تأملات في القرآن المكي 1-4
كامل النجار
حسب ما يقول المفسرون فإن القرآن قد كُتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله العالم، ثم أنزل هذا القرآن على محمد في القرن السابع الميلادي، وأنزله منجماً، في شكل آيتين أو ثلاثة مع بعض. فإذا كان هذا هو الحال، فيجب أن يكون القرآن مكتملاً من كل الوجوه اللغوية والتاريخية والتشريعية. وكان يجب أن تنزل سوره بالترتيب المكتوب به في اللوح المحفوظ. ولكن، حسب ما تخبرنا كتب التراث، فإن محمداً كان عندما يخبر أتباعه بآية جديدة، يقول لهم ضعوها في السورة التي تُذكر فيها البقرة، مثلاً. ونستنج من هذا أن الله لم يخبر محمداً بأسماء السور، وبالتالي لم يكن للسور أسماء في اللوح المحفوظ. وبالتالي لا يمكن أن نعرف إذا كان عدد آيات سورة البقرة، مثلاً، في المصحف هو نفس عدد آياتها في اللوح المحفوظ لأن سورة البقرة نزلت على مدى ست سنوات، وفي هذا الأثناء كانت تنزل آيات أخرى يضعها محمد في سور أخرى. فهناك ارتباك شديد في محتوى وترتيب سور القرآن. وزاد من هذا الارتباك أن زيد بن ثابت عندما جمع القرآان، لم يتبع نزول السور بالتسلسل التاريخي، وإنما كتبها حسب طولها، فزاد هذا من الاضطراب الذي يعاني منه القرآن.
فإذا درسنا القرآن حسب ترتيب النزول، نجد أن الغالبية العظمى من السور نزلت بمكة، عندما كان محمد ما زال في طور التلميذ للقس ورقة بن نوفل وللراهب بحيرة وغيرهم من الأرقاء الأحباش المسيحيين. ولذلك جاءت السور المكية قصيرة مضطربة في معانيها وفي الحقائق التاريخية، وأغلبها عبارة عن قصص عن الأمم السابقة ورسلها. فلنبدأ بأول سورة نزلت في مكة، وهي سورة "العلق". تقول السورة إياها: (إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. أقرأ وربك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم. كلا إن الإنسان ليطغى. إن رءاه استغنى. إنّ إلى ربك الرّجعى. أرأيت الذي ينهى. عبداً إذا صلى. أرأيت إن كان على الهدى. أو أمر بالقوى. أرأيت إن كذّب وتولى. ألم يعلم بأن الله يرى. كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة. فليدع ناديه. سندعُ الزبانية. كلا لا تطعه واسجد واقترب).
هل كان الإله يخاطب محمداً أم يخاطبُ شخصاً آخراً. فمحمد، كما يُجمع مؤرخو الإسلام، كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب. فكيف يقول له الإله إقرأ، وماذا يقرأ إذا كانت هذه أول سورة نزلت عليه ولم تكن مكتوبة حتى يقرؤها، بل رتلها له جبريل؟ والقرآن نفسه يقول له فيما بعد: (ما كنت تتلو من قبله من كتابٍ ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون) (العنكبوت 48). فاستعمال كلمة "أقرأ" هنا استعمال خاطيء لأن الإنسان يقرأ الكلمات المكتوبة، وجبريل لم يحضر لمحمد صحيفة مكتوبة حتى يقول له "إقرأ". ثم تستمر السورة فتقول (خلق الإنسان من علق). وفي الأديان الثلاثة فإن آدم هو أول إنسان خلقه رب السماء، وخلقه من تراب، فكان الأولى به أن يقول: "خلق الإنسان من تراب" ولكن السجع فرض عليه كلمة "علق". وهو في الحقيقة لم يخلقه من علق لأن العلقة مرحلة متأخرة من مراحل تكوين الجنين، الذي يُخلق من نطفة، ثم مضغةٍ، ثم علقه، كما يقول القرآن في آيات لاحقة. وعليه لا يمكن أن يكون الإنسان قد خُلق من علق، فمن أين أتى العلق؟
(إقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم). ما معنى (الذي علّم بالقلم)؟ هل تعلم الإنسان كل شيء بالقلم؟ نحن نعرف أن الإنسان في مسيرته الحضارية تعلم أن يميز بين الثمار السامة وتلك التي يمكن أكلها من تجاربه المريرة عندما شاهد بعض أفراد القبيلة يموتون بعد أن أكلوا نواعاً معينة من الثمار، وعلّم الإنسان أبناءه وأحفاده تلك المعلومات عن طريق الكلام ، قبل أن يتعلم الكتابة؟ ثم أن الإنسان تعلم الزراعة وتدجين الحيوانات والصيد والغناء والموسيقى قبل أن يخترع الكتابة أو القلم. فتعليم الإنسان لم يكن بالقلم الذي جاء في نهاية مراحل تطور الإنسان. الآية التالية تقول (علّم الإنسان ما لم يعلم). والمنطق يخبرنا أن الإنسان إذا كان يعلم شيئاً فأنت لا تُعلّمه ذلك الشيء، وبالتالي تكون كلمة "علّم" بالضرورة تعني أنك تُعلّم الإنسان ما لا يعلم، وإلا لما احتاج لأن تُعلّمه. وبالتالي تكون الآية (علم الإنسان ما لم يعلم) آية زائدة لا معنى لها. ثم يقول له (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى). وهذه أول سورة "نزلت" على محمد، ولم يكن وقتها قد عرف الصلاة التي لم تُفرض إلا في العام العاشر من بدء الرسالة. يقول ابن حجر العسقلاني (لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة لا عليه ولا على أمته إلا ما كان يفعله الرسول من التهجد أثناء الليل) (السيرة الحلبية 1/302، نقلاً عن جواد علي: تاريخ الصلاة). وكلمة "التهجد" تعني ترتيل آيات القرآن والدعاء، فكيف نهى هذا الشخص محمداً من أن يصلي ومحمد لم يكن قد تعلم الصلاة الإسلامية بعد، والصلاة لم تكن قد فُرضت عليه؟ ثم يقول له (كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية). فمن الناحية اللغوية، كلمة نسفع كلمة غريبة على العرب، وقد حاول المفسرون جعلها من اللغة فقال القرطبي (العرب تقول سفعت بالشيء إذا قبضت عليه وجذبته بقوة). فحتى لو كان هذا القول صحيحاً، لماذا اختار رب محمد استعمال غريب اللغة وكان بإمكانه أن يقول (لناخذنه بالناصية)؟ فمحمد، لا شك، كان متأثراً بما كان يسمعه من الكهان الذين كانوا بستعملون غريب الكلام لإيهام السامع بقدرتهم على الاتصال بالسماء وتلقي الكلام من الجن. وبالنسبة للإملاء وللنحو كان يجب أن يقول "لنسفعن" للتوكيد، ولكنه قال (لنسفا). فيبدو أن جبريل أو محمد أو من نسخ الآية، لا يعرف الهجاء الصحيح.
