الصــورة الـنــمــطـــيــة بــيـــن ســــوريــا ولـبـــنـان

في ملاعب الطفولة في كبرى مدن الشمال اللبناني، طرابلس، حيث كنا نذهب لتمضية فترة من عطلة الصيف في كنف عائلة جدي لأمي، كان رفاق اللعب اللبنانيون يلقبونني "السوري". وما كان هذا اللقب ليثير مشاعر الانزعاج لو لم يكن مقترنا بحمولة ثقافية مشبعة بالإحساس بالفوقية وبقدر لا بأس به من الازدراء لأولئك القادمين من "فوق"، بحسب التعيين المكاني السائد آنذاك: نازل إلى طرابلس، طالع إلى سوريا.

وقد نهضت تلك الحمولة الثقافية فوق شبكة واسعة من الاقتناعات التي تفرزها معطيات الواقع في تلك الفترة. كانت القوة الشرائية لليرة السورية مثلا أضعف بكثير من تلك التي لمثيلتها اللبنانية، فلا شيء يناسب التعبير عن تفاهة أمر ما أفضل من معادلته بأصغر قطعة نقدية سورية، وكانت قيمتها قرشين ونصف قرش (نصف فرنك). حتى غدا تعبير "بيسوى نص فرنك سوري" بمثابة تأكيد لضَعَة المقصود به وتفاهته. وكانت عائلات لبنانية كثيرة تستقدم بنات القرى الجبلية السورية للخدمة في بيوتها حتى غدا تعبير "بنت سورية" تعميما يشار به إلى الخادمات في البيوت. ولم يكن الوضع أحسن بالنسبة للألوف من العمال السوريين القابعين من الفجر على الأرصفة ينتظرون سيارة "الخواجة" الواعدة بعمل كان بلدهم يعجز عن تأمينه لهم، وهكذا غدا "الشغيل السوري" تعبيرا يرمز للتعتير والشقاء وقلة الحيلة. لقد قدمت معطيات الواقع هذه العناصر اللازمة لبناء صورة نمطية stéréotype عن السوري. صورة تحظى بكل خصائص التنميط: الاختزال (تتقلص صفات الآخر، أي السوري هنا، إلى صفة واحدة ليست صحيحة في الضرورة)، التعميمية (هذه الصفة التي يشترك بها بعض المنتمين إلى مجموعة الآخر تصبح عامة على المجموعة بكاملها)، التصنيفية (يتم تقسيم الآخرين مجموعات بحسب الصفة الاختزالية المقررة لكل مجموعة)، الجاهزية (فالصورة النمطية مكتملة في الذهن بشكل كامن وتنطلق لمجرد الالتقاء بالآخر). أما مضمون هذه الصورة فشعور بالاستعلاء يصبح معه السوري أقل مدنية وحضارة من اللبناني. وقد شاعت كلمة ترمز إلى السوريين وتعكس بوضوح هذه الصورة الاستعلائية وهي "العرمط" (متحولة عن العرموط أي الأجاص بالفارسية، ويقصد بها الخرِب من الفاكهة، فيُترك على الشجر طعاما للعصافير لأنه لا يصلح للبيع أو الأكل). وعندما استقر الجيش السوري في لبنان تحت مظلة الشرعية العربية، أخذت بعض الأوساط الفرنكوفونية اللبنانية تتداول كلمة La plèbe (اسم طبقة الدهماء في روما القديمة) للدلالة على السوريين. وشاعت في تلك المرحلة نكات كثيرة تؤطر للصورة النمطية عن السوري المتخلف عن المدنية اللبنانية المشار إليها غالبا ببعض الدلالات الخارجية أو السطحية كمعرفة اللغات الأجنبية (نكتة الضابط السوري الذي بعد أن تعرّفه لبنانية بنفسها، "مدموازيل سلمى"، يعرف عن نفسه بالقول "أنا اسمي مدموزيل أحمد")، أو كمعرفة الصفات المختلفة للسيارات (نكتة عنصر الردع الذي يوقف سائق سيارة من طراز فولكسفاكن لأنه يهرّب محركا في الصندوق الخلفي).

في المقابل، لم يتوان السوريون عن التهكم من اللبنانيين، الذين بدوا لهم غارقين في حياة الدعة والاستهتار ومتعلقين بقشور المدنية تاركين كل ما هو أصيل وجاد. وشكلوا تأسيسا على ذلك صورتهم النمطية عن الآخر اللبناني الذي صار اسمه فوفو أو نونو في ما يتناقلونه من نكات وحكايات. وربما كانت نكتة اللبناني الذي أراد أن يتطوع في الجيش من أكثرها انتشارا: سأله الضابط عن اسمه، أجاب: فوفو. وعندما أمره بالانبطاح اعتذر بسبب وجود بحصة على الأرض. أما مضمون هذه الصورة فكان شعوراً بالاستعلاء يصبح معه اللبناني أقل أصالة ورجولة من السوري. وهكذا ترسخت بشكل عام صورتان نمطيتان تحقيريتان متقابلتان، الأولى لبنانية ومعيارها المدنية، والثانية سورية ومعيارها الأصالة. وكانت كلتاهما، وكل منهما في سياقها الخاص، توظّف كآلية من آليات الدفاع عن الذات حيث يقوم استخدام الصورة المُحِطّة للآخر بوظيفة إعلاء للذات.

نتيجة التحولات الكثيرة التي أصابت واقع المنطقة في العقود الثلاثة الأخيرة والتي حصلت بالتزامن مع تصاعد الهيمنة السورية على لبنان، تعرضت الصورتان النمطيتان لشيء من الارتجاج والتغير. من جهة أولى، فإن دخول المجتمع السوري، وليس في شرائحه المدينية الثرية فقط، إلى شكل من أشكال حياة الدعة والاستهلاك، وما رافق ذلك من عملية ممنهجة ومستمرة لإفراغ المجتمع من السياسة ومن كل شكل من أشكال الاهتمام بالشأن العام، أدى إلى ترسخ بعض الأشكال السطحية للمدنية على الطريقة اللبنانية. أي جرى ما يمكن تسميته عملية "لبننة" للمجتمع السوري. من جهة ثانية قدمت مشاهد الحرب الأهلية أولا ومشاهد المقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي شهادة دامغة للرجولة والأصالة. صورة جعلت من نونو وفوفو بطلين حقيقيين لم تعد صفات كالميوعة والخنوثة تتوافق معهما. وجاءت أحداث الشهر الماضي لتدق الإسفين الأخير في نعش الشعور بالتميز عن اللبنانيين الضعفاء. وغدت مشاعر التفوق القديمة لا تتناسب مع الحال الواقعية. وبالتالي فقد السوريون الأساس الواقعي لصورتهم النمطية القديمة عن الآخر اللبناني. في المقابل لم يقدم السوريون ما يثبت حقيقة أنهم أهل للشعور بالمكانة المتميزة، رجولة وأصالة ونضالا. فلا انتصاراتهم القومية والوطنية ترفّ بيارقها، ولا ديموقراطيتهم المحققة تغري اللبنانيين بالحصول على الجنسية السورية، ولا إنجازاتهم الاقتصادية تمنع أرباب العمل اللبنانيين من استغلال الألوف، بل مئات الألوف من الشغيلة السوريين، وترفع عنهم صفة التعتير وقلة الحيل، ولا إنجازاتهم العلمية والثقافية عكست وجهة الحركة من سوريا إلى لبنان. زد على هذا كله أن أحداث العقود الثلاثة الماضية لم تظهر السلوك المدني المشتهى الذي يفقأ عين من يتجرأ على النيل من سمعة الوجود السوري في لبنان. بل على العكس تماما، ارتبط هذا الوجود بمفردات "لا تبيّض الوجه" كالفساد والتسلط والتدخل وووو... وبالتالي لم يخلق السوريون الواقع الذي يمنع إعادة تذكر الصورة النمطية القديمة بكل ما تحمله من نظرة فوقية وشعور بالتميز والتفوق. نظرة لم يعد معها السوري "شغيلا" بل صار "بياع كعك" أو "عنصر أمن". في معنى آخر، لم يستطع الوجود السوري في لبنان أن يستغل الفرصة التاريخية التي أتاحتها الظروف الموضوعية له ليؤكد حضارته ومدنيته، ويكشف زيف الصورة النمطية المشكّلة عنه. فعاد، على هذا المستوى الرمزي على الأقل، مهزوما من تجربة لبنان.

كان الخطاب السوري الرسمي يكرر بلا كلل على مسامع اللبنانيين "سوا ربينا"، لكنه للأسف لم يحاول أن يعرف يوما لماذا كان هؤلاء الأخوة في الثقافة والتاريخ والحضارة يردون عليه: "لا أنت حبيبي ولا ربينا سوا".


حسان عباس

في أي مجرى سأصبّ دلوي؟

لولا الخجل من أن يُقال لي "وهل أنت نكرة حتى تلتزم الصمت المبين إزاء كل ما يجري حولك في سوريا ولبنان والعالم العربي من خضّات وأخطار ستقرر لا مستقبلك الشخصي الفردي فقط ، بل مستقبل المنطقة برمتها؟"، لما كتبت ما أكتبه الآن. ذلك لأن إدلاء المرء بدلوه لا بدَّ أن تسبقه الرغبة (وهي مطفأة لديَّ ) وأن تسبقه حاجة الآخرين إلى ما في الدلو (وهي معدومة لكثرة الدلاء وعبثيتها) وأن يصب الدلو في مجرى ما، فيزيد من تدفقه أو يحوّل اتجاهه (وهذا ما لم يحدث جراء الكتابات منذ رواد عصر النهضة إلى أحدث مَن خطَّ سطرين في شؤون عالمنا العربي، ومساراته، ومآلاته)!

لِمَ لا أقول إن الحاصل عكس ذلك تماماً. إذ كلما ازدادت الكتابات واستفاضت وتراكمت عن ضرورة الحرية (منذ خمسين عاماً في الحد الأدنى إلى اليوم ) ضاقت على الأرض العربية وفي حياة الناس رقعة هذه الأثيرة المكتوب عنها وضاق فضاؤها. والحال هي نفسها، في المعادلة العربية الفريدة من نوعها، كما يظهر بجلاء في حقول ومجالات وميادين ومسائل متعددة، منها الديموقراطية وتحرر المرأة والواقع الزراعي والتعليمي والصحي وبناء المجتمعات المدنية وتداول السلطة وحرية التعبير، وصولاً إلى الإنتاج السينمائي والمسرحي والموسيقي وتوزيع الكتب وتبادل النشاطات الثقافية...

فما من ميدان أو حقل عربي تسأل فيه أصحاب الاختصاص إلا ويشرعون في التوجّع والتأسّف والحزن والألم على أحوال تلك الحقول والميادين التي تتردى وتتهاوى وتتراجع (داعمين أقوالهم بالأرقام والوقائع) حتى يتيقن السامع أن الواقع العربي بات رميماً لا يمكن غير الله أن يحييه من جديد.

