]السياب.. فيلسوف الشعراء

تيسير الفارس ..

انطلق السياب من تلك الفكرة التي سيطرت عليه تمام السيطرة حتى احترق بنارها فراح يعوي عواء الذئب الجريح ويصرخ من أعماقه الى رب الكون من يسكب في روحي التي دمرها الملال شراب النهايات .. ها أنا ذا ألوي بوجهي صوب الضلال الكابية فمن يسمع نحيبي.. آه يا آلهة الشعر.. نثار من ضباب المساء يعلو القمم التي برحّ بها اليأس في لحظة لن أقوى على تمثلها . فكيف اعبر عنها .. وتلك هي الصوره المفزعة لآخر كلمات نطق بها السياب ثم رحل بعد أن ترك بقاياه شرابا سنيا لذوي النفوس الحالمة ولمن يعرفون مذاق الألم ..
نعم الشعر والفلسفة صورتان للتعبير عن الوجود أحداهما للتعبير عن الامكان والأخرى للتعبير عن الآنية.. والوجود إمكانية وآنية معا .. ولهذا كان الشعر والفلسفة متكاملين في نظره .. الشعر يعمل في الإمكان ليحيله الى آنية في مملكة القول الموزون، والفلسفة تعمل في الآنية لتحيلها الى إمكان أي الى ذلك النبوع الأصيل المفعم بالشهوة ..
نأخذ مثالا على ذلك قصيدة حفار القبور التي حللناها كاملة ونشرناها في ملحق الرأي الثقافي عام 1991 في شهر نيسان ( أرجو العودة الى ارشيف الرأي الثقافي ) ولهذا سأكتفي هنا في بيان الملامح الرئيسية التي تدل على البعد الفلسفي .. فالقصيدة كما نعلم تعبر عن نزوع الموجود المتحقق ـ على نحو ناقص ، لأنه مفصول عن نصفه الآخر ، الى اللحاق بذلك النصف الذي فصل عنه في عملية الخلق الأول حينما دقت لحظة الأنبثاق الأولى في كلمة كن ..فترددت آهة أليمة وصرخة راح يعبر عنها هذا الجوع والألم الذي يبديه ذلك الحفار الانسان العلى .. ثم تأتي كالهمس السارب في الوجدان صوت الظلمة الجازعة التي سرعان ما تتبدد عندما يتسرب خيط النور الذي يندفع متخذا سبيله في الفضاء حتى هبط كتلة هامدة في ظلام القبر الذي تصفر فيه رياح الموت والتلاشي .. حيث تسكت كل رغبة وتتوقف كل ضوضاء، ليطل الصمت بعنفوانه الرهيب العميق وتبرز تلك الوحشة الغريبة .. هنا يصير الأنسان العليّ وحيدا لإول مرة في التاريخ ...ثم تتسرب الوحشة الى أعمق أعماق نفسه وتنعكس كالضلال على الكون المشتت الموزع الذي أضله الفراغ بجناحيه المخيفين ... وهكذا راح ينزع بنا النص الى أمور هي في غاية الجلل، فتتواثب الكائنات التي تندفع الى الاتحاد .. الكل بالكل.. في لهفة واسراع وهو ما يبرر هذه القشعريرة التي علت النص في اندفاعاته المتتالية نحو تعميق المثال بنوع من الجدة التي تأسر أنفسنا.. نحن الكائنات الضائعة في متاهات هذا الكون والقارئة لهذا النص .. فالآهة الأليمة التي انطلقت حينما انقذف الوجود المطلق الى هاوية العدم ليكوّن الآنية ثم هذه النزعة في الآنية الى استعادة امكانياتها التي كانت لها في وجودها الماهوي .. هذه القشعريرة تسري في الكون كله ..... كل هذا يقدم تفسيرا رائعا لفلسفة تضمنت النص واخترقته من أعلاه الى أعلاه .. هذه الفلسفة كان ممثلها الأكبر القلق الخصب الذي يستولي على الآنية في مصيرها المقدر ..
