A wise man proportions his belief to the evidence" David Hume”
"الرجل الحكيم تتناسب معتقداته مع حجم ما يؤكدها ". دافيد هيوم .
موقف من الإله .
حتى المشاركة 28 كنت مصاحبا ريتشارد داوكنز في كتابه الهام " وهم الإله "the god delusion ، وهو كتاب كبير تصل صفحاته إلى حوالي 400 صفحة ، هذه الصحبة ليست تلخيصا لكتابه ، و لكنها هوامش على هذا الكتاب ، فكثير مما جاء في المداخلات ليست من كتاب داوكنز ،و لكنها كلها تنسجم مع الكتاب ، وما اختلفت معه أوضحته في السياق .
عند قراءة الكتاب سنجد أن داوكنز ذكر اسم (دافيد هيوم) أكثر من مرة ، و على وجه التحديد 7 مرات ، وهذا بالطبع بخلاف ما ذكره عن الكاردينال ( بازل هيوم ) ، و بعضنا يعرف أن دافيد هيوم فيلسوف اسكتلندي كبير ، و قد ارتبط اسمه مع جون لوك و جورج بيركلي بالفلسفة التجريبية Empiricist. ذكر ريتشارد داوكنز أن هيوم رفض نظرية التصميم الذكي ،و لكنه لم يقدم رافعة بديلة ، و كان على البشرية أن تنتظر داروين الذي فسر لنا ما يبدوا تصميما في الحياة خلال نظرية الإختيار الطبيعي ، و ينتقد داوكنز موقف هيوم و ايمانويل كانط الذي يصفه بأنه لاأدري agonistic ، في هذه النقطة تحديدا اختلف مع ريتشارد داوكنز ، وهذا موضوعي خلال المداخلة او المداخلتين القادمتين .
لقد توقفت نهائيا على طرح قضية وجود إله على نفسي ، و أضحت ذكريات من أيام الصبا و الشباب المبكر. إنني لست حتى ملحدا ، فقط لا أفكر في هذه الأشياء ، و أرى التفكير فيها نوع من العبث الذي ربما لا يليق بالناضجين .( هذا الوصف لا يشمل بالقطع الزملاء في ساحات الحوار الديني ! ) .
على المستوى الشخصي لا أصدق أن هناك إله متفرغ لسلق البشر في الماء المغلي لأنهم يتمتعون بالأساطير كأساطير ، ولا يصدقون حدوثها . و إذا كان الأمر برمته إختبارا للذكاء ، أليس الأجدى عقاب من يصدق الخرافات ،و مكافئة الأذكياء الذين يمتلكون الذكاء و الشجاعة لرفضها !.
سوف استغل هذه المداخلة لحديث ربما لن يتحمله الكثيرون حول خرافة الميتافيزيقا ، و أن كل ما لا ينتمي للعالم الطبيعي ليس حقيقيا ، و طالما أن الدين هو بمثابة القول بأن الغير موجود في الطبيعة هو موجود أيضا ، فليس من العقل أن نصدق تلك الأديان !. إن التدين هو ذوق و تجربة روحية و ليس قابلا للإحكام العقلية ، و لهذا لا يجب أن يكون الدين مصدرا للمعرفة العلمية .
1- بداية دعني أوضح أن قصور العقل هو فكرة منطقية لا أعتقد أن هناك من يعارضها في عالم اليوم . نعم العقل محدود لأنه سجين حواس خمس و تجربة محدودة الزمان و المكان ، فماذا تعني بضع مليون من السنوات على الكرة الأرضية ؟. إن العقل لا يستطيع حتى أن يدرك العالم المحيط بنا بشكل مطلق بل فقط يدرك علاقاته النسبية ، ولو تواجد العقل وحده في الكون لن يدرك ذاته !.