هل أضرب الأمثال لأبرهن على صحة كلامي، أم يكفي أن يتلفت كلٌ منا كي يرى مرارات الانكسارات والتراجعات والتردّيات والتقهقرات الحاصلة ويسمعها ويلمسها ويشمها ويتذوقها؟

في أي مجرى سأصب دلوي، أنا العبد العربي المهمّش والملغى والمعتقل والمجوّع الذي لا يتغير من حاله المُداسة، سوى لون الحذاء أو شكله أو بلد صناعته، فرنسياً يكون مرةً وإيطالياً أخرى وبريطانياً ثالثة وأميركياً رابعة، أو "وطنياً محلياً " مرات، حتى إذا تغيّر مصدر الحذاء صار "أممياً متحداً" صُنع في الأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي؟

في أي مجرى سأصب دلوي إذا كان من سُمّي القائد الأميركي الميداني ديفيد ساترفيلد (وقد أتى من أقاصي الدنيا، من خلف المحيط ) يجرؤ أن يدعو، وهو بيننا وفوق أرضنا، إلى منع "حزب الله" من التدخل في الشؤون اللبنانية؟

بصرف النظر عن الانتصار لـ "حزب الله"، أو الرأي فيه، أو الموقف منه، هل يجوز لآتٍ من آخر الدنيا، المفترض أنه غريب الوجه واليد واللسان، أن يمنع، أو يدعو إلى منع، ابن بلد (وهذا ما لا نختلف حوله على الأقل في شأن "حزب الله") من التدخل في شؤون بلده؟

طيّب، ما رأيكم لو دعا الرئيس اليمني، على سبيل المثال لا الحصر، وهو في زيارة لواشنطن إلى منع الحزب الديموقراطي الأميركي من التدخل في الشؤون الأميركية؟! ألن تكون دعوته، في ذاتها، نكتة العصر التي تتجاوز اختصاص موسوعة "غينيس" للأحداث الفريدة والاستثنائية؟

في اختصار، نحن الشعوب العربية خارج القرار، وخارج توجيه المسار من أخطر ما يمس حياتنا وواقعنا إلى أبسط ما يتعلق بنا. إننا في البلدان العربية مجرد سبايا أو رعايا أو قطعان تُقاد إلى الذبح أو سوق النخاسة من دون أن تملك سوى الثغاء. وإلا، فليدلني أحدٌ على دولة عربية اختار شعبها حاكمها وطاقم سلطته، وقرر سياسة بلده في الكبيرة والصغيرة. إني لا أشعر، كمواطن عربي، أن لي دلواً لأُدلي به. ليس لي رأي، ولا فاعلية، ولا موقع (إلا تحت الحذاء طبعاً). لم اُستشر في دخول قوات بلد إلى بلد آخر، ولم اُستشر في خروجها. لم يُؤخذ برأيي في سياسة أو توجّه أو تحالف. لم أقرر ولم أُوجّه ولم أمنع ولم أسمح ولم أتحالف ولم أفكَّ تحالفاً، ولم يراكم جهدي سوى المزيد من الأموال المنهوبة والمسجلة في البنوك السويسرية باسم الزعماء والحكام. فكيف لي أن أدلي بدلوي، وما نفع فعلي هذا؟!

يقيناً اننا، نحن العرب، خارج الملعب!

تلعب أميركا على أرض الملعب، ومعها دول أوروبا والصين واليابان وربما روسيا. يخطط لاعبو تلك الدول ويتنافسون ويتسابقون ويتطاحنون، ومن حولهم على مقاعد الاحتياط ثمة دول تُعدّ نفسها وتتهيأ للمشاركة، ومن حول الجميع، على المدرجات، يتوزع مشجعون ومؤيدون ومراهنون وأنصار، يرون في فوز هذا فوزاً لهم، وفي هزيمة ذاك هزيمة لهم. لكأنهم، على نحو ما، مشاركون في اللعب، ومعنيون بعدد الأهداف ونتائج المنافسات المحتدمة. نحن، العرب، في واقعنا الراهن، خارج الملعب تماماً. بل أكثر من ذلك (نكاية في الواهمين)، نمضي قدماً، منذ الاستقلال إلى اليوم وبعزم شديد في الاتجاه المعاكس للملعب. فما كنا نملكه قبل خمسين عاماً لا أكثر، فقدناه اليوم. وما كنا ننشده ونحلم به قبل خمسين عاماً لا أكثر، تبدد اليوم عن بكرة أبيه. وإذا كان ما يجري اليوم هو على مبدأ "إذا هبّت رياحك فاغتنمها"، فإن الرياح التي تهب اليوم ليست رياحي أبداً، ولا ما تحمله هو من صنعي. وإذ تتدفق الأفكار في رأسي حول ما يجري لنا فإني أستذكر حكمة جدتي التي طالما كررتها على مسامعي: "يا ابني، توب العيرة ما بيدفّي، وإذا دفّى ما بيدوم".


ابرهيم صموئيل

بين الإصلاح وشعاراته والواقع الاقتصادي - الاجتماعي

تحتوي شعارات الإصلاح، في كل مرحلة، هي نفسها ومنذ إطلاقها، على ما يمكن أن تخلص إليه في النهاية: من لا شيء... إلى القفزة النوعية. بل هي تعكس إذا كان هناك دراية بالواقع الاقتصادي والاجتماعي ورؤية واضحة عن المستقبل، وجرأة في صنعه. مع العلم أن الشعارات في طبيعتها هي شعارات مرحلية، تسمح بأن تسمو بالوفاق الممكن في هذه المرحلة، وتترجمه سياسات. هكذا، الى أن ينشأ واقع جديد على الأرض. عندها يصبح الاستمرار في الشعار نفسه عائقاً، ويتوجب إطلاق مرحلة جديدة بشعارات وسياسات جديدة.

فلنأخذ مثلاً شعار "التعددية الاقتصادية" الذي أطلق أواخر الثمانينات في سوريا. لقد احتوى في مضمونه، على ضرورة إطلاق أعمال القطاع الخاص في بلد ينص دستوره على أن اقتصاده اشتراكي ومخطط وأن القطاع العام هو الرائد. إشارة بعثت من الدولة إلى القطاع الخاص أنها ستشجع أعماله بعد عقد وأكثر من الحصار والاحتكار. وقد أدى هذا الشعار وما تبعه من قوانين وقرارات (القانون رقم 10 لعام 1991 بشكل خاص) إلى انتقال معظم التجارة الخارجية السورية من مؤسسات الدولة إلى الشركات الخاصة، ونهوض استثمارات القطاع الخاص وأعماله، في النصف الأول من التسعينات. لكن ابتداء من عام 1996، تغيّر الواقع الاقتصادي بشكل جذري في سوريا، إذ تدنى دور القطاع الحكومي حتى في الصناعة، وهبطت حصة القطاع الحكومي الصناعي (بما فيها إنتاج الماء والكهرباء والاسمنت، عدا النفط) إلى ما دون الـ 30 في المئة. ولم تأت أطروحات وخطوات جديدة لتطلق مرحلة أخرى من الإصلاحات، مع ما يمكن أن يرافقها من شعارات جديدة. فبقي القطاع الخاص ينتظر ما يجسد دوره الجديد، وذهب النمو وجاء الركود لسنوات مع كل الموارد النفطية المتاحة.

بعد زمن، وانطلاقاً من أوضاع القطاع العام المحرجة، جاءت شعارات منها "الإدارة بالأهداف" و"فصل الملكية عن الإدارة". شعاران جديدان يركزان على إصلاح القطاع الحكومي الإداري والإنتاجي. مشكلة هذين الشعارين تكمن في مضمونهما. صحيح أننا نجد شعار "الإدارة بالأهداف" في بعض كتب تبسيط علوم الإدارة، لكن مشكلته أنه بعكس "إرضاء الزبون" أو "القيمة الأعلى للمساهم" مثلاً، لا يوضح من يعرف هذه الأهداف ولا ماهيتها، أهي انتاجية أم ربحية أم خدمية؟ كذلك يطرح شعار "فصل الملكية عن الإدارة" مشكلات أكثر مما يوضح نهجاً. فالأساس الذي بُنِيَ عليه أنه لن يكون هناك خصخصة في سوريا، بل عقود إدارة وتشغيل مع شركات خاصة، تتوازع الربح مع المالك، الذي هو الدولة. كأن موضوع التعاقد هذا لا يطرح في الأساس معضلة تقويم حصة المشغل وحصة المالك، أي معضلة تقويم أصول الشركة المعنية وأعمالها، أي بالذات المشكلة الأساسية التي تطرحها الخصخصة، كما تطرحها كذلك عقود البناء التشغيل - نقل الملكية BOT. كأن توكيل الإدارة إلى شركة خاصة، محلية كانت أم خارجية، لا يطرح مشكلة العمالة الفائضة أو تلك غير المؤهلة في المؤسسات المعنية، ومصير العمال الذين سيخرجون منها وأجور الذين سيبقون وحوافزهم. سنوات ضاعت على القطاع العام من دون أن تطرح المشكلة بدراية وجرأة على أساس إعادة هيكلة كاملة، والقيام بدراسات السوق والإنتاج (والإنتاجية) والمحاسبة، أو بناء القدرات القليلة في سوريا في هذه المجالات. سنوات ضاعت، مع بقاء سيف مستقبلي مسلط على رقاب موظفي القطاع العام وعماله من دون وضوح حول: أين المصير؟

وعندما صدر قرار القيادة القطرية فتح المجال أمام دخول المصارف الخاصة للمنافسة، ثم القانون الذي نظم ذلك، لم تطرح الحكومة شعارات خاصة (ولا سياسات خاصة إذاً). بدا واضحاً للجميع وقتذاك أنه لا يمكن الاستمرار على هذا الوضع بالمصارف الحكومية، بل بمجمل القطاع المالي، وأنه يجب دراسة إصلاح عام وتأسيسه لمجمل القطاع المصرفي والمالي. وللتذكر، فلقد طرحت ضرورة إصلاح القطاع المصرفي والمالي، وخطورة عدم القيام بهذا الإصلاح في شكل جوهري، منذ أوائل التسعينات في ندوة الثلثاء الاقتصادي. واشترك في الإلحاح على هذه الضرورة مفكّرو اليسار الديموقراطي ومفكرو اليمين النيوليبيرالي، على السواء. لكن من دون نتيجة. بل أخضع القطاع المصرفي برمته إلى شعار المرحلة الأكثر عمومية وهو "التطوير والتحديث"، كأن الموضوع يتمثل في زيادة عدد الحواسب وكوات الدفع الالكتروني، على أهمية هذه النواحي في تحسين الخدمات، واحترام جهود المخلصين. بل حتى بركة "التطوير والتحديث"، فلم تمس المؤسسة الرئيسية، وهي المصرف المركزي، بأي اصلاح مصرفي ومالي. وللتذكر أيضاً، كانت سوريا أول دولة عربية تنشىء مصرفاً مركزياً عام 1953 أي قبل لبنان بعشر سنين.

