تحية للجميع،،
خلافاً للطريقة التي يطرحها الأستاذ بهجت لفهم السياسة الخارجية الأمريكية، فإني أطرح هنا ما يمكن تسميته بالبنية التحتية لهذه السياسة، أي الظروف الاقتصادية التي تقود سياسات أمريكا وسلوكيات رؤسائها، وأركز تحديداً على ثلاثة مواقف لثلاثة من رؤساء أمريكا، من الجناح الديموقراطي بالأساس، والاستثناء الوحيد هو إبراهام لنكولن، فعموماً لا أرى حاجةً بنا لمعرفة الجناح الجمهوري، فهو يمثل الجناح المكشوف والفج في السياسة الأمريكية.
هذه المواقف الثلاثة بإيجاز شديد، هى :
1 - الحرب الأهلية الأمريكية، وإدعاءات تحرير العبيد - لنكولن.
في هذه الحرب إدعى الشمال الأمريكي أن الحرب هى حرب لتحرير العبيد، بينما هى لتحرير العمل من علاقات العبودية لنقله لعلاقات العمل الأجرية الرأسمالية، الأكثر إنتاجية، فالهدف هو كسر احتكار ملاك العبيد للعمل، خاصة في ظل ظروف ارتفاع الأجور نتيجة لقلة عرض العمل.
2 - نهاية الحرب العالمية الأولى ونقاط ودور ويلسون الأربعة عشر.
كان لدعوة حق تقرير المصير التي أصدرها ويلسون صداً واسعاً في العالم وقتها، وطبعاً لأن وراء الأكمة ما ورائها (أذكرككم بموقف أميركا هذه نفسها مع وفد مصر المطالب بالاستقلال)، فلم يكن السبب في هذه الدعوة سوى رغبة أميركا في تحييد السيطرة الإمبراطورية البريطانية والفرنسية عن الأسواق في دول ما يسمى الآن بدول العالم الثالث، وذلك بعد تجاوز نمو رأس المال الامريكي حدود العالم الجديد (الامريكتين)، بحيث تطلب الأمر أسواقاً جديدة لتصدير السلع ورؤوس الأموال بعد أن تشبعت الأمريكتين، وبعد أن سنحت الفرصة للانقضاض على العالم القديم، نتيجة لما بدأ يظهر من بوادر الضعف على إمبراطوريات القرن التاسع العشر.
وهذا ما يكشف عن حقيقة إدعاء كثيراً ما تمارسه أميركا أمام العالم وهو كونها دولة مسالمة عاشت في عزلة - كانت العزلة في جانب منها نوع من الحمائية ضد الصادرات الأوربية لها - حتى أجبرتها الظروف على الخروج للعالم بعد الحربين العالميتيين، فالحقيقة هى أن أميركا كانت فعلياً تمارس السياسات الاستعمارية ضد دول أميركا اللاتينية، وخصوصاً بعد إعلان مبدأ مونرو، الذي يمكن اعتباره نوعاً من سايكس بيكو أميركولاتيني.، أُجبرت بموجبه إمبراطوريات أوربا على ترك أميركا اللاتينية لأمريكا لتصبح فناءها الخلفي، الذي تعبث به كيفما شاءت، ولمن يرغب بتفاصيل، فليقرأ "الكتاب الأسود للرأسمالية"، أو ليأخذ مجرد صورة رمزية لما تركته من دمار من رائعة جابرييل ماركيز "مائة عام من العزلة".
3 - جون كيندي والسلام العالمي.
وهو الحالة الوحيدة التي كانت مُخلصة قولاً وفعلاً، في سبيل السلام ومحاربة مافيات القطاع الصناعي العسكري في أميركا، ومطالباته بالكشف عن ممتلكات إسرائيل من الأسلحة النووية، وطبعاً نهايته معروفة.
http://www.youtube.com/watch?v=CpV0kdD52V0
http://www.youtube.com/watch?v=e1xaa-IxTHg&feature=related
----------
والخلاصة هى أن المهم بالنسبة لنا هو الفعالية الواقعية، فالفعالية النهائية هى للطبقة المسيطرة التي تستطيع دائماً فرض سياستها في النهاية سواءً بالسبل الديموقراطية، أو بالقتل وبالاغتيال إذا تطلب الأمر، فليس مهماً أبداً ما يحمله الرئيس كينيدي أو أوباما في رأسيهما من أفكار وآمال عظيمة لمستقبل الإنسانية، وما دام تناقضنا معهم تناقض رئيسي، وهو هنا تناقض ثنائية (الإمبريالية - التبعية)، فلن ننتظر منهم تحريراً، وهو الجوهري بالنسبة لنا، أما ما دون ذلك فهو ما يمكننا انتظاره منهم، وهو الفتات طبعاً، فهل ننتظر الفتات؟؟
---------------------
ويمكنني أن أُورد هنا مثال معاصر هو حربي الخليج الثانية (عاصفة الصحراء 1991م) والثالثة (إحتلال العراق 2003)، الذي يكشف لنا المحرك الحقيقي لسياسات أميركا بغض النظر عن تغير الوجوه والمدارس.