أياكم أن تظنو أني اقدم تفسيرا أو تأويلا للنص ما عاذ الله إنما أريد أن ابرهن على مدى عبقرية هذا النص للسياب أنطلاقا من فلسفة عظيمة كان هذا الرجل يدافع عنها ويتمثلها .. وكل الدرسات التي تعرضت للسياب كانت فقيرة في هذا الجانب.. بل مخزيه وتافهه في أكثرها .. ذلك أن النقد العربي لم يعرف هذا الجانب من الدراسات الثورية العميقة.. هذا موضوع أرجو أن يسعفني الوقت في العودة اليه ...
ولمحايثة نص السياب هذا للننظر الى أداة التعبير في النص ..
قلت إن مهمة الشعر تحقيق الممكن بواسطة اللغة والتعبير يتفرع الى ثلاثة وسائل : الأالفاظ والصور والوزن .
أما الألفاظ.. فيجب أن يكون من شأن اختيارها توليد الشعور بعالم حق يتحقق عن إمكان .. ولذا ترى السياب هنا يبتعد كل البعد وقدر المستطاع عن اللغة الجارية كيما يستعيد البكارة الأولى التي يختص بها عالم الإمكان، بل نراه يشن حربا لا هوادة فيها على الابتذال اليومي، وعلى الناس والمجموع،وما الى هذا من عوامل تزييف الذاتية .. كما يلجأ الى الألفاظ العتيقة أعني الى ما هو قليل الاستعمال في الحياة اليومية .. لا نقصد بذلك الحوشي والغريب .. ولكن الى اعطاء الكلمات مسحة من القدم الذي يوحي بالأصالة والنضارة التي هما من شأن الخلق الأول . فاللفظ المصقول كتمثال عتيق نصبغه بصبغة الحداثة ... فالسياب كان خالقا لهذه العتاقة اللفظية ..
أما الذين جاؤا بعده وتأثروا بهذه النزعة لديه اقصد في هذا الاتجاه اي التعبير عن النضارة الأولية للأشياء فقد بالغوا كثيرا ولم يفهموا السر الذي ابتدعه هذا الشاعر الفيلسوف الخليق بالأمتثال . بحيث خرجوا عن اللغة نفسها ذات الألفاظ وانتهوا الى نوع من الزمزمة والتمتمة والأصوات التي وأن كانت أحيانا رنانة موحية بدرجة كبيرة فإنها مع ذلك صارت خارج القول .. حتى تحولت لغتهم الى ما يشه الإضطراب المخزي .. وهذا لا يمكن أن يؤدي الى صورة واضحة للشعر صورة تعبر عن الوجود في أعلى درجات تحققه الممكنه .. لقد كان السياب هو اليد العظمى التي طرقت باب اللفظ المبتكر يدا ثقيلة راحت تطرق بعنف .. حتى فتح الباب على مصراعيه وهنا قبض على روح اللغة ... لكن المشكلة تبدو في تحديد مدلول ومدى ومعنى روح اللغة، فثمت فريق من المتزمتين لدينا وما أكثرهم وأشد صخبهم وضجيجهم ، سرعان ما يولولون ويصرخون : هذا ليس في لغة العرب و هذا لا يتفق وروح اللغة .. وبليتنا في هذا الباب . معشر العرب .. لا تحتاج الى فصل بيان مما أدى الى اعاقة حركة التجديد التي خطها السياب في هذا الاتجاه ..نعود الى مقصودنا في روح اللغة .. فنقول إنها الإحساس أو الذوق اللغوي عند كبار الكتاب والشعراء والمبدعين في أفكارهم وصورهم من ذوي الملكة الممتازة سواء كان هذا الذوق يوافق أو يتفق مع عمود اللغة وتعبيراتها وألفاضها التقليدية أو لا يتفق .. لأنهم هم الخالقون المبدعون وليس لخلقهم حد.. ...