ثم يستمر فيقول (ليدعُ ناديه سندعُ الزبانية). فالله هنا قد نزل إلى مستوى العصابات ولجأ إلى البلطجية. فهو يقول لمحمد: فليدعُ هذا الشخص أصحابه ليتقوى بهم وسوف ندعُ نحن الزبانية. هل يحتاج الله إلى الزبانية ليقاتل هذا الشخص؟ ثم إذا كانت هذه أول سورة "أنزلها" على محمد، ومحمد لم يكن وقتها قد أعلن نبوته ولم يكن قد دعا قريشاً إلى التوحيد، فمن هو هذا الشخص الذي منعه صلاته وأضطر الله إلى أن يلجأ إلى استدعاء الزبانية؟ هل سبق القرآن الأحداث فأنزل الله هذه السورة أولاً وكان ينوي إنزال سور أخرى قبلها، أم أن الله علم أن أبا جهل بن هشام سوف يعادي محمداً فأخبره بهذه العداوة قبل أن تحدث؟ وإذا كان الرأي الأخير هو الصواب، فما هي الحكمة أو الفائدة من إخبار محمد في أول سورة أن أبا جهل سوف يعادية؟ فإخباره بهذه العداوة لم يمنع حدوثها. وفي آخر آية في هذه السورة يقول له: (كلا لا تطعه واسجد واقترب). فهل كان محمد وقتها يعرف السجود، والصلاة لم تكن قد فُرضت عليهم ولم يكن جبريل قد علمه شيئاً بعد؟
فأول سورة من القرآن نزلت على محمد لم تخبره شيئاً عن الله الذي اختاره رسولاً، ولم تخبره ما هي رسالته، وإلى من يوجهها، إنما تحدثت له عن الصلاة والسجود وعداوة أبي لهب. هل كانت هذه أفضل طريقة يُعرّف الله بها نفسه إلى محمد الذي خاف من جبريل وظن أنه قد مسه الجنون؟
السورة الثانية التي أتت بمكة كانت سورة "القلم" التي تقول: (ن والقلمِ ومايسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون. وإنّ لك لأجراً غير ممنون. وإنك لعلى خُلق عظيم. فستبصر ويبصرون. بأييكم المفتون. إنّ ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. فلا تطع المكذبين. ودوا لو تُدهن فيدهنون. ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم. إن كان ذا مالٍ وبنين. إذا تُتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين. سنسمه على الخرطوم.)
تخيل محمد بعد أن جاءه جبريل بالسورة الأولى فخاف وارتجف وظن أن الشيطان قد مسه بالجنون، وذهب إلى خديجة لتطمئنه، وبعد فترة رجع إلى غار حراء، فجاءه جبريل ليقول له: (ن والقلم وما يسطرون). ما معنى نون؟ ثم مرة أخرى يقول له: (القلم ومايسطرون). ما علاقة محمد بالقلم حتى يكررها له جبريل في سورتين متتاليتين. ومن هم الذين يسطرون؟ لا بد أن هذه الآيات كانت طلاسماً بالنسبة لرسول جديد اختاره رب السماء لينشر كلمته ويُعرّف الناس به. فإذا كان الله مغرماً بالقلم إلى هذا الحد، لماذا اختار رسولاً أمياً لا يعرف القلم؟ وتسلسل الأحداث فيه ارتباك واضح. محمد هو الذي اعتقد أنه قد مسه الجنون حين رأى جبريل لأول مرة وأراد أن يقتل نفسه وقال "لا تتحدث عني بها قريش". فقال له الله (ما أنت بنعمة ربك بمجنون). إلى هنا والأمر معقول، ولكن القرآن يقول له (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون). فمحمد حتى تلك اللحظة لم يكن قد اقتنع بأنه رسول، ولم يخبر قريشاً بدعوته الجديدة، وبالتالي لم يقل أحد إنه مجنون، فلماذا يقول له القرآن (فستبصر ويبصرون أيكم المفتون)؟ والآية التالية أكثر غموضاً (إنّ ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين). فمحمد، كما قلنا، لم يكن حتى تلك اللحظة قد أبلغ أحداً برسالته، فلماذا استباق الأحداث والكلام عن من يتبع السبيل وعن من يضل؟ أما كان الأقضل أن يقدم الله نفسه لرسوله ويخبره ما هو الله وما صفاته وما هو المطلوب من محمد أن يُبلّغه للناس؟
وتستمر سورة القلم، ويقول الله لمحمد: (فلا تطع المكذبين. ودوا لو تُدهن فيدهنون). لماذا الحديث عن المكذبين وهو لم يكن قد تحدث إليهم حتى يعرف إن كانت قريش سوف تصدقه أم لا. ومرة أخرى يستعمل القرآن المبهم من الكلام، فكلمة يدهنون كلمة غريبة في سياق الآية، ولم يفهمها المعاصرون ولذلك أتى المفسرون باثني عشر تفسيراً لها، من الكذب إلى اللين على الأعداء إلى الاعتراف ببعض آلهة قريش. فهل هذه بداية موفقة لرسالة من المفروض فيها أنها لكل البشر، في حين أن أهل اللغة العربية لم يفهموها، وحتى الرسول الجديد نفسه لم يفهم المقصود ب "ن"؟ وفي رأيي أن محمداً أتى بهذا النون في بداية السورة ليوهم السامع بأن القرآن ليس من تأليفه وإنما هو من عند الله والدليل على ذلك أن محمداً نفسه لا يعرف معنى "ن".
ثم تستمر السورة، فيقول له الله (لا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم. مناعٍ للخير معتدٍ أثيم.عُتُلٍ بعد ذلك ذنيم. إن كان ذا مالٍ وبنين. إذا تُتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين. سنسمه على الخرظوم). هل هذا رب السماء يتحدث إلى محمد، أم محمد نفسه يتحدث عن شخصٍ ذي مال يبغضه ويتخيل أنه سوف يعاديه ويسفه أقواله؟ هذه لغة لا تليق برب السماء الذي يستطيع أن يسحق هذا الشخص في رمشة عين. لماذا كل هذا الردح والشتم والتهديد بأن يكويه يوم القيامة أو يضع علامة على أنفه. لماذا لا يرسل رب السماء صاعقة تقتله وينتهي منه، وهو كان قد قرر أن هذا الشخص لن يسلم وسوف يعاند رسوله، ولذلك أقسم أن يسمه يوم القيامة على الخرطوم. وما هي أهمية هذه العلامة على الأنف يوم القيامة والناس مشغولون بأنفسهم لدرجة أن الإنسان منهم يفر من أمه وأبيه وصاحبته التي تؤويه، ويوم تذهل المرضعة عما أرضعت. فهل سوف يلاحظ وقتها أي إنسان أن أبا جهل أو أبا لهب موسوم على خرطومه؟ هل كان أبو جهل بهذه الأهمية بحيث يتحدث عنه الله في ثاني سورة "ينزلها" على رسوله الجديد، قبل أن يقدم نفسه لرسوله ويشرح له الرسالة المطلوب منه توصيلها؟
وتستمر السورة، فيقول الله (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين. ولا يستثنون. فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. فأصبحت كالصريم. فتنادوا مصبحين. أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين. فانطلقوا وهم يتخافتون. أن لا يدخلها اليوم عليكم مسكين. وغدوا على حرد قادرين. فلما راءوها قالوا إنا لضالون. بل نحن محرومون. قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبّحون. قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين).
محمد لم يكن بعد قد عرف رسالته أو حتى تأكد له أنه رسول، وهاهو الله يخبره عن أصحاب الحديقة الذين أقسموا ألا يدخل حديقتهم مسكين، فأحرقها الله ليلاً وهم نائمون. وفي الصباح عندما تبين لهم ما حدث، لاموا أنفسهم لأنهم كانوا ضالين، فآمنوا بالله. منتهى السذاجة في المنطق والسرد. لو كانت هذه حديقتي وأحرقها الله ليلاً لأني قلت لن أسمح لمسكين بدخولها، لكفرت به عشرات المرات بدل أن أؤمن به. ولماذا أحرقها الله ليلاً وهم نائمون إذا كان الغرض هو إقناعهم بوجود الله. لماذا لم يحرقها نهاراً وهم ينظرون حتى يقتنعوا بالمعجزة هذه؟ إنها نفس قصة الإسراء الذي حدث ليلاً والناس نيام. ونفس قصة قوم لوط الذين خسف بهم الأرض وهم نائمون. كل معجزاته تحدث ليلاً حتى لا يراها الناس ومع ذلك يؤمنون بها.
ويبدو أن الله قد حكم على كل من لا يتبع محمد بأنه مجرم، ولم ينتظر حتى يوم القيامة ليحاسب الناس ويحكم عليهم بأعمالهم. فيقول في نفس السورة: (إنّ للمتقين عند ربهم جناتٍ ونعيم. أفنجعل المسلمين كالمجرمين. مالكم كيف تحكمون. أم لكم كتاب فيه تدرسون. إنّ لكم فيه لما تخيرون. أم لكم أيمانٌ علينا بالغة إلى يوم القيامة أن لكم بما تحكمون).
في ثاني سورة "تنزل" على محمد، يُقسّم ربه الناس إلى مسلمين ومجرمين، حتى قبل أن يعرف محمد نفسه ما هو الإسلام. فالذي لا يتبع محمداً ويصبح مسلماً يجعله رب الإسلام مجرماً. فهل نلوم المسلمين الذين قسموا العالم إلى فسطاط الحرب وفسطاط الإسلام، إذا كان ربهم قد قسّم الناس إلى مسلم ومجرم؟ ويبدو لي أن كاتب القرآن كانت لديه عقدة نفسية من القلم والكتابة. فهو قد ذكر القلم مرتين، وهاهو يذكر الكتاب الذي فيه يدرسون قبل أن يشرح لمحمد أبجديات رسالته.
ثم يستمر فيقول: (أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين. يوم يُكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعةٌ أبصارهم تُرهقهم ذلةٌ وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون. فذرني ومن يكذب بهذا الحديث. سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم أن كيدي متين).
هذا سيناريو مخيف لا شك في ذلك. يوم يكشف الله عن ساقه ويدعو الكافرين للسجود فلا يستطيعون، ربما لأن مفاصلهم أصبحت متصلبة لا تنحني، ونراهم خاشعين وترهقهم الذلة لأنهم كانوا يُدعون إلى السجود في الدنيا فيرفضون. ثم يقول الله لمحمد: اتركني مع من يكذب بهذا الحديث المنزل إليك، فسوف أستدرجهم من حيث لا يعلمون لأن كيدي متين.
هل هذه لغة وهل هذه صفات تليق برب السماء الذي يقول في بعض آيات القرآن (أدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)؟ هل التهديد بهذا العذاب السادي واستدراج الناس إليه بالكيد والمكر يعتبر حكمة وموعظة حسنة؟ ولماذا كل هذا التهديد، ومحمد لم يكن بعد قد بدأ بدعوة الناس إلى الإيمان بالله؟
وفي آخر السورة يقول الله لرسوله: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقوك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون. وما هو إلا ذكرٌ للعالمين). فإذا كانت هذه ثاني سورة "تنزل" على محمد الذي لم يكن بعد قد تأكد من نبوته، ولم يكن قد أسلم معه غير خديجة فقط، وكان يدعو بعض معارفه سراً، متى سمع الذين كفروا الذكر ورفضوا أن يؤمنوا به حتى يهددهم رب القرآن بكل أنواع العذاب؟
كنتُ أتوقع أن تكون أول ثلاث أو أربع سور من القرآن تعريفاً لمحمد بربه الجديد، وبالوحدانية الإلهية، ثم تعريف محمد بالشيء الذي يطلب منه ربه توصيله إلى بقية البشر، وكيفية دعوة الناس إلى معرفة الله والإيمان به وحده، ونبذ الأصنام، وكيف يتعامل مع الذين يخالفونه الرأي. ولكن ما حصلنا عليه من أول سورتين "نزلتا" على محمد كان تخبطاً وحديثاً عن القلم والكتابة، وتهديداً للناس حتى قبل أن يسمعوا بالرسالة الجديدة، وقصة في منتهى السذاجة تشرح للناس كيف أن الله يجعل الكافرين يومنوا به بعد أن يحرق حدائقهم ليلاً وهم نائمون.
سوف نتابع بقية السور المكية في الحلقات القادمة، إن شاء العقل وسمح الوقت.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=211947
تأملات.. في تأملات كامل النجار
غالي المرادني
في مقاله المنشور على موقع الحوار المتمدن في العدد 2978 بتاريخ 17-04-2010، تناول (كامل النجار) بعض الآيات القرآنية في محاولة لتأمل معانيها كما يدّعي بحسب عنوان مقاله... ومن الجلي أن تأملات (النجار) القرآنية لا تستند لأي حقائق موضوعية أو علمية كما هو واضح في مقاله محل النقاش وكما سنبين لاحقاً... كما انه من الضروري الإشارة بأن (النجار) لا يترك مناسبة إلا ويذكر فيها ان رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) قد أسس لقيام الإسلام بمساعدة كل من القس ورقة بن نوفل والراهب بحيره... وكما يقول في مقاله:
(الغالبية العظمى من السور نزلت بمكة، عندما كان محمد ما زال في طور التلميذ للقس ورقة بن نوفل وللراهب بحيرة وغيرهم من الأرقاء الأحباش المسيحيين) انتهى
ونحن نتسائل هنا لماذا يُصر (النجار) دائماً على ذكر هذا الأمر مع التأكيد على ان هؤلاء كانوا من المسيحيين؟؟؟ ونتساءل أيضاً من هم (غيرهم من الأرقاء والأحباش المسيحيين) الذين جاء ذكرهم في مقاله؟؟؟
أليس من حق القراء أن يعرفوا سبب تكرار (النجار) لهذه الأكاذيب التي يروّج لها بعض المسيحيين الموتورين على مواقعهم؟؟ أليس من حقنا على (النجار) كقراء أن نعرف من هُم (غيرهم) الذين ذكرهُم في مقاله؟؟ لعلّ (النجار) يريد من قراءه أن يعاملوه كما يُعامِل المسلمون التقليديون مشائخهم.. حيث أن المسلمين –كما يقول النجار- لا يجرؤون على معارضة مشائخهم ويأخذون كل ما يصدُر منهم على أنه الحق المطلق وبهذا تحوّل هؤلاء المشايخ بحسب المنطق (النجاري) إلى أشباه ألهة.. إن من يقرأ تأملات (كامل النجار) ويقرأ تعليقات مُريديه يخرج بهذه النتيجة.. فلم يجرؤ أحد منهم أن يسأله هذه الأسئلة المشروعة.. بل إن أكثرهم يُثني ألمعيته على هذه الضربة الفائقة من العبقرية الواردة في مقاله!!
وعموماً وبالعودة إلى موضوع المقال فسوف نعرف حقاً إن كان مقال (كامل النجار) هو خبطة من العبقرية الفذة.. أم أنه لا يعدو عن كونه صفعة وقحة في وجه العقلانية والتنوير والعقل والمنطق...
يتحدث (النجار) في مقاله عن اللوح المحفوظ.. مشيراً إلى أن بعض المفسرين المسلمين قد قالوا أن القرآن كان قد كُتب كاملاً اولاً في اللوح المحفوظ ومن ثم نزل على محمد بشكل مختلف عما هو في اللوح المحفوظ... وأن هذا قد سبب ارتباكاً كبيراً كما يدّعي في محتوى وترتيب السور القرآنية...
وللوهلة الأولى يبدو أن هذا الكلام هو ضربة فائقة من العبقرية كما قلنا سابقاً.. ولكن حين ندقق فيه أكثر نجد أنه لا يعدو عن كونه وصمة من العار على جبين العقل والمنطق... فهل شاهد (النجار) أو المفسرين الذين نقل عنهم ترتيب الآيات القرآنية في اللوح المحفوظ المزعوم حتى يُقال أن ترتيب الآيات والسور القرآنية الحالية هو غير ترتيبها في اللوح المحفوظ!!! أم أنّ (النجار) يدّعي أن جبريل حامل الوحي القرآني كان قد زاره في غار حراء وعرض عليه الترتيب القرآني الصحيح؟؟!!! فلم يثبت أن أحداً من هؤلاء المفسرين الذين نقل (النجار) عنهم أن قال أنّ الوحي قد جاءه وبيّن له أن ترتيب الآيات القرآنية غير صحيح.. مما يدل على أن هؤلاء المفسرين قد اجتهدوا وأخطأوا.. ولكن من أين جاء (النجار) بهذا الكلام!!؟؟
إنه لمن العار أن يصدُر هذا الكلام عن شخص يدّعي بأنه يحمل مشعل التنوير والتمدن.. لكن ليس هناك من عار أكبر من عار هؤلاء المصفقين الذين يؤيديونه في كلامه دون أدنى تفكير وتدقيق...
وفيما يتعلق باللوح المحفوظ فنقول لــ (النجار) أن اللوح المحفوظ المذكور في القرآن ليس له وجود مادي.. فالآية الكريمة تقول: هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (22) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (23) البروج
"ومن معاني اللوح في اللغة العربية: الصحيفة العريضة من الخشب أو العظم، وقيل مأخوذ من أن المعاني تلوح فيه بالكتابة، حيث يًقال لاح يلوح أي ظهر.
وكما هو واضح من تفسير الكلمات، فإن اللوح هو السطح العريض المكتوب عليه وهو من لاح يلوح.. أي ظهر.. وحيث أن صفحة الورق يمكن طيُها إلا أن المكتوب على الخشب أو العظم لا يمكن طيّه ولذلك يسمى لوحاً... والظاهر أن الشيء الذي لا يطوى فيه ميزة وعيب في وقت معاً.. فالميزة أنه يمكن لأياً كان أن يقرؤه فيشاع بين الناس جيداً.. وأما العيب فإنه لكونه مفتوحاً دائماً سيكون عرضة للتلاعب أو المحو... ولذلك زاد الله تعالى في هذه الآية كلمة (محفوظ) عند وصف القرآن الكريم وقال أنه (في لوح محفوظ).. أي أن من مزاياه أنه سيصل إلى أيدٍ كثيرة وسينتشر انتشاراً كبيراً... ولكنه سيظل محفوظاً من تلاعب الناس... هذا هو المقصود باللوح المحفوظ بحسب معاني الكلمات الواردة في سياق الآية." *
وتتوالى الصفعات الوقحة التي يقدمها لنا (النجار) .. وهذه المرة يحدثنا عن تفسير سورة العلق التي كانت آياتها التالية هي أول ما نزل من القرآن المجيد:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (3) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (4) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (5) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (6)
يقول (النجار): أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ أو يكتب فكيف يوجه الله له الأمر بالقراءة؟؟ وماذا يقرأ إذا كانت هذه أول سورة نزلت عليه من القرآن؟؟ وكيف يقرأ علماً أن جبريل لم تكن معه ورقة ليقرأ منها؟؟ ثم ما معنى خلق الإنسان من علق؟؟ فبحسب الأديان الثلاثة أن آدم كان هو الإنسان الأول فكان من الواجب أن يُقال (خلق الإنسان من تراب) لكنه حتى يستقيم السجع استعمل كلمة العلق؟؟؟ فمن أين أتى العلق؟؟
نقول أن كلمة (إقرأ) هي الكلمة الأولى التي نزلت على الرسول (ص).. ومن خلال هذه الكلمة تم الإعلان عن نبوءات عظيمة.. وهي تعني أصلاً إقرأ الشيء المكتوب.. ولكن فإن من معانيها أيضاً: أعلِنْ.. والمعنييّن ينطبقان هنا بشكل رائع مما يؤكد على الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم.. فإذا أخذنا المعنى الثاني فسيكون المراد من قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أعلِنْ عن هذا الكتاب باسم ربك الخالق.. مما يعني أن القرآن الكريم قد أعلن من أول يوم أن هذا الوحي ليس موجهاً لمحمد فحسب.. بل هو لجميع الأمم والشعوب إلى يوم القيامة..
أما إذا أخذنا بالمعنى الثاني لكلمة (إقرأ).. أي إقرأ الشيء المكتوب فسيصبح المعنى من قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) نبوءةً بأن وحي القرآن الكريم سيُكتَب.. ثم يُقرأ هذا الوحي المكتوب بكثرة.. ويؤكد التاريخ الديني أنه ليس هناك من كتاب سماوي قبل القرآن كُتب منذ بداية نزوله.. فالقرآن هو الكتاب الوحيد الذي كان الله تعالى قد نبَّأ أنه سيُكتب أولاً بأول.. وهكذا ستتيسر الأسباب لحفظه منذ أول يوم.. وقد تحققت هذه النبوءة حرفياً.. فالمستشرقون مثل "نولدكه" و "ويري" و "وليام موير" كلهم اعترفوا بهذا الواقع قائلين ما معناه: (ليس هناك سفرٌ بين الأسفار السماوية كُتب منذ أول يومه مثل القرآن الكريم) **
كما أن الله تعالى قد أشار من خلال إضافة كلمة (رَبِّكَ) إلى موضوع آخر.. فالواقع أنّ الله تعالى يؤمن به المشركون واليهود والمسيحيون كلهم.. ولكنهم جميعاً يمتلكون مفهوماً خاصاً عن الله وكأن لكل منهم إلهاً خاصاً مختلفاً.. فاليهود يعتقدون أن الله تعالى خصهم وحدهم بالوحي الإلهي.. أما المسيحيون فهم يسيئون لله تعالى بقولهم أنّه تعالى اتخذ له إبناً... أما قومه فكانوا يعبدون اللات والعزى وغيرهما مع الله... وقد كانت فطرة الرسول (ص) ترفض هذه المعتقدات جميعاً والتي تسيء لمقام الله تعالى.. ولهذا كان معنى (رَبِّكَ) في الآية أي إذهب وأعلن اسم ربك في العالم وقل ليس أرباب الكافرين.. بل الرب الذي اتخذته ربّاً هو الرب الحق وباسمه تنال كل البركات.. وهذا يعني أنّ الله تعالى قد فنَّد الشرك في أول وحي أنزله على النبي (ص).. وأخبره أنّ الناس وإن كانوا يؤمنون بوجود الله.. ولكن ليس منهم من كانت عقيدته منزهة تماماً عن الأفكار الوثنية.. وإنما الله الذي أدركت أنت حقيقته..إنما الرب الحقيقي هو من أيقنتَ به خلال عبادتك ليل نهار في غار حراء.. وعليه فإن قوله تعالى (رَبِّكَ) تصديق رباني لسلامة اعتقاد رسول الله (ص).. ***
كما ويجدر بنا الإشارة إلى أنّ هذه الآية البسيطة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) هي تحقيق لنبوءة عظيمة جاءت في التوراة.. فقد ورد في التثنية ما يلي:
(أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. 19 وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ. 20 وَأَمَّا النَّبِيُّ الَّذِي يُطْغِي، فَيَتَكَلَّمُ بِاسْمِي كَلاَمًا لَمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِ آلِهَةٍ أُخْرَى، فَيَمُوتُ ذلِكَ النَّبِيُّ.) تثنية 18-18:20
فالقرآن هو الكلام الحرفي لله تعالى (أجعل كلامي في فمه) وهو ما أكده القرآن أيضاً (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (4) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (5) )النجم
كما أن كل آيات القرآن الكريم تبدأ بــ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) وهو مصداق لما جاء في التوراة (الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي) وأيضاً ( فيتكلم باسمي كلاماً لم أوصه أن يتكلم به).. وعلى هذا فإن أول آية أوحى الله بها للرسول صلى الله عليه وسلم كانت أيضاً تحقيقاً للنبأ الوارد في التوراة من أن هذا النبي الذي سيأتي من أخوة بني إسرائيل سيتكلم باسم الله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ )..
هذا هو فقط تفسير الآية الأولي من سورة العلق وتجنباً للإطالة سوف نتابع بإذن الله تفسير باق الآيات التي كانت هدفاً لتأملات (كامل النجار) في وقت لاحق لنبيّن للقراء الكرام الفرق بين التأملات الوهمية الواهمة وبين كلام الله الحق.
المصادر:
* التفسير الكبير المجلد التاسع لحضرة ميرزا بشير الدين محمود أحمد
**The Life of Mahomet: by Sir William Muir p. 562-563 - The Quran, its composition and teachings p:40 - A Comprehensive Commentary on The Quran, by Wherry v.1 p. 109
*** التفسير الكبير المجلد التاسع لحضرة ميرزا بشير الدين محمود أحمد
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=212152