سنة 2004 طرح شعار جديد، ألا وهو خيار سوريا الاستراتيجي بالتوجه نحو "اقتصاد السوق". وقد خلق هذا الشعار نقاشات حامية في الصحف والنشرات. واستغرب بعض الخبراء كل هذه الحماسة، انطلاقاً من واقع الحال اليوم وهو أن آليات السوق تحكم معظم العمليات التجارية (الشرعية) في سوريا. وهم محقون. إذ أن المشكلة ليست في السوق، بل في من يديرها، وعلى أي أسس. الإشكال الأساسي الذي أبرزه الشعار هو أولاً على مستوى الدستور السوري، في تعارضه مع المادتين 1 و13 (الدولة الاشتراكية) بشكل صريح. ويكمن الإشكال في أن هناك من حُكم عليه بالسجن "لمحاولة تغيير الدستور بصورة غير شرعية". ويوم أعلن التوجه الجديد في مؤتمر مع المستثمرين السوريين المغتربين، جاء رداً على طلب أحد المستثمرين تغيير المادة 8 من الدستور (أي قيادة حزب البعث وليس الاشتراكية). والنقاشات الحامية لم تكن عن صوغ جديد للدستور، بل عبرت عن صراع جناحي "الحرس الجديد": النيوليبيرالي والبعثي الشاب.

في السياق نفسه، يمكن مشاهدة ما آلت إليه 30 عاماً من التعاون والتنسيق مع لبنان، وأطروحات "التكامل الاقتصادي" بين البلدين. سوريا مصدّرة للنفط ومنتجة للغاز، ولبنان يعيش في أزمة كهرباء لغلاء المحروقات وتعسر وصولها. لا مؤسسات اقتصادية مشتركة بين البلدين، اللهم إلا الاستثمارات المصرفية اللبنانية في سوريا، ولا تبادل تجارياً له حجم يذكر، اللهم إلا إذا اعتبر تهريب المازوت إلى لبنان (على سبيل المثال لا الحصر) "تكاملاً".

لقد وُعِدَت سوريا في أن قفزة الإصلاح الداخلي ستأتي في المؤتمر المقبل لحزب البعث. ويتساءل المرء عما ستكون الشعارات التي سيؤول إليها هذا المؤتمر عن الإصلاح الاقتصادي، علماً أن الكل يرى أن الأولوية هي اليوم للإصلاح السياسي (بعد برهان فشل شعار "الإصلاح الاقتصادي أولاً"). التحضير لاختراق في الأطروحات الاقتصادية سيأتي من الحرس النيوليبيرالي، الذي وضع دراساته وتصوراته (والفرق شاسع بين ليبيرالية الفكر ونيوليبيرالية الاقتصاد)، والقرار والشعارات سيطلقهما البعث. هذا كله من دون أن يكون هناك حراك اجتماعي شفاف يدافع فيه هؤلاء الأطراف وغيرهم عن توجهاتهم.

ننتظر لنرى. لكن في الانتظار لديّ بعض الشعارات القديمة - الجديدة من طرفي: "الحفاظ على المال العام أهم من الحفاظ على القطاع العام"، "دولة قوية تحمي الضعيف من القوي"، "دولة قوية تكفل الشفافية والمنافسة وتكافؤ الفرص في مجتمع الأعمال"، "العمل وكرامة العيش حق لكل مواطن"، "قفزة إلى الأمام لتصل المعرفة والمعلومة إلى كل بيت"، "الشعب يختار حكومته وليست السلطة، والحكومة مسؤولة عن برامجها ونتائجها أمام الشعب أولاً" و... "كفانا هروب من الواقع وكفانا تردد وفرص ضائعة".


سمير العيطة

أي آم سوري

أي آم سوري، مواليد 21 آذار 1954.

منذ العام 1976، وأنا أريد أن أعتذر.

لم يكن غالبية مواطني ساحة الشهداء قد ولدوا بعد، منذ رأيت أباجورات بيوتكم المسروقة في شاحناتنا، ثم في فوهات نوافذنا، ثم تحت أنياب المنشار ذهابا إيابا، لتركب على الفراغ في جدارنا، الفراغ الأخلاقي، المبدع السوريالي لعلاقة جدار ونافذة.

منذ الرخام والبلاط، والسيراميك الأبيض، البني، الرمادي، المخضرّ اللبناني في صيغته "السوري آلية" هنا: مربّع بلاط توركواز في مستطيل طيني ترابي.

منذ سنوات الفيديو... لحظات الحياة العائلية المسروقة، في الأشرطة المسروقة داخل الأجهزة المسروقة، انتقاماً من البورجوازية المطلقة في اللغة المطلقة. ولمسةً بصريةً في عنق الوشائج التاريخية.

وهذا وذاك وما تعمى له الأبصار.

أي آم سوري. أحمل هذا الخجل في بطن بصري 29 عاماً، وأعتذر من أجلي، لأن ما يترتب " قانونيا" على الاعتذار، أسلم نفسياً مما يترتب على تجاهله.

الناهبون أنفسهم، الناهبون أنفسنا، الناخبون أنفسهم، ناهبو حق الانتخاب، الناهبون من اللغة حريتها وملكيتها المشاع. يسرقون منها كلمة "الوطن" ويلوحون به، فيطلق صفيرا مرعبا اسمه "سيف بن ذي الثوابت الوطنية". سيف لا يحق للمواطن لمسه إلا من جهة النصل، لنصل إلى ما فصم الشعب السوري اثنين: نهاري وليلي. في النهار يصمت، يردد، يمجد، ويعبد خطاب السلطة. في الليل يكفر ويسخر ويندب الانتهاك المريع لحقوقه الاقتصادية والانسانية، والتصفية الجسدية لثروات البلاد المالية والذكائية والزمنية.

زمنٌ شفط أبناء الهرم السلطوي متعته بشكل خيالي، وقوننوه بالطوارئ، قطعوا رأس العدالة عن جسد الحياة فيه، فاحتلوا مخيلة الشعب السوري ولوثوها. أصبحوا المخيلة، يكرهها ويحاول لحسها، والتمرغ والتمرّي بزجاجها الداكن.

أصبحت فكرة الوطن "لفظا" مطلقاً غائماً، معناه الكيميائي "السلطة"، والسلطة هي القانون، لا معجم يحدده ويحيط به وبها. هي هو ما تشتهي وترتأي وتريد. تسمّي الرأي الآخر، الذي لا يكرر رأيها عنفاً وخيانة، وتسجنه كسلوك سلمي حفاظاً على الوطن. تملك الشعب وتراقبه.



ساحة الشهداء

التلفزيون أهم اختراع، ليس في العصر فقط،... في الليل أيضاً.

الاعتصام في الليل والنهار يحل أزمة الانفصام، يصالح الليلي والنهاري.

تفرّجتُ علينا في ساحة الشهداء، لحظة المشاركة في تعريف الوطن، البدء في تعريفه، الخروج به من أخطار "اللفظ المطلق" إلى جماليات المواطنة في حريتها وبحثها وتصالحها مع الذات، في التكافؤ "العربي" الاستثنائي بين الرجل والمرأة.

تمنيت أن أكون معكم مثل الكثير من السوريين، لكن فكرة الحب من طرف واحد مربكة. أنا شخصياً أجد أنها لا تنافي شرعة حقوق الانسان، طالما هو حبّ من خلف المياه الاقليمية "سيرونيكس 34 بوصة".

الكراهية من طرف واحد كريهة، والانتقام يفسد لحظة السعادة. الانتقام لا يتاح لنا عادة ممن ظلمنا، بل من فكرة الظلم وقوننته.

ليس مصادفة أن تجنح مخيلتي السورية إلى ساحة الشهداء.

فرغم المكانة التي يحظى بها السيد حسن نصر الله في الشارع السوري لشخصه وجاذبيته ولحله اللغز النفسي القاتل القائل بهزيمة العربي كلما واجه اسرائيليا، إلا أن الثوابت إياها في نسختها السورية، منقوصة من الكاريزما والفعل، هي التي نفخت الروح في حال الطوارئ.

المخيلة السورية تصطدم بمعضلة، هي معضلتها الذاتية أولا. فحين تؤلف لنفسها ساحة شهداء افتراضية تجد نفسها شهيدة الساحة إياها. فالمعتصم هنا هو الشهيد الافتراضي لأنه مخوّن حتماً.

نجح المثقفون و"الديموقراطيون" السوريون في الامتحان الأول، "الجرأة "، الذي يرضي حاجاتنا الانسانية والشخصية والوجودية. فوصفنا كما ترون نظامنا بكل ما أوتينا من لغة. الحقيقة أن هذا الامتحان على صعوبته، ليس الأصعب. إنه شيء من قبيل السرتفيكا تُعين عليه خلائط التقدم والتخلف والتحدي والبطولية.

ثم وقفنا حائرين أمام مرآتنا حين تطلّب منا اختراع ما هو أبعد من وصف السلطة وهجائها. خطاب في بطانته الأولى: أننا نحن من يجدر بنا أن نقود البلاد .

في الثانية: أو نشارك في قيادتها. في الثالثة: نغوي السلطة ونزحلقها بأخلاقها الحسنة ونجرّها من خنصرها الناعم إلى مطلق جديد.

لا أستطيع إلا أن أضع "الديموقراطية " بين قوسين، لن تفكهما إلا ممارستنا الفعلية لها وانفتاحنا على نقد ذاتنا "باحثين في الديموقراطية".

لا بد من التخلص من العقل الانقلابي واختراع الوسائل لمخاطبة شركائنا في محنة تحقيق المواطنة: "الشعب". والعمل على ثقافة معرفة الحقوق والمطالبة بها. ومعرفة مجتمعنا قبل الاستسهال والتحدث عوضا عنه واختزاله بساحة واحدة هي نحن كما تفعل السلطة .

ثمة حقل فسيح للعمل ولتأسيس ثقافة سلمية تعددية يصبح حق الرأي فيها مفهوما أخلاقيا إنسانيا لا يمكن التنازل عنه لكل سلطة ذهبت أم جاءت، مشاركين في صوغ جديد لمفهوم الوطن والاستقلال: لا تدهس حقوق الانسان.

إن النظرة الى القضية الفلسطينية من هذا المكان يجعل جذرها أعمق فينا من مجرد تعاطف قومي.

إنسانيتنا الحرة لا تقبل بانتقائية أميركا ولا مصالحها ومصالحتها مع هذا النظام أو ذاك، اليوم أو بعد غد. ولا تتنكر أيضاً لانتمائها الى "العالم الحر". "يجب" ردم الهوة بين الأخلاق والسياسة والتكتيك، لتصبح الحرية الفردية وحق الرأي أول الثوابت الوطنية، قبل استعادة الأرض المحتلة وبعدها.


أسامة محمد

مقــتــرحــات مــن 'كـتّــار غـــلـبــة'

أيها السادة في مراكز القرار في بلدي الحبيب سوريا:

أعلم أنكم لا تثقون بشعوبكم، وأنكم تترددون ألف مرة قبل مصافحتها، حتى أن البعض منكم يراها عالة على وجوده، ويحبذ لو استطاع أن يشتري بدلاً منها شعوباً أقل نقّاً وأكثر طاعة، شعوبا ليست جاحدة وناكرة للجميل كأكثرية شعبكم. لكن اسمحوا لي أن أنطق بهاتين الكلمتين فأنا أكاد أطقّ من حبسهما، وبعدها إفعلوا برأيي وبي ما تشاؤون: Delete أو Format، أنا تحت امركم.

