يـُعد الكندي بين كثيرين اول فيلسوف في تاريخ الحضارة الاسلامية أبان عصرها الذهبي، حتى انه عرف باسم فيلسوف العرب. تبنى الكندي المذهب المعتزلي وسعى لايجاد توافق بين الفلسفة وبين الدين، فهو الفيلسوف العربي الوحيد الذي لم يؤمن بازل العالم على الرغم من تأثره الكبير بالفلسفة اليونانية (1). رآى الكندي ان التوفيق بين الفلسفة والدين لابد ان يمر عبر اثبات حدوث العالم من لاشيء وان عمر العالم محدود كماً. كما ان حدوث العالم يشكل الوسط الذي عبره يتم اثبات وجود مـُحدث له هو الخالق المبدع. قدم الكندي في سبيل اثبات تناهي العالم عدد من الحجج بعضها بدائي جداً لانفع من نقاشه في زمننا لقيامه على التصورات الارسطوية للحركة ولطبيعة المادة، والاخر يقوم على نفي التسلسل الازلي. والاخير هو ما اريد ان اناقشه في هذه المقالة القصيرة.
الحجة الاولى التي قدمها الكندي في رسالته "في وحدانية الله وتناهي جرم العالم" (2) تقوم على ستة قواعد عدها الكندي بديهية. قائلاً:
"إن المقدمات الأولى الواضحة ، المعقولة بغير توسط : - (1)أنَّ كلَّ الأجرام ، التي ليس منها شيء أعظم من شيء ، متساوية . – (2) و المتساوية ، أبعادُ مابين نهاياتها واحدة بالفعل و القوة . – (3) و ذو النهاية ليس لا نهاية له . – (4) و كل الأجرام المتساوية ، إذا زيد على واحد منها جرمٌ ، كان أعظمَها ، و كان أعظم مما كان من قبل أن يُزاد عليه ذلك الجرم . – (5) و كل جرمين متناهيَي العظم ، إذا جمعا ، كان الجرم الكائن عنهما متناهي العظم ، وهذا واجب في كل عظمٍ ، وكل ذي عظم . – (6) و إن الأصغر من كل شيئين متجانسين بَعْدَ الأعظم منهما ، أو بَعد بعضه ."
عد الكندي هذه القواعد كليات واجبة الانطباق على كل ذي عظم (العظم يقصد به هنا كل ما له امتداد مكاني بالاتجاهات الثلاثة). واستخدم الكندي معظم قواعده الستة لاثبات ان العالم لايمكن ان يكون غير متناهي ولكي يثبت عنده ان عظم العالم (اي حجم العالم) متناهي.
ان اول نقد نقدمه للكندي هو ان البديهيات التي اقام عليها اثباته وبالاخص القاعدة رقم 1 ورقم 6 لاتصح على اللانهائيات. فما يبدو لنا بديهياً اذا ما طـُبـّق على النهائي المحدود فانه قد لايبدو بديهياً في حال اللانهائي. والكندي شأنه شأن من سبقه ممن نفوا التسلسل اللانهائي انما فعلوا دون ان تكون عندهم وسيلة رياضية لدراسة المتسلسلات والمجاميع اللانهائية كما هو شأننا الان بفضل جهود الرياضي الالماني كانتور Cantor في القرن التاسع عشر.
بحسب نظرية المجاميع فانه ليس بالضرورة كل ما ليس اكبر من الثاني يكون متساوياً، لكي نرى هذا بمثال، تخيل معي مجموعة الاعداد الصحيحة (اي: سالب مالانهاية.....-3، -2، -1، 0، 1، 2، 3...مالانهاية) وايضاً مجموعة الاعداد الطبيعية (اي: 0، 1، 2، 3، 4 ....الى ما لانهاية)، فكلتا المجموعتين لها حجم لانهائي لاننا نستطيع ان ننجز تقابل واحد لواحد بين المجموعة الاولى والثانية، لكن المجموعة الثانية هي مجموعة جزئية من المجموعة الاولى على الرغم من ان حجمهما واحد. هذه حالة لاتنطبق فيها قاعدة الكندي.
ايضاً فان القاعدة السادسة التي وضعها الكندي لاتصح في حالة المجاميع اللانهائية (والتي يمكن كتابتها: الكل اعظم من الجزء) ففي الحقيقة في حالة مجموعات ديدكايند اللانهائية Dedekind infinite Set فان حجم المجموعة قد يكون مساوياً لاحد اجزاءها الصحيحة.
الحجة الثانية التي قدمها الكندي، يمكن تلخيصها بانه لكي يكون العالم ازلياً، فلابد ان يكون قد تصرم عدد لانهائي من الفترات الزمانية بين اي لحظة زمانية وبين الازل، وبما ان مقدار الفترة الزمنية بين الازل وتلك اللحظة الزمانية يساوي الفترة الزمانية بين اللحظة الزمانية نفسها وما لانهاية (والذي يساوي ما لانهاية، بحسب الكندي) فانه يكون قد انتهى اللانهائي وهذا تناقض محال.
الخلل في هذه الحجة هو تصور ان ترتيب العناصر (الفترات الزمانية هنا) في المتسلسلات النهائية غير مهم، فالكندي يرى انك اذا جمعت الفترات الزمانية بين الازل ولحظة اختيارية في الزمان فان الناتج سيكون مساوياً لو قمنا بالامر بالمقلوب (اي من اللحظة الاختيارية الى مالانهاية). وهذا خطأ محض، وسنري الكندي مثال شهير يثبت ان ترتيب العناصر في المتسلسلات اللانهائية مهم جداً.
لنأخذ السلسلة: 1، -1، 1، -1، 1....... هذه السلسلة تتألف من تعاقب الرقم واحد وسالب واحد الى ما لانهاية. فماهو مجموع عناصرها؟ لكي نجد المجموع فاننا قد نضع السلسلة بهذه الصورة:
(1-1)+(1-1)+.....=0 +0+.....= 0
يبدو لنا هنا ان المجموع هو صفر، ولكن بامكاننا ايضا ان نضعها بهذه الصورة:
1+(1-1) +(1-1)+.....=1+0 +0+.....= 1
وفي هذه المرة كان الناتج واحد ! فالترتيب مهم حينما تجمع متسلسلة لانهائية، نفس الكلام ينطبق على القضية محل الجدل التي يتلخص الرد عليها بان الحساب لايصح لعدم وجود رياضيات ندرس بها الانتقال بين الازل والزمان الحالي.
-------------------------------------
1- Craig, The Cosmological Argument, p 61
2- شبكة الطبيعيين الوجوديين،
اربعة ردود على منكري التسلسل اللانهائي
ايضا منشور في شبكة الطبيعيين الوجوديين:
نقد ادلة الحدوث عند يعقوب ابن اسحق الكندي