عملة الماضي
الدولار يلفظ أنفاسه الأخيرة.. فاستعدوا لتشييعه ودفنه
غسان ابراهيم - مدير تحرير صحيفة "العرب الأسبوعي" لندن
تعاني الولايات المتحدة الأمريكية من أزمات داخلية وخارجية تتجلى بشكل واضح في الكوارث التي تحدق باقتصادها المنهار بشكل مستمر.
وتلجأ الإدارة الأمريكية، منذ عدة سنوات، إلى تغطية آثار هذه الكوارث باستنباط سياسات نقدية عديدة ينتج عنها انخفاض في قيمة الدولار على أمل امتصاص العديد من مشاكلها الأخرى، بناء على قناعة تقول إن موقع الدولار دوليا لن يتأثر نظراً إلى انه لا توجد عملة بديلة تستطيع أن تلعب دور المقاصّة الدولية في المعاملات التجارية الرئيسية، ولكن أيضا، لعدم احتجاج اللاعبين الدوليين الرئيسيين على توالى الانخفاض في قيمة الدولار، كما هو الحال بالنسبة للصين التي تريد أن تحافظ على موقعها في سوق الاستهلاك الأمريكي، وأيضا لعدم تجرؤ أحد على الاحتجاج، كما هو الحال بالنسبة للكثير من الدول النفطية العربية التي تخشى تسعير نفطها بعملة بديلة حتى ولو ظلت تخسر المليارات!
إذاً، الدولار يواصل مسيرة الانخفاض نحو الهاوية مقترناً بقناعات أمريكية بأن مركزه الدولي لن يتأثر، إلا أن هذا الحال يطرح تساؤلا جوهرياً: هل مازال الدولار عملة العالم السائدة "المقاصّة الأهم" أم أنه أصبح شيئاً من الماضي؟
أحد أهم العناصر في هذا الموقع يكمن في النظام المالي الدولي نفسه، فهيمنة الدولار بدأت تتزعزع انطلاقاً من حقيقة أن هذا النظام نفسه صار يوفر بدائل ليست أقل جدارة بالثقة، مثل اليورو الأوروبي والين الياباني والبوند البريطاني، فضلا عن أن السلة التي تتضمن هذه العملات وغيرها، صارت تشكل وسيلة متاحة لتغطية الكثير من التعاملات الدولية بأقل تضخم وأكثر حفظ للقيمة.
في المقابل، فأن المناورات التي تتبناها الولايات المتحدة في سياساتها النقدية والمالية قائمة على المراهنة بأن قوة الدولار لا تنبع من قيمته بل من عدم توفر أي إمكانية للانقلاب عليه وظهور بديل، وهو ما ينظر إليه الكثير من الخبراء على أنه "الخدعة الأخيرة" للدولار والتي تتمثل في زيادة الديون الأمريكية وخصوصاً الخارجية منها، حيث بلغ إجمالي الدين حدود 9.45 ترليون دولار، فيما يقدر الدين الخارجي بحدود 5 ترليون دولار.
وتؤدي الديون دوراً مراوغاً، لأنها تلزم الدائنين بإبقاء مساندتهم للدولار، للحفاظ على قيمة ديونهم، أي أن الولايات المتحدة، بينما تعمد إلى طباعة المزيد من الورق الخالي من القيمة، فإنها تعتمد على الدائنين أنفسهم لشراء المزيد من ذلك الورق الأخرق، وذلك لكي لا تنخفض قيمة ديونهم أكثر فأكثر.
وتشكل الصين واليابان ودول جنوب شرق آسيا الدائن الرئيسي للولايات المتحدة "أو المشترى الرئيسي للدولار"، فكلما احتاج الاقتصاد الأمريكي إلى سلع وخدمات لجأ إلى الاستيراد من الخارج ودفع ثمناً لها دولارات لا تحمل قيمة أكثر من قيمة الورق، لأن البنك الأمريكي الفدرالي يغطى قيمة الدولار بسندات الخزينة التي تباع أغلبها إلى المستثمرين الأجانب، أي أن الاقتصاد الأمريكي يحصل على سلع من الخارج ويدفع ثمنها بديون من أطراف أخرى في الخارج!
لقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية في العقود الأخيرة توظيف عملتها وجعلها عملة العملات من خلال خلق "هالة مقدسة" حول الدولار لتزرع الثقة لدى المستثمرين في هذه العملة أو سندات الخزينة الأمريكية، وبالتالي لم تظهر في تلك الفترة من أحد المحللين أو الاقتصاديين أي شكوك أو احتمالات أن الدولار محاط بـ "هالة مزيفة" وأنه يجب إعادة النظر في استمرار تبنيه كعملة دولية، وبذلك وقع الاقتصاد العالمي في فخ وخدعة ظهرت نتائجها واضحة كما يلي:
- إن كل من اشترى سندات الخزانة الأمريكية يعلم أنه لا يمكنه أن يتخلى عن الدولار كعملة دولية لأن أمواله واستثماراته في السندات ستتهدد بالضياع في حال انهيار الاقتصاد الأمريكي وانهيار الدولار.