وإثباتاً لحسن نيتي أقول لكم إني أتكلم من موقع المتفرج المحايد، فأنا لست من صفوفكم ولست من أعدائكم، ولا ناقة لي ولا جمل في ما يجري من أحداث محلية أو عربية أو دولية، حتى أني أساهم معكم ومع خصومكم في الإمتثال لردود الفعل والإنفعال المطلوبة مني تبعاً للأحداث الجارية. فتارة أنا غاضب، وطوراً حزين، وتارة مشوّش التفكير.

وأنا الآن أغتنم الفرصة بعد الحدث الأخير (اغتيال الحريري) والتشويش الذي أحدثه في نفسي لأكتب هذه الكلمات.

أيها السادة،

أتابع بقلق ما يجري عليكم من ضغوط دولية بدءاً من تسلمكم السلطة حتى الآن، وأرى أنكم في وضع لا تُحسدون عليه، فأوراق اللعبة السياسية تتساقط من أيديكم الواحدة تلو الأخرى، كما ألمس بكل حواسي العزلة التي تحيق بنظامكم، وانفضاض الأصدقاء عنكم وتحول بعضهم أعداء... بينما صمت البعض الآخر وآثر السلامة لروحه من خصم يستعد لاختراع روبوتات آلية لخوض حروبه، عدا أنه يتمتع بخيال عدواني خصب وإمكانات كبيرة لترجمة خيالاته إلى واقع ملموس.

بينما أنتم، أيها الأعزاء، تحاولون البحث في الأدراج والزوايا عن هدايا ترضونه بها، أو عن أقنعة قديمة تأملون بها أن يتحسّب لكم.

أعتقد أن بعضكم لا يزال يأمل بمتغيرات دولية تلهي القاتل وتحرف أنظاره عنكم.

لكن للأسف، كل ما يجري من أحداث في العالم، سواء أكانت عفوية أم مفبركة، يوظفها هذا الغاشم القوي للنيل منكم. حتى لو كانت انتصارات سياسية صغيرة حققتموها في الماضي بدأب وجدية، فهو يستطيع بسهولة أن يسرقها منكم ويقلبها عليكم، مثل تطوير علاقتكم بإيران أو محاولتكم تحديث دفاعكم، فيترككم حيارى أمام أمواج تتلاطمكم لتنهككم وتغرقكم.

لذا فانا أنصحكم من موقعي هذا بأن تتبنوا إجراء سياسياً قد يتبدى للجبناء والمنتفعين منكم، وهم أكثريتكم، خياراً انتحارياً، لكني أراه يكفيكم ويكفي وطنكم شر هذا العدو ويجعلكم في مأمن منه، ريثما تجدون المخرج النهائي من هذه الدوامة العنيفة:

أخرجوا أيديكم من جيوبكم ومدّوها تمهيداً لمصافحة كل القلقين على الوطن، سواء أكانوا أفراداً أم منظمات مدنية ام أحزاباً عقائدية.

إذهبوا بأقدامكم إليهم واعقدوا الصفقات السياسية اللازمة معهم، لكن إياكم أن تجعلوا من إعادة الحقوق المصادرة مادة للمساومة، فلا داعي لأن تزيدوا من فرص النفور منكم. لعلمكم، ليس لدى معارضيكم ما يخسرونه سوى كرامة هذا الوطن.

أعقدوا مؤتمركم الحزبي باكراً، وناقشوا الوضع الداخلي المتعفن بكل شفافية ومن دون خوف، فلا أحد يرغب الآن في قلب الطاولة عليكم، اللهم إلا إذا فشلتم في كسب شارعكم الذي نأى بنفسه عنكم منذ زمن طويل استعداداً لمقاطعتكم نهائياً.

اجعلوا من مقرراته إجراء انتخابات نيابية نزيهة تتمتع بصدقية عالية تشترك فيها كل القوى والفاعليات السياسية والإجتماعية السورية، بمن فيهم أكرادنا السوريون (البدون هوية).

اعقدوا اتفاقات مع الإقتصاديين والأغنياء السوريين الآخرين وبخاصة المغتربين منهم، واستفيدوا من نفوذهم الخارجي (يكاد بعضهم يكون من وزن الحريري ماليا) وتعاونوا معهم لاستصدار القوانين الإقتصادية التي يحتاجونها.

أوقفوا دعمكم للتجار الجدد، فهم قليلو الباع في الشأن الوطني وتصرفاتهم تسيء الى المصلحة الوطنية.

أطلقوا سراح معتقلي الرأي واعتذروا منهم.

استعملوا قانون الطوارىء لدرء الهجمة الخارجية عن الوطن وليس الداخلية، فالأخيرة لقاح ضروري للأمراض المستعصية.

أتركوا الصحافة تعبّر عن هوى الناس وقلقهم ومشاكلهم فتوفروا مبالغ طائلة تصرف على الكتبة من الموظفين الأمنيين.

إعلموا أن هذا الفساد العشوائي يسير في اتجاه تقسيم الوطن وتوزيعه سياسياً واقتصاديا وجغرافياً على ملوك الطوائف، سارعوا في استصدار القوانين اللازمة لقوننة هذا الفساد وغربلته، مميزين بين فساد الحاجة وفساد الطمع آخذين في الإعتبار الحركة الإصلاحية الإقتصادية التي أنتجها الفساد.

سواء أخذتم بهذه المقترحات أم لا، مطلوب منكم القيام بمبادرة حيوية لرأب الشرخ الداخلي، وإلا فإن الكثيرين سيتفوهون بالقول: رضينا بالبين والبين ما رضي فينا.

هذه مقترحات من "كتّار غلبة" لا ناقة له ولا جمل، ظهره مكشوف وإسمه مطلوب، يخاف من الأميركان، ولا يثق بكم، وجل ما يخشاه أن يبقى بلا سوريا.

سامحوني!


فارس الحلو

هــل حــان وقـــت 'الـتـــدخـــل' اللــبــنــانــي فـي شــــؤون ســــوريـــا؟

من يراقب المشهد اللبناني اليوم يلمس تحفزاً للانقضاض على كل ما هو سوري، أو القطيعة معه؛ تحفز لا تفلح معه تصريحات السياسيين الذين أشعلوا الأرض تحت أقدام الجيش السوري، ثم أخذوا يؤكدون سعيهم لعلاقات طيبة مع دمشق.

ليس سراً أن ثمة ارتباطاً عضوياً لا يمكن فصمه بين البلدين. جيوسياسياً، تمثل سوريا كل حدود لبنان مع العالم العربي اليوم. لكن الارتباط الأهم، لأنه صلة الوصل بين العلاقات الأسرية الاجتماعية والعلاقات السياسية؛ هو ارتباط مسيرة تطور المجتمعين المدني السوري واللبناني منذ بواكير عهد الاستقلال. فالبلدان نالا استقلالهما معاً تقريباً، من مستعمر واحد. ورغم اتساع الهوة بين شكل النظامين السياسيين مع تقدم الزمن، بقي البلدان مرتبطين سياسياً أكثر مما تصوّر كثير من ساسة ما بعد الاستقلال.

كان لبنان ملجأ "المنفيين" السياسيين السوريين. إليه لجأ معارضون من كل التيارات، قوميون وإسلاميون وحتى بعض العسكر. ومنه كانوا يعودون. كان الاضطراب السياسي الذي عاشته سوريا بفعل تدخل العسكر، موازياً لاضطراب مختلف في لبنان، نابع من التنوع الصارخ لخريطته الطائفية. في عهد الوحدة بين مصر وسوريا، لم تفلح كل سياسات الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر في ترويض "النمر" السوري. فالمجتمع المدني السوري لم يكن قد ضعُف بعد، لعوامل عديدة، ولو أعاد المؤرخون دراسة تلك الحقبة، لربما اعتبروا وجود مجتمع مدني لبناني في الجوار أحد تلك العوامل.

كذلك كان الأمر حين وصل حزب البعث إلى السلطة في سوريا. لم يفلح الحزب طوال 13 عاماً في تفتيت المجتمع المدني. وإن نجح في إضعافه، فإنه كان دوماً يستمد شيئاً من العافية من لبنان. مع بداية سبعينات القرن العشرين، كان البلدان على موعد مع حدث له ما بعده؛ بدأ وراء الحدود، في الأردن الذي شهد أحداث أيلول الأسود، وانتقلت آثاره إلى بيروت التي استقبلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الآتية من الأردن؛ لتنتهي في دمشق التي كان التعامل مع أحداث أيلول أحد أسباب استعار الخلاف بين قادة البعث، حتى الانقلاب العسكري الأبيض الذي أتى بالجنرال حافظ الأسد إلى الحكم.

كان الرئيس الأسد يدرك قوة المجتمع السوري، فقام بجولات في أنحاء البلاد، لاستعادة الثقة التي فقدها المجتمع في السياسيين. ولكن سرعان ما بدأت تتضح حدود ما يسمح به الحزب الواحد في العهد الجديد: جبهة وطنية تقدمية "تستوعب" قوى سياسية تقبل التهميش، ودستور ينص على تفرد البعث بالدولة والمجتمع.

لم تمر السياسة الجديدة من دون تحدٍّ. سرعان ما خرج القوميون بزعامة جمال الأتاسي على الجبهة، واشتد عود التيار الشيوعي الوطني بزعامة رياض الترك، وبدأ التيار الإسلامي العام مرحلة المناكفة السياسية للنظام. ولكن ردود فعل النظام لم تخرج عن إطار "القمع المعتدل"، إن جاز التعبير، مما يسمح به التوازن الداخلي والوضع الخارجي: اعتقالات وتحقيقات مع قليل من الضغوط.

على الجانب اللبناني؛ كان الوجود الفلسطيني يتفاعل سياسياً، حتى انفجرت الحرب الأهلية.

لم تكن الحرب الأهلية كارثة على لبنان وأهله فحسب. لقد هدم اللبنانيون بأيديهم مجتمعاً مدنياً لا يخصهم وحدهم. ففي سوريا التي تعيش أزمة حكم داخلي، طالما كانت في الماضي من أسباب سقوط الحكومات؛ أدرك الجنرال حافظ الأسد أن الوقت حان لكي يغيّر قواعد المعادلة السياسية السورية. ومن لبنان كان المخرج.

دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976، كان بداية مرحلة جديدة في السياسة السورية، عُدِّل فيها ميزان القوى، بحيث دخلت سوريا أخيراً اللعبة الإقليمية، بعد عقود ثلاثة من الاضطراب السياسي. إذ لا مكان في المنطقة العربية لنظام سياسي بلا دور وظيفي. والدور الوظيفي الإقليمي، يفتح الباب واسعاً أمام إحكام القبضة الداخلية. وهذا بالضبط ما أدركه الأسد، وربما كان له الفضل في أن أصبح صاحب أطول ولاية رئاسية في تاريخ سوريا المعاصر.

