ربع قرن يكاد يمضي على "صرختي الأولى" في وجه الحياة .. ومن عجائب "الحياة" فعلاً –كما الطبّ علّمني- .. أنها "ترفث" المتفائلين ممن يرفضون استقبالها بـ"صراخ" أو "بكاء" ..
أنا "ابن جيل" ولد على "فوّهة" بركان خامد .. قرأنا عن "ثورات" و"حروب" و"انقلابات" و"أيدولوجيّات" و"أزمات" و"تغيّرات ديموغرافيّة كبرى" إلخ إلخ .. وقرأنا عن "خلافة عثمانيّة" .. "احتلال فرنسي" .. "استقلال" .. "ماركسيّة" .. "أخوان" .. "وحدة" .. "سوريا الكبرى" .. "نكسة" .. "تشرين" .. "ناصرية" .. "ساداتيّة" .. إلخ إلخ .. أقول .. نحن "جيل" لطّخ أياديه بالورق واقتات على الكلمات والشعارات .. حتى توهّمنا طويلاً أن الحياة ألوان وأطياف وانتصارات وانتكاسات .. لكننا كلّما فتحنا نافذه .. وجدنا "الحيّ" الساكن ذاته .. فيروز ذاتها تصدع .. والناس ذاتها تتزاحم أمام "المخبز" .. و"الصلاة" ذاتها يعيدها المصلّون في كلّ مرّة .. و"الشيخ" ذاته يخطب ذات الخطبة .. وعناوين "الجرائد" ذاتها .. و"الرئيس" ذاته يحيّي ذات التحيّة .. ويصرّح ذات التصريحات ..

نحن عشنا في زمن "التوحيد" .. هذا الزمن الذي بدأته البشريّة –ربّما- يوم ولدنا .. "الأيدولوجيّة الواحدة" .. و"الشخص الواحد" .. و"الحزب الواحد" .. و"القطب الواحد" .. و"الدين الواحد" .. و"الإله الواحد" .. أوتعتبون علينا إن نحن "ألحدنا" بكلّ الكتب وبكلّ "الشعارات" وبكلّ "الكلمات" .. !! .. وتعتبون إن نحن ألحدنا بالتاريخ والجغرافيا والوطن والدين !! ..

نحن جيل "بلا هويّة" .. ولا "انتماء" .. لا نعرف معنى أن "تمنح" نفسك لقضيّة .. ولا معنى .. "الحب" .. "الكره" .. "الشغف" .. "الحقد" .. ولا معنى " أن "يغضب المرء" .. أو "يفرح" .. أو "يثور" أو "ينهار" .. علام "يثور" وعلام "ينهار" إن هو يعيش "الروتين" ذاته .. و"الركود" ذاته .. و"التبلّد" ذاته.. و"الأزمات" ذاتها .. بل وحتى "الفصول" تكاد تكون ذاتها .. !!

أكاد أجزم أنّك –حبيبتي- تتساءلين .. ما علاقة كلّ ذلك بالفلنتاين !! وأين أنت منه !!
راجعي وريقاتي لك واقرئي إذاً .. كم مرّة أسرّيت لك فيها أنّك "سعادتي" و"حزني" .. "لذّتي" و"ألمي" .. "إلحادي" و"إيماني" .. "شغفي" و"حقدي" .. "وطني" و"مهجري" .. "قهوتي الصباحيّة" و"وسادتي المسائيّة" .. "فيروزي" و"هيفائي" ..

أنا منك تعلّمت "الشغف" .. وبك لملمت فتات نفسي .. ولأجلك "بكيت" و"ضحكت" .. وعليك مارست ثوراتي .. انتفاضاتي .. انكساراتي .. أنت –حبيبتي- من أخرجني من "تجهمي" و"ركودي" و"لا مبالاتي" .. أنت من علّمني أن أكون "مزاجياً" .. أن أصحى "ناصرياً" وأنام "ساداتياً" .. أن أبادر بـ "تحيّة إسلاميّة" وأودّع بشعار "ماركسي" .. أنا منك تعلّمت كيف للمرء أن يتوضّأ "بالوسكي" .. وينتشي بماء "زمزم" .. و يولي وجهه شطر المسجد الحرام لينشد "عيناك" أو ليخطب خطبه ثورية يبتدئها ببيت لـ"محمود درويش" .. أنا على سجّاد جسدك صلّيت صلاتي الأولى .. أنا أممتك و"خصخصتك" .. حاربتك وعقدت معك السلام .. غرّمتك بالجزية واقتسمت معك الغنائم والإماء .. أنا ألحدت بك حتى بعتك يوماً بمزاد علني .. وسقطت خاشعاً بعدها لاشتريك بدمي وخبزي .. ونبيذي ..