- إن كل من باع إلى الولايات المتحدة الأمريكية سلعاً وحصل على دولارات هزيلة يعلم أن سقوط الدولار يعنى ضياع ادخاراته وأرباحه التجارية.
- إن كل الدول التي تحتفظ بالدولار كاحتياطات وغطاء لعملاتها المحلية تعلم أن اقتصادها وعملاتها ستنهار مع انهيار الدولار.
لذلك يعيش الدولار اليوم على أوكسجين هذه "الخدعة الأخيرة" وما أن تنكشف هذه الخدعة سيلقى الدولار مصير من يُرفع عنه الأوكسجين في غرفة العمليات.
وبناء على هذا التحليل، يمكننا أن ندرك لماذا تستثمر أغلب دول الخليج فوائضها المالية في الولايات المتحدة بنسبة تعادل 70% من إجمالي استثماراتها الإجمالية حيث أن من المتوقع أن تصل إلى حدود 2 تريليون نهاية هذا العام، فزيادة الاستثمارات في الولايات المتحدة نابعة عن قناعة أنه لابد أن تلعب تلك الدول دوراً في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي وعملته لأن احتياطات وثروات بعض دول الخليج مدخرة بالدولار وبالتالي فهي تساهم بشكل غير مباشر في حماية ثرواتها من التآكل، هذا إذا وضعنا جانباً حقيقة تعرض هذه الدول إلى ابتزاز مباشر يجبرها على تقييم احتياطاتها بالدولار، وإبقاء كبش هذه الاحتياطات في حضن الذئب "على اعتبار أنها "مأمونة" هناك!".
ولكن الحقيقة تبين عكس ذلك، فمخطئ كل من يعتقد أن هذه الاستثمارات تعتبر طوق نجاة للاقتصاد الأمريكي الغارق، لأن هذه الاستثمارات وأضعاف من أمثالها لن تنقذ الغريق بل ستغرق معه، ومخطئ من يظن أن الكبش مأمون في حضن الذئب إذا جاع.
ولكن الحقيقة تبين عكس ذلك، فمخطئ كل من يعتقد أن هذه الاستثمارات تعتبر طوق نجاة للاقتصاد الأمريكي الغارق، لأن هذه الاستثمارات وأضعاف من أمثالها لن تنقذ الغريق بل ستغرق معه، ومخطئ من يظن أن الكبش مأمون في حضن الذئب إذا جاع.
وقد يكون من المفيد أن نعود إلى تاريخ ظهور الدولار كعملة دولية، لنجد أنه تاريخ قائم على الخداع المالي ولاسيما خداع من وثق بهذه العملة، فبعد الحرب العالمية الثانية وخروج معسكر الولايات المتحدة وحلفائها منتصرين وإعلان دعمها لمشروع إعادة بناء أوروبا وهو ما سمى بـ"مشروع مارشال" الذي وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي سابقاً والذي أعلنه في 5 يونيو-حزيران 1947 في خطاب أمام جامعة هارفارد، تم تأسيس هيئة أقامتها حكومات غرب أوروبا للإشراف على إنفاق 17 مليار دولار أميركي في إطار ما سمى "منظمة التعاون والاقتصادي الأوروبي" وذلك بحجة إعادة إعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الأوروبية.
هذا المشروع كان بحد ذاته "الخدعة الأولى" لجعل الدولار عملة العملات، وذلك من خلال تقديم ديون من الولايات المتحدة الأمريكية إلى دول أوروبا بالدولار مقابل الحصول التدريجي على الذهب الذي كان متوفراً لدى البنوك المركزية الأوروبية، ونتيجة لادعاء البنك الفدرالي الأمريكي أن كل دولار مغطى بشكل كامل بالذهب كـ "رصيد ذهبي"، شعرت الدول الأوروبية بالثقة بهذه العملة وجعلت منها عملة لاحتياطاتها وأصبح الدولار بشكل أو آخر غطاءً ورصيداً للعديد من العملات الأوروبية التي خسرت الكثير من احتياطاتها الذهبية لسداد بعض الديون التي ترتبت عن "مشروع مارشال".
وبناء عليه، ظن العالم أن الدولار عملة تستحق أن تكون عملة العصر في تلك الفترة إذ كانت مغطاة بشكل كامل بالذهب بسعر "35 دولار لكل اونصة" وهى عملة المقاصة بين العملات "وحدة قياس" وهناك قبول عليه دولياً كونه هو نفسه غطاء لكثير من العملات.
ولكن كمية الدولارات التي كانت تطبعها الولايات المتحدة أقنعت الكثير من الدول بأن قيمتها لا تساوى قياسها بالذهب. ومع انكشاف تلك الخدعة التى تمثلت بان الدولار لم يكن مغطى بالذهب بشكل كامل وأن مليارات الدولار التي أصبحت في أوروبا ليست أكثر من ورق، ولا تعادل نفس القيمة التي حددها الفيدرالي الأمريكي "35 دولار لكل اونصة"، وعندما حاولت بعض الدول استرداد الذهب ببيع الدولار، وجد البنك الفدرالي الأمريكي نفسه عاجزاً على تحويل الدولارات التي طبعها بدون رصيد وغطاء ذهبي، وبدأت مرحلة إعلان فصل الدولار عن الذهب، حيث أعلن الرئيس الأمريكي نكسون بتاريخ 15/8/1971 أن قيمة الدولار لم تعد بعد الآن مرتبطة بالذهب، وقال إن قيمة الدولار تحددها "قوة" الاقتصاد الأمريكي نفسه، الأمر الذي أجبر كل الدول والمستثمرين الذين يحملون الدولارات على أن يكونوا معنيين بقوة ذلك الاقتصاد للحفاظ على قيمة الدولارات التي تحولت إلى عبء على أكتافهم.