هذا التجديد لا يتوقف عند الالفاظ وإنما يتعداه الى التراكيب اللفظية فيخلق من التراكيب ما شاء مهما بدت غريبة ويكسر القوالب التقليدية متى شاء ما دام ذلك يؤدي الى زيادة القدرة على التعبير .. وعلى النحو أن يخضع كما خضع أخوه الصرف .. فالشاعر الممتاز خالق النحو الممتاز .
ثم القدرة الفذه على التعبير بالصورة فالسياب لديه قدرة فذة على التعبير بالصور حتى تبدو قصيدته معرضا مستمرا لصور متتاليه لا تنقطع وهي صور مدهشة.. تسمو بالخيال الى حدوده القصوى.. وتعبيره بالصور هو تعبير مجرد أي ينقل الصورة لتكون اداة معبرة عن المعنى في أعلى درجات اكتماله الممكنة ..
والتعبير بالصور بمعاني مجردة يتم هنا.. وقد يتم بصور خالصة .. وتلك حقيقة لطيفة ومفارقة جليلة دق معناها عن جل النقاد .. فزعموا أنه ما دام الموضوع تصويري فالتعبير تصويري وكذلك التشبيهات والاستعارات وما اليها من أنواع المجاز .. هذا ليس له كبير شأن فيما نعنيه هنا من التعبير بالصور.. ما أريد قوله أن الصور والإهابة بها واقتناصها بشكل لطيف لا شأن له عند الشاعر العظيم بالاستعارة أو التشبيه .. وهذا المنحى هو من أشد بلايا الشعر العربي المحدث الذي لا زال يرزخ تحت ضغط هذه الانماط التقليدية في التعبير بالاستعار والتشبية وما نحا نحو ذلك ..
ومن أن انجع الوسائل في التعبير بالصور أن لا ندع المعنى مجرد بل نحيل اليه الصور حتي يتحول الى عيني مشاهد و ملموس ..
ومن الوسائل كذلك ابتعاث الصورة في مخيلة السامع للشعر..أي أن يكون في جرس الالفاظ نفسها وتأليفها النغمي ما يؤدي الى تحقيق هذا ... فالشأن هنا كالشأن في الموسيقى تماما : فكما أن الايقاع النغمي والتآلف الموسيقي يكفي وحده لإثارة عالم من الصور الحية العامرة بالحياة ـ كذلك يرتفع التآلف النغمي اللفظي أو التركيبي الى الإيحاء بصور قائمة .. فيكفيك مجرد سماع الألفاظ في سياقها كيما تبعث في خيالك دنيا من الصور الحية ...
وهذا يقودنا الى الحديث عن الناحية الثالثة الوزن .... ولا نعني بذلك هذا التراتب والتلاحق الوزني الذي لا يعبر عن انطلاقة الروح وتفجر الطاقات الموسيقية في القصيدة أو البيت من الشعر وانما نقصد تلك الموسيقى التي تتضمن بنية اللفظ الداخلية المرتبطة ببنية لفظية تتبعها، ولا نقصد ذلك الاطراد والرتوب الذي هو من ألد أعدا التوتر .. لخلوه من التقابل والتضاد والتعارض والتمزق الحركي ... حتى ليبدو شأن الشعر العربي كشأن الموسيقى العربية التي تقوم على اللحن للاسف .. ولا تقوم على الانسجام .. اللحن خالي من التوتر لتتالي النغمات ومن تعارضعا في وقت واحد ... أما الانسجام فهو توتر تختلف مرتبته بين الحركة والسكون .. فعمود الشعر العربي يقوم على اللحن ولا يقوم على الانسجام والتوافق والتوتر الحي الخلاقّ .. لم يتم التخلص من هذه المشكله للأسف الشديد وما محاولة السياب إلا محاولة مذهله عندما كسر بيت الشعر.. هذا البناء المتحجر. لكن مع الحفاض على الموسيقى بعد تحويلها الى موسيقى داخليه في جسد اللفظة مما سمح للصورة أن تطغى على المعنى ..


والقبر خاو يفغر الفم في انتضار في انتضار
ما زلت احفره ويطمره الغبار
تتثائب الظلماء فيه ويرشح القاع البليل
مما تعصّر أعين الموتي وتنضحه الجلود

تلك الجلود الشاحبات وذلك اللحم النضير
حتى الشفاه يمص من دمها الثرى حتى النهود
تذوي ويقطر في ارتخاء من مراضعها النمير
واه.. لهاتيك النواهد والمآقي والشفاه
واه.. لأجساد الحسان
أيأكل الدود الحقير
ما تمناه الهوى واخيبتاه
لا حظ في هذا المقطع الثمين من قصيدة حفار القبور كيف يختفى المعنى لصالح الصورة وتلك لعمري معجزة كان السياب يعيها تماما ..
من لم يحترق بلهيب الشرارة المقدسة تلك التي تلمع في عين الحياة المدنسة فليدع الشعر وما له أن يمارس هذا الفعل النبيل .. نعم هذه الشرارة المقدسة هي القلق الوجودي الذي يلمع في عين الحياة التي هي خطيئة وشر وقبح في جوهرها . ولهذا كانت الخطايا والشرور ادل على الوجود واقدر على الكشف عن نسيجه.. ولا عجب بعد هذا أن يحرص الفنان والشاعر والموسيقي والنحات الممتاز على طرق هذه الموضوعات بالذات والاهتمام بها .. بل قصره هذا الأهتمام عليها كما فعل جيته وهيلدرن وبولدير والسياب وحاوي وحافظ الشيرازي

واذا كان الناس ينظرون الى أولاء الشعراء على أنهم ملعنون مطرودون من الرحمة .. أقول لا إن أمثال هاؤلاء الشعراء من الطبقة الممتازة، هم من يرفعون أياديهم الىالسماء حيث تستشرف عيون باطنهم الزاخر الى عرش عظيم وملكوت السماء والأرض بين أياديهم .. أستغفر الله بل هم النول الذي حيكت عليه خيوط هذا الوجود .. إن البروق الواسعة تشع من أرواحهم المضيئة لتحجب عنهم منظر الناس الهائجين ( يجأرون الى الله ) بوركت يامن تهب الألم بلسما مقدسا لأدناسنا الألم هو خلاصة الأنقى و الأصفى لإعداد الأقوياء للشهوات المقدسة هؤلاء الأتقياء هم في الصفوف الناعمة لوفود الأبرار .. أنا اعلم أن الألم هو النبالة الوحيدة التي لا يمكن ان تعّض عليها الأرض ولا مواطن الموتى وأنه لا بد من قهر الكون من أجل تضفير إكليل صوفي مقدس هناك .. ورحماك يا بولدير عندما قلت :
من ينظر في عين الحياة المدنسة هو وحده الذي يحترق بلهيب تلك الشرارة المقدسة ويضّفر له هذا الإكليل .[/size]

أعتـرف بـأن السـيـّاب أسطورة لـن تـتكـرر
و إن كان فيـلسوف الشعراء ـــ فـ هو دون أدنى شكـ
سيـد الشـعر العـربـي و رائـد الشعر الحديــــث بصحبـة نازكـ
تـُشكر جهودك يا تيـسيـر

