الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس.
"سعيد فريحة" هو مؤسس "دار الصياد" اللبنانية المشهورة http://www.darassayad.net/ التي يصدر عنها العديد من المطبوعات التي تهتم بشتى الشؤون المحلية والعالمية. و"سعيد فريحة" قبل هذا وذاك هو "رجل عصامي"، ولد في لبنان وعاش في طفولته وحداثته وشبابه في سوريا (حلب وحماة بالذات). وعندما استوى عوده وجد في البحث عن لقمة العيش فإنه اعتزم، في "عشرينيات" القرن الماضي، تعلم "الحلاقة" وقدم إلى "حلب" (سوريا) كي يعمل في "صالون جديد" لحلاقة السيدات. ولكن مجال "الحلاقة" كان أضيق من أفق "سعيد فريحة" الذي وهبته الطبيعة موهبة "القصص والحديث الحلو الفكه الخفيف الظريف". ومع هذا "فالفتى الحلاق" لم يظفر من التعليم سوى ببعض مباديء القراءة والكتابة، و لم يكن زاده المعرفي – في تلك الايام – يخوّله أن يمسك بالقلم أو أن يتفيأ ظلاله.
رغم الشح المعرفي فإن "موهبة" الفتى الحلاق جرفته إلى حقل الصحافة من الباب الخلفي. فلقد كان "سعيد فريحة" الشاب من عشّاق لعبة كرة القدم، وخطر له يوماً أن يشارك الناس بعض المباريات التي يحضرها، فأعد مقالاً عن "مباراة من المباريات" وأرسله إلى "جريدة التقدم" في حلب. فما كان من صاحب الجريدة إلا أن نشر المقال بعد أن صحح الأخطاء الاملائية والنحوية والتركيبية التي كثرت فيه.
منذ ذلك الوقت أخذ "سعيد فريحة" يكتب كل أسبوع عن مباراة كرة قدم جديدة، ولاحظ القائمون على "جريدة التقدم" أن الكاتب الشاب لا يقع في نفس الخطأ اللغوي مرتين، عندها عرض صاحب "التقدم" على الفتى الحلاق أن يمتهن الصحافة بثمن وقدره "ليرتان ذهبيتان" في الشهر، ثم أخذ يقربه أكثر وأكثر حتى ضمه إلى إدارة تحرير الجريدة.
في ذلك الوقت لم يعد "سعيد فريحة" الشاب يكتفي بما يحبره على صفحات الجريدة السورية، فصار يراسل جرائد عربية أخرى في بيروت ويكتب فيها. ثم رحل عائداً إلى لبنان وأسس فيها "مجلة الصياد" ثم "الشبكة" في أوائل الخمسينيات، كي يتبع هذا جميعه بصحيفة "الأنوار" اليومية وعدداً آخر من المطبوعات المتخصصة، كي تصبح "دار الصياد" إحدى أكبر الصروح الصحفية (حتى اليوم) في عالمنا العربي.
عاش "سعيد فريحة" بين سنة 1905 وسنة 1978، وأعطى القاريء العربي في جميع الأقطار عصارة فكره وقلمه، ولكن ما يبقى من "سعيد فريحة" – عندي - هو ما نثره في "جعبته" من أقاصيص وذكريات وحكايات وأفكار وخواطر عاشها وأثرت فيه وفي قرائه.
"جعبة" "سعيد فريحة" هي "جعبة طريفة" وكتابات خفيفة، فيها نشاط للفكر وتفكهة له. إنها "قصص وحكايا" ظريفة منوّعة فيها بعض الفكاهة والكثير من العبر، منذ فترة وأنا متعلق بها في "الشبكة" وفي "الصياد" وفي كل مكان أجدها فيه (صدر بعضها في كتاب طبع في القاهرة سنة 1952).
أريد في هذا الموضوع أن أضع بعض ما كتبه هذا الصحفي العملاق الراحل في "جعبته" عبر سنوات طوال. راجياً أن تقضوا مع "سعيد فريحة" وقتاً طيباً كالذي قضيته وأقضيه معه كل أسبوع.
