(04-03-2010, 04:18 AM)إبراهيم كتب: اقتباس:إذ من الصواب ان نبحث في "البلاغة" إن أردنا العرض لهذا الموضوع. فالفصاحة ليست إلا أحد شروط البلاغة، وإن كان الرجل فصيحاً ولم يكن بليغاً فهو مصيبة على نفسه وعلى أهل بيته وعلى قومه وعلى وطنه
بحسب كتاب أنطوان مسعود البستاني الذي اشتريته مؤخرًا وفي صفحة ١٥: "الفصاحة تكون في الألفاظ، والبلاغة في الألفاظ والمعاني، وعليه فكل بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغًا."
وفصاحة الكلمة هي أن تكون واضحة، مألوفة، متلائمة الحروف مطابقة الأصول. (صفحة عشرة من الكتاب ذاته).
يا علماني: ليس من الإنصاف أن نقول إن اللغات الأوروبية تفضل العربية في الفصاحة أو العكس ولكن القول بأن العربية أفصح اللغات ليس في نظري سوى نعرة عربية شوفينية لا أساس منطقي يدعمها أو يبرهن عليها. بالتأكيد كل واحد يرى أن لغته أفضل اللغات وأفصح اللغات وأجمل اللغات وهلم جرًا.
يكفي أن نقول يا علماني أننا عندما نكتب بالعربية نتكيف تكييفًا ذهنيًا معينًا لا نتكبده عندما نفكر بالانكليزية أو أي لغة أوروبية تقريبًا. أمن عجب بعد كل هذا أن الإقبال على الكلمة المكتوبة صعب؟ هذا ليس ذنب شعبنا ولكن ذنب لغتنا المتعجرفة. أشتري كتاب بالعربية وأحيانا النص الأوروبي ينساب في سهولة أكثر وكأنه يتكلم بلغة الحديث العادي بينما النص العربي يتطلب مشقة وتركيز والانتقال من أجواء الحديث العام إلى تعقيدات النص العربي المكتوب. لهذا وبكل بساطة الإقبال على الكتب في عالمنا العربي أمر شاق وحتى لو أتيت بهذه الكتب على طبق من ذهب... يقرأ ماذا؟ يقرأ كتب تجعل عقله يلف ويدور حوالين نفسه؟!
وألف شكر على ردك المفصل وعلى الرابط الجميل للكتب.
أهلين "ابراهيم"،
ما قاله "البستاني" عبارة عن "ثوابت معروفة" عند "البلاغيين" (وكنتُ قد أشرت له كما هو واضح في مداخلتي السابقة)، فالعرب منذ فترة طويلة ميّزوا الفصاحة عن البلاغة وحاولوا ضبط المصطلحين وتحديد أطرهما. لذلك قلت في مداخلتي السابقة بأن "الفصاحة والبلاغة" ليستا "وجهات نظر" بل مسائل محسومة منذ أمد بعيد.
بالنسبة للمفاضلة بين اللغات فأنا لم أدعّ بأن اللغة العربية هي "أفصح اللغات"، فادعاء مثل هذا يحتم عليّ أن أعرف دقائق "كل اللغات" وهذا محال. ما قلته هو أن "العربية"، رغم مشاكلها، قد تفضل لغات ثلاثة أعرفها جيداً هي: "العبرية، الإنجليزية والفرنسية".
لندع "العبرية" جانباً، فأصحابها أنفسهم يسطون منذ عقود خمس على "قواميس اللغات الأوروبية" كي يثروا لغتهم القديمة بعد تجديدها. لندع "العبرية" ولنقبل على اللغتين اللتين كانتا لسان "الحضارة" منذ قرون ثلاثة مضت (على الأقل) حتى اليوم. فالفرنسية كانت "لغة الثقافة" في أوروبا منذ القرن السابع عشر، ولم يزحزحها عن عرشها إلا الانجليزية في القرن العشرين.