اقتباس:انطلق السياب من تلك الفكرة التي سيطرت عليه تمام السيطرة حتى احترق بنارها فراح يعوي عواء الذئب الجريح ويصرخ من أعماقه الى رب الكون من يسكب في روحي التي دمرها الملال شراب النهايات .. ها أنا ذا ألوي بوجهي صوب الضلال الكابية فمن يسمع نحيبي.. آه يا آلهة الشعر.. نثار من ضباب المساء يعلو القمم التي برحّ بها اليأس في لحظة لن أقوى على تمثلها . فكيف اعبر عنها .. وتلك هي الصوره المفزعة لآخر كلمات نطق بها السياب ثم رحل بعد أن ترك بقاياه شرابا سنيا لذوي النفوس الحالمة ولمن يعرفون مذاق الألم ..
نعم الشعر والفلسفة صورتان للتعبير عن الوجود أحداهما للتعبير عن الامكان والأخرى للتعبير عن الآنية.. والوجود إمكانية وآنية معا .. ولهذا كان الشعر والفلسفة متكاملين في نظره .. الشعر يعمل في الإمكان ليحيله الى آنية في مملكة القول الموزون، والفلسفة تعمل في الآنية لتحيلها الى إمكان أي الى ذلك النبوع الأصيل المفعم بالشهوة ..
نأخذ مثالا على ذلك قصيدة حفار القبور التي حللناها كاملة ونشرناها في ملحق الرأي الثقافي عام 1991 في شهر نيسان ( أرجو العودة الى ارشيف الرأي الثقافي ) ولهذا سأكتفي هنا في بيان الملامح الرئيسية التي تدل على البعد الفلسفي .. فالقصيدة كما نعلم تعبر عن نزوع الموجود المتحقق ـ على نحو ناقص ، لأنه مفصول عن نصفه الآخر ، الى اللحاق بذلك النصف الذي فصل عنه في عملية الخلق الأول حينما دقت لحظة الأنبثاق الأولى في كلمة كن ..فترددت آهة أليمة وصرخة راح يعبر عنها هذا الجوع والألم الذي يبديه ذلك الحفار الانسان العلى .. ثم تأتي كالهمس السارب في الوجدان صوت الظلمة الجازعة التي سرعان ما تتبدد عندما يتسرب خيط النور الذي يندفع متخذا سبيله في الفضاء حتى هبط كتلة هامدة في ظلام القبر الذي تصفر فيه رياح الموت والتلاشي .. حيث تسكت كل رغبة وتتوقف كل ضوضاء، ليطل الصمت بعنفوانه الرهيب العميق وتبرز تلك الوحشة الغريبة .. هنا يصير الأنسان العليّ وحيدا لإول مرة في التاريخ ...ثم تتسرب الوحشة الى أعمق أعماق نفسه وتنعكس كالضلال على الكون المشتت الموزع الذي أضله الفراغ بجناحيه المخيفين ... وهكذا راح ينزع بنا النص الى أمور هي في غاية الجلل، فتتواثب الكائنات التي تندفع الى الاتحاد .. الكل بالكل.. في لهفة واسراع وهو ما يبرر هذه القشعريرة التي علت النص في اندفاعاته المتتالية نحو تعميق المثال بنوع من الجدة التي تأسر أنفسنا.. نحن الكائنات الضائعة في متاهات هذا الكون والقارئة لهذا النص .. فالآهة الأليمة التي انطلقت حينما انقذف الوجود المطلق الى هاوية العدم ليكوّن الآنية ثم هذه النزعة في الآنية الى استعادة امكانياتها التي كانت لها في وجودها الماهوي .. هذه القشعريرة تسري في الكون كله ..... كل هذا يقدم تفسيرا رائعا لفلسفة تضمنت النص واخترقته من أعلاه الى أعلاه .. هذه الفلسفة كان ممثلها الأكبر القلق الخصب الذي يستولي على الآنية في مصيرها المقدر ..
أياكم أن تظنو أني اقدم تفسيرا أو تأويلا للنص ما عاذ الله إنما أريد أن ابرهن على مدى عبقرية هذا النص للسياب أنطلاقا من فلسفة عظيمة كان هذا الرجل يدافع عنها ويتمثلها .. وكل الدرسات التي تعرضت للسياب كانت فقيرة في هذا الجانب.. بل مخزيه وتافهه في أكثرها .. ذلك أن النقد العربي لم يعرف هذا الجانب من الدراسات الثورية العميقة.. هذا موضوع أرجو أن يسعفني الوقت في العودة اليه ...
ولمحايثة نص السياب هذا للننظر الى أداة التعبير في النص ..
قلت إن مهمة الشعر تحقيق الممكن بواسطة اللغة والتعبير يتفرع الى ثلاثة وسائل : الأالفاظ والصور والوزن .
أما الألفاظ.. فيجب أن يكون من شأن اختيارها توليد الشعور بعالم حق يتحقق عن إمكان .. ولذا ترى السياب هنا يبتعد كل البعد وقدر المستطاع عن اللغة الجارية كيما يستعيد البكارة الأولى التي يختص بها عالم الإمكان، بل نراه يشن حربا لا هوادة فيها على الابتذال اليومي، وعلى الناس والمجموع،وما الى هذا من عوامل تزييف الذاتية .. كما يلجأ الى الألفاظ العتيقة أعني الى ما هو قليل الاستعمال في الحياة اليومية .. لا نقصد بذلك الحوشي والغريب .. ولكن الى اعطاء الكلمات مسحة من القدم الذي يوحي بالأصالة والنضارة التي هما من شأن الخلق الأول . فاللفظ المصقول كتمثال عتيق نصبغه بصبغة الحداثة ... فالسياب كان خالقا لهذه العتاقة اللفظية ..