واسلموا لي
العلماني
القُبْلَة اليَتيمَة
... وهذه حادثة من حوادث العمر الذي قضيت مطلعه، على ما ذكرت في عدد مضى، بين مطرقة الدهر وسندانه لا بين زقزقة العصافير وشدو الرباب!
حادثة وقائعها كلها صحيحة، وكل ما فيها من وصف وغزل هو من وحي القلب والعاطفة!
لقد قضيت السنتين الاخيرتين من الحرب الكونية الماضية في مدينة النواعير حماة...
وكنت اذهب في كل يوم الى المحطة لاشاهد عساكر الاتراك والالمان وهم ينسحبون امام طلائع جيش الحسين.
وجاء يوم سادت فيه الفوضى، فلا حكومة، ولا شرطة، بل كان الناس يترقبون بفارغ الصبر وصول طلائع الجيش العربي!
وفي عصر احد الايام تصاعد الغبار من البادية فاسرعنا، نحن بضعة عشر غلاماً، لاستقبال الوافدين!
ولم يكن هؤلاء سوى جموع من العربان اقبلوا على جمالهم وخيولهم لغزو العنابر، والمستودعات في محطة المدينة!
ووقفت اتفرج على القوم وهم يهزجون ويحدون ويأخذون سنابل القمح ويحملونها على ظهور الابل بكل حرية وطمأنينة!
وفجأة سمعنا عريراً في السماء...
ثم انقضت ثلاث طائرات حليفة واخذت تمطر الغزاة بوابل من رصاص مدافعها الرشاشة.
ودب الذعر في العربان، واختلط حابلهم بنابلهم، وخيولهم بجمالهم، واخذ القوم يركضون وانا اركض معهم... ويولولون وانا اولول بينهم!...
وكنت اسير في الجهة التي يسيرون فيها اذ خيل الي ان طريقهم هي طريق السلامة والامان!...
وبعد ان اجتزنا مسافة بعيدة رأيت نفسي غريباً بين العربان الهاربين!...
والتفت احدهم فشاهد غلاماً ابيض الوجه، ازرق العينين، ملتحقاً بالموكب، فاقبل يسألني وش تبغي؟!
قلت: انا هارب من الطائرات...
قال: زين يا ولدي... ولكن الى اين ذاهب؟
قلت: الى المدينة...
قال: المدينة من هين... واشار ببندقيته الى الوراء!
قلت: ولكني اخشى ان اضل الطريق.
فاطرق الاعرابي قليلاً ثم قال: زين يا ولدي زين... الحق البعرة تدلك على بلدك...
ولم اشأ ان الحق البعرة... بل بقيت واقفاً في مكاني لا اجرؤ على اللحاق بالعربان ولا على الرجوع الى المدينة!
وحان الغروب... ثم بدأ الظلام يبسط جناحيه على البادية، فأثار القفر والوحدة وظلام الليل الرعب في نفسي فطفقت ابكي..
وبينما انا على هذه الحال اذ باعرابي، من بقايا القافلة، يقود جملاً اعتلت ظهره امرأة يقف ويسألني عن سبب بكائي ووجودي في البادية؟
وبعد ان رويت له قصتي تشاور مع المرأة ثم اناخ الجمل واصعدني الى ظهره...
وسار الموكب في ظلمة الليل، وفي جو من السكون الرهيب، ومع ذلك فقد كنت مطمئناً بعض الاطمئنان واطل البدر على الصحراء، بل على ذراعين رحيمتين تحتضنان غلاماً كان قبل ساعة من اتعس الناس!
ونظرت الى وجه حاضنتي فوددت لو اني اقضي العمر كله على ظهر البعير!...
لقد كانت صبية من بنات العرب، سمراء البشرة، مكحولة العينين!
وكانت في نظري اجمل من البدر واغلى علي من الدنيا كلها. وبالرغم من البرد الشديد فقد شعرت بالدفء، وبشيء يخفق ويعربد في جنبات الصدر!