كانت القوات السورية تعبر الحدود مع لبنان، في تفاهم سياسي ضمني مع قوى دولية، لإعادة رسم خريطته السياسية الداخلية الممزقة كما هو معروف في الأدبيات السياسية؛ ولإعادة رسم الخريطة السياسية السورية، وهو ما لا يُشار إليه في هذا السياق عادة. فالمجتمع المدني السوري، أصبح يقف في الزاوية للمرة الأولى، بلا "ساحة" خلفية يلعب فيها، بعدما خطف منه النظام السياسي "ساحة" لبنان. ومع تدهور لبنان وسقوطه أكثر في أتون الحرب الأهلية، كان التدهور السياسي متسارعاً في سوريا، التي اتبع نظامها الحاكم سياسة أكثر تشدداً، بل وأخذ يستخدم الجيش في الداخل السوري أيضاً.

عام 1982 يمثل الحضيض في الوعي الجمعي السوري واللبناني (والفلسطيني). فتدمير مدينة حماة السورية على رأس سكانها، سبق بأربعة شهور فقط الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وما تبعه من مجازر صبرا وشاتيلا في الصيف. والترابط الزمني لا يطرح سوى المزيد من الأسئلة عن علاقة ما جرى في سوريا بما كانت سوريا تفعله في لبنان الذي تُرك أرييل شارون يصول ويجول في عاصمته، على بعد كيلومترات فقط من القوات السورية.

وإذا كان ما تبقى من حقبة الثمانينات في سوريا أهدأ بعد حسم المواجهة العسكرية مع المعارضة الإسلامية، والقضاء نهائياً على المجتمع المدني، بزجّ النخب في السجون أو إجبارها على الخروج إلى المنفى؛ فإن ذلك العقد شهد تضخماً سرطانياً لدور أجهزة المخابرات السورية، في سوريا ولبنان على السواء. واليوم يحدثك اللبنانيون عن مفقوديهم، بينما لا يجرؤ السوريون بعدُ على فعل المثل.

أما في تسعينات القرن العشرين، وفي ظل التغير الدولي، فإن الحياة في البلدين اللذين حكمهما حزب البعث أصبحت بلا شك أخف وطأة. لكن المجتمع المدني اللبناني تمكن من العودة إلى الحياة من جديد بتسارع أكبر من نظيره السوري. عملية إعادة بناء ما دمرته الحرب كان لها الفضل بالتأكيد، ما يذكّر بمساهمة الرئيس الراحل رفيق الحريري بالذات. لكن عامل البعد النسبي للبنان المكشوف دولياً، عن القبضة الأمنية السورية، كان له الفضل أيضاً في السماح بارتفاع صوت المعارضة فيه أكثر منها في سوريا.

مع وفاة الرئيس حافظ الأسد في عام 2000، عاد صوت "المعارضة" السياسية في البلدين يعلو من جديد. وعادت القوى التي سحقها النظام السوري في الماضي تقض مضجعه هنا وهناك، بل وتكسب أنصاراً لم يكونوا في حسبان دمشق. من الجنرال ميشال عون الذي ينتظر لبنان عودته، إلى التحول السياسي للحريري ووليد جنبلاط. وفي سوريا من "الإخوان المسلمين" إلى بعض نشيطي حزب البعث الذين أخذوا يرفعون صوتهم أخيراً في نقد السلطة، من دون أن ننسى بالطبع المعارضة القومية واليسارية.

واليوم، لا يمكن إلا الربط بين فعلين لم يخطط أصحابهما معاً: تصاعد صوت المعارضة اللبنانية والسورية. ولكن هل يجوز أن يبقى الأمر كذلك؟ هل في إمكان اللبنانيين فعلاً أن ينكفئوا على داخلهم كرد فعل على التداخل السياسي القسري لثلاثين عاماً؟ وهل يمكن تصور لبنان معافىً وسليماً، إذا لم تتمتع سوريا بحياة سياسية صحية؟

لا أظن ذلك. فتوازن القوة بين الدولة والمجتمع المدني هو الذي يتحكم بشكل الحكم في سوريا، وهذا الشكل بالتأكيد له تأثير على لبنان المجاور.


عبيدة نحاس

بــعــــد فـــــوات الأوان!

كانت السياسة طوال عمري"تعوّداً سرّياً". تعبر الفكرة حواجز الخوف والرقابات والممنوعات قبل أن تخرج إلى العلن الضيق. الفكرة التي لم تكن على تماس حقيقي مع تجربة التعبير الحر عن الرأي الحر، سوى في صمتها وتأملها. ومع الزمن، وفي تفاعلها مع وطأة الصمت ورحابته ربما، صارت في داخلي حية حرة، مشفوعة بثوب الحكايات والأدب والشعر والحياة التي أحيا، الأقرب إلى روحي.

تعوّدتُ الازدواجية في تعبيري السياسي. ليس النفاق، لكن السكوت. أبتلع رأيي عن رأس لساني، وأحلل مشافهة مع المقربين كل حدث ضمن شرطه. تعوّدتُ إطلالة المسؤول الرسمي علينا، ليلقمنا الخط الرسمي المتعلق بكل حدث مضى، لا ليطلعنا على الحقائق. كنت ولا أزال أصاب بالحزن من شدة فوات الأوان بكل أشكاله وأنواعه.

"لا يجهلن أحد علينا". فحال معظم البلدان العربية العتيدة تشبه حالنا.

نحن السوريين متورطون بالسياسة في مفردات حياتنا اليومية، في سخريتنا من الحياة ومن أنفسنا وهمومنا. "البرازيل" و"الارجنتين"، بقيتا الاسم الحركي للسجن عندنا زمناً طويلا. "سافر إلى البرازيل"، "عاد من الأرجنتين"، قبل أن يسترد السجن مواصفاته الصريحة كاملة في السنوات الأخيرة. وقبل أن تعود الكلمات تعني معناها وتعبّر عن مواقف أصحابها المختلفين والمتفقين. ربما تكون فرصة نادرة لي الآن، لكي أعتذر من البرازيل والأرجنتين عما ألصقنا بهما من نعوت غير محببة. كنا نقصد بها اللجوء الإنساني إلى البعيد... ربما بسبب ظلم ذوي القربى.

جميعنا نتابع أخبارنا المحلية وأخبار العالم بانفتاح وفضول. أقصد الشاشات ومنابر الإعلام الأخرى. لأننا حفظنا درس التلفزيون السوري والصحف المحلية الثلاث عن ظهر قلب. درس اللون الواحد العام المعمم. يريدوننا أن لا نطرف أعيننا عن "نصف الكأس المليان" كي لا نرى النصف الفارغ.

أعتقد أن تغييبنا عن الكثير من مجالات الحياة المشتركة هو نصف الكأس الفارغ في عينه. تغييبنا؟! أحياناً تقول: ليتهم يكتفون بذلك. ففي أحلك اللحظات، تجد شخصية منتقاة بعناية مستفزة، تتحدث باسم سوريا وباسمنا نحن السوريين، فتخجل. تشعر أنها سمعتك. إنها سوريا أخرى تلك التي يتحدثون عنها، غير تلك التي نحبّ ونتنفس وننتمي.

أكره الخطابات. الخطابات السياسية والخطابات الثقافية. وحين يتحول الحوار أو الرأي إلى خطاب، لا أثق به. إن ظاهرة تكرار الخطاب نفسه والتصفيق نفسه والوجوه نفسها لمدة تتجاوز ربع قرن راكمت فراغاً عنيفاً في "الكأس". فراغاً يزيدني إيماناً بعدم ثقتي. فهم إما يعتقدون أننا لا نسـمع، وإما هــو "التكرار يعلّم"!

صرت بدوري أمارس اللعبة نفسها في إلغاء الآخر. هي سلطتي إذاً، أسمع ما أريد. لا أستمع إلى الدرس. لا أحفظه. أهرب من "النظام المنضم" إلى الباحة، باحة الحياة المتبقية، حيث الهواء والتأمل والحزن. حيث تواجه نفسك بخساراتك الإنسانية بلا أوهام.

ازددت قربا من عالم الدلالات الذي يحمي إنسانيتي من عنف المباشرة. يدهشني من لا يخاف. أحبه وأكرهه في آن واحد. هو البطل في حين لا أشعر أني أقل بطولة أو جرأة منه. فالجريء قد يقوى على التعبير عن رأيه وعلى استشراف الآتي. الجريء قد يدفع الثمن في التضييق العلني على حياته، كالسجن أو المنفى أو حرمانه حقوقه.

الجريء قد يخرس فيدفع الثمن في الظلّ. الجريء قد يخاف أيضاً ويصارع خوفه. أليس الجريء إنساناً؟

الدلالات تصون الحقيقة، تصون السياق الذي يؤدي إلى معرفة الحقيقة.

أنت لا تواجه فتفرض رأيك، ولا تصمت فتقهره. أنت ترى وتقول من موقع يناسب بنيتك الإنسانية التي تبحث عن العدالة والحب والجمال.

أفيق كل صباح على زعيق معلمة ما في باحة المدرسة المجاورة لبيتي. زعيقها في الميكروفونات: "استارح. استاعد" وصدى أقدام التلاميذ تخبط الأرض. يحيّون العلم تحت الزعيق، يدخلون مقاعد الدرس تحت الزعيق، ويكبرون خطوا عسكريا إلى الأمام. كل صباح أشرب قهوتي باستعداد، أصاب باكتئاب، أظنها لحظة الشعر، لأعي بعدها أني لم أستطع تدجين نفسي على هذا الانضباط مع أنه جزء لا يتجزأ من... "ضد الصهيونية والإمبريالية".

سنفيق في يوم ما، وآمل أن يأتي هذا اليوم، اليوم، وسنتصالح حباً بإنسانيتنا. سنتسامح. لكن هل يسكب الله في قلب الظالم حسّ العدالة واحترام القانون والوعي الديموقراطي دفعة واحدة، وهل يسكب في قلب المظلوم حسّ العدالة والوعي الديموقراطي واحترام القانون أيضاً دفعة واحدة؟ المهم أن نمهد لهذا اليوم، كمن يحرص على الحياة، كلّ حياة.

وقد يشعرون بالغبن، وأي غبن، الذين اضطروا إلى تعديل صورتهم بسبب الضغط الخارجي. لكننا نحن كنا ولا نزال فقط مع وطننا ومع قيم "المواطنية" المتساوية في كل صغيرة وكبيرة أينما كان.

لذا، كنت ولا أزال مع استقلال لبنان، ومع بديهية حق اللبنانيين في اختيار طريقة حكمهم لأنفسهم.

كنت دائما وسأبقى مع لبنان "الشعب العنيد"، لبنان هدى بركات والياس خوري وعباس بيضون وجمانة حداد وعقل العويط ومحمد علي فرحات ويحيى جابر ويوسف بزي وجوزف سماحة وحازم صاغية وبول شاوول وحسن داوود ونضال الأشقر وزياد الرحباني ومارسيل خليفة ونديم جرجورة وعبيدو باشا واسكندر حبش وشارل شهوان وعبده وازن وعناية جابر وآخرين كثر... وكثر، أعتبر آراءهم في الأزمات بوصلة تحمي إنسانيتي. لبنان فيـروز التي وحدتنا على الجمال أكثر من أي شيء أو أحد. فيروز، التي خشيت في لحظات صراخ هستيري، أن يحتكرها كارهو سوريا، أن ينتهكوا وجدان ذكرياتنا المشترك.

