نحن في عصر المعلومات. أتصدق ذلك؟ إذن فأنت مخدوع.

هذا ما خبّروك به حتى يتسنّى لهم صنع المزيد من المتفجرات، والقنابل..والصواريخ
وحتّى تظلّ في لهوك عنهم مشغولا بجمع المعلومات، ومعرفة نتائج آخر التفجيرات..وتدوين أخبار أيام الصواريخ. أنت هنا كالمسكين! تدوّن وتنقد وتجمّل العبارات وتنسّق الدفاتر، بينما هم هناك، يخلقونها لك، وينتجون المزيد منها، بعضها فارغ كي تكتب فيه، وكثيرها ملآن، لكي تقتبس منه وتؤلّف. إلى الأبد، هذا هو مصيرك.

يجب أن تخرج من هذه الحلقة، تحرر من هذه المصفوفة ، إكسر قيدها. قلت: سأطلق صاروخا كما هم يطلقون.
رددت علي: هب أنّهم وهبوه لك، وأعطوك ضمانات بعدم محاكمتك ، وعدم التعرض لك بخير ولا بشر.

قلت: من هم؟

رددت علي: جميعهم. كل البشر، كل الدول، كل الأرض، اجتمعوا معا وأجمعو لأول مرة في تاريخ البشرية بعد برج بابل " على ذمّة التوراة الواسعة" بأن يحققوا لك هذه الأمنية. وأعطوك الصاروخ بكرتونته الجديدة " على الزيرو" ، لم يطمثه أحد من قبل، فأين ستطلقه؟

سكتّ، ولم أحر جوابا عليّ فيما رددت به عليّ!،

هنا برزت المعضلة: أنت مسكين! قلت لك لقد حولوك إلى مؤرخ وكاتب وناقد وراصد معلومات، لا تستطيع أن تقوم بمهام الكبار والسادة، مصيرك هو ملء الوعاء الذي بين منكبيك، ثم تفريغ تفاعلاته على الأوراق. أنت فأر حبيس في معتقلات العلماء، لا يملك مهربا، ولن يطالب أحد بحقوقه، ولا يفتح له أحدهم الباب!، حتى أولئك الذين يدّعون المحبة. أولئك نكاية سيلقون إليك بقطعة جبن مع ابتسامة حنون تزيدك قهرا...إذن؟، ما أنت فاعل بصاروخك؟

غضبت عندما واجهت عجزي أمام ذلك الذي يتحداني مني، كبريائي انكسر ولم أعد احتمل أن أشاهده ينكسر أمامي..أنا المتعجرفّ!ّ، لينكسر أمام أي كان لكن لا أمامي أنا الذي لا أرحم.

ثم وجدت الحل والقيت به كما المدين يسدد كمبيالة أرهقته..لتاجر بغيض، فيلقيها على حذائه متظاهرا شاعرا بوصوله إلى الخلاص أخيرا، من هذا الوضع المهين.

هكذا رميتها تلك الإجابة أمامي: أنا لا ديني، أتمنى أن يتحرر كل البشر من الأديان، حتى وإن كانوا لا يريدون التحرر، لأنهم لا يعلمون بقيودهم، أو يعلمون ولكن تنقصهم المواجهة وروح التمرّد.

رددت علي وقد انفتحت عيناي بذعر: ماذا ستفعل أيها المجنون!

نفس العينين أبرقتا بوهج مجنون وأنا أجيب : سأفجّر رموزهم. أضخمها، حتّى لا يجدوا لهم قبلة يطوفون حولها ، ولا بطريركا يتباركون به، ولا محكمة يطالبون فيها بشيء.

(العينان تضيقان في ابتسامة تخفي شفقة رجل حكيم كهل..على غر لم يتصلّب عوده بعد) ورددت عليّ بوقار: حسنا..اختر رمزا أولا.

قلت: أدمّر الكعبةبصاروخي الجديد، سوف يذهلون ويطلبون في حميّة الغضب والكراهية أن يكسروا العهد مع العالم ليقطعوا رأسي ويشربوا دمي، ولكنهم لن يستطيعوا لأنهم صادقوا على الاتفاق. سوف ييأسون، سيحلقون أذقانهم الطويلة، ويخرجون من كهوفهم، وتخلع براقعها النسوة، سينتهي الأزهر وتتلاشى هيئة الأمر بالمعروف ويختفي الإخوان، وتسقط الأصنام!

رددت علي: ما سوف يحصل هو عكس ما تقول تماما.

(بنبرة من يشعر أن كبرياءه على وشك السقوط ثانية أمام كبرياء أعتى منه) قلت: كيف!

رددت علي: سوف يحصل عكس ما تقول. سوف يحبطون أولا ، ثم يتمردون ثانيا.