أما الذين جاؤا بعده وتأثروا بهذه النزعة لديه اقصد في هذا الاتجاه اي التعبير عن النضارة الأولية للأشياء فقد بالغوا كثيرا ولم يفهموا السر الذي ابتدعه هذا الشاعر الفيلسوف الخليق بالأمتثال . بحيث خرجوا عن اللغة نفسها ذات الألفاظ وانتهوا الى نوع من الزمزمة والتمتمة والأصوات التي وأن كانت أحيانا رنانة موحية بدرجة كبيرة فإنها مع ذلك صارت خارج القول .. حتى تحولت لغتهم الى ما يشه الإضطراب المخزي .. وهذا لا يمكن أن يؤدي الى صورة واضحة للشعر صورة تعبر عن الوجود في أعلى درجات تحققه الممكنه .. لقد كان السياب هو اليد العظمى التي طرقت باب اللفظ المبتكر يدا ثقيلة راحت تطرق بعنف .. حتى فتح الباب على مصراعيه وهنا قبض على روح اللغة ... لكن المشكلة تبدو في تحديد مدلول ومدى ومعنى روح اللغة، فثمت فريق من المتزمتين لدينا وما أكثرهم وأشد صخبهم وضجيجهم ، سرعان ما يولولون ويصرخون : هذا ليس في لغة العرب و هذا لا يتفق وروح اللغة .. وبليتنا في هذا الباب . معشر العرب .. لا تحتاج الى فصل بيان مما أدى الى اعاقة حركة التجديد التي خطها السياب في هذا الاتجاه ..نعود الى مقصودنا في روح اللغة .. فنقول إنها الإحساس أو الذوق اللغوي عند كبار الكتاب والشعراء والمبدعين في أفكارهم وصورهم من ذوي الملكة الممتازة سواء كان هذا الذوق يوافق أو يتفق مع عمود اللغة وتعبيراتها وألفاضها التقليدية أو لا يتفق .. لأنهم هم الخالقون المبدعون وليس لخلقهم حد.. ...
هذا التجديد لا يتوقف عند الالفاظ وإنما يتعداه الى التراكيب اللفظية فيخلق من التراكيب ما شاء مهما بدت غريبة ويكسر القوالب التقليدية متى شاء ما دام ذلك يؤدي الى زيادة القدرة على التعبير .. وعلى النحو أن يخضع كما خضع أخوه الصرف .. فالشاعر الممتاز خالق النحو الممتاز .
ثم القدرة الفذه على التعبير بالصورة فالسياب لديه قدرة فذة على التعبير بالصور حتى تبدو قصيدته معرضا مستمرا لصور متتاليه لا تنقطع وهي صور مدهشة.. تسمو بالخيال الى حدوده القصوى.. وتعبيره بالصور هو تعبير مجرد أي ينقل الصورة لتكون اداة معبرة عن المعنى في أعلى درجات اكتماله الممكنة ..
والتعبير بالصور بمعاني مجردة يتم هنا.. وقد يتم بصور خالصة .. وتلك حقيقة لطيفة ومفارقة جليلة دق معناها عن جل النقاد .. فزعموا أنه ما دام الموضوع تصويري فالتعبير تصويري وكذلك التشبيهات والاستعارات وما اليها من أنواع المجاز .. هذا ليس له كبير شأن فيما نعنيه هنا من التعبير بالصور.. ما أريد قوله أن الصور والإهابة بها واقتناصها بشكل لطيف لا شأن له عند الشاعر العظيم بالاستعارة أو التشبيه .. وهذا المنحى هو من أشد بلايا الشعر العربي المحدث الذي لا زال يرزخ تحت ضغط هذه الانماط التقليدية في التعبير بالاستعار والتشبية وما نحا نحو ذلك ..
ومن أن انجع الوسائل في التعبير بالصور أن لا ندع المعنى مجرد بل نحيل اليه الصور حتي يتحول الى عيني مشاهد و ملموس ..
ومن الوسائل كذلك ابتعاث الصورة في مخيلة السامع للشعر..أي أن يكون في جرس الالفاظ نفسها وتأليفها النغمي ما يؤدي الى تحقيق هذا ... فالشأن هنا كالشأن في الموسيقى تماما : فكما أن الايقاع النغمي والتآلف الموسيقي يكفي وحده لإثارة عالم من الصور الحية العامرة بالحياة ـ كذلك يرتفع التآلف النغمي اللفظي أو التركيبي الى الإيحاء بصور قائمة .. فيكفيك مجرد سماع الألفاظ في سياقها كيما تبعث في خيالك دنيا من الصور الحية ...
وهذا يقودنا الى الحديث عن الناحية الثالثة الوزن .... ولا نعني بذلك هذا التراتب والتلاحق الوزني الذي لا يعبر عن انطلاقة الروح وتفجر الطاقات الموسيقية في القصيدة أو البيت من الشعر وانما نقصد تلك الموسيقى التي تتضمن بنية اللفظ الداخلية المرتبطة ببنية لفظية تتبعها، ولا نقصد ذلك الاطراد والرتوب الذي هو من ألد أعدا التوتر .. لخلوه من التقابل والتضاد والتعارض والتمزق الحركي ... حتى ليبدو شأن الشعر العربي كشأن الموسيقى العربية التي تقوم على اللحن للاسف .. ولا تقوم على الانسجام .. اللحن خالي من التوتر لتتالي النغمات ومن تعارضعا في وقت واحد ... أما الانسجام فهو توتر تختلف مرتبته بين الحركة والسكون .. فعمود الشعر العربي يقوم على اللحن ولا يقوم على الانسجام والتوافق والتوتر الحي الخلاقّ .. لم يتم التخلص من هذه المشكله للأسف الشديد وما محاولة السياب إلا محاولة مذهله عندما كسر بيت الشعر.. هذا البناء المتحجر. لكن مع الحفاض على الموسيقى بعد تحويلها الى موسيقى داخليه في جسد اللفظة مما سمح للصورة أن تطغى على المعنى ..