يعتب علينا "أهلنا" .. "أولائك الذين عاشوا الانتصارات والنكسات - الانتماء" .. أننا –جيلنا- إن عشقنا خرجنا من جلدتنا .. وشططنا وبالغنا .. وخرقنا كل أعراف وقوانين "الانضباط" و"الأخلاق" و"المنطق" و"الرياضيات" و"الأديان" .. هم يخافون "جنوننا" و"هوانا" و"مراهقاتنا" ..
ألمح ذا الخوف في عيني "أمّي" .. في كلّ مرّة تنظر إليّ شارداً ... !!

هم جيل عاش مراهقة "الأيدولوجيّات" و"الأديان" و"القوميّات" و"الحروب" .. وربّما لمّا هم تذكّروا "مراهقة شبابهم" .. احتلم رجالهم على "نظريّة رأس المال" .. وفضّوا بكارة زوجاتهم بـ"سيجار جيفارا" .. وتغزّلوا بأشعارهم بذوات "الياقات الزرقاء" .. ونساؤهم –ربّما- اشتهين "الطائرة" أكثر من "القضيب" .. بدأ حيضهنّ مع الـ"بيروسترويكا" وتوقّف مع انهيار الاتحاد السوفييتي .. وتغزّلن –ربّما- بأشعارهن بكلّ حذاء رجولي .. يشبه حذاء "جورباتشوف" .. !!
هم جيل عاش "ترقّب العاشق" أمام همسات "المذياع" .. و"نشوة العاشق" فوق انتفاضات "الأكتاف" .. و"ضعف العاشق" وراء أسماء حزبيّة مستعارة .. !!

أما نحن .. فجيل باردٌ برود "مسائل الحساب" .. جامد جمود "الروبوتات" .. لا فرق لنا إن قالوا أنّ الإنسان "تطوّر عن قرد" .. أو انتقاه إله ليكون "وريثه على الأرض" .. لا إن مثّلوا لنا الحب بقصيدة "نزاريّة" وأغنية "كلثوميّة" .. أو مثّلوه بنظريّة "فرويديّة" أوديبيّة وكيمياء هرمونيّة .. وبالكاد نفرّق بين عدميّة "نيتشه" و"شوبنهاور" و"كانط" .. وتفاؤليّة "هيفاء" و"قمر" و"نانسي" .. !!
فابتهجي "أمّي" إن نحن "راهقنا" .. إن نحن "هجنا" و"انفعلنا" .. إن بحثنا حولنا عن "المعاني" و"البواطن" .. إن صرنا نميّز الروائح والأصوات .. !!

أتذكرين –حبيبتي- يوم سخرت من تقلّباتك النفسية وقت "الدورة الشهريّة" .. يومها قلت لك : (إي دخيل الله .. هرمونين .. حطيناهن بجحش ولا ببني آدم .. رح يعملو نفس المفعول .. !!)
كم استفزّني –طويلاً- هذان "الهرمونان"!! .. ولو أنّك كظمت غيظك يومها .. لتذكّرت جيّداً أني كنت قد عبّرت لك عن "استفزازي" قبل ذلك بكثير .. يوم طلبت منك قراءة "لغز عشتار" .. وتحديداً فقرة "قمريّة المرأة .. وشمسيّة الرجل" .. !!
هذان "الهرمونان" هما اللذان –بهما- تتمازجين أنت مع "القمر" .. ذا المزاجيّ الهائج الذي لا تحكمه قوانينا (الشمسيّة الباردة) .. فلا جهة "شروق" تحكمه ولا "غروب" .. لا قوّة ابتهاج أو خفوت .. ولا حتّى شكل أو هيئة .. يكبر حتّى يكتمل في أوج خصوبته .. ويتلاشى حتّى يختفي في أوج نزفه .. هذان "الهرمونان" هما الذان جعلا الأنثى هي "العدم الأوّل" ..و "الآلهة الأولى" .. و"الخالقة الأولى" .. و"الفلاحة الأولى" .. وهما اللذان ربّما حافظا على بعض "التوهّج" .. في زمننا هذا .. زمن الجليد .. !!
كم نحن رجال اليوم بحاجة "لدورة شهريّة" .. بحاجة –ولو لبرهة في كلّ شهر- للتقلّبات .. للهيجانات .. للانفعالات .. للألم .. !! ..
حبيبتي .. لا أظنّ أن رجلاً قبلي تجرّأ على قولها لأنثى .. أنت "دورتي الشهريّة" .. و"اليوميّة" .. بل و"اللحظيّة" ..