مرت لحظات من الصمت، لم أفهم فيها وانتظرت شرحا مني، لم أعد أحتمل هذا الصمت لأنني شعرت لأنه متعمّد لذلّي حتى أستجدي جوابا. أنطق أيها اللعين..كيف ذلك؟

رددت عليّ: سيصابون باليأس أولا من هول الصدمة ، لكن شيوخهم " العصريين " دعاة التجديد لن يعدموا حيلة. فهناك أولا نبوءة ذي السويقتين، سيجعلوا منك واحدا ذا سويقتين، ويستجلبوا لك الجنسيّة من الحبشة، فيصبح كل شيء حينها على ما يرام، ويتأكّد الدين ، ويطلقون حينها فتاوى تجيز بناء كعبة جديدة في كل عاصمة ومدينة وقرية، للطواف حولها تذكارا للأصل المدمّر، وسوف يخرج من الإسلام ألف إسلام، ومن الثلاث وسبعين فرقة ثلاثمائة وسبعون.

أطرقت متشائما لهذا المنظر الطوباوي الكئيب. ولكن سرعان ما قلت: الفاتيكان! ( وكأنني " وجدتها "! ) ، سينتهي المسيحيون.

كنت أعرف أنها حماقة ، ولكني نطقتها، غير أنّ الحمق تعرّى عندما رددت عليّ بلا شفقة: لقد اندلقت أمعاء الفاتيكان من فوق المنبر، فصنعوا له أمعاء أكثر صلابة!

قلت : تقصد البابا؟
رددت: أنت قلت! ، فكيف بهم وقد انكسرت عظام الفاتيكان؟ ، سوف يستذكرون الهيكل وإعادة بنائه، سوف يلبسون المسوح ويضعون التراب على رؤوسهم كما فعل أبناء يعقوب وهم يعيدون بناء الفاتيكان القديم. ويلومون أنفسهم لأنهم استدعوا غضب الرب، بتقصيرهم في العبادة والتبشير!

بفزع قلت: التبشير!
رددت عليّ: آها..أنت قلت!
بغضب قلت: كفّ! عن التكلّم بأسلوب المسيح، ذلك يصلبني!
رددت علي: أنت فكّرت التفكير السليم. حسنا هكذا؟، سيتضاعف التديّن ، وينفذ النبيذ، وتنكسر كل الأرغفة على مذابحهم، ولن يجد الفقراء الخبز، فيضطرّون إلى دفع العماد والتوبة ثمنا له!

أطلقت زفرة إرهاق. قلت بغير كبير حماس: كنيسة الشيطان إذن. دعنا نتخلص منها حتى ينزوي الإله بعيدا، بعد موت ضدّه، ويتلاشى.

رددت عليّ: لن يسمح الكهنة بذلك. سوف يقسون على أبنائهم في دور عبادة الإله ، بما يكفي ليجدّف قسم لا يستهان به منهم، ثم يحرمون، فيبنون كنيسة جديدة لإبليس، حتى يستطيع الإله أن يحيا.

قلت: محكمة العدل الدولية، ومحكمة حقوق الإنسان إذن، يجب أن يفهم هؤلاء الحمقى القانونيون، أن الإنسان لن يرتوي من دم نفسه.

رددت عليّ بجفاء من أصابه ملل من غباء محدّثه: سيبنون محكمة أخرى، ويصبحون أكثر عنفا في المطالبة برحمة الإنسان.

قلت: إسرائيل..

رددت: سيعمّرون ألف إسرائيل بالأموال والصواريخ. هييه أنت! ، اذكر أنّك تمتلك صاروخا واحدا فلا تشطح كمجاذيب المتصوّفة من فضلك. هذا آخر ما ينقصني اليوم.

قلت: أحد الحكام العرب..ليكن ذلك؟
رددت عليّ: سيضعون مكانه واحدا أكثر سوءا، ولكن الأسوأ هو قانون "الضرورة" ، سيصوّت عليه المتحدّثون بأسماء الشعوب، ويضيفونه إلى قانون " الطواريء"..، ولا تقل أمريكا. لأنك تعرف الرد.

قلت: سوف أصوّب صاروخي نحو الفرد. نحو من أكره.

رددت عليّ: ومن أين ستأتي بإبداعك فيما بعد عندما يصبح الجميع من محبيك؟ أولئك لا يأتون إلا بالخزي. ستفقد من يثير فيك الكراهية والقهر والاشمئزاز، فمن أين تصبح لؤلؤة بعد ان تنهدم جدران محارتك؟

قلت بقرف: أنت سادي. تريدني أن أتلذذ بمن ينكّل بي؟

رددت: الحياة تفرض عليك المازوخية. مثلما أنا ساديّ..هذه قواعد اللعبة.