أنا أزعم بأن "العربية" لغة متطورة (كتابة وقراءة وتعبيراً) أكثر من "الانجليزية والفرنسية" على السواء، وهذا ليس له علاقة "بالشوفينية" ولا من يحزنون. فأنا لا أتحدث عن "عرق وجنس" ولكن عن "أداة ووعاء ثقافي" نستطيع أن نرصد بعض خصائصه و"في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل" – كما يقول المتنبي -. لنأخذ ثلاث أمثلة عن الإبانة والإظهار (الفصاحة) ومثلين عن اللغة المكتوبة :
1) مع "العربية" تستطيع أن تؤدي المعنى كاملاً بعدد كلمات أقل مما أنت تحتاجه في الإنجليزية والفرنسية (إيجاز = إبانة (فصاحة) واقتصاد = مفيد مختصر).
2) ضمير المخاطب في اللغات الغربية عموماً لا يميّز بين الذكر والأنثى، فالسامع لا يعرف إن كنت تخاطب ذكراً أم أنثى إلا بالكاد. هذا القصور عن "الإبانة " هو ضد الفصاحة "على طول". بل ان الأمر في الإنجليزية أدهى وأمرّ: فضمير المخاطب المفرد YOU هو نفسه ضمير مخاطب الجمع، والأنكى أن الفعل اللذي يُصرّف معه لا يختلف عن الفعل الذي يُصرَّف مع "ضمير مخاطب الجمع". يعني YOU GO تبقى على حالها في المفرد والجمع فلا يعلم السامع إن كنت تحدث فرداً أو مجموعة أفراد لا من الضمير ولا من الفعل معه.
3) لو وضعت – بالانجليزية والفرنسية - "اسماً" يصلح للرجل والمرأة مكان ضمير الغائب (اسم مثل: سلام، جمال، فرح ...إلخ)، ثم وضعت أي فعل تريد بعده لصلح حال القاعدة دون أن يعرف السامع "جنس الغائب".
قد يقول قائل بالنسبة للضمير والتمييز (النقطة 2 و3 أعلاه): ولكن ما وجه الحاجة إلى "التمييز بين الذكر والأنثى"؟ أهو مهم إلى هذه الدرجة والانكليزية تستغني عنه تماماً؟
هنا نقول أن هذا مهم جداً في بعض الأحوال، ولكن هب أنك لا تحتاج هذا التمييز، فعليك أن تذكر أن "اللغة عبارة عن أداة للتعبير"، وكلما استطاعت هذه الأداة التعبير بدقة أكثر وشمول أكبر عن كل شاردة وواردة فهي بالضرورة تكون متطورة أكثر من تلك الأداة التي تعبر "بالجملة" عن وضع من الأوضاع أو حيثية من الحيثيات.
4) على صعيد الكتابة، فإن في كل كلمة من كلمات "الفرنسية" هناك حروف زائدة تكتب ولا تلفظ، وفي الإنجليزية هذا أقل طبعاً ولكنه قد يكون قاعدة عامة (مثل حرف e في ألوف كلمات القاموس الانجليزي).
5) في الفرنسية والإنجليزية، عندما يتوجب عليك أن تشدد حرفاً فإنك تكتبه مرتّين وهذا بحد ذاته إسراف استعاضت عنه العربية "بالشدة" التي قد لا يتوجب عليك كتابتها (كما في الصحف والمجلات) دون أن تقع في المحظور. هذا طبعاً عدا "الإسراف" عن بلوغ لفظ "حرف" من خلال "حرفين": فالانجليزي والفرنسي يتوصل لكتابة حرف "الشين" من خلال SH بل ان الفرنسي يتوصل إليه من خلال ما تقدم ومن خلال الـ CH دون أن تفهم الفرق بين "الإس والسي" في هذه التوليفة العجيبة.
سوف أعود للحديث في قضية العامية والفصحى غداً أو بعد غد.
فصحاً مجيداً، وكل عام وأنت بخير
واسلم لي
العلماني