لبنان الذي أحببت دائما بعض زعاماته الوطنية، وآلمني حديثاً محاولة تصدر البعض الآخر للأحداث، هؤلاء الذين لا أثق بهم حتى لو غيّروا ألوانهم.

صعقني موت الرئيس الحريري وبهذه القسوة الوحشية. خفت من الآتي وشعرت أن هذا الموت ليس الموت. هو مرآة الواقع المرعب.

ورغم الخوف المستوطن ورغم انسداد الأفق أحياناً واليأس المزمن، أنا أثق بسوريا وبلبنان. أثق بهما كثيرا. أريد أن أثق بهما كثيرا. ولا أثق بسياسة أميركا وما تدعيه، مما يتقاطع مع ما نريد في أحلامنا ويبتعد عنه مسافات ضوئية في الواقع. فمع رفع شعار إلغاء الطائفية السياسية في لبنان، لبنان الخارج من كل المصائب إلى نور المساواة، تطلع علينا الولايات المتحدة بنظام "ديموقراطي" طائفي فئوي المنهج في العراق. هو التشكيل الحر الذي يريدونه لنا إذاً، نحن الذين بُحّ خََرَسُنا بحثاً عن مواطنية العدالة والمساواة في بلادنا.

كم أتمنى ألا يحترق الناس من جديد، لكي يضيء قادة هنا وهناك وهنالك، على حساب الوطن الذي للجميع.


هالا محمد

لـبنان الأول

الأرض تدور بالفعل، وتدور الدوائر أيضاً. الأولى على محورها، والثانية على الباغي.

حملت تظاهرة اللبنانيين في الرابع عشر من آذار في ساحة الشهداء، ساحة الحرية، وقبلها تظاهرة ساحة رياض الصلح، هذا اليقين من جديد. منذ ذلك اليوم، أصبح التفاؤل لا يبعث على الخجل.

ومنا، نحن في سوريا، من يكره التظاهرات، التي كان اسمها مسيرات شعبية، وكان يتمنى لو أنه لا يرى تظاهرة أخرى في حياته. هو نفسه، امتلأ قلبه فرحاً أمام منظر الأعلام اللبنانية تملأ الساحتين، في اليومين، وخصوصاً في التظاهرة الأولى التي تدعم الثبات والثوابت من حيث بعض عناوينها، في حين كانت بوحدة أعلامها خضوعاً وتسليماً بتلازم مبدأي الوطنية والمواطنة، وهما خير وأبقى.

قبل الحديث في تفاصيل واجتهادات، لا بدّ من توجيه التحية إلى اللبنانيين ومشاطرتهم الحماسة والبهجة، ولأسباب عدة. منها أنهم كانوا البلد "الأول الذي لم تكن الولايات المتحدة من يبلور بشكل رئيسي خطى الأحداث فيه" مثل غيره، كما اعترف روبرت ساتلوف في تقريره الذي أصبح شهيراً رغم تناقض ترجماته واختزالاته العربية. هذا يعني اعترافاً بأن اللبنانيين قد فاجأوا الجميع، بهمتهم على استعادة أقدارهم وصنعها بأيديهم من جديد. ومن الأسباب أيضاً، أن ما حدث ويحدث وسوف يحدث في لبنان، سوف يكون عاملاً أساسياً في "نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط " بالفعل، غير ملتبس كما حدث في العراق، وليس غير ذي صلة كما في غيره.

نعم، كان التفاؤل يبعث على السخرية. كذلك كان الحديث عن حتمية التغيير، وعن إمكان حركة المجتمع. وأثبتت الأحداث اللبنانية أن شعوبنا قادرة على مفاجأة الجميع، وأن القهر والكمون والصمت الطويل، قد تكون خميرة للعمل والتنظيم وجلاء الرؤية. الانتفاضة اللبنانية لم تأت من فراغ، بل من ضعف الخصم، وتغيّر العالم، وهمّة الشعب ونخبه المختلفة. والأخيرة هي الدرس اللبناني الأكبر، الذي نحترمه ونقوم بهضمه نحن في سوريا.

الدرس الثاني لم تكتمل حصته بعد، لكن عناصره تتضح أكثر فأكثر. هو درس الأعلام الوطنية المشار إليها، نقيضة الانتماءات الأخرى حين تكون غالبة. سوف يحاول بعض المنهزمين في الضرورة أن يوقظوا الفتن النائمة والغرائز القديمة، ولن يقدروا. فالموجة كبيرة ومنظمة وعارمة، وسوف يسارع الآخرون خفافاً للانضواء تحتها، قبل أن تجرفهم جانباً، أو بعيداً. "حزب الله"، حزب المقاومة والتحرير من جهة، والطائفة من جهة أخرى، له دور هنا لن يستطيع التملّص من مسؤولياته، وسوف يواجهها بالتأكيد بالعقلية والانتماء والخبرة التي انتهى إليها، الأنضج بالتأكيد من تلك التي ابتدأ بها.

الدرس الثالث أيضاً لم يكتمل، وهو القدرة على التعامل مع سوريا والعروبة بشكل صحيح ومفيد، ونحن واثقون من أن هذا الدرس الخاص سوف يكون ذا قيمة كبرى في زحمة الدروس الأرخص. سوريا هي الأصعب والأقرب والأكثر إلحاحاً وراهنية، وتلبية أجراس مشكلة العمال السوريين معيارها الأول، عملياً وليس بالأقوال وحدها. سوريا هنا هي الدولة والمجتمع، لا السلطة وأجهزة الأمن والمافيات العديدة الاختصاص.

وللدروس شروط نجاحها، التي ترتبط بالثقة والتفاعل وتبادل التأثير. فهل يستطيع اللبنانيون _ ومعارضتهم بالذات _ أن يزيلوا القلق الناشئ لدى بعض السوريين والفلسطينيين والعرب، ببرامجهم الواضحة من أجل لبنان ديموقراطي مستقل موحد، ورؤيتهم للمسائل السورية والعربية بزواياها الحادة المعروفة؟

لا يتعارض هذا القلق مع كون ما حدث في لبنان، في حجمه حتى الآن، ينحت في سوريا، نظاماً ونخباً وشعباً، وسوف يفعل أكثر. لبنان متكأً للسلطة في عجزها الداخلي ومهرب جانبي سوف يتلاشى. كان يستخدم كورقة أولى، بل "أم الأوراق". ولن تجد بعد ذلك أمامها إلا الجدار، والداخل. فقد حوصرت بين المثال العراقي وذلك اللبناني، وسوف تعمل على صوغ مثالها الخاص، الذي سيكون نسخة مختلفة أو متفقة مع الدرس الليبي، وتنقلب على نفسها، أو بعضها على بعض. أو، ربما لن تفعل شيئاً، وتنتظر، بقدراتها الضعيفة وكفاءاتها المتدهورة وصراعاتها على صغائر الأمور. هنا يعود التشاؤم، إن كان هذا الحديث تشاؤماً بالفعل.

الولايات المتحدة لن تضرب سوريا عسكرياً كما حدث في العراق، أو أن هذا ما يبدو حتى الآن. ولن يكون النظام في حاجة إلى ذلك مع نسبة حجمه إلى حجم الضغوط، الحالية أو المقبلة بعد. وهو لم يقم بخطوة جدية واحدة لملاقاة الناس في منطقة مكشوفة طوال خمس سنين عجفاء مرت حتى الآن، تعادل خمسين عدداً من سنوات الركود والاستقرار والاستبداد القديم الطويلة. لذا، لم تعد مسائل المصالحة الوطنية والمؤتمر الوطني والحوار مطروحة على الطريقة القديمة التي كانت تتأبّط خيراً واستكانة ونيات طيبةً. فماذا إذاً؟ لننتظر مؤتمر حزب البعث المقبل نر إن كان قادراً على نفي ذاته، فيعيد هيكلته وصوغ مبادئه ويخرج من درعه في الدستور، بمادته الثامنة وأخواتها، ويطلق سراح الدولة والمجتمع والقانون والمواطن.

في الوقت نفسه، لا يمكن إلاّ التوقف عند ضعف المعارضة السورية ونحن أمام الانتفاضة اللبنانية. فقد آن لهذه المعارضة أن تراجع وضعها من الجذور، فتعيد النظر في مناهجها وبرامجها وعملها، وتعيد تأسيس وحدة جديدة واسعة شاملة، فلا تبقى أطرافها تنظر في اتّجاه السلطة وحدها، تنتظر وتطلب وتأمل. غير ذلك، لا بدّ للنخب السورية أن تنطلق إلى آفاق جديدة متحركة، تدفع للتجمع حول المعارضة وتصليبها وتوسيعها إن كانت ستستفيق، وتتجاوزها إلى أمام إن كانت ستبقى على حالها. والبلاد ولاّدة، لا ريب في ذلك.

لم تكن هذه اللغة واردة من دون الحدث اللبناني الفريد بالفعل: "لا يمكن" و"لا بدّ" و"ينبغي"، ذهب أوانها إلى غير رجعة، إلاّ في مواجهة الموت والخراب ونذر العاصفة. ذلك لأنهم يفتحون أبواب البلاد، ويسجنون شعبهم "الخائن".

استطاعت كارثة احتلال العراق، أن تُنهي استناد الاستبداد إلى دعم مطلق خارجي، في حين كان الشعب على الحياد. واستطاعت كارثة أخرى، تتمثّل في اغتيال الشهيد الحريري، أن تُطلق الشعب اللبناني من إساره، ليفاجئ "الخارج" بحيويته وفاعليته. الفرق بيّن، وهو لمصلحتنا نحن في الإقليم الذي عاد اسمه إلى سوق التداول في السياسة الدولية: سوريا ولبنان، وهذه مفارقة تسجّل للحال التي يبدو أن موضوعها الرئيسي هو انسحاب القوات والمخابرات السورية من لبنان!

فشكراً للبنانيين، ولرفيق الحريري، شهيدنا الذي لا يزال ينتفض حياً صباح كل يوم. لقد فتح بموته طريقاً إلى الديموقراطية والاستقلال، الهدفين الغاليين في البلدين، اللذين ينبغي للوحدة الوطنية أن تتعزّز وتتشكل حولهما. وهنا وحدة مسارين جديدة، تبحث عن اسم ليس مكروهاً ولا مشكوكاً فيه. لم نعد قادرين على التشاؤم أكثر، لذا نتفاءل بما نراه أمامنا، وبما نحلم أننا مقبلون عليه. لقد صرنا مثل تلك البروليتاريا الأسطورية، التي لن تخسر إلاّ قيودها. هل كان مثل هذا الشعور أحد منابع النهوض اللبناني؟

نؤمن أن لا حرية للبنان، مضمونة حتى النهاية، إلاّ بحرية سورية، والعكس صحيح. فلماذا لا نعمل على هذا الأساس معاً، على الأرض وعلى الطاولة؟ قد نستغني بذلك عن الحاجة إلى كوارث أخرى.