2- حسنا لنمضي قليلا إلى الأمام ، لنعلم أن العقل لا يدرك الكون بل فقط صورة الكون داخله ، وهذا القصور مطلق ، بمعنى أنه يستحيل منطقيا أن يدرك الكون في المستقبل بشكل آخر .هل صورة الكون هي الكون ذاته ؟ . بالقطع لا .. هل صورة الشجرة على فلم سينمائي هي شجرة ؟. كيف يدرك العقل هذه الشجرة ؟. رؤية و لمس ورائحة و تذوق .. الخ . هل هذه المفردات سوى صور داخل العقل ،و لن يمكننا أبدا أن ندرك الشجرة بشكل آخر .حسنا ماذا لو كان لدينا 15 حاسة و ليس خمس حواس؟ ، سندرك إذا الشجرة بشكل مختلف كلية ،و سيكون معنى الشجرة مختلف .
3- حتى في مجال التجربة البشرية ، لا يجيب العلم أيضا عن كل الأسئلة بكفاءة بل فقط بعضها .العلم يجيب بشكل جيد عن أسئلة تصف و لا تعلل ، أسئلة مثل كيف و أين و متى و لكنه لن يجيبك عن لماذا ؟. لماذا يدور الإليكترون حول النواة ؟. ( طبعا هناك إجابات ذات طبيعة وصفية مثل لأنه يوجد على مدار ذو طاقة معينة و أن هناك قوتان تؤثران فيه ، قانون الجاذبية يدفعه للنواة ، و ليكون على هذا المدار لا بد أن يدور فيولد قوة دافعة مركزية تطرده إلى الخارج ،و هذا المدار يحقق التعادل بين القوتين ) ،و لكنه لن يجيب لماذا نشأت قوة الجذب أصلا ؟!.ومن أين استمد الإليكترون الطاقة التي بدأ بها الحركة ؟
4- بل حتى لو أخذنا حاسة واحدة وهي النظر ، فسنجد أن العين تدرك حيزا محدودا من الأشعة الكهرومغناطيسية محصورة بين الأشعة الحمراء و البنفسجية ، و لكن العين لن تدرك ( ترى ) مثلا الأشعة تحت الحمراء و لا الراديو ولا الأشعة الكونية إلا لو ترجمت إلى أشعة مرئية أو حرارة .... الخ ،و لو تصورنا جدلا أن العين ترى أشعة الراديو مثلا لأدركت العالم بشكل جد مغاير .
5- إن السؤال المحوري هو : ماذا نرتب على تلك الحقيقة ،و هي قصور العقل ؟ . هل الصدوف عن العلم و التحول إلى الخرافية ؟. هل نعطل العقل عن التفكير ؟. إن العقل ليس كاملا و لكنه أداتنا الوحيدة لفهم العالم ، فلا يجب أن نبحث عما في مجال العلم خارج العلم ، لأن ذلك مجرد عبث .لا يجب أن نبحث عن علاج الأمراض خارج العلم ولا أسباب الظواهر الطبيعية و تعليل الكوارث و أسباب الانتصار في الحروب و تحليل الظواهر التاريخية كنشأة و اضمحلال الحضارات و الدول ... الخ
6- بعد ذلك سيواجهنا نوعان من الغيبيات .غيبيات لأننا لم نعرفها بعد ،و لكن يمكننا معرفتها مستقبلا ، لو بذلنا جهدا أكبر ،أو اكتشفنا أشياء أكثر ، أو كان لدينا عددا أكبر من العبقريات أو عددا أقل من الأغبياء !........ و لكن معرفتها ليست مستحيلة عقليا . مثل السبب في مرض الإيدز أو مرض السارس أو ما هي مكونات الإليكترون ... ؟.