ومنذ ذلك التاريخ لم يعد الدولار قابلاً تحويله إلى ذهب، إلا بوصفه تعبير عن "قوة" الاقتصاد الأمريكي، وكأن لسان حال نكسون يقول أن قيمة الدولار تكمن بذاته وبكونه أصبح عملة العملات وأصبح يملأ خزائن البنوك المركزية في العالم ولا أحد يتجرأ على التخلي عنه لأنه سيهدد عملات بلاده المحلية التي أصبحت مرتبطة بالدولار.
إذن، صعد الدولار بخدعة ومع انكشافها تحول إلى "عملة العملات" التي لا يمكن لدول العالم التي أصبحت تعتمد على هذه العملة كرصيد وغطاء لعملاتها أن تتنازل عنه.
أما اليوم، فـ"الخدعة الأخيرة" للدولار تنهار، أولا، لأن هناك عملات أخرى بدأت تحتل مكاناً متزايداً في أسواق المال وفى التبادلات التجارية، وثانيا، لأن الانخفاض المستمر في قيمة الدولارات يدفع الكثير من البلدان إلى التخلص من الدولار بشراء ما يمكن لها شراءه بالدولار من سلع وخدمات، وهذا ما يدفع أسعار النفط إلى الارتفاع لأن الصين تشترى أكثر مما تحتاجه من النفط فقط من أجل أن تتخلص من الدولار، أضف إلى ذلك أنها مضطرة إلى أن تواصل شراء، ولو كميات أقل من سندات الخزانة الأمريكية لكي لا يبدو الأمر وكأنه تخلياً مطلقاً، يمكن بالتالي أن يدفع سعر الدولار إلى الانهيار التام، فالصين واليابان ودول جنوب شرق آسيا تحاول أن تبقيه على قيد الحياة طالما أنها تواصل تصدير سلعها وخدماتها إلى الولايات المتحدة بديون أو بدولارات مغطاة بسندات خزانة تدفع هي ثمنها.
ولكن هل سيأتي ذلك اليوم الذي تتجرأ فيه هذه الدول على التخلي كلياً عن الدولار؟
تعلم الصين واليابان وغيرها من دائني الولايات المتحدة أن التخلي عن الدولار يعنى انهيار الاقتصاد الأمريكي وبالتالي ضياع ديونها ومعها اقتصادياتها، ولكن هذا لا يعني بأي حال أن هذه الخدعة ستستمر إلى الأبد لأن بعض الدول بدأت أو ألمحت أنها ستتخلى عن الدولار في معاملاتها الدولية أو في بيع النفط والغاز أمثال فنزويلا وإيران، مما يعطي مؤشراً قوياً مترافقاً مع انخفاض مستمر للدولار بأن التخلي عن الدولار سيتسارع وأن أول من سيقفز من هذا القارب الهش سيكون من الناجين وأن المتمسكين به سيكونون في طريقهم بهذا القارب إلى الهاوية.
فإذا ما حدث وانهارت "الخدعة الأخيرة"، سنجد أن الدولار لم يعد يحمل أي معيار من معايير العملة الدولية التي يصنفها علم "المال والنقود" بما يلي:
- حافظ للقيمة: انخفاض الدولار المتواصل افقده صفة الحافظ للقيمة.
- مقبول دوليا: التخلي التدريجي عن الدولار أصبح مهدداً لقبوله في المستقبل.
- وحدة قياس ومقاصة للعملات: كون الدولار بدأ يفقد المعيارين الأساسيين: حافظ للقيمة والقبول الدولي سيفقده صفحة المقاصة.
وكلما وجدت الصين واليابان وغيرها أسواقاً خارج الولايات المتحدة، فأنها ستجد نفسها غير مضطرة للدفاع عن "قوة" الاقتصاد الأمريكي، وحيث أن هذا الاقتصاد يتجه إلى الركود أصلاً، فأن الدفاع عنه سيكون بمثابة دفاع عن سد تتسع فيه الشروخ، بينما هو ينتظر الزلزال.
إن تعثر الاقتصاد الأمريكي ما هو إلا "نعي مسبق" يؤذن بأن الدولار يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو وإن كان يبدو حياً شكلياً فهو ميت سريرياً بقيمته وبكل مقاييس الفناء الأخرى، إنه عملة الماضي التي تنتظر التشييع والدفن.
وتقبلوا تعازينا.. فاقرأوا الفاتحة، يرحمكم الله.
وإنا لله، وإنا إليه راجعون.
http://www.al-moharer.net/moh267/ghassan_ibrahim267.htm