موفق نيربية

قـــنـــبـــلــة مـــوقـــوتـــة فــي الـبـــيـــت الـســـــوري

في وقت ينحصر الاشتغال السياسي الثقافي المعارض، اليوم، بمحاولة إقناع السلطة السياسية في سوريا بضرورة إجراء تغييرات إسعافية تقي المجتمع السوري نتائج وخيمة تلوح في الأفق، في هذا الوقت تجد كثيرين في المجتمع السوري يتلمسون جروح مجتمعهم، ما التأم منها وما ينزّ، خشية أن تنفتح فتطغى لغتها على لغة الثقافة والسياسة والعقل.

لا أحد في سوريا خارج الاهتمام بما يحدث اليوم، من الجدّات إلى ربّات المنازل إلى الشيوخ إلى الأطفال. لكن للاهتمام أشكالا متباينة وساحات مختلفة. ففي حين تشتغل القلّة الناشطة على موضوعات عامة وأهداف مشتركة تشكّلت تلقائيا، راسمةً حدود الاشتغال تلقائيا أيضا، تجد العامّة تشتغل على خصوصياتها، معيدةً تلوين حدود التباين والاختلاف بألوان شتى.

لا شيء في ذلك يدعو إلى العجب. فالقلّة، مَنْ منها ناشطٌ إعلامياً ومن منها خارج أضواء الإعلام، تلتقي، من دون لقاء، على أهداف مشتركة تجدها في أفق سوري تسوده الحرية والعدالة والمساواة. أفق تسعى إليه بأساليب مدنية مختلفة. أمّا العامّة فتشغلها أشياؤها القريبة، الخاصّة، عن الأهداف العامّة، من دون أن يعني ذلك وقوفاً واعياً ضد هذه الأهداف. لكن، ومهما يبدو الأمر غريبا، فإن اللقمة، عند هذا المستوى يمكن أن تفرّق والحرية كمثلها والعدالة كذلك. فما أن تُخصصّ هذه الأشياء حتى تصبح عوامل تفريق لا اتحاد. وسرعان ما يغدو التاريخ المشترك والجغرافيا المشتركة والدم المشترك عوامل تفريق أيضا. فكيف إذا كان للتاريخ المحلي علاقة بالدم بما فيه من كيمياء العنف، وللجغرافيا علاقة بإلهٍ مقطّع الأوصال، وبطوائف تصلّي إلى بعض إلهٍ هنا وبعض إلهٍ هناك، وكيف إذا كان للدم علاقة بألوان أخرى غير الأحمر. ألوان تأتي من السياسة والمال، فإذا به دم أحمر عند البعض وأزرق عند البعض الثاني وأسود عند البعض الثالث؟!

يخرج المجتمع السوري المنزوع السياسة، اليوم، من كهف لامبالاته نازعا عن نفسه سنوات من الريبة والتردد والخوف. ولكن كيف يكون هذا المجتمع المنزوع السياسة؟ وممَّ يتكوّن وإلى أين يسير؟

نسبة الشباب في المجتمع السوري كبيرة، ونسبة العاطلين عن العمل بينهم أكبر بكثير من أن تُهمل في أي دراسة للحراك الاجتماعي القائم أو الممكن. ولا يخفى ما للبطالة والعطالة من شحنة سلبية. فحين تشتغل الدولة بقوانين العطالة، وتتحرك بطاقة العطالة - وهي طاقة موت، طاقة انتهاء، وحركتها حركة سلبية تتعين بانعدام الممانعة في طريقها - وحين تكون علاقة الدولة بمواطنيها علاقة إقصاء وإهمال متبادل، يمكن أن تتشكّل إلى جانب تيار الدولة، الميت من الداخل والذي يستمد حركته من الخارج، تيارات ثانوية، تقتطع لنفسها مساحات فعل من هوامش الدولة. ولمّا كانت حركة العطالة في المجتمع حركة نابذة فإن فاعلية هذه الهوامش تتحدد بالتضاد معها. وإذا أخذنا في الاعتبار أنّ في اللامبالاة تعبيرا عن شعور مزمن باللاحول واللاقوة واللافائدة واللاأهمية واللاجدوى، فإن التعبيرات النافية لها أو تعبيرات الخروج من كهفها تكون أشبه بالصرخة، فتكون تعبيرات عنيفة، أشبه بـ "أنا هنا! انظروا". فالتعبير عن الاختلاف وتوكيد الذات بالتضاد مع السكون والعطالة يكون ممكنا بأي نوع من الفاعلية ومن الحركة المناقضين لحركة دولة العطالة والبطالة والتهميش. ومنه، يمكن انتظار أشكال من العنف الجماعي، لا يفيد في الحيلولة دونها إلا استيعاب طاقتها في حراك اجتماعي عام، سياسي وثقافي ورياضي... وغيره. لذا، فهناك ضرورة ملحّة لإطلاق فوري، وقبل فوات الأوان، لحرية تأسيس الجمعيات والأحزاب والمنتديات وغيرها من أشكال استيعاب طاقات المجتمع، من دون أي شرط مسبق إلا شرط عدم الدعوة إلى العنف وعدم اعتماد العنف أساسا لبلوغ الأهداف وعدم قيام هذه الأحزاب والجمعيات على فكرةِ أو هدفِ تفكيك الدولة إلى بنيات أدنى منها، إثنية أو طائفية أو غيرها. أمّا الحاجة الملحّة التي تجعل ذلك ضروريا اليوم قبل غد فتتأتى من أنّ أيّ عامل هامشي غير محسوب من شأنه أن يفجّر العنف في كل لحظة. وعندئذ لن يؤدي التصدي له إلاّ إلى المزيد منه. هكذا هو علم الفوضى، عنصر هامشي صغير فيه يلعب أكبر الأدوار. فحذار الاستهتار بقدرة الصغار.

إضافة إلى طاقة الشباب العاطل عن العمل، الطاقة السلبية التي تعمل كقنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في كل لحظة، هناك طاقة سلبية أخرى لدى من لا يُحسَبون على العاطلين عن العمل كالطلاّب، وخاصة طلاّب الجامعات. فهؤلاء يعون من جهة أنهم مرشحون لأن يكونوا عاطلين عن العمل في مستقبلهم القريب، ويعانون من جهة أخرى كفراً بجدوى التعليم في سوريا، كما يعانون من جهة ثالثة وعياً بلا مسؤولية ولا عدالة المنظمة الطالبية والحزبية التي نُسّبوا إليها، بل ويغالبون، بما هم أبناء لآبائهم، رغبةً في الانتقام لهؤلاء الآباء المحبَطين، المغدورين، المهمّشين. لكن ممّن ينتقمون؟ ليس للظلم وجه محدد، فهم يرونه في كل مكان من محيطهم القريب ويكاد يكون في كل أحد، بدءا بالمشاركين الفاعلين إلى المتواطئين إلى الصامتين إلى غير المتعاطفين مع مشاعرهم ورغباتهم واحتياجاتهم وغير المتفهّمين لها. إذاً، الانتقام من كل شيء ومن كل أحد. الانتقام من الحياة نفسها. خروج شبابي أو طالبي عدمي كهذا، ممكن للأسف في كل لحظة طالما لا تجد الطاقات منفذا لها، وطالما هي تترك لتحتقن فتصبح قابلة للانفجار.

إضافة إلى المكوّن الشبابي في المجتمع السوري هناك جيل الآباء الذين يتوزعون بين مرتكبين مشاركين في مسيرة القهر والخراب، ومحبطين منكفئين على ذواتهم. هنا وهناك تجد نزوحا يكاد يكون متكافئا، من الدنيا إلى الدين. فالأوّلون يطمعون برشوة الله والثانون ينشدون العدالة لديه. والمشكلة طبعا ليست في علاقتهم بالله، إنّما في الجذر المولِّد للتضاد والعنف في انتمائهم الأخروي. فالأوّلون يبحثون عمّا يسوّغ ارتكاباتهم، فإذا بأفعال بعضهم تأتي انتقاما لما عاناه أجدادهم - الأجداد من زمن الأنبياء إلى اليوم - من فئة ظالمة أو دولة مُشخصَنة ظالمة. وإذا بأفعال بعضهم الآخر لا غبار عليها، فما أن يوضع الشخص في خانة الضد أو العدو حتى تغدو ممكنة استباحة كل ما لديه. وإذا بهذه الأسباب الموجبة للأفعال توضع بين يدي الإله. لكن أي إله؟ الإله الذي يتسع لفكرة العداء واستباحة مال العدو وعرضه ودمه. أمّا الثانون فيلجأون إلى إله من نمطهم أيضاً. إلهٍ لا بد أن يعترف بتعرّضهم للظلم والقهر، ولا بد أن يتفهم دوافع أفعالهم ويشفع لهم إن لم يكافئهم. أمّا إذا كان الظلاّم والقهّار من طائفة أخرى فما أسهل إقناع الإله بظلمهم. فهو إلهنا، على أي حال، ولا يمكن أن يكون معهم. أما الخطير في هذا النزوع إلى السماء والمشفوع بأوراق انتقام أو طلبات انتقام، فهو أنّه يشكّل حاضنة اجتماعية لتربية الطاقة السلبية التي شمل الحديث بعض ما تكونه عند الشباب وصاعقا لتفجيرها. فإذا بالعنف جامع شامل كلّي الحسنات. ففيه انتقام للآباء الذين أوصى بهم الله، ولله معا. أمّا اللجوء إلى السماء الحاضن للعداء في سوريا، فغالب الحضور، بدءا من التجّار الصغار إلى ضباط الجيش والمخابرات السابقين مساعديهم.

وبعد، ففي ظل غياب تحديد المسؤوليات وانعدام المحاسبة وإغماض العين عن استيعاب الطاقات وتصريفها سلميا، وفي ظل ثقافة التعميم، يعيش البيت السوري هاجس انفجار قنبلة موقوتة فيه. فهل يكفي الرجاء لكي لا تنفجر؟ ثم، ماذا لو أنّ مصلحة أحد ما احتاجت إلى تفجيرها ونحن غافلون؟


منذر بدر حلّوم

الــتــغـــيــــيــر فــي يــدنـــا لا فــي يـــد الـغــــيــر

إلى رياض سيف مناضلاً ليبيرالياً سورياً

السؤال الوحيد الذي يسكن سطور المقالة هو الآتي: ماذا يمكن الواحد منا أن يقدم من جديد؟

لقد تعب الكثير منا، من الكلام والكتابة، من التنبيه والتحذير، عشية كل كارثة وغداتها، من دون أن تجد أصواتنا آذاناً صاغية أو تساهم في تجنب تكرار الأخطاء والإمعان في مسلسل الذهاب بالبلاد من كارثة إلى أخرى أكبر منها، بمعزل عن أي مراجعة أو مسألة أو محاسبة.

اليوم، وبعد خمس سنوات تقريبا من العهد الحالي، علينا الاعتراف بأن لا فائدة ترجى من الكلام التحريضي والمقالات النقدية لدفع السلطة الى إعادة النظر في خياراتها الإستراتيجية. الرهان اليوم هو في أن تعيد المعارضة السورية النظر في سياساتها تجاه الاستحقاقات المصيرية التي تواجه البلاد، علها تعيد الناس إلى السياسة وتدفعهم إلى أخذ مصيرهم بيدهم.