7- و لكن أيضا هناك غيبيات لن يمكننا معرفتها مطلقا ، لأن العقل قاصر ولأنه يستمد طبيعة تفكيره من تجربة الإنسان محدود الإدراك ( حواس خمس فقط ) ، في مكان محدود و زمان محدود ،و بالتالي فالعقل في أكمل حالاته لن يجيب لنا سوى عن أسئلة تنشأ عن نفس التجربة التي نشأت فيها المعرفة ، فالعقل لن يجيبنا عن أسئلة تطرح من تجربة مختلفة ، لن يجيب لماذا خلق الله العالم مثلا ؟.وما هو مصيرنا بعد الموت ؟. بل إن استناطق العقل عن إجابات على تلك الأسئلة جهل بطبيعة العلم و العقل معا .
لماذا تتجه الكائنات نحو حفظ النوع و الارتقاء ؟
لماذا لا تفنى المادة ولا تستحدث ؟
لماذا يتمدد الكون من البداية ؟.
هذه الأسئلة و غيرها من الأسئلة المشابهة لن يجيب عليها العلم و لا ( العقل ) الآن ولا مستقبلا ، لأنها مستحيلة عقليا .
نمضي قليلا و نقول أمامنا طريقان هما : أن نقر بأن مجرد طرح تلك الأسئلة هو خطأ منطقي ،و أن تلك الأسئلة هي مجرد لغو !.
أو نبحث عن الإجابات في مجال آخر ، الدين .. الحدس .. التأمل ..
نعم إن التدين ظاهرة اجتماعية/ سياسية خاضعة للقياس و التحليل و كافة أدوات العلم الاجتماعي ، و لكن لعلك تلاحظ أن حديثنا تمحور حول الجانب الفلسفي من العقائد الدينية ، وهو جانب ذو طبيعة ميتافيزيقية غير علمية ، مثل أي وهم ميتافيزيقي آخر .إن الذي أنكره إنكارا تاما هو إمكان التحدث عن أشياء غير محسة ،و لو قال أحد أن تلك هي مهمة الفلسفة الدينية ، بل الفلسفة ( الميتافيزيقا ) بشكل عام ، فسوف أؤكد له أن الفلسفة بذلك تفقد أساس وجودها ، و تستحيل إلى لغو غير مجدي ، و الوظيفة الوحيدة للفلسفة هي تحليل الأفكار التي ترد من المعارف الحسية خارجها .
إن هناك فهم خاطئ للفلسفة يؤدي إلى إلحاق أصول العقائد الدينية بها ، و لكن الفلسفة لا تطرح قضايا من داخلها ، وهي لا تقف مع العلوم على قدم المساواة ، ولأنها ليست نظريات تضاف إلى غيرها من النظريات بل هي آلية لتحليل القضايا العلمية ، و ليس نتيجة العمل الفلسفي الصحيح تقديم مجموعة من القضايا الفلسفية بل تقديم توضيحات للقضايا المطروحة من المعرفة المادية ،و التي يتحدث بها غير الفلاسفة .
نعم هناك فلاسفة متأملون يقولون عن الكون عبارات و جملا ميتافيزيقية ، مثل جميع الفلاسفة الدينيين ، و لكن ليس من الصعب أن نبين أنها كلام بلا مضمون ، أي مجرد أخلاط صوتية .
لدافيد هيوم الفيلسوف الإنجليزي الشهير عبارة محورية هي :" إذا تناولنا كتابا كائنا ما كان في اللاهوت و في الميتافيزيقا الاسكولائية مثلا ، فلنسأل :هل يحتوي هذا الكتاب على أي دلائل مجردة تدور حول الكم و العدد ، أو هل يحتوي على إثباتات تجريبية تدور حول الحقائق الواقعية القائمة في الوجود ؟. لا ، إذا فاقذف به في النار لأنه لا يحتوي على شيء غير سفسطة ووهم ".
هذا يا عزيزي ما أريد قوله لا أكثر . إن كثيرا من الفلاسفة بل و حتى المتفلسفين بما في ذلك كل رجال الدين يستمدون قيمتهم من غموض العبارة ،و ليس من رجحان الفكرة ،ولو أعدت صياغة عباراتهم بشكل أكثر دقة و اتساقا لن تجد شيئا .
للموضوع بقية