الحاجة العالمية للإصلاح: الإصلاح ورهاناته .....علي حرب
تواطؤ الأضداد على إحداث الخراب
علي حرب الحياة 2004/09/13
تحل الذكرى الثالثة للحادي عشر من أيلول (سبتمبر) والعالم يسير نحو الأسوأ بقدر ما يتصاعد العنف ويتفاقم بازدياد رقعته ووتيرته, وعلى نحو يكاد ينسينا هذا الحدث الكبير, أكان ما يحدث الآن هو من تداعياته أم أنه يشكل هو نفسه مقدمة أو ذريعة لما أريد أن يقع في ما بعد.
كنا نتحدّث عن أيلول الأميركي وهوله, ثم أتى آذار (مارس) الاسباني بفاجعته. وها هو أيلول الروسي ينضم إليهما بانتظار هجمة بربرية جديدة. وبما أن العنف يتصاعد والزمن يتسارع, فالحصيلة هي الى ازدياد, كماً ونوعاً, بانتظار الفاجعة أو الكارثة في مكان ما, ليس كل شهر, ربما كل أسبوع, بل كل يوم. وفي العالم العربي, بات العنف المجاني والقتل البربري, بمثابة خبز يومي, كما تشهد المشاريع الجهنمية, بتفجيراتها الإرهابية ومقاوماتها القاتلة وانتفاضاتها المدمرة, وعلى نحو يكاد يحوّل الحياة هنا الى جحيم قبل اليوم الذي يوعدون.
وهكذا ما يجري على ساحة العالم من أحداث عاصفة يكاد يحشر الجميع في الزاوية الخانقة, لكي يخلق حال طوارئ كونية تجعل الكرة الأرضية في غاية التوتر والاضطراب, بقدر ما تجعل المجتمعات فريسة الهجمات الإرهابية والأزمات الدورية. فالكل في حال من الارتباك بل التورّط والتواطؤ, بخاصة أصحاب الدعوات والمشاريع والاستراتيجيات, من الذين يتصدّون لقيادة العالم أو الذين يدّعون امتلاك الحلول لإصلاح الأمم وإنقاذ البشرية. ذلك أن المآل هو دوماً بعكس الادعاء, والنتائج تنقض المقدمات, تماماً كما أن الوسائل تدمر الغايات. الأمر الذي يحيل السياسات والاستراتيجيات الى حقول ألغام تولد ما نشهده ونعانيه من النزاعات والانفجارات والانهيارات. من يتأمّل هذه الوضعية الوجودية المأزومة على الساحة الكونية, لكي يقرأ دلالاتها أو يتدبّر معانيها, في وسعه أن يخلص الى القول: لم تعد تجدي, معرفة أو عملاً, إدارة العالم بما هو سائد من العقليات والمدارس والاستراتيجيات, سواء من جهة العقل الأصولي, أو المثقف النخبوي, أو صاحب المنزع الإمبراطورى.
فالأصولية, أيّاً كان الأصل والشعار, لا تولد سوى الرعب والإرهاب, لأنها تنبني أساساً على التمييز والاصطفاء وتدّعي احتكار المعنى والمشروعية بقدر ما تعمل بمنطق ضدي عنصري يولد النبذ والإقصاء. هذا ما تفعله في شكل خاص الأصوليات الدينية المتعارضة, ولكن المتواطئة على تخريب العالم وتدمير ما تدعو إليه من القيم والمبادئ, إذ هي تتغذّى من بعضها بعضاً, بقدر ما تتبادل المساوئ التي ترتد على الناس, إرهاباً وقهراً, إو إبادة واستئصالاً. وها هي الأصولية الجهادية تتصدّر الواجهة, وتفوز بالدرجة الأولى بإمعانها في القتل المجاني, وكأن اختصاصها هو قتل الأبرياء وتحويل القضايا والشعارات الى آلات للدمار الشامل, كما تشهد نماذج الزرقاوي والحوثي ومقتضى الصدر والقرضاوي, الذين يسفكون الدماء أو يحضون على سفكه, والذين بعقلياتهم القاصرة وعقولهم المفخخة وفتاواهم البائدة ينتقلون بالعرب من خسارة الى خسارة أفدح, لكي يضعوهم على طريق الهاوية والانقراض الرمزي أو المادي.
أما المثقف النخبوي, فإنه بات أعجز من أن يحل مشكلات تتخطاه وتفوق قدراته المحدودة وطاقته المشلولة, بعد أن أفلست الشعارات وسقطت المشاريع, على يده, بعد عقود من المناضلة دفاعاً عن الحرية والديموقراطية والاستنارة والحداثة والتنمية... ومع ذلك فهو مصرّ على استخدام العدة القديمة, المتقادمة والمستهلكة, بل الصدئة والمفلسة, لكي يحيل المقولات والمفاهيم والنظريات الى آلات لإنتاج العجز والقصور والهامشية.