قلت: لاأفهمك تماما، تبدو كحكيم شرقي عقيم ، لا يتقن إلا النوم على أسرّة المسامير.

رددت عليّ: استمر من فضلك.

قلت: سأطلقه على من يحبونني ولا أحبهم حتى يرتاحوا، وعلى من أحبهم ولا يحبونني حتى أرتاح. وأبقي على من يحبونني وأحبهم.

رددت عليّ: الأولون ينشدون عطفك، وبدونهم لا تلقى من ينصت لترهاتك، ستصبح كفأر في مزبلة لا يكترث له أحد، والأوسطون إذا ذهبوا ستذهب معهم رغبتك في الحياة، ولن تجد من تناجيه من قلبك وبصدق، والآخرون سيعاملونك كدمية حبيبة، بعد أن سبروا غورك وملّوا منك ومللت منهم وسبرت غورهم، ولن ينتدهش أحدكم لمفاجآت الآخر، لأن كلا منكم حفظ صاحبه ، وعرف كل أساليبه، ستحيا حياة سعيدة بائسة معهم، ثم تختمها بالانتحار ، ولعلهم بعدها يجعلون منك فاديا أو مخلّصا وينشدون الاضطهاد من أجلك.لقد فعلوا هذا من كثيرين من قبلك، وإن سبقوك انتحارا ستكون أنت رسول محبتهم للجميع.
.................
.................
.................

انتهى الأمر، جلست لا أملك إلا صاروخي، محدّقا فيه، فتحت الكرتونة وأخرجته، وكان هو يشاهدني..(ذاك الذي يرد عليّ) ، كان جديدا حقا، ومثيرا، لأول مرة أشاهد صاروخا حقيقيا في بيتي بهذا الحجم. بل بأي حجم على الإطلاق!

جاء "هو". جلس إلى جواري، شاهدني بترقّب جذل وأنا أتأمّل، ثم لم يعد هناك، لاشك أنه قد عاد إلى مكانه، داخلي، أشعر به الآن، وأشعر بتلك الحيوية تشتعل..،أنظر إلى الصاروخ مرة أخرى، ياإلهي!

يحقّ أفروديت..،كيف هو العقل الذي أبدع هذا المارد؟

رددت عليّ بجذل: هل تفكّر فيما أفكّر فيه؟

قلت: نعم!
رددت: نفكّكه إذن؟.
قلت: نفكّكه بالتأكيد.
لابد أن أعرف كيف صنع هذا الصاروخ، سأفكّكه قطعة قطعة، وأدرس كل قطعة بعمق، حتى أصل إلى أعماق الصاروخ، إلى روحه، إلى العقل الذي سوّاه، إلى الفكر الذي استنبطه.

رددت عليّ: ولكن لم؟
قلت: حتّى أتفوق عليه.

لا تقل لي مالفائدة ثمّ؟ ،

فسأقول لك إنه أحسن المساويء،

في عصر المعلومات،

وزنزانة المصفوفات الجاهزة،

لا خيار للتحرر،

إلا أن أتحول أنا ذاتي،

إلى صاروخ،

ثم أنطلق متفوّقاعلى كل عقل.

Albert Camus

أسجّل إعجابي (f)

هملكار
(f)

أعطوني أي صاروخ بالغا ما بلغ من التعقيد وسوف أمضي ما تبقى لي من حياة أسعى للتفوق على العقل الذي أوحاه. حتى وإن تحدّى كل البشر بالإتيان بمثله وادّعى أنه إله.

سأفعل ذلك ،

بل سأعجز عن الإتيان بمثله، لأني سآتي بما هو متفوّق عليه.

وإن لم أفعل ، يكفيني خزي تمهيد الطريق لمسيح يستطيع أن يمدّنه من بعدي. هذا أقبله، ولا أقبل شرف العبودية المؤمنة. العبودية التي تزهو بالاستسلام للتحدّي،وتقبل بنصف عقل. وتمضي كل وقتها بتسليط صواريخها على الآخرين.

Albert Camus

من اخترع هذا اخترع ذاك ...
وكلها اختراعات ذات هدف إنساني في النهاية، طيب أو شرير
والإنسان أعظم اختراع لم يأت إنسان (ولا غيره) بمثله بعد
ولكن هدفه ما زال مجهولاً، وسيبقى
فلماذا "تنكوش" المجهول يا صديقي؟
هاك نتيجة بحثك!
ازددت حيرة، وأكدت قلة معرفة الإنسان بذاته.
وكأني بك تقول: كان صاروخي موجهاً من الأساس إلى اللانهائيات.
وسأقول لك: أصبت الهدف.
ولو أنني ملكت صاروخاً، فسأسخره ضد أصحاب أنصاف العقول، والحلول.

تحياتي واحترامي.
:97: