(1)

النص التالي عبارة عن "بطاقة تعريف" بالمدينة وجدتها في "ويكيبديا"، تفيد في اكتساب بعض "المعلومات الموسوعية" عن "حيفا". ولكن كالعادة، هذه النوعية من المقالات جافة جامدة لا يكاد يزدردها من يحاول بلعها. لذلك فإنني أرجو أن أجد على الشبكة أو خارجها ما هو قريب أكثر لتنسم هواء "الكرمل" ومداعبة رمال "عتليت والطنطورة" والتزود من ألق هذه المدينة الساحرة ... حبيبتي الأبدية !!!

عموماً، أعد بمداخلات أخرى في الموضوع تستطيع أن تفي ببعض الغرض.

--------

حيفا هي مدينة في فلسطين تقع على جبل الكرمل وشواطئه، وهي من أقدم مدن فلسطين التاريخية.

حيفا هي من أهم موانئ شرق البحر الأبيض المتوسط ومقر سكة الحديد الفلسطينية الرئيسية. تتميز المدينة بتعددية الطوائف التي تعيش فيها. يعود تأسيس المدينة حسب تقديرات علماء الآثار إلى عهد الكنعانيين من مدن ما قبل التاريخ، ولكن عثر المنقبون بجوارهأعلى بقاياهياكل بشرية تعود بتاريخها إلى العصر الحجري وآثار حضارات العصر الحجري القديم بمراحله الثلاث (نصف مليون سنة إلى 15 ألف سنة قبل الميلاد).(ملاحظة:كل ما يقال عن الزمن بالملايين هو في الحقيقة كلام غير علمي بل مجرد تخرصات حيث اكد كثير من العلماء المتخصصين بأن تقنية الكربون المشع غير دقيقة بالمرة وخصوصا كلما تقادم الزمن).

يبلغ عدد سكان مدينة حيفا 270400، 91.1% منهم يهود، 4.8% عرب مسيحيون، 3.8% عرب مسلمون و0.1% دروز. تعتبر حيفا مركزا ثقافيا لعرب الـ48 وتتميز بالتعاون الثقافي والسياسي بين اليهود والعرب فيها. في "بيت الكرمة" بـوادي النسناس يتم في شهر ديسمبر من كل عام المهرجان الثقافي "عيد الأعياد" بمناسبة عيد الميلاد المسيحي ، وكذلك عيد الفطر أو عيد الأضحى إذا وقع أحد منهما في الشتاء. في موسم الصيف من كل عام ينعقد فيه مهرجان "أسبوع الكتاب العربي".

محتويات
1 أصل الكلمة
2 حيفا عبر التاريخ
2.1 حيفا في العصور القديمة
2.2 الفتح العربي الإسلامي
2.3 حيفا في عصر الغزو الفرنجي (الحروب الصليبية)
2.4 حيفا في العهد العثماني
2.5 الاستيطان الألماني في مدينة حيفا
2.6 حيفا في عهد الانتداب البريطاني
3 حيفا في الأدب العربي
4 مراجع


أصل الكلمة
أصل كلمة حيفا غير واضح، فمنهم من يقول أنها مشتقة من الكلمة العبرية חוֹף (حوف، ومعناها الساحل)، أو חוֹף יפה (حوف يافيه، أي الشاطئ الجميل)، أو من جذر الفعل العبري ח-פ-ה (والجذر العربي النظير هو خفي) أي "المدينة الخافية". الحجاج المسيحيين في العصور الوسطى (والصليبيون من بعدهم) كانوا يسمون القرية «كايفاس» (Caiphas) أو «كايفا» (Caifa). يعتقد المسيحيون أن الاسم مشتق من «كايافاس» (Caiaphas) الأسقف الأعلى لأورشليم في وقت المسيح، أو من الاسم الآرامي للقديس بطرس (כיפא أو كيفا). بالإضافة إلى ذلك، الاسمين سايكامينون (Sycaminon) أو سايكامينوس (Sykaminos) ومعناه "الفراولة البرية" يستخدمان أيضا. البعض يقول أن كلمة حيفا عربية أصلها من «حف» بمعنى شاطئ، أو الحيفة بمعنى الناحية. وذات الحيفة من مساجد النبي محمد بين المدينة وتبوك.

مدينة حيفا تذكر بهذا الاسم في التلمود إلى جانب مدن رئيسية أخرى في الجليل والكرمل (بيسان، طبعون وغيرها). ويذكر التلمود السكان اليهود في حيفا كما أن لفظهم للغة العبرية يختلف عن اللفظ العادي حيث يلفظون الحاء كالهاءوالعين كالألف. حيفا هي مدينة فلسطينية وتبقى فلسطينية.

حيفا عبر التاريخ

منظر من حيفافي أوائل القرن العشرين كانت أكثر المدن الفلسطينية ثقافة ورفعة. واستوطن في المدينة عبر العصور جماعات مختلفة من عرب وأرمن ويونان وفارسيين وألمان وهنود، كما شجع ثيودور هرتسل اليهود على الاستيطان فيها.

في نكبة عام 1948 م، طُرِد وهُجِّر غالبيّة سكان حيفا العرب منها فاستحالوا لاجئين حيث لم يسمح إلا للقليل منهم بالعودة إلى مدينتهم، في حين صادرت دوالة إسرائيل البيوت العربية التي هجَِرت من أهلها. هذا وما زال سكّان حيفا العرب يعانون من المحاولات المتكرّرة لطمس التاريخ والماضي العربي وللتهويد الكلي للمدينة؛ وهو ما نراه في عمليات الهدم الجارية في حي وادي الصليب، وفي تغيير اليافطة الموجودة في مدخل حي وادي الجمال لتحمل الاسم العبري "عين هايام" بأحرف عربية، وفي إهمال البلديات للأحياء العربية القديمة كالحليصة والمحطّة وما إلى ذلك.[1] بالإضافة إلى كل ذلك، فلم يتم بناء أي حي عربي جديد في حيفا منذ 1948، في حين تمّ بناء المئات من الأحياء اليهودية.[1] ويعتبر السكان العرب الذين بقوا اليوم من أنشط الجماعات الداعية إلى المساواة في إسرائيل، كان من بينهم الكاتب إميل حبيبي، المؤرخ اميل توما، الكاتب بولس فرح، المحامي الأرض حنا نقارة، والقائد توفيق طوبي.

حيفا في العصور القديمة
ما زال الغموض يكتنف نشوء المدينة، إذ لم يستطع المؤرخون تحديد الفترة الزمنية التي نشأت فيها المدينة، رغم أن معظم الحفريات الأثرية تشير إلى أن مناطق حوض شرق البحر الأبيض المتوسط، كانت أحد أهم المناطق التي أقام فيها الإنسان حضارته، نظرا لموقعها الجغرافي المتميز، ومناخها المعتدل وخصوبة أرضها، ووفرة المياه فيها، وقد تبين من خلال الاكتشافات الأثرية في المدينة أنها كانت من المدن التي استوطنها الإنسان منذ أقدم العصور. وعند شواطئ حيفا نشبت معركة بين الفلسطينيين والمصريين في عهد رمسيس 1191 ق.م، امتلك الفلسطينيون بعدها الساحل من غزة إلى الجبل، ولما استولى اليهود في عهد يوشع بن نون على فلسطين جعلت حيفا من حصة (سبط منسي). أصبحت تابعة لحكم أشير أحد أسباط بني إسرائيل، بعد سقوط الحكم الكنعاني. وقد تقلبت عليها الأحوال فهدمت وخربت مرات كثيرة في عهود الأمم التي تقلبت على فلسطين، كالآشوريين، والكلدانيين والفرس واليونان والسلوقيين. وفي عام (104 م) خضعت حيفا للحكم المصري.

الفتح العربي الإسلامي
تم فتح حيفا في عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، وذلك على يد قائده عمر بن العاص عام 633 م، ونتيجة لذلك بدأت القبائل العربية بالاستقرار في فلسطين، وعلى وجه الخصوص في مناطق الساحل الفلسطيني، ومن أهم القبائل التي استقرت في منطقة حيفا قبيلة بن عامر بن لام في سهل مرج ابن عامر، وقبيلة بن لام في منطقة كفر لام، وبقيت حيفا جزءا من الدولة الإسلامية طيلة العهد الأموي والعباسي.

حيفا في عصر الغزو الفرنجي (الحروب الصليبية)
ضعفت الدولة العباسية في أواخر عهدها، وعجز الخلفاء في السيطرة على أجزاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، الأمر الذي أدى إلى تمرد بعض الولاة وإعلان قيام دويلاتهم المستقلة عن الدولة الام، وهو ما يعرف في التاريخ بعصر الدويلات، وقد ترتب على ذلك زيادة في ضعف الدولة الإسلامية وتشتتها وفرقتها، مما حدا بالدول الأوروبية إلى إظهار مطامعها بأملاك الدولة الإسلامية من خلال محاولاتها السيطرة على أجزاء من أراضى هذه الدولة بحجة حماية المناطق المقدسة، وقد أدت هذه الأطماع إلى القيام بعدد من الحملات. ومع بدء الحملة الأولى على الشام بقيادة " جود فري " سقطت حيفا بيد الفرنجة عام 1110م على يد " تنكريد " أحد قادة هذه الحملة.

حيفا في العهد العثماني
انتقلت حيفا إلى العثمانيين في عهد سليم الأول 922هـ – 1516م. وقد أشير إليها في مطلع العهد بأنها قرية في ناحية ساحل عتليت الغربي التابع لسنجق (لواء) اللجون، أحد ألوية ولاية دمشق الشام. بدأ العثمانيون منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر يعمرون ببطء، وذكرت دفاتر التمليك (الطابو) أن قرية حيفا كانت ضمن قطاع آل طرباي الذين أصبحوا يعرفون باسم الأسرة الحارثية في مرج ابن عامر 885 – 1088هـ / 1480- 1677م.

الاستيطان الألماني في مدينة حيفا
بدأ هذا الاستيطان 1868م، من قبل مجموعة عائلات ألمانية قادمة من جنوب غرب ألمانيا، وقد أقام هؤلاء مستوطنة لهم في القسم الغربي من المدينة، حيث زودوها بكل وسائل الرفاه والتنظيم، فأقاموا المدارس الخاصة بهم وعبدوا الطرق وبنوا الحدائق، ووفروا كل مرافق الخدمات العامة فيها، ونتيجة لذلك بدأ عدد سكان المستعمرة في التزايد. وتلاحق بناء المستوطنات الألمانية في منطقة الساحل، حيث أقيمت مستعمرة ثانية عام 1869م في حيفا، ثم مستعمرة ثالثة بجوار سابقتها أطلق عليها اسم شارونا، وقد مهدت هذه المستوطنات في النهاية إلى إقامة أول حي ألماني على الطراز الحديث في المدينة، وهو حي "كارملهايم" في جبل الكرمل.

لا شك أن الألمان ساهموا في تطور مدينة حيفا، من خلال ما جلبوه من وسائل وأساليب زراعية حديثة.

حيفا في عهد الانتداب البريطاني
بعد خروج بريطانيا منتصرة من الحرب العالمية الأولى عام 1918م، أصبحت فلسطين خاضعة لانتداب البريطاني الذي أقيم على أساس وعد بلفور الذي وعد الحركة الصهيونية بإقامة "وطن قومي" يهودي في فلسطين. في السنوات الأولى من فترة الانتداب شجعت سلطات الانتداب الهجرة اليهودية إلى فلسطين وسهلت عليهم إجراءات شراء الأراضي في منطقة الانتداب. غيرت السلطات البريطانية سياستها في فترة لاحقة، ولكن عدد السكان اليهود في مدينة حيفا ما زال يزيد حتى أصبحوا الأكثرية من بين سكان المدينة في بداية أربعينات القرن ال-20. وقد بلغ عدد التجمعات اليهودية الجديدة التي أقيمت في قضاء حيفا خلال فترة الانتداب 62 تجامعا سكنيا.

في خطة تقسيم فلسطين من 1947 وقعت حيفا ضمن حدود الدولة اليهودية الموعودة حيث قررت لجنة الأمم المتحدة أن تكون المدينة الميناء الرئيسي لهذه الدولة. وفي 21 أبريل 1948 أبلغ الحاكم العسكري البريطاني العرب قرار الجلاء عن حيفا في حين كان قد أبلغ الجانب الصهيوني بذلك قبل أربعة أيام وكان هذه الإعلان إشارة البدء للقوات الصهيونية خطتها في الاستيلاء على المدينة.

وتعد هذه المدينة البلد الأصلي للمخرج العربي المسلم سام بلاك، مخرج الأفلام الوثائقية.

حيفا في الأدب العربي
عن الشاعر الفلسطيني عصام نور الدين العباسي:
أيـهـا القـلب ألم نقسم مـعا في ربى الـكرمل أن لا نخنعا
لـعيون الـغيد مهمــا سحرت لـــعـذاب الـحـب أن لا نرجـعا
مــا لك اليوم حنثت الـقسما مـسـتهـاما وهجرت الأضـلعا

محاولة رقم 7، عن الشاعر الفلسطيني محمود درويش :
أُحبّ البحار التي سأحبُّ
أحبُّ الحقولَ التي سأحبُّ
ولكنًّ قطرة ماءٍ بمنقارِ قبّرة في
حجارةِ حيفا
تعادِلُ كلَّ البحار

عن الشاعر أحمد دحبور من مقدمة ديوانه :
"حيفا هذه ليست مدينة، إنها الجنة ومن لا يصدق فليسأل أمّي،
- يمة... خُذيني إلى حيفا.
- غدًا تكبر، يا حبيبي، وتأخذني أنت إليها.."

عن رواية عائد إلى حيفا للأديب الفلسطيني غسان كنفاني:
"وأخذت الأسماء تنهال في رأسه كما لو أنها تنفض عنها طبقة كثيفة من الغبار: وادي النسناس، شارع الملك فيصل، ساحة الحناطير، الحليصة، الهادار، واختلطت عليه الأمور فجأة، ولكنه تماسك، وسأل زوجته بصوت خافت:
- حسنًا من أين نبدأ ؟"

(2)

مداخلة للزميل العزيز "عاصي"، منقولة عن موقع "دنيا الوطن"، في موضوع قديم لي يتحدث عن حيفا (سوف أضع الموضوع المذكور في المداخلة التالية):

----------

(02-19-2008, 01:37 AM)عاصي كتب:  


كانت مدينة حيفا مركزا استراتيجيا من الدرجة الأولى في الفترة الانتدابية لفلسطين، ويعتبر ميناؤها ثاني أهم موانئ شرق البحر الأبيض بعد ميناء الإسكندرية، ومركز فلسطين البري من خلال سكّة الحديد الحجازيّة، وفيها مركز لشركات كُبرى مثل «آي بي سي»، وشركة «الشيل» وشركة « دمشق ـ الوطن ستيل» ومصفاة البترول وشركات البواخر، وأكبر مصنع للتبغ في فلسطين لابل بل يعد من اكبر المصانع في العالم العربي " قرمان ديك وسلطي " وهذه المراكز فتحت وأفسحت المجال لسكان حيفا وللعرب القادمين من سوريا ولبنان، كذلك اليهود للعمل، فكانت حيفا مدينة ذات خصوصيّات مميَّزة فلم يسُدها التطرّف ولا التّوتّرات التي وضعها الانجليز والحركة الصّهيونيّة بكامل ثِقلهم فيها لإحداث وتنفيذ مآربهم. حين ذكر مدينة حيفا وبالأخص تاريخيا يقوم احد المسنين بلفت أنظارنا إلى أن هذه المدينة هي اقتصادية من الدرجة الأولى لابل وإنها ورشة صناعية لامثيل لها بين المدن المركزية والساحلية الكبرى في فلسطين .. فيبدو أن السكة الحجازية التي بادر لإنشائها الترك مع بداية العام 1905 لتسهيل عملية الحج والسفر إلى الديار الحجازية كان لها وقع في نفوس السكان المحليين على أن السكة الحديدية ربطت مدينة دمشق في سوريا وبين المدينة المنورة في الحجاز. وكان لها خط فرعي بين مدينتي درعا (في سوريا) وحيفا على الساحل الفلسطيني.
لا بل امتد إلى كل الفلسطينيين إلى التقاط الرزق من عرق جبينها من خلال العمل بها كمصدر رزق أولي كبير ..
وناهيك عن مصافي البترول التي حازت على مساحات كبيرة من خريطة حيفا جعلت الأنظار تدب عليها للعمل والانخراط بها وحتى الافتخار بها كعمل مميز لمن حظي بة من الخاصة . لكن لمدينة حيفا كان هناك وجة آخر وهو الوجه الثقافي المتمثل بالصحافة والمسرح وألادب ودور العلم المتنوعة وحتى الأعلام الحيفيين الذين بادروا باحتضان هذة المؤسسات الإبداعية التي لعبت دورا هاما في فلسطين والعالم العربي خاصة في عشرينيات القرن العشرين .
فمنها ظهرت أولى أبرز الصحف الفلسطينية " الكرمل " التي كانت المرقب الشاهق لأفعال وتحركات الحركة الصهيونية المتمثلة بالانتداب البريطاني . ومنها صدرت مجلة الزهور لصاحبها الأديب جميل حنا البحري والتي تميزت بميولها الأدبي عن دون غيرها من زميلاتها في مجال الصحافة المكتوبة.
فقد كان سُكّانها يتعاونون ويتعاملون مع بعضهم البعض يوميًّا في أماكن عمل واحدة وتحت سقف واحد، في المصانع والموانئ والمكاتب والمدارس والمتاجر والدّوائر الرّسميّة، الحكوميّة والبلديّة والقضائيّة. في حيفا سكن اليهود في معظمهم جبل الكرمل ومنطقة الهادار، والعرب سكنوا بالبلدة القديمه بشوارع مثل يافا، اللنبي، ستانتون، الملوك، هرتسل، عباس، بات جاليم، وادي النسناس، وادي الجمال الخ… كانت البلدة القديمة قريبة أكثر على البحر، مع وجود حارات مختلطة بين العرب واليهود وكانت العلاقات جيدة بين الطرفين. واليهود كانوا على فئتين : يهود عرب، ويهود جاءوا من رومانيا وبولونيا ودول البلطيق وهم غالبية يهود حيفا، والعلاقة معهم كانت جيدة بشكل عام ..
لقد استهدفت العملية اليهودية في مرحلتها الأولى المنطقة المحيطة بحيفا،وكانت تهدف إلى تصفية كل شيء يرمز إلى نشوء وتطور الثقافة أو الاقتصاد الفلسطيني بكل زواياة معتبرتا بذلك تجاوز قد يفوق الحلم الصهيوني المبيت في سلب البلاد واغتصاب ممتلكاتها. وبما أن حيفا كانت ميناء فلسطين الرئيسي، فإنها كانت المحطة الأخيرة في مسار الانسحاب البريطاني. وكان من المتوقع أن يبقى البريطانيون حتى أغسطس، لكنهم قرروا في فبراير 1948 تقديم موعد الانسحاب إلى مايو ،فقد كانت أعدادا كبيرة من الجنود البريطانيين بها من موظفين ومسؤلين كبار نظرا لموقعها الاستراتيجي الهام...


في حيفا لقبت أم كلثوم بكوكب ألشرق !!


هي دعوة تلقتها ألآنسة أم كلثوم ضمن الدعوات التي كان يرسلها نادي الرابطة الأدبي الذي كان ينشط بها أبناء مدينة حيفا من الشباب إبان الانتداب البريطاني لفلسطين ,
لبت أم كلثوم الدعوة وفي داخلها ألف شوقا وحنين كما ذكرت في مجلة المصور المصرية عن هذه الزيارة ولوصفها لجمال حيفا التي وطأت قدميها للمرة الأولى ..
مع إطلالة العام 1928 كانت أم كلثوم في مدينة القدس حين غنت على مسرح " عدن " أمام جمهور غفير من عشاق الطرب والشعر العربي القديم ,, كما وصف هذه الزيارة الموسيقار المقدسي واصف جوهرية أنها كانت ليلة من أليالي الملاح ومن الأيام التي لاتنسى .. ومنها مضت إلى حيفا عبر القطار لتحي بها ليلتين أحداهما في شارع الملوك وثانيهما في مسرح ألانشراح المشهور قبيل النكبة.
ومنها لقبت بهذا اللقب من سيدة حيفاوية تدعى أم فؤاد حيث صعدت على المسرح وقالت لها أنت كوكب ألشرق باكملة وهو ما تثبتة بعض الروايات الشفوية التي قام بها بعض المؤرخين حين قابلوا هذة السيدة في مخيمات الشتات والحديث عن هذة الزيارة التاريخية للسيدة أم كلثوم لحيفا ..

حيفا مشروع ثقافي لم يكتمل !

قبيل النكبة، كانت حيفا مشروع مدينة ثقافية متطورة وفي كافة ألأصعدة، فعميد المسرح العربي يوسف وهبي عرض على مسارحها مع فرقة «رمسيس» على خشبة مسرح «عين دور» أدوارا كثيرة منها مسرحية كرسي ألاعتراف وغيرها وبدعوة من زملاءه في الرابطة الأدبية التي أسسها المرحوم الأديب جميل حنا ألبحري . . وفي مناسبات أخرى احتضنت المدينة حفلات غنائية لفريد الأطرش وأسمهان وغيرهم حيث حضرها آلاف المعجبين.
أما الآنسة أم كلثوم وهو ألاسم الذي اعتاد العالم العربي بتسميتها بة كان مرتبطا بها وبمسيرتها الغنائية حتى جاءت الصدف أن يستبدل أو يضاف علية بلقب " كوكب ألشرق" وهو اللقب الذي حظي باهتمام شديد وخاصة في المحافل الفنية وخاصة ما قبل الثلاثينيات !
ألا أن بعد زيارتها لمدينة حيفا وغنائها بها على خشبة مسرح ألانشراح أغنية " أفدية إن حفظ الهوى"، نالت لقب «كوكب الشرق» من فلسطين وفي مدينة حيفا....


نشأة المسرح الفلسطيني بحيفا!


كانت أولى المسرحيات التي ألفت في مدينة حيفا من نتاج الأديب الكبير جميل حنا البحري في العام 1922 بعنوان الحق يعلو وعرضتها الفرقة المتجولة في العام 1933 أما الرواية الثانية فؤاد وليلى فقد كتبها في العام 1930 ، وقامت بعرضها فرقة الجوزي في العام 1936 ، وتم إذاعتها من الإذاعة الفلسطينية " هنا ألقدس " عام 1937 ..
تمثيلية الشموع المحترقة في العام 1930 وطبعت في العام 1936 وعرضت على المسارح الفلسطينية والأردنية واللبنانية بين السنوات 1937 -1941. كما قامت فرق مسرحية من الناصرة والجليل في فترات متقدمة بالعمل عليها وتقديمها على المسرح في العام 1937. وفي كتاب فلسطينيون 1948- 1988 الذي حرره خالد خليفة ، خصص فصلا عن المسرح الفلسطيني أعده يوسف حيدر حيث استعرض فيه بعض النشاطات المسرحية في فلسطين قبل العام 1988 ، مثل إسهام جمعية الرابطة الأدبية في حيفا النشاط المسرحي ، فقدمت مساء السبت 19 كانون الثاني 1929 مسرحية قاتل أخيه لجميل البحري على مسرح بستان المدينة . وإسهام اللجنة التمثيلية لنادي الشبيبهة فبيت لحم بتقديم عروض مسرحية اجتماعية حضرها من يافا رئيس نادي الشبيبة الارتوذكسيه بصحبة رئيس اللجنة التمثيلية وبعض الأعضاء خصيصا لمشاهدتها . وفي غزة قامت اللجنة التمثيلية للنادي الأرثوذكسي بدورها في التمثيل وإعلاء شان الفن المسرحي فيها ، فقدمت رواية حمدان أو غانية الأندلس بالتعاون مع الفنان الحائز على جوائز في فن التمثيل ، أصلان مراد .ومن الجمعيات التمثيلية التي قدمت أعمالا مسرحية عنترة على مسرح مدرسة الفرير . ولقد قامت في الثلث الأول من القرن العشرين فرقة من شباب القدس الذين مثلوا رواية مجدولين على مسرح سينما صهيون في القدس . ومن الجمعيات التي لها فرق تمثيلية في البلاد ، جمعية الشبان المسلمين الكبرى في يافا حيث اخرجوا مسرحية دموع يائسة ، والتي عرضت على مسرح قهوة أبو شاكوش. كما قامت في تلك الآونة في البلاد فرق مسرحية أخذت تتجول في أنحاء فلسطين والأردن لعرض مسرحياتها، منها فرقة الهيئة التمثيلية لنادي الشبيبة في بيت لحم ، التي كانت تقوم بجولات لعرض مسرحيتها رواية الاستبدال . كمان أن زيارات فرقة رمسيس المصرية حيفا اثر على نشوء نهضة مسرحية في المدينة ، وأول من غرس نواة هذه النهضة جمعية الرابطة الأدبية ، والتي جعلت حفلاتها التمثيلية عامة ومجانية ، فاقبل عليها سكان حيفا على اختلاف مللهم ونحلهم . ثم تبعتها الجمعية الاسلاميه فمثلت على مسرح زهرة الشرق رواية فهد الطرابلسي .. بعدها قام رجال النادي الساليسي بتمثيل روايتين إحداهما كسري العرب والأخرى انتقام الكاهن . قام بعد ذلك النادي الرياضي الإسلامي بتمثيل رواية (مطامع النساء ) ، وكانت كلها عبرا للنساء ، ولكن لم يكن بين الحضور نساء . ثم قام بتمثيل رواية الوفاء نخبة من الشبان الذين يهون التمثيل في المدينة، والذين لم تجمع بينهم جمعية أو مؤسسة. بعدها قام أعضاء النادي العربي بتمثيل رواية مجدولين على مسرح شبان الانشراح ومن ثم فرقة كشافة حيفا الخامسة التي عرضت مسرحية الأسود والنعمان . وبهذا تكون مسارح المدينة قد شهدت خلال الثلاثة أشهر شباط ، آذار ونيسات من العام 1929 ما يزيد على الثماني روايات . ومن ابرز الفرق المسرحية الفلسطينية في تلك الفترة ، الكرمل التمثيلية ، التي استطاعت القيام بأدوار تمثيلية معقدة ونجحت فيها مثل هاملت . ومن ابرز المثلين الذين مثلوا في هذه ... الفرقة اسكندر أيوب ، ومن الممثلات أسماء خوري وثريا أيوب . ونتيجة الحاجة إلى النصوص المسرحية كانت للشعراء الفلسطينيين تجارب في مثل هذا المجال مثل مسرحية الشهيد سنة 1947. ومسرحية شعرية بعنوان امرؤ ألقيس بن حجر سنة 1946، وكتب الشاعر محيي الدين الحاج عيسى مسرحية مصرع كليب في العام 1947، وكانت موضوعات هذه المسرحيات تاريخية بحتة











دنيا الوطـــن

(3)

موضوع قديم لي، كتبته للنادي في مثل هذا اليوم منذ 3 سنوات.
الموضوع يتحدث عن "حيفا": جغرافيتها، تاريخها، مآكلها وحياتي فيها في الثمانينات من القرن العشرين، وهو يتضمن محاولة تعريفية بالمدينة وحاضرها بعيداً عن "المعلومات الموسوعية وقواعد البيانات اليابسة".

--------


أصنف نفسي مشتاقاً أبدياً إلى "الجليل" بشكل عام وإلى "حيفا" بشكل خاص. ولكن هذا الشوق المستعر الذي يتملكني قد يخف أواره وقد يزيد. إنه حالة اشتعال دائم تجد نارها، أحياناً، ما يلهبها ويزيدها ضراما، وتجد في أحايين أخرى، ما يغطيها بطبقة كثيفة من رماد الحياة اليومية ومشاغلها المتنوعة.

هي حالات شوق متقلبة الدرجات عادة كما قلت، ولكن الأسابيع الثلاثة الماضية شهدت – عندي - حالة غير مسبوقة من الشوق "المقيم".

كانت البداية "ذات ماسينجر" عندما سألني "ابن خالي": متى سوف تعود إلى البلاد؟
- في آخر تموزيوليو على الأرجح.
- لك عندي "أطيب صحن حمّص أكلته في حياتك".
- أين ؟
- في "مطعم ألنبي" ... هممم، هل تعرفه؟
- بالتأكيد .. ولكن، منذ متى يجيد "تحضير الحمّص"؟
- اشتروه أناس يحترفون هذا اللون من الطعام، وطار صيتهم خلال فترة قصيرة.

قريبي يعرف دائي الذي يتلخص بسبع كلمات هي عندي – بجانب أمور أخرى قد آتي على ذكرها يوماً - أهم من السموات السبع وأرفع منزلة وأسمى قدرا: حمص، فول، فلافل، شاورما، نقانق، "شمينيت" Shemenet و"بوريكَس" Borekas. فلقد كنت ألاحق محترفي صناعة هذه المأكولات "الخفيفة" من "الجليل" حتى "النقب". وعندما حطت رحالي في أوروبا أضفت إلى هذه الأصناف "سماء ثامنة" اسمها "الشيش طاووق".

"الحمص والفول والنقانق والفلافل والشاورما" وجبات سريعة معروفة في العالم العربي، أما "الشِمينيت" فهي نوع من "اللبن"(الزبادي) الذي تنتجه شركة "تنوفا" الإسرائيلية للألبان؛ علبة صغيرة جامدة المحتوى قليلاً، تفتحها وقد أعددتَ لها من "رباط الخيل" "باغيتاً" طازجاً تغمس طرفه في محتواها فتشعر للحال بأنك تستطيع أن تخلق الدنيا جميعها في ثلاثة أيام. أما "البوريكس" فهو مثل "نقاء وميض" وألق "دينا الحمصية" وثورية "روزا لوكسمبورغ"، إذا ما اصطبحت به، فإنك تستطيع – بلحظة عين - أن ترد للمرأة جميع حقوقها، وتجعل "الحماصنة" أذكى خلق الله، وتحقق "ديكتاتورية البروليتاريا" في "وادي النيل" برمته وليس في "المحروسة" فقط.

"البوريكس" ليس غريباً علينا كثيراً، فهو ضرب مما كنا نسميه "شيش برك" - على ما أحسب -. عجينة أضيف لها من "الزبدة" ما أضيف لوجه ممثلة عربية من مساحيق "المكياج"، تُطوى على قدر قليل من الجبنة البيضاء المالحة أو البطاطا أو السبانخ أو اللحمة، ثم يتم إدخالها إلى "الفرن" كي تخرج منه مثل أول أبيات "أنشودة المطر"؛ آية بينة لا يقدرها إلا الراسخين في الذوق.

في أواخر السبعينيات، كنت تستطيع - في "حيفا" - أن تتناول "البوريكس" في أماكن كثيرة، أشهرها تلك "العجلات الصغيرة" التي يتفرق أصحابها بين "شارع يافا" و"شارع الاستقلال"(شارع الملوك سابقاً) في "حيفا التحتا" (أو "البلد" – كما تُعرف عادة-). كان بعض أصحاب هذه "العجلات" من "اليهود البلغار" الذين عرفوا هذه الوجبة الشهية منذ نعومة أظفارهم وأتقنوا صنعها، وصاروا يقدمون لك "قطعة البوريكس" مع بيضة مسلوقة "بحينام בחינם"."بحينام" هذه تعني "مجاناً"، ولو كنت تعلم مثلي مقدار ما يبذله "اليهودي"من جهد ولأي وعنت ومكابدة نفس كي يقدم لك شيئاً "مجانياً" – حتى لو كان يبتغي من ورائه ربحاً مستقبلياً مضاعفاً -، فإنك سوف تعلم كم يتوجب عليك أن تحترم "البوريكس" وتقدره وتنزله منزلة عظمى. فمحبة "البيضة المسلوقة" لليهودي قد تضاهي محبة "عبدالرحمن ويصا" لإخوانه – في ساحة الأديان –.

في أوائل الثمانينيات، اكتشفت مكانين آخرين يقدمان "البوريكس" المتقن التحضير. أحدهما كان مقابل "كنيسة مار الياس" بين "جادة هاميغينيم" و"شارع ألنبي"، والآخر فوق، في "الهادار" Hadar، ليس بعيداً عن "المحكمة المركزية" وبنايات "بلدية حيفا". ولكن هذا كله كان قبل أن يأتي "بوريكس سامي" فيملأ الدنيا ويشغل الناس.

مع "بوريكس سامي" تعلمت أن كل "جودة" البوريكس تكمن في طريقة صنع "العجينة". أما لو تلاقت "العجينة الجيدة" بالمحتوى الطيب الفريد، فإن "البوريكس" عندها سوف يصبح مثل بعض مواضيع "نيوترال وجقل"؛ مائدة شهية قائمة بنفسها، تغنيك في لحظة "مراودتها" عن جميع اللذات الأخرى الممكنة. ولم أكن أنا الوحيد – كما يبدو- الذي رأى في "بوريكس سامي" ما يشبه "الماكدونالدز" بالنسبة "للهمبرغر"، فخلال أعوام قليلة افتتحت هذه الشركة عدة فروع لها في جميع أنحاء البلاد، بل وذهبت كي تحضر "البوريكس" للمحلات والمطاعم الأخرى.

*****

"البوريكاس" الذي كانوا يبيعونه في "مِنْزا Mensa جامعة حيفا" لم يكن – برأيي – يقل شأواً عن ذاك الذي يصنعه "سامي" في محلاته، خصوصاً إذا ما ظفرت به صباحاً وحرارة الفرن لما تزل تجلبب أطرافه و"الجبنة البلغارية" المالحة – بعض الشيء –تطعّم الأصالة بالإبداع.

في أيام الربيع، كنت أشتري – قبيل الضحى – قطعة مثلثة من هذا المأكول الشهي وأخرج برفقة قهوتي وسيجارتي وعدد اليوم من صحيفة "يديعوت أحرونوت" كي أجلس، على العشب، أمام البناية المركزية "للجامعة"، وأطالع الأخبار. فهذه الحديقة الصغيرة المفروشة بالعشب النظيف، مثلها مثل "الجامعة" تماماً، تطل من أعلى قمم "الكرمل" على "خليج حيفا" والبحر. هنا، أنت بعيد عن البحر بضعة كيلومترات، ولكن هذا الأزرق العميق الذي يحاصر الأفق يخلع وجوده على جميع الكائنات ويغسلها بالحكايا القديمة والمغامرات والتاريخ. هنا، يمسح الجمال وجهك فتحس صفاء عميقاً لا تدري من أين يتخللك، ولكنه حاضر حضور الروح في الجسد ورائحة البرتقال في شعر "معين بسيسو". لذلك، كثيراً ما كنت أطرح "الجريدة" جانباً بعد أن أقرأ "عناوين الأخبار"، وآخذ بقراءة ديوان شعر أعددته لهذه اللحظات الصافية.

تعرفت في هذه الجلسات الهادئة على أئمة الشعر الرومانسي عند العرب، ولكني لم أكتف بذلك، بل رحت أبحث عن ترجمات "لجون كيتز" و"اللورد بايرون" و"شيللي" و"لامرتين" و"ألفرد دي موسيه" و"رامبو"، ثم تعرفت بعد ذلك على "غايل Gaël " فأحسست للمرة الأولى بأنني أعيد اكتشاف "الأوكسجين" و"حيفا" و"الحزن".

"غايل Gaël " جميلة الوجه، متوسطة الطول، ممتلئة الجسم دون إسراف. أبوها فرنسي وأمها "تساباريت" (من يهود فلسطين). قالت لي وهي تجلس بجانبي على العشب وتحدق بالبحر: جميل هذا المنظر !!!
امتعضت من اقتحام وحدتي علي بهذا الشكل المفاجيء، وأجبت ببعض الارتباك: جداً ...
قالت وهي تبتسم: كثيراً ما أراك هنا غارقاً في القراءة.
قلت: نعم، فأنا أحب هذا المكان وأجد نفسي فيه.
قالت: وأنا أيضاً ... أنه رائع، أليس كذلك؟!!

هززت برأسي وأنا ما زلت مرتبكاً بعض الشيء. لم أكن منزعجاً بل خائفاً، فأنا "عربي بن عربي"، وبالرغم من أنني تربيت في مجتمع منفتح مختلط، إلا أن علاقتي بالمرأة كانت تحكمها حتى ذلك الوقت "عقد المجتمع المغلق المتوارثة". فالمرأة عندي أم وأخت أو "فريسة". أما "المرأة الصديقة" فإنها لم تكن موجودة في عالمي لحظتئذ.

حضور "غايل" بجانبي أصابني ببعض الحياء والرجفة، أنا ابن التاسعة عشر ربيعا وقتذاك. وكلامها معي جعل خيالي ينسج قصة حب سريعة تصل خلال لحظات إلى سرير مخضب بالطيب وشراشف وردية وزفرات مثقلة باللذة. كان طرف عيني يراقبها بعد أن عدّلت من جلستي قليلاً، فرأيت بأنها نظرت إلى البحر بصمت دقائق قليلة ثم أخرجت كتاباً "انجليزياً" صغيراً من كتب الجيب وغرقت بين صفحاته.

كنت أريد الكلام، ولكن جبني تغلب علي، فالتحدي كان مضاعفاً؛ كلام مع "امرأة" أبدت بعض الاهتمام بي ، وحديث باللغة العبرية التي ما زال لساني يلجلج بها. آثرت الصمت على مضض، ولكن طرف عيني كان يلاحظ صدر "غايل" الناهد وقسماتها الجميلة، ونفسي تحدثني بأحاديث متشنجة وترسم لي أخيلة وصوراً نزقة.

لم يمض نصف ساعة أخرى حتى وضعت "غايل" كتابها في حقيبتها وابتسمت لي وهي تقول: عندي محاضرة الآن "لهيتراؤوت" (إلى اللقاء).
في اليوم التالي، وفي نفس الساعة الصباحية كنت على العشب، في نفس المكان، أرتعد وأنتظر أنا وقهوتي وصحيفتي وسجائري. ولكن "غايل" لم تأت إلى هناك، بل "قبضت علي" في مكتبة الجامعة بعد الظهر وأنا أنظر إلى "خليج حيفا" وبين يدي بعض كتب الأدب العربي القديم. انبعث صوتها من خلفي قائلاً: هاي، "ما نِشماع" (مرحباً، كيف حالك)؟
قلت فرحاً كمن عثر على شيء ثمين: "نشماع طوف، ما إيتاخ" (أنا بخير، وأنتِ)؟

دخلنا في "حديث تعارف" متنوع متشعب، وانحلت عقدة من لساني وأنا أرى بأن عبريتي تخولني لأن أجاذبها أطراف الحديث دون مشقة تذكر. كانت "غايل" تدرس "علم الآثار" و"تاريخ الشرق الأوسط" في الجامعة. وكانت عندما تتحدث، لا تفارق الابتسامة محياها، أما صوتها الرفيع فإنه يأتي دائماً مشحوناً بكمية غزيرة من المعارف في أي موضوع تتناوله. ومع هذا فأنت لو نظرت في عينيها الصافيتين العميقتين ووجهها البيضاوي الشكل، فإنك سوف تستشعر غلالة حزن قاتمة تلف هذه الابتسامة السرمدية على شفتيها.

علمتني "غايل" معنى الصداقة الحقيقية، فبعد عدة لقاءات تبخرت "الشراشف الوردية والأنفاس الثقيلة" من رأسي، وأصبحت أقبل عليها كصديقة عزيزة أكتشف فيها يوماً بعد يوم "دائرة معارف متنقلة". قالت لي يوماً: ما رأيك بأن نكتشف "حيفا"؟
ابتسمت مستغرباً وأنا أتمتم بلهجة استنكارية: "نكتشف حيفا؟!!! أولسنا نسكن في حيفا؟
قالت ببعض الدهاء: ماذا تعرف عن "حيفا"؟
قلت بعدم اكتراث وأنا أجاريها في ما اعتقدت أنه ضرب من العبث: مدينة ساحلية تغطي جبل الكرمل الداخل في عمق المتوسط. يبلغ عدد سكانها حوالي "ربع المليون" نسمة، معظمهم من اليهود مع أقلية عربية قد تزيد قليلاً عن 10% من تعداد السكان.... أممممممم، هذا طبعاً بعد سنة 1948.
قالت مستفسرة مستنكرة: وماذا كانت قبل 1948؟
أجبت واثقاً: كان عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، وكانت "حيفا" مثلها مثل سائر المدن الأخرى؛ مدينة عربية مع أقلية يهودية.
قالت مبتسمة: هذا ليس صحيحاً ... عد للتاريخ.
حسبتها تمزح، ولكنها كانت جادة – كما يبدو -، ومع هذا فلقد تجاوزت "نقطة الخلاف" العارضة وسألتني: من أسس هذه المدينة؟

لم أحر جواباً، ففي جعبتي الكثير عن عكا وطبريا وصفد والناصرة وقيسارية ويافا والخليل ونابلس، ولكني لا أعرف شيئاً عن حيفا قديماً. ومع هذا فلقد همست وأنا أستعيد أطياف "معلومات قديمة":
أظنها كانت قرية للصيادين.
قلبت شفتيها وقالت: ممكن ولكن متى؟
ضحكت وأنا أقول: "عازفي أوتي" ( حلي عني) ...
قالت بجدية: لا، اسمع، حيفا مدينة حديثة نسبياً، ، بمفهوم معين، بالنسبة لمدن البلاد الأخرى. فالقرية الصغيرة التي كانت تتوسد الجبل منذ أيام "الكنعانيين"، بقيت بيوتاً قليلة، لا يؤبه لها، بين "عكا" و"يافا" حتى أيام "ظاهر العُمَر الزيداني". فلقد خرج هذا "الشيخ" العربي "الطبراني" (نسبة إلى "طبريا" في فلسطين) على حكم الأتراك العثمانيين ونازعهم السلطة في "الجليل" مدة وجيزة في أواخر القرن الثامن عشر، حتى استطاع الأتراك أن يهزموه على يد واليهم "أحمد باشا الجزار"، ويستولوا من جديد على "عكا" مركز دولته وحصنه الحصين.
قلت وأنا أريد أن "أسجل نقطة" تعوضني عن جهلي بالأمر: ولكن ما علاقة "إمارة ظاهر العمر" في "عكا" وصراعه مع ابنه في "صفد" "بحيفا"؟

قالت وهي تبتسم من جديد، تلك الابتسامة التي لا تضايقك مطلقاً: كان "ظاهر العمر" قد التفت إلى "حيفا" الصغيرة النائمة في حضن الكرمل وشرع بتوسيعها، وأرسى بها معالم المدينة الأولى: سوق، مدرسة، مسجد، كنيسة ، محكمة، مناطق سكنية، بالإضافة إلى سور حول المدينة. وعندما وقعت المدينة في يد "نابليون بونابرت" في حملته على الشرق (1799) كان عدد سكانها 4000 نسمة.

لم أتصور"حيفا" بهذا العدد الضئيل من السكان، ولكني أصغيت بجميع جوارحي لما تقوله "غايل"، فالتاريخ يستثيرني دائماً. قلت:
في ذلك الوقت، كانت "عكا" هي المدينة الرئيسية، أليس كذلك؟
- نعم، خصوصاً أن "عكا" عصيت على "نابليون".
ضحكت وأنا أتذكر "رواية " تتناقلها عامتنا. قالت "غايل": ما بك؟
قلت: أبداً، ولكن تذكرت أمراً ما عن "عكا" و"حصار نابليون" لها.
قالت: لم يكن مضحكاً، كان حصاراً قاسياً، وكي يحكم الفرنسيون دك "عكا" بالقذائف، صنعوا "تلاً اصطناعياً" بجانب المدينة ونصبوا مدافعهم عليه. ولكن تحصينات "عكا" وعناد "الجزار وهيبته" والأسطول الانكليزي الذي كان يمد المدينة بحاجاتها من البحر والطاعون الذي تفشى في "جنود نابليون"، بالإضافة إلى بعض الأمور العاجلة التي حدثت في فرنسا، جعلت نابليون يتراجع عن فتح المدينة ويخرج من الشرق برمته بعد ذلك.
قلت وأنا أضحك: على رأي عامتنا أن "نابليون" عندما لم يستطع فتح عكا، وقف أمام سورها العالي ونزع قبعته وألقاها من فوق السور إلى داخل المدينة وهو يقول بيأس: "إن رجعت لك يا عكا، عكّيني".

قهقهت "غايل" وقالت متابعة: في هذه الفترة بدأ الاهتمام أكثر فأكثر بحيفا وبمينائها بالذات. واتخذت زمام مبادرة توسيع الميناء ورصفه شركة روسية سنة 1859. ولكن النقلة النوعية في "حيفا المدينة" تمت عندما أتى بعض الفلاحين المتدينين الألمان وسكنوا "الأرض المقدسة" وأقاموا عند سفح الكرمل حياً ما زال يعرف حتى اليوم "بالحي الألماني".

قاطعتها وأنا أقول، وفكرة ما تخطر برأسي: على الصعيد التاريخي تعلمت منك الكثير اليوم. ولكني جائع، وكما تعلمين فإنك لو خاطبت الجائع أجابك من بطنه، وأنا أريد أن أسمعك بأذني لا من خلال بطني. لذلك، ما رأيك "بصحن حمص معتبر" فوق قمة الكرمل؟
- أوافق لو وافقت على اقتراحي بعد الأكل.
- ما هو اقتراحك ؟
ردت بضحكة: قلنا، بعد الأكل ...
نظرت إليها بود وألفة وابتسمت قائلاً: حسناً، موافق سلفاً.
ردت سائلة: ألا يهمك أن تعرف ؟
احتضنت وجنتها بيدي ونظرت في عينيها وقلت: والله يا "غايل" أنني أسلمك رقبتي تحت مقصلة، فهل تظنين بأنني سوف أحقق معك جراء مفاجأة ما تعدينها لي؟
لم تجب بشي، ولكنها ضمتني وهي تقبل خدي وتترك وجنتها ملتصقة بوجهي. في هذه اللحظة أحسست بقطرات دمع ساخن تبلل صدغي.

-----------


تستطيع أن تقسم "حيفا" إلى قسمين "وهميين"؛ أولهما القسم "القديم" الذي يستبطن الجبل المتهاوي في البحر ويغطي ببيوته معظم خضرته التي زعزعها الدهر، وثانيهما القسم "الجديد" الذي يرحل فويق الجبال بضعة وعشر كيلومترا، يمتد بها من "دير مار الياس" في الغرب حتى "الجامعة" شرقاً. "فحيفا" المحاصرة بالبحر من الشمال والغرب، لم تستطع أن تتوسع إلا بتسلق الجبل، أو قل "الجبال"، "فالكرمل" الذي تغسل أمواج المتوسط أقدامه ، ليس إلا رأساً مدبباً لسلسلة جبال تمتد حتى حدود الأردن.
أما إن علمت هذا، فلا تسألني بعدها عن أي القسمين أكثر جمالاً؛ فالقسم "القديم" يجتاحك فيه البحر اجتياح الوزن للقصيدة، والقسم "الجديد" يجعل روحك قطرة طل على سنديانة عريقة، وعلى "الخط الفاصل" بين هذين القسمين "الوهميين" يأخذك الجمال فيغطّك ثم يغطّك ثم يغطّك ثم يقول لك: اقرأ!!! ... فتقرأ مرغماً ...

كان موعدنا، على هذا "الخط الوهمي المستو على الكرمل" والذي يفصل بين جديد "حيفا" وقديمها، في مطعم شرقي صغير جديد، اختبرته يوماً فوجدت في "الحمص بالطحينة" فيه نكهة فريدة تدعوك إلى أن تقبّل الخدّ ثم تعود كي لا تبخل على العنق.
طلبت "غايل" صحن "حمص مع صنوبر" وطلبته "مع لحمة". قالت وهي تبتسم: إعترف بأنك لست صديقاً وفياً "للحمص".
قلت باستغراب: لماذا؟
قالت متهمة: لو كنت كذلك لتذوقت "الحمص" وحده.
أجبت مدافعاً: وهل نسيت "الصنوبر المقلي" الذي سوف "يبذرونه" فوق صحنك؟
قالت: هناك فرق!! ... فالصنوبر يجعلك تتعرف على "جودة " الحمص، هل سمعت بنظرية "القوة والفعل" عند "أرسطو"؟
ضحكت وأنا أفهم مرماها، ولكن حديثها لذ لي فقلت محرضاً: ما شأن "أرسطو" بصحن الحمص وطعمه ونكهته؟
قالت وهي تنظر في عيني: أرسطو يا سيدي العزيز يقول بأن الموجودات تنقسم إلى قسمين: قسم موجود بالقوة وآخر موجود بالفعل. الموجود بالفعل هو تلك العناصر المجردة التي تراها أمامك مثل "خشب الكرسي الذي تجلس عليه". الموجود بالقوة هو "الكرسي" الذي كان "كامناً" في الخشب حتى جاء له النجّار الذي يخرجه من حيز "الوجود بالقوة" إلى حيز "الوجود بالفعل".
ابتسمت فأضافت: الشجرة "موجودة بالقوة" في البذرة، والتمثال "موجود بالقوة" في الصخر، و"جودة الطعم" موجودة بالقوة في عناصر الحمص ولكنها بحاجة إلى "الصنوبر" كي تصبح موجودة بالفعل.
قهقهت وسألت: ولكن ما الفرق بين "الصنوبر" و"اللحمة" في "تطبيقك" لنظريات "فيلسوف أسطغرة"؟
همّت بالجواب، ولكن النادل كان قد أتى بالعشاء. قلت وهو يضع الصحون على الطاولة ويسكب بعض "العرق" في كأسينا: ما رأيك أن نترك الفلسفة ونحاول "تغيير العالم" كما يريد عمنا "كارل ماركس"؟
- تقصد "إفراغ الكاسات" و"تغيير الصحون" ...
أجبت، وأنا أبتسم، بلهجة "أشكنازية": "باخوت أو يوتير" (تقريباً)...

لا أعتقد بأن "غايل" كانت على حق في نظريتها، فما ينطبق على "الصنوبر"، في مثالها، ينطبق أيضاً على "اللحمة". و"اللحمة" في هذا المطعم الجميل، كانت "لخروف مرفّه مدلل"، يأتون بها طازجة ويقطعونها قطعاً صغيرة ثم يتركونها ليلة كاملة في مزيج عجيب من البهارات الطيبة العرف، الذكية الرائحة، المضمخة بالنزر اليسير من الخل والزيت. حتى إذا كان الغد، وشاء من شاء ان يحضروا له "حمص مع لحمة"، يتم وضعها على نار تلهب جنباتها، ثم تنشر فوق طبق مليء بالحمص وقد أضيف إليها بعض زيت الزيتون.

قالت "غايل" وهي ترفع الكأس وتشرب نخب صداقتنا: إن كان "الحمص" وجبة عربية أصيلة، فهو في طريقه لكي يصبح "إسرائيلياً".
قلت مغمغماً "بالعربية":" يعني هيي وقّفت على الحمص"؟!!!
قالت: ماذا تقول؟
قلت وأنا أبتسم: أبداً، ولكنكم أخذتم الفرس، فهل ننازعكم اللجام؟ خذوه يا جميلتي فهو حل لكم.
لم تتفاجأ ولم تغضب، بل سألتني بابتسامة عذبة تكاد تذكرني بماء المطر على أوراق الغار: "ميتكافين لهآرتس Metkaven leha-arets" (هل تقصد البلاد)؟!!!
لم يك لدي ما أخفيه، "فغايل" تعرف رأيي جيداً حتى لو خالفتنيه، لذلك ابتسمت وقلت ببساطة: "كين Ken" (نعم)!!
قالت، متجاوزة "تشنجاتي" الوطنية الفجائية: دعنا من هذا الآن وقل لي، هل ترى مثلي بأن الإسرائيليين اليهود اليوم يجيدون تحضير الحمص و"الفلافل" أسوة بالعرب أم لا؟
قلت ضاحكاً: هم بحاجة لبعض التمرين بعد، فعودهم ينقصه وتر، وفحولتهم ينقصها "خصية".
ردت وهي تقهقه: لا، لا تبالغ، هناك محلات يهودية تحترف "الحمص والفلافل" في حيفا، وأنت تأكل منها.
طاف في ذهني المثل الجاهلي القائل: "ماء ولا كصداء، مرعى ولا كالسعدان، فتى ولا كمالك". ولكني عندما هممت بأن أترجمه إلى العبرية تبادر إلى ذهني بأن علي أن أقضي مسائي في ترجمته ولن تصل "غايل" إلى ما أريد، ناهيك عن الدخول في سيرة حياة "متمم ومالك ابنا نويرة"، لذلك اختصرت هذا الجهد بقولي: مدينة جميلة ولكنها ليست القدس ونبع عذب ولكنه ليس "عين العسل".

عنجهيتي لم تكن في محلها، ففي أوائل الثمانينيات كان الإسرائيليون قد قطعوا شوطاً طويلاً في "تحضير الحمص بالطحينة" وصار بعض "محترفيهم" ينازعون "أولاد الكار العرب" إحدى وجباتهم "الوطنية". أقول هذا وأنا ما أزال أذكر دكاناً يهودياً "للمتبلات والمخللات" افتتحه أصحابه في "الحالوتس"(شارع هاحالوتس)، ليس بعيداً عن إشارة المرور التي وقف أمامها أديبنا "إميل حبيبي" في روايته "المتشائل". كان مكاناً مكيّفاً ،في عهد اقتصر التكييف به في "حيفا" على المحلات الكبيرة الضخمة فقط. يومها، اشتريت شيئاً من "الحمص" وبعض "الباذنجان بالطحينة" وطرحتهما في "البراد"(الثلاجة)، موطداً العزم على تذوقهما صباح اليوم التالي. ولكن الجوع تداركني ليلتئذ، فلم أكف نفسي عن مشترياتي وتذوقت نوعين من الطعام لم تخطر لذتهما على بال بشر من قبل.

ومع هذا "فالحمص" و"الفول" في "حيفا" يذكراني أكثر ما يذكراني بذلك القسم من الشارع الذي يمتد من عمارة "سلام" في آخر "شارع ستانتون"(والذي أصبح اسمه "شيبات تسيون") حتى "محطة باصات الناصرة" بجانب ما كان يعرف "بساحة الحناطير" والتي أضحى اسمها منذ سنوات طويلة "ساحة باريس Kikar Paris".

هذا المكان الذي لا يزيد طوله عن كيلومتر واحد أو أقل، والذي كان يقع في "قلب حيفا الفلسطينية" سابقاً، جمع الكثير من "المطاعم العربية الصباحية" التي اختص اصحابها بتحضير "الحمص والفول". ولكنهم إذا كانوا قد ذهبوا في إعداد الفول كل مذهب، فإنهم اعتمدوا في تحضيرهم "للحمص" على "الطريقة الكلاسيكية" التي جعلت الطعم شبه موحد أو يكاد. لقد كان طعماً شهياً حقاً، تستشعر من خلاله أثر "الطحينة" وفعلها في "الحمص" دون أن تحس بالمرورة أو ينالك ازورار. فاللقمة التي تستدعي اللقمة، والخبر الطازج الساخن، وصحن المخللات الذي يصاحب "صحن الحمص"، يتركونك تجد في هذا الوجبة ما كان يجده "داود" في مزماره، وسليمان في "بلقيس" و"نزار قباني" في نهود حبيباته.

ولكن هذه المطاعم المحترفة جميعها لم تكن لتملأ عيني "غايل" ولا "عبدالرحمن" – صديقي الأثير- الذي كان يكتب نوع مهنته في الاستمارات الرسمية ويضيف إليها بين قوسين:"اختصاصي فول وحمص".
لم يكن عبدالرحمن يقسم إلا بالحمص في "مطعم ماتسا" (الكرمل) و"مطعم مكسيم"(على شاطيء البحر) ثم يقول ويطنب في القول. "فالحمص" عنده أصبح مقياساً لكل شيء وأي شيء، لهذا رأيته يسألني يوماً، بعد أن شرب من العرق ما يجعل الحمار يرقص على أنغام "مايكل جاكسون": ماذا كنتم تضعون في قريتكم على مائدة الإفطار؟
أجبت: بيض، لبنة، زيت، زيتون، زعتر، بندورة، خيار.
هز برأسه الثمل وابتسم ابتسامة ماكرة وهو ينظر إلي ويقول: أرأيت؟
قلت مستغرباً: ماذا؟
قال: أنتم لا تفطرون "حمص بالطحينة".
قلت: بين الحين والحين قد نضيف الحمص على فطورنا، ولكن هذا يحدث في فترات متباعدة.
قال ومكر ابتسامته يزداد ووجهه يمعن في التألق: أرأيت؟
قلت وقد "أرهقني": أرى ماذا يا "عبدالرحمن"؟
قال ببلادة: القصة واضحة، "خلص يا زلمه" لا تقل لي ولن أقول لك.
- واضحة ماذا يا رجل؟
- "الحمص" يصاحب "المدينة". "الحمص" ليس من مأكول "القرية" ولا مأكول "الفلاحين" بشكل عام. هل توافقني بأنه حيثما وجد "الحمص" وُجدت المدنية وارتفع البنيان واكتمل الرقي؟
ضحكت حتى استلقيت وأنا أقول: أوافقك على أن هذا "العَرَق المغشوش" سوف يجعل عقلك بحجم "حبة الحمص" ويضطرني أن أحملك حتى بيتك ... قم لا أبا لك ....

-------------


في النصف الثاني من الثمانينيات قفز "الإسرائيليون" قفزة نوعية مع "تصنيعهم" لما يسمى "بالحمّص الطازج"؛ علب بلاستيكية تحفظ في الثلاجة لأيام معدودات فقط ولمحتواها طعم لو عرفه الأنبياء لوضعوه في مكان رفيع بين أطعمة الجنة.
الانحياز "للحمص" وتطوير "طعمه ونكهته" لم يصاحبه أي تطور يذكر في تحضير "الفول"، فلقد بقي هذا حيث تركته أمه؛ يعتمد على جودة "الحبّة" وعملية غليها الطويل على نار هادئة، وتتحكم به مقادير عصير الليمون والزيت والثوم والملح الذي يضاف إليه أثناء التحضير.

إذا كان "الحمص" قد أخذ يرفع الآذان ويقيم الصلاة بالعبرية منذ عقود ثلاثة، فإن "الفول" بقي "عربي الوجه واليد واللسان"، وبقيت "المطاعم العربية" في "حيفا البلد" – بالذات - تتوعد كل "عتّل زنيم" يحاول أن يغمز من قناتها أو أن يشكك في "صناعتها" أو أن يجري معها. وهي جميعها تعتمد على ما ذكرنا أعلاه من مقومات الجودة وتقوم بهرس "نصف حبات الفول" في الصحن وتبقي القسم الآخر غير مهروس.

كان "عبدالرحمن" يقسم "بفول مطعم الأمم ومطعم اسكندر" وكنت أقسم بفول "الياس رشيد" في "مطعم دالية" في "الحي الألماني" من المدينة، ومع هذا فلا مندوحة من الاعتراف بأن جميع المطاعم العربية في "حيفا" تحضر صحن الفول على نفس الطريقة – المذكورة أعلاه – تقريباً، ولا فارق كبير بينها من ناحية الطعم. هنا عليّ أن أنوه بأن مشكلتي الرئيسية مع "الفول" في "حيفا" كانت في نوعية "الزيت" الذي يستعلمونه في التحضير، فأنا أعشق "زيت الزيتون الخالص" مع هذا الصحن اللذيذ، ولكن من أين لك بمطعم يستطيع أن يقدم هذه النوعية "الرفيعة" من الزيت مع "صحن الفول" الشعبي الذي لا يتعدى ثمنه بضعة دريهمات !!!

**********

أجمل ما في "غايل" تلك اللمعة الحادة في عينيها عندما تغلي مراجلها أو عندما تترقرق الدموع في مآقيها.
كانت تحدثني عن "دان"، صديقها الذي تركته بعدما رأته يغازل غيرها في حفلة سمر. قلت: كانت الخمر قد لعبت بالرؤوس، وكانت "شولاميت" تراقصه رقصات "سالومي" أمام "هيرودس"، فهل أنت أعظم من "يوحنا المعمدان"؟
قالت محتدة: لماذا قبل أن يراقص هذه الـ"زونا Zonah"(العاهرة) ؟
قلت: أقسم لك يا "غايل" بأن الشيطان عندما جرّب المسيح على الجبل، كان أقل إقناعاً من "شولاميت" تلك الليلة.
احتدت وفاض ذلك البريق من عينيها وقالت: في مثل هذه المواقف تُختبر العواطف ويُمتحن الحب ويقع الكذاب.
قلت محاولاً التخفيف من عصبية الموقف: ولكن لم يحدث بينهما أكثر من "الرقص".
- بل كان يضع يديه على خصرها وكأن تحته "تابوت العهد"، ويترك جسمها يتدافع نحوه تدافع الموج للشاطيء.
لم أعرف كيف أتخلص من هذا الموضوع العسير، فقلت: ولكن لم يحدث أي شيء بينهما، فلقد تركها بعد انتهاء "الرقصة" وانضم إليك.
لم يكن ما زعمته دقيقاً. فلقد انتبه "دان" بعد مراقصة "شولاميت" بأن "غايل" قد وصلت إلى الحفل. ولكن "غايل" كانت قد رأت ذلك "النهم" الذي يفيض من يدي "دان" على خصر تلك "العاهرة"(كما قالت!!) ولكنها تصنعت الغفلة واستمرت في السهر مع أصدقائها حتى حان وقت العودة. هنا، أمام باب الحانة، خلعت "غايل" خاتماً كان "دان" قد قدمه لها في عيد ميلادها، وقالت لصديقها: أعطه "لشولاميت" الآن، فهي أحق به مني.
حاول "دان" أن يستوقفها، ولكنها تأبطت ذراعي وقالت لي متعجلة: هيا بنا ...
- ولكن ....!!!
- لا، ليس أمام الناس، هيا بنا الآن وعاتبني بعد ذلك!!!

لم أعاتب "غايل" يومها، ولكني عذرت "دان" رغم حنقي عليه؛ "فشولاميت" تلك الليلة كانت كفيلة بإعادة "بولس الرسول" إلى اليهودية و"الفاروق" إلى دين آبائه.

**********

قالت "غايل" ونحن نخرج من المطعم والمساء يغمر المدينة: وعدت بأن توافق على اقتراحي بعد الأكل؟
- وأنا عند وعدي.
- حسناً، اقتراحي هو ان نذهب الآن إلى ال"طاييليت Tayyelet" (الممشى بجانب البحر) كي نتمشى قليلاً ونشرب بعض أكواب "البيره" (الجعة) بجانب البحر ... ونتحدث.
تفاجأت من اقتراحها، إذ لم يكن ما تدعوني إليه من "عاداتها". فلقد عرضت عليها في كثير من المرات "التمشي على الطاييليت" وكانت ترفض دائماً وتجد لنفسها أعذاراً مختلفة. قلت مبتسماً متخابثاً: يسعدني بأنك غيرت رأيك وصرت تحبين المشي على شاطيء البحر .. هيا بنا.
*********

"جادة الصهيونية" (وملحقاتها) في "حيفا" تشق المدينة من رأس "الكرمل" حتى البحر. سرنا في هذا الشارع مارين "بقبة عباس" ومتخذين طريقنا نزولاً نحو "البلد". تتقاطع جادة الصهيونية مع شارع "ألنبي" الذي يمتد على "بطن الكرمل" وقبلها بقليل يتفرع منها "شارع الخوري" الذي يمر في أطراف "وادي النسناس"، الحي العربي الأكبر (كما أحسب) في "حيفا" اليوم.

لم يبق من "حيفا الفلسطينية" عامراً محافظاً على "هوية عربية" إلا حيي "وادي النسناس" و"الحلّيصا" في شرق المدينة. لقد قصدت "الحليصا" مرة أو مرتين لزيارة بعض الأصدقاء، ولكنه كان بعيداً عن حياتي واهتماماتي. أما "الواد" (اسم وادي النسناس في أفواه الحيفاويين) فلقد عشت فيه وخبرته عن قريب. وهو يتألف من شوارع ثلاثة أوسطها وأطولها "شارع الوادي" يحف به (لو اتجهت بوجهك نحو البحر) من اليسار "شارع قيسارية" ومن اليمين "شارع حدّاد" بالإضافة إلى بعض المعابرمن "الواد" وإليه بين هذه الشوارع الثلاثة.

"شارع الوادي" كان دائماً الأقرب إلى نفسي لعوامل كثيرة منها أن "رُلى" كانت تسكنه وكانت تسكنني في آن. "رُلى" التي وقعت على قلبي وقوع النسيم العليل على أشجار الجليل في يوم قائظ. "رُلى" العقل الراجح والحياء الواضح والطبع الهاديء، "رُلى" الضفائر الطويلة والبشرة الحنطية والصدر العامر وملايين النجوم التي تظهر وتخبو كلما حركت رموشها ووسعّت ابتسامتها وأبدت خفرها.

أحياناً، كنت أنتظر "رُلى" عند عودتها من المدرسة، ولم يكن أمامي إلا "مكتبة خوري" في أول الشارع كي أعرج عليها وأقضي بعض الوقت أتصفح الكتب القليلة في المكتبة وعيني – من خلال الزجاج – على الشارع، حتى تظهر "رُلى" مع زميلاتها، فأخرج وأرسل لها نظرات شاب خجول تبادلني بمثلها وأعود كي أنظم قصيدة.

*********

تنهدت بجانب "غايل" وذكرى "رُلى" تعبث بمخيلتي. قالت مداعبة:
- كل هذا "النهيد" حسرة على "فلافل نجلا" التي لم تستطع أن تملأ معدتك بها هذا اليوم؟
لا تدري "غايل" عن "رُلى" وعن "حبي العذري" في أوائل شبابي شيئاً، ولم يكن يهمني أن تدري أصلاً. قلت: وما بها "فلافل نجلا"؟
- اتق الله يا رجل، فأنت عائد لتوّك من مطعم محترم ... هممممم ... أرى بأن "فلافل فايتسمان" أطيب وأشهى.
ضحكت وأنا أتنبه إلى محاولتها الفاشلة في استثارتي وقلت: "فلافل نجلا" بالنسبة إلى محلات الفلافل مثل "حائط المبكى" عندكم و"كنيسة القيامة" عندنا. إنه المكان الذي لا يلحقه مكان آخر من نوعه نتيجة لاعتبارات كثيرة، ليس أقلها طعم "قرص الفلافل" نفسه. إنها "العرّاب" بين "أفلام المافيا" و"مارلين مونرو" بين ممثلات هوليوود وكتابات "الرامبام" في تراثكم اليهودي.
قالت بكيد مبتسمة: ومع هذا "ففلافل فايتسمان" أطيب وأشهى وألذ، على الأقل هذا ما أجده أنا عندما أتذوقها.
تذكرت طرفة عربية قديمة استعملها "الماغوط ودريد لحام" في " مسرحية غربة"، وقلت: لو وضعت للحمار سطلاً من البيره وآخر من الماء فمن أيهما يشرب ؟
قالت مستفهمة: ما علاقة هذا بموضوعنا؟
قلت متعجلاً: لا علاقة ولكن أجيبي، من أيهما يشرب؟
قالت: من سطل الماء طبعاً.
قلت مقهقهاً حاساً بأنني أسجل انتصاراً: لأنه حمـــــــــــــــار ... وانت عندما تفضلين فلافل "فايتسمان" ... و .. آآآآآخ ..
ضربتني اللئيمة على كتفي بعنف وهي تضحك، فلقد "فهمتها" متأخرة بعض الشيء.