كل هذا الكلام يستطيع المرء نقله و استعماله في التعليق على أي عمل أدبي يجسد نفس الفلسفة. ذلك لأن قراءة العمل الأدبي لاستخلاص فلسفة -أو أي محتوى آخر- لا بد من تأييدها باقتباسات من العمل نفسه. كما أن تلك الاقتباسات تؤسس علاقة حصرية بين القراءة و النص. لا يكفي ان أقول ان السياب شاعر ثوري و عبقري و فيلسوف ووووووو ... فأين دلائلي من النص نفسه؟!

اقتباس:كل هذا الكلام يستطيع المرء نقله و استعماله في التعليق على أي عمل أدبي يجسد نفس الفلسفة. ذلك لأن قراءة العمل الأدبي لاستخلاص فلسفة -أو أي محتوى آخر- لا بد من تأييدها باقتباسات من العمل نفسه. كما أن تلك الاقتباسات تؤسس علاقة حصرية بين القراءة و النص. لا يكفي ان أقول ان السياب شاعر ثوري و عبقري و فيلسوف ووووووو ... فأين دلائلي من النص نفسه؟!

اقتباس:نأخذ مثالا على ذلك قصيدة حفار القبور التي حللناها كاملة ونشرناها في ملحق الرأي الثقافي عام 1991 في شهر نيسان ( أرجو العودة الى ارشيف الرأي الثقافي )

( كل واحد يروح يدور علي اللي هو عايزه بمعرفته )



كوكو

أيأكل الدود الحقير
ما تمناه الهوى واخيبتاه


واخيبة الجميع !