ورأتني أحدّق في عينيها فابتسمت ابتسامة كلها رحمة وحنان وشمم. وبين سحر ابتسامتها وهدهدة بعيرها اسندت رأسي الى صدرها وغفوت... ولم اصح الا وانا بين مضارب العشيرة ومداعبة الزينات!
قالوا: ستقيم بيننا. قلت: كما تشاؤون...
قالوا: وسنسميك: حمد... قلت: كما ترتأون...
قالوا: وستلبس القميص، وتحلب الشاة، وترعى النعاج، ونعلمك ركوب الخيل... وهكذا كان...
وصرت كأني واحد منهم، بل كأني ولدت تحت خيمة من الشعر.
لقد اعتدت على حياة البادية، واحببت العيش بين الخيام، واوشكت ان انسى الماضي تماماً!... كنت في فرح دائم، ونشوة مستمرة اما رجال العشيرة ونساؤها فكانوا يحسنون معاملتي، ويطربون لمجلسي، ويضحكون اذا جلست احدثهم كيف نزحت من لبنان الى حماة، ثم كيف هربت من الطائرات الى البادية. وذات مساء سمعت صوتاً ينادي: حمد.
والتفت الى مصدر الصوت فرأيت رفيقتي شهرزاد. واشارت بيدها فهرولت اسألها: ما تبغين؟
قالت: اقعد... قلت: الا يغضب علي والدك؟
فتطاول جيدها وقالت بحزم: انا هنا سيدة مضربي... اقعد.
وقعدت الى جانبها، ثم طلبت مني ان اقص عليها قصة... ولكني في هذه المرة تلعثمت... ولبثت ساكتاً جامداً، والشيء الوحيد الذي كان يتحرك وقتئذ هو الخافق المعذب في صدري! ولاحظت شهرزاد ان يدي ترتجف، ووجهي يحمر، وعيني اوشكتا ان تدمعا... فقالت: علامك يا حمد؟!
ولكني لم اجب، فقد كنت خجولاً ذاهلاً شديد الاضطراب!
لقد تبدلت تماماً ولم اعد ذلك الغلام اللعوب الطروب الذي تضحك لحركاته واحاديثه نساء العشيرة ورجالها! وعادت تقول: علامك يا حمد؟
ولكن اي حمد، واية علامة من علامات التحول والتطور قد بدت عليه؟
كنت انظر اليها فاضطرب، واحدق في عينيها فاشعر بدماء حارة تجري في عروقي، واحاول ان اقول شيئاً فلا استطيع، بل لا ادري ماذا اقول؟!
هذا شيء جديد في حياتي... انه نوع من الاحترام، من الحياء، من العبادة... انه هذه الاشياء كلها، واذا شئت فقل انه الحب البكر الذي لم اعرفه من قبل، ولم احسه الا الآن، وتحت تأثير هذا السحر الدافق من جمال شهرزاد، ومن انوثتها ورقتها وحنانها الصامت! وكأنها تضايقت من سكوتي فاشارت علي بالذهاب وذهبت لانام ولكني بقيت ساهراً ارقاً افكر بشهرزاد!
وفجأة نهضت وعدت منسلاً الى خيمتها. كانت نائمة، فوقفت انظر، واطيل النظر الى وجهها الجميل، الى جفنيها الكحيلين، الى ابتسامتها الحالمة، وبحركة لا شعورية تناولت يدها وطبعت عليها قبلة اودعتها اسمى واطهر ما يكنه صدري من الحب والاحترام! وصاحت الفتاة مذعورة... وخرجت من صدرها زعقة هب على اثرها رجال العشيرة يتساءلون: ماذا حدث؟
ولما افتضح امري قال قائل: اقتلوه. وقال آخر: اذبحوه. واقترح ثالث ان اشوى على النار! ولكن شهرزاد هذه المرأة الكريمة الخلق، الرقيقة القلب، انتصرت لي - وليس اسعد من الانسان الذي تنتصر له امرأة يحبها - واقنعت والدها شيخ القبيلة باني فتى قاصر وحسن النية.
وبعد ساعات كنت في طريق العودة الى حماة، ثم الى مسقط الرأس لبنان!
٢٩/٣/45