"دولة الفرد" في فضائنا العربي
أسامة أبو ارشيد
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/01552...leStatID=1
عاد الحديث حول صحة الرئيس المصري ليتصاعد من جديد، مثيرا بذلك ذات التساؤلات حول من سيخلف الرجل في موقع الرئاسة في حال ما غاب عن المشهد السياسي، سواء أكان ذاك الغياب بفعل الموت أم بفعل عارض صحي يقعده عن ممارسة مهامه.
"
في الفضاء السياسي العربي لا يكاد مفهوم "الدولة" يكون حاضرا، حيث حلَّ "النظام" محل الدولة ومؤسساتها وتماهى معها, حتى "النظام"، قد لا يعني حزبا أو مؤسسة، بقدر ما قد يكون عائلة وقبيلة
"
الرئيس حسني مبارك والذي يبلغ من العمر (82 عاما) وحكم مصر لقرابة عقود ثلاثة من دون أن يعين نائبا له يقوم مقامه دستوريا في حال عجزه عن ممارسة مهامه إلى حين إجراء انتخابات، لا يمثل أنموذجا متفردا في الفضاء العربي. فالوضع في الجارة الغربية لمصر، وأعني هنا الجمهورية الليبية، ليس بأفضل حالا، مع فارق التشبيه بالطبع. فمصر تبقى متقدمة مؤسساتيا وخبراتيا وعراقة إذا ما قورنت بليبيا. فالزعيم الليبي، معمر القذافي، والذي يحب أن يوصف بعميد الزعماء العرب بسبب أقدميته في الحكم، (41 عاما في الحكم)، يحكم ليبيا منذ عام 1969، ولا يوجد للرجل نائب، ولا حتى مؤسسات معروفة الصلاحيات لتفرز بديلا عنه في حال عجزه عن الحكم.
مصر وليبيا أنموذجان لثقافة سياسية بائسة متجذرة في المنطقة العربية. حتى النائب وإن وجد، فهو مسمى بدون مضمون، وليس أدل على ذلك من الأنموذج السوري، وذلك عندما توفي الرئيس حافظ الأسد، ولم يكن خلفه في الحكم إلا ابنه، بشار الأسد، على الرغم من أن عبد الحليم خدام، كان نائب الرئيس حينئذ.
في الفضاء السياسي العربي لا يكاد مفهوم "الدولة" يكون حاضرا، حيث حلَّ "النظام" محل الدولة ومؤسساتها وتماهى معها. حتى "النظام"، قد لا يعني حزبا أو مؤسسة، بقدر ما قد يكون عائلة وقبيلة، وأظن أن ليبيا تختزل هذا المفهوم، وكذلك مصر وإن بدرجة أقل كثيرا. خذ الأنموذج المصري على سبيل المثال، حيث لا تكاد "الدولة المصرية" ومصالحها تكون حاضرة في حسابات "النظام".
قد يعترض البعض بسبب التركيز على مصر هنا، ولكن مردّ التركيز عليها، هو أن مصر هي الأكثر تأهيلا لكي تكون ثقل العرب وعزهم، كما أنها الأكثر تأهيلا لتكون مصدر ضعفهم وهوانهم. العرب بدون مصر يفتقدون "ركن" البيت، ولذلك تجد مصر حاضرة في كل نقاش حول واقع النظام الرسمي العربي.
"مصر الدولة" مُرْتَهَنَةٌ في السنوات الأخيرة لملف توريث الحكم من مبارك الأب إلى مبارك الابن، والذي يبدو أن احتمالية تحققه تراجعت في بحر العام الجاري. ولكن، ولأن "النظام" مسكون بهاجس خلافة مبارك، فإن مصالح "الدولة" أصبحت هامشية، حتى لو تعلق الأمر بمصالح مصر الإستراتيجية.
في الملفات الداخلية، ترى غيابا شبه كلي "للدولة" في ظل تسلط أجهزة القهر والعسف. فالمواطن المصري تسحق عظامه تحت أنقاض بنايات سكنية مغشوشة، ولا يخاف المجرم الحقيقي محاسبة ولا عقوبة. وتزهق أرواح المئات من المواطنين المصريين بسبب بواخر فاسدة تمخر عباب البحار، ويُهَرَّبُ الجاني (بتواطؤ من بعض دوائر النظام) من البلاد بعد أن يغرم غرامة بسيطة.
وفي حين تحاك كل هذه المؤامرات ضد مصر، تجد "نظام" مصر أقرب إلى التواطؤ في هذه المؤامرات. وإلا فكيف نفسر تواطؤ النظام المصري مع إسرائيل في تجويع غزة وتعطيشها في حين تتآمر إسرائيل على مصر أفريقيا وتسعى لتحجيمها عربيا وإقليميا ودوليا؟ وكيف نفسر قمع وإذلال "النظام" وأعوانه للمواطن المصري ولقوى الشعب الحية في مصر؟ وكيف نفهم أن جامعات مصر، والتي لها فضل على كل العالم العربي، أصبحت شهاداتها بحاجة إلى معادلة في بعض الدول العربية التي لا تضاهي مصر هامة ولا قامة ولا تاريخا ولا حضارة؟ كذلك أصبح التحرش بالمواطن المصري في بعض الدول العربية هواية يحترفها بعض العرب؟ ولمَّ لا، فنظام مصر غائب ساه عن "مصر الدولة" ومصالحها وكرامة مواطنها.