ما زالت "فلافل نجلا" في "شارع الوادي" حتى اليوم تحمل إسم هذه المرأة الصغيرة الحجم التي كانت تبيع أطيب "قرص فلافل" أكلته في حياتي. ولو مررت اليوم أمام "المحل" في "وادي النسناس" فلسوف تجد بعض قصاصات الصحف التي تشير إلى أن "فلافل نجلا" قد حصلت أكثر من مرة على درجة "أفضل محل فلافل في الدولة" في استفتاءات عديدة.

في أوائل الثمانينيات لم يكن "محل نجلا" في "الواد" يجذب من هو مثلي. فأنا لست "حيفاوياً" أصلياً كي أسمع عن "فلافل نجلا" عدا عن أن فقري ( في فترة الدراسة تلك الأيام) كان يدفعني إلى البحث عن المحلات التي تقدم لك بجانب "رغيف الفلافل" "بوفيه" كاملاً من "السلطات والمقبلات" التي تستطيع أن تضيفها إلى "رغيفك" بدون حساب. لذلك آثرت تلك "المحلات الضخمة المرصوصة" بجانب بعضها البعض في "شارع الحالوتس" في "الهادار"، والتي كانت تتبارى فيما بينها على الزبائن من خلال بضعة إضافات مجانية على "رغيف الفلافل" مثل "البطاطا المقلية والمرطبات وغيرها".
كنت ما زلت غرا غمراً لا أنتبه لجودة "قرص الفلافل" وتسرقني منه الإضافات حوله، ولكن هذه الفترة لم تطل. فبعد بضعة أشهر اكتشفت "فلافل فايتسمان" خلف "سينما أرمون" (وقتها) ومقابل البريد الرئيسي في حيفا. ثم اكتشفت مع صديق عزيز، حيفاوي صليبة، "فلافل البستوني" مقابل سينما "أوريون" في شارع "هرتسليا" (في حي "الهادار" أيضاً). ثم اكتشفت عن طريق الصدف محلاً جيداً في أحد المعابر بين "شارع الحالوتس" و"شارع هرتسل" (أفخم شوارع حيفا وقتها). ولكن كل هذا ليس شيئاً أمام جودة النكهة في "قرص الفلافل" عند "نجلا" في "وادي النسناس". فهذه المرأة كانت تملك وزوجها قبواً متواضعاً في "شارع الوادي"، مررت أمامه مرات كثيرة ولم ألحظه. ولكني توقفت في أحد الايام أمامه لسبب لم أعد أذكره. كان الزوج السمين القصير يجلس على كرسي عال أمام المقلى المليء بالأقراص وعندما وقفت أمامه ناولني "قرصاً" مغموساً نصفه "بالطحينة" ما أن تذوقته حتى "رفع عني الحجاب" وعلمت ما لم أكن أعلم ووقفت مع الواقفين (بالدور) أنتظر المرأة التي تحضر الأرغفة للزبائن بعناية واتقان ونظافة.

لم تكن "نجلا" تعتمد على مقبلات أو مشهيات أو "بطاطا مقلية" أو غير هذا مما كان يستعمل في المحلات الأخرى لاكتساب الزبائن. فهذه العجوز الصغيرة كانت تضع في الرغيف بعض اقراص الفلافل والقليل من السلطة ثم ترش عليهم ما نسميه "بقدونسية"(الطحينة بالليمون والبقدونس) وتترك لك المجال لإضافة بعض "الفلفل الحار" لو أحببت. هذا كل ما في الأمر، وهو كاف، "فطعم قرص الفلافل" لا يترك لك المجال بألا تعود .. ولسوف تعود.

****************

سحابة من حزن عميق تغلف وجه "غايل" رغم ابتسامتها الطبيعية السرمدية. هل ما زالت تفكر بـ"دان"؟ هل شعرت حقاً بالإهانة إلى هذه الدرجة العميقة؟ أردت أن أبدد شعوري بالوحشة أمام هذه الغلالة القاتمة وأقنع نفسي بأن كل شيء على ما يرام. قلت ونحن أمام "مطعم الأمم": تُرى، هل تعلمين لماذا سموا هذا المطعم الواقع في "جادة الصهيونية" بمطعم الأمم"؟
قالت: لا، هل هذا مهم ؟
- لا، ليس مهماً طبعاً، ولكن له "دلالة تاريخية" ...
- دلالة تاريخية؟
- نعم، "فجادة الصهيونية" كان اسمها يوماً "شارع الجبل"، وهو كما ترين اسم طبيعي لشارع يشق الكرمل من رأسه حتى أخمص قدميه، ولكن "الدولة" قررت بأن تعمده باسم "شارع الأمم" تمنياً "بالأمم المتحدة" وإجلالاً وإكراماً لها. ولهذا ما زلت تجدين اسم "مطعم الأمم" وتحته "محمص الأمم".
- حلو ... ولكن لماذا غيرّوا اسمه بعد ذلك؟
قلت ضاحكاً وانا أمد طرف لساني إلى الخارج: "لؤم يهود" ..
هزت برأسها مستفهمة، فأردفت: في أواخر السبيعينيات، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يصنف "الحركة الصهيونية" بأنها "حركة عنصرية". فقامت الدنيا ولم تقعد في البلاد، وعمدت "بلدية حيفا" إلى تغيير اسم "شارع الأمم" إلى "جادة الصهيونية".
قهقهت "غايل" وهي تقول: وأنت هل تظن بأن "الصهيونية" هي "حركة عنصرية"؟
لم أجب ولكني عمدت إلى سؤالها: ما هو تعريف "العنصرية" برأيك؟
- دع عنك هذا ولا تهرب من السؤال ...
- يا عزيزتي، نحن بحاجة لتعريف العنصرية أولاً وبعدها تعريف الصهيونية، ثم بعد ذلك يأتي مقابلة التعريفين ببعض، فإن انطبقا فهي عنصرية وإن لم ينطبقا فهي ليست كذلك.
- هاههاهاهاهاها .. أنت "ألأم" من اليهود ...

لم يستطع هذا الحديث أن يمحو "الغلالة القاتمة" على وجه "غايل". كانت تقود السيارة وتحدق في البعيد. مررنا أمام "كنيسة مار الياس" ثم انعطفنا يساراً في "جادة هاميغينيم" باتجاه "كريات إليعيزِر" وأكملنا الطريق خلف محطة الباصات المركزية نحو "بات غاليم"... وعندما ركنا السيارة في الموقف كي نترجل، لحظت الدموع تترقرق في مآقي "غايل" ... وكان خلف هذه الدموع أمور جسام.

---------

لم تكن مفاجأة أن نرى "دان" على باب "الممشى" (الطاييلت)، فهو معتاد على قضاء الكثير من أمسياته هناك. ولم يكن غريباً أن تكون "شولميت" برفقته وهو يقبلها بحرارة وإيمان، "فشولَميت" والقبلة توأمان سياميان، حضور الأولى منهما يحتّم حضور الثانية. وأنا، وإن كنت آنف من تصرفات "شولميت" وتبرجها وإصرارها على إبراز مفاتنها بشكل يثير الشهوة حتى في حجارة الكرمل، فإنني تمنيت أكثر من مرة – بيني وبين نفسي - بأن ألف هذا الجسد المصقول بساعدي وأقطف مواسمه المتنوعة الفريدة الكريمة المعطاءة.

كانت "شولميت" تتثنى بين يدي "دان"، وكنت مشغولاً بمحاولة فاشلة لمنع "غايل" من رؤيتهما، ولكن هيهات!! "فغايل" كانت قد لحظتهما معي أو لربما قبلي، ولكن شيئاً ما في وجهها لم يتغير، بل رأيت في زوايا فمها ابتسامة استهتار بادية وهي تلف ساعدي تحت ابطها وتسير بي متجاوزة هذين العاشقين دون أن تعيرهما أدنى اهتمام.

******************

قالت لي "غايل" ونحن نعبر مدخل "الممشى المجاور للبحر (طاييليت)" بأن عدد سكان "حيفا" شهد تضخماً هائلاً في النصف الأول من القرن العشرين. فالمدينة التي كان يسكنها ما لا يربو على 10000 نسمة سنة 1889 أصبحت منزلاً لأكثر من 130000 شخص سنة 1945.

لم تكن هذه الزيادة "طبيعية"، فتضخم العدد بهذا الشكل جاء نتيجة هجرة الكثير من "اليهود" إليها، حتى فاق عدد هؤلاء "الوافدين" عدد السكان العرب الأصليين. قالت: سنة 1940، أصبح "شبتاي ليفي Shabaty Levy" أول رئيس بلدية، من أصل يهودي، للمدينة.

تذكرت مطبوعة " الكرمل" وتحذيرات صاحبها "نجيب نصار" وجهوده، التي ذهبت هباء، للحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين. كان "نجيب نصار" من أوائل الذين رأوا "نكبة فلسطين" قبل وقوعها بأعوام كثيرة. ولعل "تحوّل" حيفا من "مدينة عربية" إلى "مدينة يهودية" أمام ناظريه جعله يتيقظ أكثر، منذ الأيام الأولى "للكرمل" (تأسست سنة 1908)، ويفتح عينيه أكثر على "المآسي الآتية".
كانت "الكرمل" أولى المطبوعات العربية في "حيفا الفلسطينية"، ولكنها لم تبق وحيدة. فتطور المدينة واتساع رقعتها وازدياد عدد سكانها وافتتاح محطة لتكرير البترول بجانبها سنة 1933، والأحداث الساخنة التي شهدتها المنطقة بين الحربين العالميتين، جعل من "حيفا" مركزاً نهضوياً للإعلام والفن والآداب والمعارف. هكذا رأينا بجانب "الكرمل" مطبوعات أخرى مثل " النفير" و"الصاعقة" و"حيفا" و"الزهرة" و"النهضة" و"آخر ساعة" و"البشرى" و"الرابطة" و"الاتحاد"، وهكذا رأينا أيضاً مدارس "الفرير" "وراهبات المحبة" و"راهبات الناصرة" وثمان مدارس حكومية إسلامية ومدرسة يهودية رسمية تفتح أبوابها، بجانب مكتبة عامة (1914) أصبح اسمها "المكتبة الوطنية" فيما بعد.
قالت "غايل": رغم ما يبدو لك من تنافر اليوم، إلا أن العرب واليهود، في هذه المرحلة، عاشوا في "حيفا" جنباً إلى جنب بدون "أزمات حادة".