القصة باتت معروفة وإن يكن لا مناص من التذكير بها. فرغم تعديل الدستور وتوريث الحكم، استبشر الكثيرون بأن المستقبل سيحمل خيراً وأجمعت أطياف المعارضة، من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها، ومن الأخوان المسلمين إلى الشيوعيين مرورا بالمثقفين ولجان المجتمع المدني، على إعلان الاستعداد لطي صفحة الماضي والنظر بإيجابية إلى المستقبل شرط أن تعمل السلطة على إعادة المظالم لأهلها وأن تباشر الإصلاحات الديموقراطية الحقيقية التي تحتاجها البلاد والتي عبّرت عنها وفصلت فيها جميع البيانات والعرائض التي طالبت بإلغاء حال الطوارئ وبحرية الرأي والتعبير وبالتعددية السياسية وتبييض السجون وعودة المنفيين.

لم يجد أي من هذه المطالب آذاناً صاغية لدى السلطة، اللهم إلا بعض التنازلات هنا وهناك، وفترة سماح نسبية بالكلام الحر، سمّيت ربيع دمشق ، سرعان ما تم الارتداد عليها وسجن أهم رموزها. هذا في وقت استمر معظم رموز الطبقة السياسية الحاكمة في مناصبهم وزادوا في تكديس ثرواتهم والإمعان في سياسة الشعارات الجوفاء واللغة الخشبية المحنطة، التي لا تمت الى الواقع بصلة.

أما على الصعيد الإقليمي فاستمر مسلسل الكوارث السورية ابتداء بالتعامل الخاطئ مع انقلاب العلاقات الدولية في أعقاب زلزال 11 أيلول 2001، إلى الرهان على صدام حسين وصموده في وقت كان واضحا أن سقوطه ما هو إلا مسألة وقت، إلى تضييع فرصة توظيف انتصار المقاومة في الجنوب اللبناني وتحقيق انسحاب سوري سريع ونقل ملف العلاقات السورية - اللبنانية من المستوى الأمني إلى المستوى السياسي، إلى المماطلة في توقيع اتفاق الشراكة الأوروبية المتوسطية عندما كانت شروطه أكثر تساهلا مع سوريا، إلى العجز الفاقع في الاستفادة من سياسة الأبواب المفتوحة التي مارستها معظم العواصم الأوروبية في البداية على أمل تشجيع دمشق في المضي قدما في مشروع الإصلاح، إلى إتقان سياسية تحويل الحلفاء أعداء من فرنسا إلى السعودية إلى الحريري وجنبلاط في لبنان، وصولا إلى سياسة تقديم التنازلات والتخلي عن معظم الأوراق الإقليمية حتى لا تضطر السلطة إلى التنازل أمام شعبها.

خلال الأعوام الماضية تذرعت السلطة في إبقائها جمود الأوضاع السياسية بهاجس صون الوحدة الوطنية والحرص على استقرار البلاد، وروجت في المقابل لمشروعها في التحديث والتطوير القائل بأولية الإصلاح الاقتصادي والإداري والقانوني على الإصلاح السياسي. وها نحن في نهاية السنوات الخمس من العهد الجديد - القديم نعود إلى المربع الأول لجهة نموذج الإصلاح الذي قالت به السلطة: فلا رؤوس الأموال المهاجرة عادت ولا الاستثمارات أتت ولا البطالة انخفضت ولا أعيد تأهيل القطاع العام ولا تم إفراز نخب جديدة مؤهلة، بل ظل النمو الاقتصادي أسير أرقامه المخجلة وبقيت معظم القوانين الجديدة حبراً على ورق أو تم تدويرها خدمة لمصالح مراكز القوى والنفوذ الممسكة بالبلاد. ويكاد التطور الوحيد الذي يبرز في هذا المجال هو نجاح طبقة أولاد المسؤولين في تحقيق تقدم ملحوظ في تحويل نفوذ آبائهم السياسي والأمني والمادي إلى رأسمال مالي سرعان ما انضم بدوره إلى رؤوس الأموال السورية المهاجرة.

أمام هذا الواقع الخطير يظهر جليا أن محاولات بعض أطراف المعارضة إيجاد آذان صاغية لها في صفوف السلطة باءت كلها في الفشل، وأن الرهان الوحيد في تجنيب البلاد كوارث محققة هو في أن تعيد المعارضة السورية النظر في السياسات التي اتبعتها إلى يومنا هذا، وأن تعمل على تجاوز خلافاتها وأن تتوجه إلى الناس قبل السلطة، ببرنامج حد أدنى يجد لديهم آذاناً صاغية ويؤهلهم للعب دور حاسم في تقرير مصير بلدهم. وحتى لا يبقى كلامنا أسير العموميات سنحاول في السطور اللاحقة تقديم بعض الاقتراحات العملية آملين دفع النقاش إلى آفاق أرحب وأكثر واقعية:

1 - ملامح برنامج الحد الأدني وبنوده باتت معروفة لكل الناشطين في الشأن العام، وسبق لمعظم البيانات والعرائض والمقالات التي وضعها المثقفون والمعارضون السياسيون أن تناولتها. ويمكننا أن نورد بعضاً من أهم بنودها كإلغاء حال الطوارئ وإطلاق المعتقلين السياسيين وعودة المبعدين والتعددية السياسية وفصل السلطات وإرساء دولة القانون وحرية الرأي والتعبير والصحافة والنقابات وصولا إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة لتشكيل جمعية تأسيسية تكون قادرة على وضع دستور جديد وإفراز قيادات ورموز يعبرون فعلياً عن مكونات الشعب السوري وتياراته الحية.

2 - أهمية تأكيد اعتماد وسائل النضال السلمي في العمل السياسي والمحافظة على الوحدة الوطنية وعدم الارتباط بالمخططات والأجندات الأجنبية والإصرار على أن يدار الصراع السياسي وفق مبدأ الانتقال السلمي من الاستبداد إلى الديموقراطية بعيداً عن أي تعبئة على أساس طائفي أو إثني، مع ضرورة العمل على تحييد الجيش وإبقائه بعيداً عن أي صراعات سياسية يمكن أن تنشأ في المستقبل المنظور.

3 - إذا كان المجتمع السوري غنيا بتنوعه الطائفي والإثني، فإن انقساماته السياسية كانت، وعليها أن تبقى، عابرة لهذا التنوع وحاضنة له وغير متعامية عنه. من هنا تأتي أهمية إقصاء وعزل أي خطاب يحاول أن يؤثم الطائفة العلوية ويجعلها مسؤولة عن ممارسات النظام الحاكم. لقد دفع عدد كبير من أبناء الطائفة العلوية الضريبة الباهظة ثمناً لمعارضتهم الاستبداد في سوريا، ويكاد يكون عدد المعتقلين السياسيين من أبناء هذه الطائفة هو الأضخم مقارنة بتمثيلهم نسبةً إلى بقية الطوائف.

4 - ضمن التوجه نفسه لا بد من عزل وإقصاء أي خطاب يحاول أن يختصر الطائفة السنية في تيار الإسلام السياسي. فهذه الطائفة لا تجسد في أي شكل من الأشكال كتلة واحدة سواء أكانت سياسية أم إثنية أم مناطقية، بل هي موزعة على كل التيارات والتنوعات التي يضمها المجتمع السوري من يسار ويمين، ومن علمانيين وإسلاميين، ومن عرب وكرد، ومن أهل مدينة وأهل ريف، ومن بدو وحضر، ومن دمشق وحلب، ومن مدن الساحل ومدن الداخل ومدن الجزيرة.

5 - تيار الإسلام السياسي وفي مقدمه جماعة الإخوان المسلمين جزء أساسي من الخريطة السياسية السورية، حاله كحال التيارات القومية والليبيرالية واليسارية، ولا يمكن أن تقوم حياة سياسية سليمة وصحيحة بمعزل عن أي من هذه التيارات. لكن على الجميع القبول بشروط اللعبة الديموقراطية وبمبدأ التناوب السلمي على السلطة، مع ضرورة تأكيد أن تحترم كل غالبية سياسية حقوق الأقليات السياسية والدينية والإثنية. فمن حق الأكراد مثلا أن يتعلموا لغتهم وثقافتهم ومن حق الطوائف الدينية أن تمارس شعائرها ومعتقداتها ومن حق النساء أن يرتدين الحجاب، لكن ليس من حق أي تيار من تيارات الإسلام السياسي أن يحتكر لنفسه تفسير الإسلام، كأن يفرض مثلاً على جميع المسلمات ارتداء الحجاب!

6 - برغم تبني معظم قوى المعارضة السورية الخيار الديموقراطي، فإنها لا تزال مع الآسف أسيرة ماضي الستينات في انشقاقاتها وبناها التنظيمية وخطابها الإيديولوجي، في حين أن أكثر من 60 في المئة من الشعب السوري هو من الجيل الشاب الذي يقل عمره عن ثلاثين عاماً. من هنا تنبع أهمية أن تتجاوز هذه القوى خطابها الموروث وأنانيتها التنظيمة وأن تنفتح على الأجيال الشابة وهمومها وتطلعاتها الجديدة.

من أجل التأسيس على هذه النقاط التي يمكن أن تتقاطع حولها الكثير من القوى المعارضة، ومن أجل الوصول بها إلى شرائح واسعة من الناس والضغط من خلالها لانتزاع تنازلات حقيقية من السلطة، لا بد للمثقفين والشخصيات والأحزاب المعارضة وجمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدني أن يلتقوا ضمن هيكلية تنسيقية جامعة، يمكن تسميتها مؤتمراً وطنياً أو منبراً ديموقراطياً أو لقاء دورياً، يستطيعون من خلالها أن يوحدوا جهودهم وينسقوا خطواتهم ويكسروا العزلة الإعلامية المفروضة عليهم. إن وجود مثل هذه الهيكلية المرنة سيسمح بتجاوز الجمود التنظيمي والنرجسيات المتضخمة والتنافر الإيديولوجي، من أجل أن تصب الجهود جميعها في طريق ابتداع أساليب جديدة في النضال السلمي تتجاوز سياسة البيانات والعرائض وحتى الاعتصامات الصغيرة نحو المزيد من الانفتاح على الناس والدفع بهم إلى ميدان الفعل والعمل السياسي.

ما بين المثال العراقي في التغيير الدموي الآتي من الخارج والمثال اللبناني في التغيير السلمي المستند إلى الخارج، هناك أمل في أن يتمكن الشعب السوري من أن ينهض من جديد ويعمل على تحقيق التغيير السلمي المستند الى الداخل. اليوم، تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية مدة عامين تقريباً، ويمكن الجميع أن يكون على موعد مع هذا الاستحقاق الكبير، إذا استطاعت المعارضة أن تدفع لأن يكون هذا الاستحقاق حراً، متعدداً وديموقراطياً. فعلى هذه الأرض يرتفع التحدي وهنا يكمن الأمل.


محمد علي الأتاسي