لا أريد الإسهاب في الحديث عن مصر، فما هي إلا أنموذج لأزمة مستشرية في بنية "النظام الرسمي العربي". أم ترى هل نسينا الأزمة المصرية الجزائرية قبل شهور قليلة بسبب لعبة كرة قدم!؟ المضحك المبكي أن الرئيس مبارك عقد حينها اجتماعا خاصا "لمجلس الأمن القومي المصري"، حضره قادة المؤسسات العسكرية والأمنية والدبلوماسية، للبحث في الرد على "الإساءات الجزائرية"! في حين لم يعقد نظام مصر إلى الآن اجتماعا "لمجلس الأمن القومي" لبحث تداعيات التآمر على حصة مصر المائية في مياه نهر النيل، بما قد تعنيه يوما تعطيش مصر وتركيعها لدول أفريقية لا تضاهي مصر في شيء.
ونفس الأمر ينطبق، على تواطؤ "نظام مصر"، سواء بالاشتراك الفعلي بالتآمر، أم عبر الغياب المتعمد، في أو عن ملف انفصال الجنوب السوداني عن السودان، بما يعنيه ذلك من تداعيات كارثية مستقبلية على مصر، على الأقل في ملف الإمدادات المائية المصرية.
نعم، نحن كعرب نعيش "أزمة دولة" ذلك أن "الدولة" غائبة في فضائنا السياسي الرسمي. تنتقد أنظمتنا الرسمية إيران بسبب سعيها لملء الفراغ المكشوف في حدائقنا الخلفية بسبب قرارهم الذاتي (الأنظمة العربية) في الغياب عن الساحة،
ولا ينتبهون إلى أنهم تحولوا إلى عُصَبٍ قبلية وعائلية ومصالحية على حساب بلادهم وشعوبهم.
إيران، اتفقنا معها أم اختلفنا، تتحرك كدولة وضمن مصالح الدولة، سواء فيما يتعلق ببرنامجها النووي أم بسياساتها في العراق ولبنان ودعم قوى الممانعة في المنطقة. يأخذ "عرب الاعتدال" على سوريا وحزب الله وحماس والجهاد ارتباطهم وتنسيقهم مع إيران، وينسون أنه ما كان ليكون لإيران موطئ قدم في كل المنطقة لو لم يكونوا هم متواطئين مع الخصوم والأعداء.
تتخوف تلك الأنظمة من الدور التركي الصاعد وتسعى لإجهاضه وتشويه صورته، وذلك بدل أن يسعوا إلى إعادة بناء منظومة "الدولة" لكي يجلسوا على ذات طاولة الكبار في المنطقة. وفي حين تبني إيران وتركيا، بل وحتى إسرائيل، مقومات الدولة وتُدَعِّمُها، ينشغل أولئك بتمتين مقومات العائلة والحزب والنظام وتدعيمهم. لو سألت أي مواطن ليبي لمصلحة من خاض نظام القذافي مغامراته السابقة ثمّ عاد ليعتذر عنها وتقديم القرابين للغرب للتبرؤ منها، لا بالأقوال وإنما بعشرات المليارات من الدولارات من ثروة الشعب الليبي المنهوبة، لما رأيت منهم إلا الحسرة والألم.
نعم، نتألم على واقعنا.. نتألم عندما يحتاج العربي والمسلم إلى تأشيرة ليقطع خائفا متحسبا ومتوجسا حدودا وهمية بين دول عربية ومسلمة، في حين يجتازها الأجنبي بجوازه معززا مكرما. نتألم عندما نرى الاعتداء على كرامة الإنسان وآدميته في بلادنا.
ونتألم ونحن نرى أقليات تفرض عقائدها وأجنداتها وثقافاتها على الأغلبية الساحقة من المواطنين ممن لا يجرؤون على الكلام ولا يجدون لهم نصيرا أجنبيا في مواجهة "نظام" مرتهن للخارج ولمصالحه. 

ونتألم أكثر فأكثر، ونحن نرى منتسبا للعروبة والإسلام يُجَوِّعُ أخاه العربي والمسلم ويقمع شعبه دون أن يخشى يوم حساب، سواء أكان معجلا أم مؤجلا.
إنها "دولة الفرد" لا "دولة الشعب" ولا "والأمة"، وهذا أحد أسباب ذلنا وتدني مكانتنا وقيمتنا بين الأمم. فعندما لا تصبح للإنسان كرامة في وطنه، فلا تتوقع أن يحصلها