مضى اليوم "عشرون يوماً" على عشائنا الأخير .. أحصيت خلالها عدد الكلمات التي نطقتها "شفتاي" بعد "القبلة الأخيرة" .. وعدد الأسطح التي لمستها يداي من بعد اعتصاري لك .. وعدد الروائح التي تنشّقتها خياشيمي من بعد رائحة تخمّرك بين ضلوعي ..
مضى "عشرون يوماً" .. ولم أنته بعد من إخراج اللحظات التي حزمتها في حقيبتي .. أنا رجل اعتاد أن يقتات على ما في "حقائب السفر" .. وقد "حزمتك" بكلّ لحظة أمضيناها سويّة .. مع "الزعتر" و"صابون الغار الحلبي" .. و"ألبوم الصور" ..!!

أنا رجل أدمن "الغربة" .. أدمن "العزلة" .. أدمن رائحة الأختام على "جواز السفر" .. شموع ميلاده بعدد "تأشيرات الدخول والخروج" .. وهديّته كلّ "رأس سنة" هي ذاتها .. فيزا سنويّة جديدة على آخر "الجواز" .. أدمن ألقابه "أجنبي" .. "غريب" .. "عربي همجي" .. تلك التي اعتاد أن يسمعها حتى في همسات الجدران والطرقات وإشارات المرور .. !! .. أدمن الضياع في "الطرقات" دون أن تميّزه الوجوه أو يميّزها .. وأدمن أن يكون بلا "تاريخ" ولا "ثقافة" .. وأن يتكلّم بلغات كثيرة .. كثيرة جداً .. تشكّل من أبجديّة وجوده .. القليل جداً .. !!

أنت –حبيبتي- إدماني "الجديد" .. أنت "الوجوه من حولي" .. و"الروائح من حولي" .. و"شمعات عيد ميلادي" .. و"ألقابي" .. و"تاريخي" و"ثقافتي" و"هديّة رأس السنة" .. وأنت أبجديّاتي ولغاتي ووجودي ..
أنت –حبيبتي- من أخرجني من "غربتي" و"عزلتي" من على بعد آلاف الكيلومترات ..

فشكراً لك ..
أحبّك

خوليو

اسمحلي ان استخدم كلماتك لاهديها للاختراع الذي اسمه حبيبتي ...فانا من نفس الجيل و ايضا كفرت بقراني و بكتاب قوميتي "تبع ايام المدرسة"
تحية يا خوليو

ياااااااااااااه ... "من زمان" لم أقرأ مثل هذا النص الجميل في ساحات النادي ...

عوداً حميداً يا سندي ...



واسلم لي
العلماني

wow!!

هذا ليس وصفاً لمشاعر، هذه مشاعر حية تتفاعل أمامي في سبك لغوي رائع.
خوليو

روعه ....

ابداع ....

رائع!
أجدت بشكل أو بآخر تجسيد مشاعر جيل كامل! لك التحية ، ولجيلنا الصبر والسلوان!

تحيات لك والى هذه الثورة الصغيرة على الورق

وما الحب الا ثورة ذاتية وشخصية جدا


وحب

شكراً جميعاً .. ردودكم أثلجت صدري خاصة وأنها جاءت من أقلام غالية على قلبي ..

تحيّاتي

خوليو