س : ما هو المشترك بين الحربين؟؟
جـ : وفقاً لرؤية أحد أساتذة الاقتصاد، فالمشترك بين الحربين هو محاولة التصدي لإمكانات تعمق حالة الركود الاقتصادي
فحسبما حلل العالم السوفييتي "كوندرتيف" الدورات الاقتصادية بالنظام الرأسمالي، هناك ثلاثة أنواع من الدورات
أ - دورة قصيرة الاجل من 7 : 10 سنوات
ب - دورة متوسطة الاجل من 15 : 25 سنة
جـ - دورة طويلة الأجل من 60 : 65 سنة
المهم أنه كانت هناك توقعات بحدوث أزمة كبيرة من تلك الأزمات المرتبطة بالدورة طويلة الأجل بدءاً من عام 1990م، وتحديداً من نوع الكساد العالمي الكبير، الذي بدأ بعام 1929هـ، واستمر حتى 1935م، وهو ما دفع أميركا لشن الحرب على العراق، وتمويلها على حساب العرب، بما تعدت قيمته الـ 200 مليار دولار، وهى ما وُصفت وقتها بأكبر حقنة اقتصادية في التاريخ، وكانت هذه الحقنة هى التي مكنت أميركا من التصدي لخطر كساد عالمي من طراز 1929م، فهل انتهت هنا القصة؟؟
لا بالطبع، فبعد مرور إثنى عشرة سنة، ومع توقع أزمة جديدة، ولكن من مستوى الأزمات متوسطة الأجل (مع مراعاة أنه لا يمكن بأي حال إلغاء الأزمات نهائياً، فكل ما تفعله أمريكا والرأسمالية بعامة حالياً ما هو إلا ترحيل للأزمات للمستقبل، حتى تأتي الأزمة العاصفة التي لن تبقى ولن تذر)، فكان لابد من حرب جديدة لحقن الاقتصاد الأمريكي بدفقة استثمارية جديدة تقيه خطر السقوط في حفرة كساد جديد.
وباختصار ما تطبقه أمريكا من سياسات الكينزية الحربية يلعب دوراً مزدوجاً (طبعاً أتحدث من المنظور الاقتصادي وحده، وليس عن جميع النتائج والأدوار)، فهو :
أولاً : يقى أميركا ومعها النظام الرأسمالي بمجمله ويلات السقوط في دوامات الكساد المدمرة.
ثانياً : يُعيد توزيع الدخل لحساب مافيات السلاح لديها، والطبقات الأكثر ثراءاً، حيث تدور النقود وتنتقل قومياً كالتالي :
دافع الضرائب الأمريكي ----------------- الحكومة الامريكية ----------------- شركات السلاح
مع العلم بأن الطبقات الغنية في أمريكا الآن ترفض تحمل نفقات تلك الحروب، وتطالب عبر رؤوسها النظرية - تحديداً مدارس شيكاغو والمدرسة النقدية - بتقليل الضرائب عليها عموماً، فهى تريد حروباً على حساب الشعب، بينما تجنى وحدها الثمار !!!!!!!
وهذ بلاشك إحدى العوامل الأخرى التي تلعب دوراً في السياسات الأمريكية، فالتنازعات الطبقية داخل أميركا حول توزيع كعكة الدخل القومي تشكل مدخلاً هاماً لفهم سياسات أميركا الخارجية، ومعلوم أن السياسة الداخلية لا تنفصل عن السياسة الخارجية.
فعندما يطالب أوباما مثلاً بقانون للتأمين الصحي - ولست متابعاً بما فيه الكفاية لتفاصيل الأمر - فهو هنا يصطدم بالضرورة بالطبقات الآمرة في أميركا، مُمثلاً مصالح الطبقات الوسطى بمختلف شرائحها والتي ليس لها مصالح مباشرة في الحروب - وهذا هو الفارق الأساسي بين الديموقراطيين والجمهوريين -، بينما ترغب الطبقات الآمرة في الحروب لدعم الهيمنة الأمريكية المُربحة جداً لها، على حساب باقي الشعب، وبدون أي تكاليف عليها، أو خصومات لحساب هذا الشعب!!!!!
نقطة أخيرة تتعلق بالمبادئ المُدعاة، وهى ضرورة وعينا وتسميتنا للأشياء بأسماءها وليس بما تدعيه أميركا، فهى عندما تقول الديموقراطية والحرية فهى تقصد أساساً الرأسمالية والسوق الحر المفتوح، وعندما تتحدث عن محور للشر فهى تقصد الخارجين عليها المارقين من بين يديها، وعندما تتحدث عن نظام شرعي فهى تقصد نظام تابع لها، وعندما تقول شرعية دولية فهى تتحدث عنما يناسب مقاسها، وهكذا....
وهذه هى القاعدة مهما حسنت نوايا السادة الرؤساء.
تحيـــــــــــاتي،،