وأما صاحب المنزع الإمبراطوري, فقد ولّى زمنه في عصر الإنسان الرقمي والعمل الافتراضي والفاعل الميديائي, وسواها من التحوّلات والمستجدات التي تزعزع سلطة الدول, بقدر ما تفجر أطر الزمان والمكان, وبصورة تجعل من المتعذّر على أي دولة, مهما بلغت قوتها, أن تتحكّم بمسار العالم ومقدراته. وإذا كان صاحب المنزع الإمبراطوري, وكما يريد له مرشدوه العقائديون ومحافظوه الجدد, يطالب الآخرين, والعرب بنوع خاص, بإصلاح أوضاعهم وتغيير منهجهم وسياساتهم, فالأولى به أن يصلح نفسه, لأن العالم لم يعد يدار بعقل أحادي, انفرادي, عسكري, بل بعقل تداولي, وسطي, تبادلي, تركيبي, ما يعني أن محاربة الإرهاب بعقل ضدي أمني عنصري, تولّد المزيد من الإرهاب, بقدر ما تعني تواطؤ الأضداد على إحداث الخراب والفساد.
إذا كانت الحال على هذا النحو من التوتر والتأزم على المسرح الكوني, فالوضع في العالم العربي, هو الأكثر تأزماً واضطراباً, وربما يتجاوز ذلك نحو التحدي والانحدار والتمزّق.
فكيف يتصرّف العرب تجاه الأزمات المستحكمة والأحداث العاصفة؟ لا مراء أن المجموعة العربية هي الآن على المحك وسط الخيارات المفتوحة على الأضداد. فالتحدّيات جسيمة والقضايا مصيرية والاستحقاقات كبيرة, لغير سبب وعامل.
أولاً, بسبب الضغوط المتزايدة من الخارج, حيث العرب مستهدفون, عن حق أو بطل, بخاصة بعد أحداث أيلول التي آلت الى اجتياح بغداد وإسقاط أحد أنظمة الطغيان وأكثرها وحشية. ومما يزيد الأمور سوءاً وتأزّماً أن الأصولية الجهادية العاملة, بما يشبه "الأممية الإرهابية" تُمعن في تشويه سمعة العرب, بقدر تستعدي العالم في الخارج وتصنع الكوارث في الداخل. وإذا كان الضدّ يُظهر حسنهُ الضد كما قالت العرب, فالآية الآن مقلوبة, بمعنى أن الأصولية الجهادية تستجمع مساوئ الأصوليات جمعاء, التوراتية الصهيونية, الإنجيلية الأميركية, فضلاً عن الأصوليات القومية والطبقية, كالستالينية والصدامية والنازية والشارونية.
ثانياً, بسبب الأزمات المزمنة والاخفاقات المتراكمة في الداخل, والتي تعالج بالنماذج البائدة والأساليب العقيمة في الفكر والعمل, تحت ذرائع وتبريرات هي في ظاهرها ومنطوقها دفاع عن ثوابت الهوية والأمة, ولكنها في منطقها ومفاعيلها ليست سوى تهويلات وتشبيحات دينية أو قومية تعيد إنتاج الأوضاع على النحو الأسوأ, للهروب من استحقاقات الإصلاح والتغيير, وتأبيد أنظمة الفساد والاستبداد. هنا أيضاً نجد الآية مقلوبة. فالأعداء يتماهون مع بعضهم بعضاً لتبادل المنافع وتثبيت المواقع. والحصيلة هي بالطبع المزيد من التراجع والعجز والإحباط العربي, غزواً وهيمنة من الخارج, أو قهراً وتقهقراً في الداخل.
ثالثاً, لأن المجتمعات البشرية تشهد تحوّلات هائلة تخترق مختلف وجوه النشاط البشري والعمل الحضاري, بقدر ما تخربط الأولويات والمعادلات. وليس في وسع أحد أن يبقى بمعزل عن التأثر بالمجريات أو عن التغيّر في ضوء التحوّلات, كما تشهد الطفرات والموجات التقنية والمعرفية والفنية أو الانفجارات والانهيارات الثقافية والمجتمعية والسياسية وبصورة تمس أنماط التفكير والإنتاج والاتصال بقدر ما تمس أساليب العيش ونظم المعرفة وأنماط الحساسية. وهكذا, فالعالم يتغيّر بمشهده ونظامه وآليات عمله بقدر ما تسهم في صنعه وتشكيله أفكار وقوى وأدوات وسلع جديدة ومختلفة. ومن لم يحسن أن يتغير يعمل سواه على تغييره, بقدر ما يجري تهميشه ويفقد فاعليته.
هذا شأن العرب. فهم يتأثّرون ويتغيرون على وقع الأحداث والصدمات, سلباً أو إيجاباً, بصورة أو بأخرى, أرادوا ذلك أم لم يريدوا. فكيف وهم الآن يحضرون وسط المشهد العالمي بقدر ما يُشغلون العالم أو ينشغل هو بقضاياهم, من فلسطين الى بغداد, أو من بيروت الى الرياض... أيّاً يكن فهم الآن في مهب المتغيرات بقدر ما يقفون على المفترقات. فإما أن يحملوا المسؤولية لمواجهة المشكلات المعقدة والمتراكمة بالدرس والتشخيص, أو التعقل والتدبير, على سبيل الإصلاح والتطوير أو التغيير والتحديث, أو أن يهدروا الفرص ويعيدوا إنتاج المآزق, لكي ترتد عليهم مساعيهم سلباً وضرراً, ويُمسوا مجرد رد فعل على الأحداث, هش أو عقيم أو مدمر.
(كاتب لبناني)
|