لم يكن هذا دقيقاً، وإلا فماذا تعني "تحذيرات صاحب الكرمل" منذ سنة 1912؟ وماذا يعني تمرد "الشيخ عز الدين القسّام"؟ وماذا تعني حالة الاحتقان منذ سنة 1944 بين العرب واليهود في المدينة؟ قلت مبتسماً متأملاً: لا أعلم يا "غايل" ما الذي تعنينه "بأزمات حادة"، ولكن "حيفا" لم تكن "جزيرة في بحر"، بل "مدينة في بلد" يعاني من محاولة طمس هويته.
قالت محتجة: لم يكن الأمر كذلك بالضبط، ولكن ...
هنا سمعنا صوتاً يقترب منا ويقول ضاحكاً: "يا عيني عليكم، شكلكم آكلين صحن حمص وجايين"...
لم يكن "عبدالرحمن" يعلم بأنه قد أصاب في قوله، فهذه الجملة عنده عبارة عن لازمة يرددها عندما يلتقي بوجوه يحبها. قالت لي "غايل" وهي تضحك: ماذا يقول؟ ثم أردفت قبل أن أترجم لها جملة "عبدالرحمن": أكيد هي قصة "آكلين حمص وآكلين برغل" إياها.
هززت رأسي وأنا أضحك فتابعت: " إين ما لاعاسوت Ain ma la3asot" (ليس هناك ما يمكن فعله – لا نستطيع مساعدته-).
سلم "عبدالرحمن" على "غايل" مقبّلاً، فقلت له:
ماذا تفعل هنا؟
أجاب: هل ترى ذلك "الكشك" الأبيض على "الموج" تماماً؟
- نعم ...
- يبيعون هناك أحسن "بلودي ميري Bloody Mary" في البلاد. إذهب واشتر ولن تسألني سؤالك الغبي هذا ثانية.
ابتسمت وأنا أجيب: يا "بني آدم"، الـ"بلودي ميري" ينفع "ككوكتيل" لفتح الشهية، وأنا قادم عن طاولة عشاء.
قال "عبدالرحمن" بابتسامة خبيثة يشوبها ضرب من الاعتذار والتملص: حسبتك لم تتعش بعد مثلي، و"من قارنك بنفسه ما ظلمك".
قلت: ما هو مشروعك "للعشاء" اليوم، ولا تقل لي "حمص أو فول"، فأنا أقسم بأنك "أفطرت وتغديت" من هذه الأصناف.
- لا لا، العشاء اليوم عند "الخازن".
قال جملته الأخيرة، بريق يتحلّب، ثم استأذن منا وانصرف.

***************

"الخازن" في "حيفا" يعني "الشاورما". فهو، بشهادة آلاف الزبائن، سيدها غير المنازع. ومحله – و"الميّه بتكذّب الغطّاس- من المحلات القليلة جداً التي لا ترتفع بها السكين، طوال النهار، عن "سيخ الشاورما" إلا كي تتهاوى عليه من جديد. حتى أن هذا المنظر طالما استدعى إلى خاطر "عبدالرحمن" بيت "امريء القيس" المشهور في وصف جواده، فرأيته ينظر إلى "السكين" وهي تفتك "بسيخ الشوارما" ويردد: "مكرّ مفرّ مقبل مدبر معاً .... كجلمود صخر حطه السيل من علِ". ثم ينظر إلي ويقول: لو كان "الملك الضلّيل" حياً في عصرنا هذا لأنشد بيته في تهاوي "السكين" على "سيخ الشاورما"، وليس في حصان لم نعد نحتاجه إلا في حديقة الحيوان.
في منتصف الثمانينات جاء "نمر" وفتح "محله" بجانب "الخازن" – في "شارع يافا"- وطار صيته وشاع وذاع. ولكن "الخازن" بقي ذلك الطود الذي لا يتزعزع، بل انه راح يفتتح "فروعاً" له في زوايا أخرى من المدينة قبل أن يمتد إلى "الجليل".
رغم هذا فلقد كنت أفضل – وهذا ذوق خاص – "شاورما صالح" في "الهادار" على كافة الأنواع الأخرى المبذولة في المدينة. فهذه "الزاوية الصغيرة" في "شارع الحالوتس" كانت تستقبلني بهذا "السيخ" - العسكر المجر - الذي يدور حول نفسه أمام نار تأكل أطرافه وتبرزه تحفة للناظرين.

كانت هذه الزاوية الصغيرة المعلق فوقها يافطة "شاورما صالح" أمام موقف "باص 37" الذي يأتي من "الجامعة". وعندما كنت أعود إلى المدينة في المساء، كنت أنزل من "الباص" وعيناي معلقتان بهذا "السيخ العظيم" الذي يكاد يقول: "خذوني" .... واللعنة، كل اللعنة، على من لا يأخذ منه رغيفاً ثم رغيفاً ثم يلحقهما بثالث أحيانا.

لم يكن طعم اللحمة فقط هو ما يجعلني أوثر "رغيف شاورما" عند "صالح" على مقعد في الجنة. "فالطحينة" و"الفلفل" الممزوج ببعض "صلصة البندورة" كان يجعل "للرغيف" نكهة العروبة في شعر المتنبي وطعم العبث مع "عنيزة وصاحبتها" يوم "دارة جلجل". أما لو جعلت بعض "البصل المطعم بالسمّاق" بين ثنيات اللحم في الرغيف، بل وتركت شيئاً من "الشحم المحمر المقمّر" في "حشاشة" هذا الأخير، فأنك تستطيع أن تمر بالناتج على "قيس" فينسى "ليلى" وعلى "موسى" فيصلّي "لفرعون".

نوع اللحمة في الشوارما يختلف بين مكان وآخر، ولكنه عادة مزيج من لحم "البقر" و"الحبش" (ديك رومي) و"دهن الغنم" الذي يوضع على رأس "السيخ" كي يذوب شيئاً فشيئاً وينحدر على وجه اللحمة التي تعانقه وتتشربه وتحفظ له ذكراه في الطعم واللون والرائحة.

مع الوقت، وخصوصاً مذ وضعت عصا ترحالي في أوروبا، تعلمت بأن "الشوارما" عندنا ليست هي ما يطلق عليه اللبنانيون نفس الإسم. فالخلاف ليس فقط في نوع "اللحمة" بل وفي "بهاراتها"، فالشاورما دون بهارات مثل "نادي الفكر" دون "طارق القدّاح". فاللبنانيون يحضرونها – عادة – من "لحم الغنم" بعد أن يقوموا "بنقعه" في مزيج من البهارات الخاصة التي قد تتضمن 7 بهارات مختلفة بمقادير بعينها. أما ما عرفته أنا في بلادي فلقد كان، من نوع اللحم الذي تحدثت عنه، "منقوعاً" بنوعين من البهارات لا ثالث لهما عادة هما: "الكيري والكمّون".

**********

السبيل طويل، وهواء البحر يجعل للمشي لذة تشابه لذة العبث بشعر "نتالي" وقراءة رسائل "نشوى ناجي".

شيئاَ فشيئاً، رأيت وجه "غايل" يعود كي يكتسي بتلك الغلالة القاتمة التي أرخت عليه سدولها في "السيارة". لا لم يكن "دان" بالتأكيد هو السبب، فلقد رأيتها تمر بجانبه دون أن تعيره التفاته واحدة.
"هناك ما ينذر بالشؤم"، قلت لنفسي وأنا أرى بأن "غايل" قد انقطعت عن الحديث عن "حيفا" وراحت تمشي واجمة وعيناها ترحلان في البحر. استوقفتها ونظرت في عينيها وقلت وكآبتها تحاصرني: "غايل" ما خطبك؟
التصقت بي وضمتني بشدة وأخذت تبكي على كتفي وأنا أداعب شعرها مواسياً دون أن أفهم شيئاً. ثم ابتعدت قليلاً وجففت دموعها وقالت: تعال نجلس !!!

انتحينا بصخرة يرتطم بها الموج جيئة وذهاباً. نظرت "غايل" إلى البعيد بضعة لحظات ثم قالت:
حسناً، لن أطيل عليك كثيراً.
هززت برأسي وكلي آذان صاغية فأردفت بلهجة "صماء" حزينة:
سوف يكون لقاؤنا هذا آخر لقاء لنا.
لم أفهم ... هززت برأسي مستفهماً ومستنكراً، فأضافت:
أنا مسافرة في الأسبوع القادم إلى أمريكا.
صحت بفزع: أمريكا؟!!
أضافت بلهجة جافة قاطعة: دعني أكمل أرجوك.
مددت يدي مشيراً لها بالمتابعة فقالت: اسمع، منذ شهر وبعض الشهر بدأت أحس ببعض الألم الخفيف في بطني. لم آبه له كثيراً في البداية، ولكن عودته على فترات متقاربة جعلتني أعرض نفسي على طبيب منذ اسبوعين. أخذ الطبيب بعض الدم واتصل بي عجلاً في صباح اليوم التالي وهو يقول: أريدك أن تكوني في "مستشفى رمبام" بعد الظهر.
قلت هلعاً: ولكن !!!

بلعت غايل غصتها، وتابعت: مكثت في المستشفى طوال الأيام العشرة الماضية، ولم تكن النتيجة في كل فحص جديد إلا تأكيداً للنتيجة التي سبقتها.
قلت وأنا لا أستطيع أن أبلع كلماتي القلقة: وهي؟!!
- سرطان يا صديقي ... سرطان في الغدد.

نفذ الكلام، أخذتها بين ذراعي اعتصرتها ودموعي تدفن لساني. بقينا بضعة دقائق على هذه الحال حتى قالت: هناك أمل ضئيل، وعلي أن أذهب إلى أمريكا كي "أحاول الحياة".

كنت أريد الصراخ ... كنت أريد أن أعاتبها على إخفائها الأمر عني. كنت اريد سؤالها عن التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، ولكني لم أستطع سوى احتضانها والتحديق في الفراغ تاركاً الحديث لدمعات كآبة خرساء تبلل وجهي.

صار الموج رملاً، تحوّل النسيم العليل إلى أسواط من نار تنهال على جسدي، وسقط الكرمل في البحر.

ضممت "غايل" وسرنا حتى "السيارة" التي أقلتني أمام بيتي. وقبل أن أتركها قبلتها ثم أمسكت وجهها بكلتا يدي ونظرت في عينيها ملياً ومضيت ...




تـــــــــمّـــــــــت

واسلموا لي
العلماني

عزيزي العلماني
اغبطك على ذكرياتك في هذه المدينة الرائعة

كنت قد اقمت فيها لفترة وجيزة لا تتعدى بضعة شهور

مشتاق لحيفا انا أيضا...




--------------------
ملاحظة:
حاولت تعديل اول المقالة عن حيفا في ويكيبيديا دون جدوى
حبذا لو يقوم احد زملائنا "المحترفين" بتغيير اول الجملة لتكون: " يافا مدينة فلسطينية محتلة"

الرابط:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D9%8A%D9%81%D8%A7

سمعت أن ويكيبيديا تعرف القدس كعاصمة اسرائيل فهل تعريفهم بحيفا صحيح ياترى وهل هم مصدر موثوق




http://en.wikipedia.org/wiki/Jerusalem

(04-25-2010, 05:30 AM)عاصي كتب:  عزيزي العلماني
اغبطك على ذكرياتك في هذه المدينة الرائعة

كنت قد اقمت فيها لفترة وجيزة لا تتعدى بضعة شهور

مشتاق لحيفا انا أيضا...




--------------------
ملاحظة:
حاولت تعديل اول المقالة عن حيفا في ويكيبيديا دون جدوى
حبذا لو يقوم احد زملائنا "المحترفين" بتغيير اول الجملة لتكون: " يافا مدينة فلسطينية محتلة"

الرابط:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D9%8A%D9%81%D8%A7

العزيز عاصي

من يدري؟ فلربما استطعنا يوماً أن نجتمع هناك، حيث البحر يعزف بأمواجه على أوتار "الكرمل".

رابط لبعض الصور عن حيفا أرسلته لي - مشكورة - زميلة غالية على قلبي:

http://www.alwatanvoice.com/arabic/content-148116.html

واسلموا لي
العلماني